وضع داكن
19-04-2024
Logo
المؤلفات - كتاب ومضات في الإسلام – الباب السادس - الفقرة : 1 - الإسراء والمعراج
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

معجزة الإسراء والمعراج حدث ضخم من أحداث الدعوة الإسلامية:

 أيها الأخوة المؤمنون في دنيا العروبة والإسلام، موضوع الخطبة اليوم: ماذا يعلِّمنا الإسراء والمعراج ونحن في ذكرى الإسراء والمعراج ؟
 أيها الأخوة الأكارم، معجزة الإسراء والمعراج حدثٌ ضخم من أحداث الدعوة الإسلامية سبقته البعثة، وجاءت من بعده الهجرة، لقد كان مسحاً لجراح الماضي، وتثبيتاً لقلب النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وتبشيراً له بالمستقبل، وتعويضاً عن جفوة الأرض بحفاوة السماء، وعن قسوة الناس بتكريم الملأ الأعلى، وإشعاراً للنبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنّ الله معه بالرعاية والعناية، وتكريماً فريداً له مِن دون الأنبياء، وتعريفاً له بأنه سيد ولد آدم، وسيد الأنبياء والمرسلين، وإراءةً له لملكوت الأرض والسماوات، ولما تؤول إليه الخلائق بعد الممات.
أيها الأخوة الأحباب، لقد كان الإسراءُ والمعراج تكريماً عظيماً للنبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولكنْ بعد نجاحٍ باهرٍ في امتحان صعب، فماذا هذا الامتحان الصعب الذي اجتازه النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى استحق هذا التكريم الفريد ؟ إنه امتحان الطائف.
أيها الأخوة المؤمنون، إنَّ ما لاقاه النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من مختلف ألوان المحن، ولا سيما هذا الذي رآه في ذهابه إلى الطائف، إنما كان مِن جملة أعماله التبليغية للناس، فكما أنّ النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جاء يبلِّغنا العقيدة الصحيحة عن الكون وخالقه، وعن الحياة وحقيقتها، وعن الإنسان ورسالته، وعن أحكام العبادات والمعاملات، وعن مكارم الأخلاق كذلك جاء ليبلِّغ الناسَ عن طريق السلوك العملي أنّ الله كلّفهم بالصبر والمصابرة، والبذل والمثابرة، فكما أن النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علَّم الناس بأقواله، كذلك علَّمهم بأفعاله، وكما أنّه قال للناس:

((… وَصَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي… ))

[أخرجه البخاري عن مالك بن الحوريث]

 و:

 

(( يَا أَيُّهَا النَّاسُ خُذُوا مَنَاسِكَكُمْ ))

 

[أخرجه النسائي عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ]

 كذلك قال لهم بلسان حاله: اصبروا كما رأيتموني أصبر، ونحن بأمَسِّ الحاجة إلى هذا الدرس البليغ، اصبروا كما رأيتموني أصبر.

 

الشكوى إلى الله تعالى أعلى أنواع التعبد:

 أيها الأخوة المؤمنون في دنيا العروبة الإسلام، ليس بين الصبر على الشدائد والتضرع إلى الله تعالى بالشكوى أو الدعاء أي تعارض أو تناقض، فالشكوى إلى الله تعالى تعبد وأي أنواع التعبد، إنه أعلى أنواع التعبد، قال تعالى:

 

 

﴿ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ﴾

 

( سورة يوسف)

 إنّ الضراعة له، والتذلل على بابه عزَّ وجل يُلْبِسُ العبدَ جلبابَ العبودية، ولقد علَّمنا النبيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حياته كلا الأمرين، فكان بصبره الشديدِ على المصائب والمحن يعلِّمنا أنّه على المسلمين عامةً وعلى الدعاة خاصةً أن يصبروا، وأن يصابروا، وكان بطول دعاءه، وضراعته، والتجائه إلى الله تعالى يعلِّمنا أنّ هذا من لوازم العبوديةِ لله عز وجل، وهل مِن دعاء أكثرَ دلالة على عبودية النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِن هذا الدعاء الذي دعاه في الطائف:

 

((اللهم إني أشكو إليك ضعفَ قوتي، وقِلَّةَ حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين، وأنت ربي، إلى مَن تكلني، إلى بعيدٍ يتجهَّمني، أم إلى عدو ملَّكته أمري، إنْ لم يكن بك غضب عليَّ فلا أبالي، ولكن عافيتك أوسع لي، أعوذ بنور وجهك التي أشرقتْ له الظلمات، وصلُح عليه أمرُ الدنيا والآخرة، مِن أنْ تنزلَ بيَ غضبك، أو أن تحلّ عليّ سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بالله))

 

[أخرجه الطبراني عن عبد الله بن جعفر]

 أيها الأخوة الأكارم، حقيقة خطيرة، وهي أنّ النفسَ الإنسانية مجبولةٌ في أصل فطرتها على الإحساس والشعور، الشعورِ بلذة النعيم، والشعورِ بألم العذاب، فهي مجبولة على الركونِ إلى الأول، والفزعِ من الثاني، وحينما يوطِّن الإنسانُ نفسَه على تحمُّل كلِّ أنواعِ الضرِّ والعذاب، وهو يؤدِّي رسالةَ ربه، مبتغياً بهذا وجهَه ورضوانَه، لا يعني هذا أنه لا يتألّم للضرِّ، ولا يستريح للنعيم، فالنفسُ مهما تسامتْ لا تخرج عن دائرة بشريَّتها، ولكن حينما يفضِّل الإنسانُ الضرَّ مهما تكن آلامُه على النعيم مهما تكن لذائُذه إرضاءً لوجه ربه، وأداءً للرسالة التي أُنِيطتْ به، عندئذٍ يستحق جنةَ ربِّه إلى أبد الآبدين، حيث يجد فيها ما لا عينٌ رأيت، ولا أذنٌ سمعتْ، ولا خطرَ على قلبِ بَشَرٍ، ولولا أنّ النبيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَشَرٌ تجري عليه كلُّ خصائصِ البشرِ لَمَا كانَ سيِّدَ البشر.

 

ما الإسراء والمعراج في حقيقة إلا رد إلهي تكريما على المحنة القاسية:

 أيها الأخوة المؤمنون في دنيا العروبة والإسلام، حينما يتأملُ الإنسانُ في سيرة النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع قومه يجد أنه لاقى مِن أذى قومه ما لا يحتمله بَشَرٌ على الإطلاق، بَيْدَ أنّ الإنسانَ يجِدُ أيضاً مع كل نوع من أنواع الأذى، ومع كلِّ مرحلة من مراحله رداً إلهيّاً على هذا الإيذاء، مواساةً وتبشيراً وتكريماً وتأييداً، حتى لا يتجمَّع في النفس من عوامل التألم والضجر ما قد يُدخِلُ إليها اليأسَ، وما الإسراءُ والمعراجُ في حقيقته إلا ردٌّ إلهيٌّ تكريماً على المحنة القاسية التي كشفتْ حقيقةَ الحرصِ النبويِّ على هداية الخلق، وكشفتْ صبرَه الجميل على إيذائهم، وموقفَه النبيلَ والرحيمَ منهم، حينما عَرَضَ عليه مَلَكُ الجبال أن يُطْبِقَ عليهم الجبلين، وهو الردُّ الإلهيُّ على دعائه في الطائف، ولعل معنى قوله تعالى في آخر آية الإسراء:

 

 

﴿ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34)﴾

 

( سورة يوسف )

أي سمِع اللهُ دعاءك يا محمد في الطائف، وعَلِمَ منك حرصَك على هداية قومك الذين بالغوا في الإساءة إليك.
 أيها الأخوة الأكارم في دنيا العروبة الإسلام، هذا هو الدرس الأول، أمّا الدرس الثاني فعندما سأله زيد بن حارثة متعجباً: يا رسول الله كيف تعود إلى مكة وقد أخرجتك ؟ فأجابه النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا زيد إن الله جاعل لما ترى فرجاً ومخرجاً، وإنَّ اللهَ ناصرٌ نبيَّه، ومظهِرٌ دينَه، فما كان الله ليتخلى عن دينه، ولا عن نبيه، ولا عن المؤمنين، مهما بدت هجمة أعداء الدين قويةً وشاملةً، فالباطل عقيدة أو قوةً إلى انهيار محقَّق قال تعالى:

﴿ وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً (81)﴾

( سورة الإسراء )

دروس الإسراء والمعراج تعلمنا أن للمحن والمصائب حكماً جليلة:

 مَن ظنَّ أنَّ اللهَ سبحانه وتعالى لا ينصر رسلَه، ولا يتمّ أمرَه، ولا يؤيِّد جندَه، ولا يعليهم، ولا يظهرهم على أعدائهم، وأنه لا ينصر دينه وكتابه، مَن ظنَّ ذلك فقد ظنَّ بالله ظنَّ السوء، ونسبه إلى ما لا يليق بكماله وجلاله، وأسمائه الحسنى، وصفاته الفضلى، فإنَّ عزَّته وحكمتَه تأبى ذلك، ويأبى أن يذلّ أولياءه، وأنْ يكون النصرُ المستقر والظفر الدائم لأعدائه، فمن ظن به ذلك فما عرفه، ولا عرف أسمائه، ولا عرف صفاته، سبحانك إنه لا يذلّ من واليت، ولا يعزّ من عاديت.
 أيها الأخوة المؤمنون حضوراً ومستمعين، ليس القرآنُ كتابَ تاريخٍ، يروي سيرَ الأنبياء والمرسلين وقصص والأقوام السابقين فحسب، ولكنه كتابُ هدايةٍ وتعليم، يقصّ علينا قصصَ الأنبياء والمرسلين، وهم قِمَمُ البشر، لنهتدي بدعوتهم، ونقتدي بسيرتهم، ويروي لنا أيضاً قصصَ الأممِ السابقة الذين كذّبوا أنبياءهم، وعاندوا رسلهم، واعتدوا على بني جلدتهم فاستحقوا غضبَ الله، فأهلكهم الله بذنوبهم، وذاقوا وبالَ أمرهم، لنجتنبَ أسبابَ هلاكهم ودمارهم.
 ماذا يعلُّمنا الإسراءُ والمعراجُ ؟ وقائعُه معروفةٌ عندكم، إنَّ دروس الإسراء والمعراج تعلِّمنا أنَّ للمحن والمصائب حِكماً جليلة ؛ منها أنها تسوق أصحابَها إلى باب الله تعالى، وتُلبِسهم رداءَ العبودية، وتلجئهم إلى طلب العون من الله، إنها تعلِّمنا أنه لا ينبغي أن تصدَّنا المحنُ والعقباتُ عن متابعة السير في استقامة وثبات، إنها تعلِّمنا أنه ما دام اللهُ هو الآمرُ فلا شكَّ أنَّه هو الضامنُ والحافظُ والناصرُ، إنَّها تعلِّمنا أنه لولا الجهادُ والصبرُ ما عُبِدَ اللهُ في الأرض، ولا انتشرَ الإسلامِ في الخافقَيْن، ولا كنّا في هذا المكان، وعلى أمواج الأثير نوحِّد اللهَ، ونسبِّحه، وندعو إليه، إنها تعلِّمنا أن اليسرَ مع العسر، وأنَّ النصرَ مع الصبر، وأن الفرَجَ مع الكرب، إنّها تعلِّمنا أيضاً أنّه لا يعدُّ المسلمُ مسلماً إلا إذا انتمى إلى مجموع المسلمين، وحَمَلَ همومَهم، وساهَم بشكل أو بآخر في ردِّ العدوان عنهم.

 

أحاديث شريفة تبين ما ينبغي أن يكون عليه المؤمنون:

 عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

 

 

((تَرَى الْمُؤْمِنِينَ فِي تَرَاحُمِهِمْ وَتَوَادِّهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى عُضْواً تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ جَسَدِهِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى))

 

[متفق عليه عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ]

 وقال أيضاً:

 

((المُؤْمِنُونَ بَعْضُهُمْ لِبِعْضِهِمْ نَصَحَةٌ مُتَوَادُّونَ وَإِنِ افْتَرَقَتْ مَنَازِلُهُمْ وَأَبْدَانُهُمْ ، وَالْفَجَرَةُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ غَشَشَةٌ مُتَخَاذِلُونَ، وَإِنِ اجْتَمَعَتْ مَنَازِلُهُمْ وَأَبْدَانُهُمْ))

 

[أبو الشيخ ابن حبان في كتاب التوبيخ والبيهقي في الشعب عن أنس]

 وعَنْ أَبِي مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:

 

((إِنَّ الْمُؤْمِنَ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضاً وَشَبَّكَ أَصَابِعَهُ))

 

[متفق عليه عَنْ أَبِي مُوسَى ]

 وعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:

 

((الْمُؤْمِنُونَ تَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ، وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ، يَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ، لَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ، وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ))

 

[أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ]

 ومن أروع الأحاديث قال عليه الصلاة والسلام:

 

((إِنَّ سِلْمَ الْمُؤْمِنِينَ وَاحِدَةٌ، لاَ يُسَالِمُ الْمُؤْمِنُ دُونَ الْمُؤْمِنِ فِي قِتِالٍ فِي سَبِيلِ اللهِ إِلاَّ عَلَى سَوَاءٍ وَعَدْلٍ بَيْنَهُمْ))

 

[سيرة ابن هشام]

 هذه نقطة مهمة جداً في قانون المسلمين الدولي، إن سِلْمَ المؤمنين واحدة، لا يسالِم مؤمنٌ دون مؤمن في قتال في سبيل الله إلا على سواءٍ وعدلٍ بينهم، فلا يحق لفئة أن تصطلح مع عدو بشكل انفرادي، هذا وصف دقيق من قبل مبعوث العناية الإلهية لما هم عليه المؤمنون أو لما ينبغي أن يكونوا عليه، في شتى أقطارهم وديارهم، من تعاون وتناصر وتعاطف، فهم كالجسد الواحد نصحة متوادون، وهم بنيان واحد يشد بعضهم بعضاً، هم يد على من سواهم، سلمهم واحدة وحربهم واحدة، هذا ما ينبغي أن يكون عليه المؤمنون في شتى أقطارهم وأنصارهم.

 

أوصاف المؤمنين في الكتاب والسنة مقاييس دقيقة نقيس بها إيماننا:

 أيها الأخوة الأكارم، أوصاف المؤمنين في الكتاب والسنة مقاييس دقيقة، نقيس بها إيماننا، أو هي أهداف نضعها نصب أعيننا ينبغي أن نسعى إليها، فلابدّ للمسلم الصادق من أن يحمل هموم المسلمين في مختلف أصقاعهم وأنصارهم، ومن لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم، بل إنَّ تطلعَ المسلم إلى أنْ يكون المسلمون في شتّى أقطارهم أعزةً كرماء، يملكون أمرهم ومصيرهم، لهي علامةٌ من علامات إيمانه، وإنّ حرصَ المسلم على أنْ يكون المسلمون متعاونين متناصرين لهي علامةٌ مِن علاماتِ إخلاصه، فالفرديةُ طبعٌ، والتعاملُ الاجتماعيُّ تكليفٌ، والإنسانُ المؤمن يتعاون مع إخوته المؤمنين بقدر طاعته لله، وينسلخ منهم ويؤكِّد فرديَّته بقدر تفلُّته مِن منهج الله، وحينما ينهى الإنسانُ نفسَه عن خصائصِ طبعِه التي هي في الأصل تُنَاقِضُ التكليفَ ليكون هذا التناقضُ مع التكليف ثمناً للجنة، وحينما ينهى الإنسانُ نفسَه عن خصائص طبعه، ويحملها على طاعة ربه، يكون قد أخذ بسببٍ مِن أسباب الجنة، قال تعالى:

 

 

﴿ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41)﴾

 

( سورة النازعات )

 أيها الأخوة المستمعون، أيتها الأخوات المستمعات، قال تعالى:

 

﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً﴾

 

( سورة النور الآية: 55 )

 قال بعضهم: " فإنْ لم يمكِّنهم فمعنى ذلك أنَّ دينَهم لم يرتضِه لهم "،

﴿ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً ﴾

بعض من دلائل نبوة النبي صلى الله عليه وسلم:

 لقد أنجز الله وعده للمؤمنين يوم عبدوه حق العبادة، فأطاعوه ولم يعصوه، وشكروه ولم يكفروه، وذكروه ولم ينسوه، فجعل الله منهم قادةً للأمم بعد أن كانوا رعاة للغنم ثم ماذا كان ؟

 

1ـ وصف الغي الذي توعد الله به المقصرين وبيّن أسبابه:

 قال تعالى:

 

 

﴿ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً (59)﴾

 

( سورة مريم )

 مِن دلائل نبوة النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه وصف هذا الغي الذي توعد الله به المقصرين وبين أسبابه، وكأنه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيننا يرى ما نرى، ويسمع ما نسمع، فعَنْ ثَوْبَانَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

 

((يُوشِكُ الْأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا، فَقَالَ قَائِلٌ: وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ ؟ قَالَ: بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ، وَلَيَنْزَعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمْ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ، وَلَيَقْذِفَنَّ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ الْوَهْنَ، فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا الْوَهْنُ ؟ قَالَ: حُبُّ الدُّنْيَا، وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ))

 

[أخرجه أبو داود وأحمد عن ثوبان]

 هذا وصف دقيق للغي الذي توعد الله به المقصرين، فالأمم اليوم تدعو بعضها بعضاً لمقاتلة المسلمين، وكسر شوكتهم، وسلب ثرواتهم، وأخذ أموالهم، واغتصاب أراضيهم ـ كما تداعى الأكلة إلى قصعتها ـ يأخذون منها بلا مانع ولا منازع، فيأكلونها عفواً وصفواً، يأخذون ما في أيديهم بلا تعب ينالهم، أو ضرر يلحقهم، أو بأس يمنعهم، فانظروا إلى هذا الوهن الذي هو سر الضعف، فالناس الشاردون الغافلون عن الله يعيشون عبيداً لدنياهم، عشاقاً لأوضاعهم الرتيبة، تحركهم شهواتهم وشبهاتهم، تسيِّرهم رغائبهم ونزواتهم، وهذا هو الوهن، وحينما يكره الإنسان لقاء ربه ويخاف الموت كامناً في كل اتجاه فيفزع من الهمس، ويألم من اللمس، يؤثر حياةً يموت فيها كل يومٍ موتات على حياة كريمة عزيزة في كنف رب الأرض والسماوات، فالعجب كل العجب أن يكون النور بين أيديهم والرائد نصب أعينهم، ثم هم يلحقون لاهفين بركاب الأمم الشاردة المنحلة في نهجهم وسلوكهم، فلا يستطيعون رشاداً ولا يهتدون سبيلاً، وحالهم:

 

كالعيس في البيداء يقتلها الظمأ  والماء فوق ظهورها محمول
* * *

 

2ـ ذكر ما يصيب المسلمين في آخر الزمان من بأساء وضراء بسبب إعراضهم عن ربهم:

 ومن دلائل نبوة النبي عليه الصلاة والسلام، ومن خلال إعلام الله له أنه ذكر ما يصيب المسلمين في آخر الزمان من بأساء وضراء بسبب إعراضهم عن ربهم، وتقصيرهم في طاعتهم له، فَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ أَقْبَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ:

 

((يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ، خَمْسٌ إِذَا ابْتُلِيتُمْ بِهِنَّ، وَأَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ ؛ لَمْ تَظْهَرْ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا إِلَّا فَشَا فِيهِمْ الطَّاعُونُ، وَالْأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلَافِهِمْ الَّذِينَ مَضَوْا، وَلَمْ يَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِلَّا أُخِذُوا بِالسِّنِينَ، وَشِدَّةِ الْمَئُونَةِ، وَجَوْرِ السُّلْطَانِ عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يَمْنَعُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ إِلَّا مُنِعُوا الْقَطْرَ مِنْ السَّمَاءِ، وَلَوْلَا الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا، وَلَمْ يَنْقُضُوا عَهْدَ اللَّهِ وَعَهْدَ رَسُولِهِ إِلَّا سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عَدُوّاً مِنْ غَيْرِهِمْ، فَأَخَذُوا بَعْضَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ، وَمَا لَمْ تَحْكُمْ أَئِمَّتُهُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ، وَيَتَخَيَّرُوا مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَّا جَعَلَ اللَّهُ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ))

 

[ابن ماجه والبيهقي في شعب الإيمان َعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ]

 إنها المعاصي والذنوب، والمجاهرة بالفواحش والعيوب، والتعرض لسخط جبار السماوات والأرض، فإنه ما نزل بلاء إلا بذنب، ولا رفع إلا بتوبة:

 

﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾

 

( سورة الرعد الآية: 11 )

 وإنه ما حصل البلاء العام في بعض البلاد، ولا وقعت المصائب المتنوعة، والكوارث المروعة، ولا فشت الأمراض المستعصية التي لم يكن لها ذكر في ماضينا، ولا حُبِسَ القطر من السماء إلا نتيجة الإعراض عن طاعة الله عز وجل، وارتكاب المعاصي، والمجاهرة بالمنكرات، وكلما قلَّ ماءُ الحياء قلَّ ماءُ السماء.

إخفاء الصور