وضع داكن
25-04-2024
Logo
المؤلفات - كتاب ومضات في الإسلام – الباب الثالث - الفقرة : 34 - أثر الإيمان في حياة الفرد
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 إنّ قضيّة الإيمان قضيّة مصيريّة بالنسبة للإنسان، إنّها سعادة الأبد أو شقْوَة الأبد، إنّها الجنّة أبداً أو النار أبداً.
 أيها الأخوة، الإيمان ليس مجرّد إعلان المرء بلِسانه أنّه مؤمن، وليس مجرّد قيام الإنسان بأعمال وشعائر اعْتاد أن يقوم بها المؤمنون، وليس مجرّد معرفة ذهنيّة بِحقائق الإيمان، وبكلمةٍ مختصرة ليس الإيمان مجرّد عملٍ لِساني، ولا عملٍ بدني، ولا عملٍ ذهني، إنّما هو عملٌ نفسي يبلغُ أغوار النفس ويحيطُ بِجَوانبها كلّها ؛ من إدراك، وإرادةٍ، ووجْدان.
 أيها الأخوة، لا بد من إدراكٍ ذهنيّ تنكشفُ به حقائق الوُجود على ما هي عليه، وهذا الانكشاف لا يتمّ إلا عن طريق الوحي الإلهي المعصوم حصْراً، ولا بد من أن يبلغ هذا الإدراك العقلي حدّ اليقين الذي لا يُزَلْزلهُ شكّ ولا ارْتِياب، ولا بد من أن يصْحبَ هذه المعرفة الجازمة إذعانٌ قلبي، وانقيادٌ إراديّ، يتمثَّلُ في الخضوع والطاعة، ولا بد من أن يتْبعَ تلك المعرفة حرارةٌ وجدانيّة مُسعدة، مضمون هذا الإيمان هو وُجود الله تعالى ووحْدانيّته وكمالهُ، والإيمان بالنبوّة والرسالة، وبِوَحدة الدّين عند الله، والإيمان بِمُثُلٍ عليا إنسانيّة واقعيّة، وقُدواتٍ بشريّة ممتازة، اسْتطاعَتْ أن تجعل من مكارم الأخلاق وصالح الأعمال وتضاؤل النفوس حقائق واقعة وشُخوصاً مرئيّة للناس، لا مجرّد أفكارٍ في بعض الرؤوس، أو أماني في بعض النفوس، أو نظريات في الكتب والقراطيس.
 أيها الأخوة الكرام، كيف يقبلُ العقل الحرّ أو ترضى الفطرة السليمة أن تنتهي الحياة وقد طغى فيها من طغى ؟ وبغى فيها من بغى ؟ وقتلَ فيها من قتَل ؟ وقُتِلَ فيها من قُتِل؟ وتجبَّر فيها من تجبَّر ؟ ولم يأخذ أحدٌ من هؤلاء عقابه ؟ بل تستّر واختفى، أخلف ونجا، وفي الجانب الآخر، كم استقام من استقام ؟ وأحسن من أحسن ؟ وضحّى من ضحّى ؟ وجاهدَ مَن جاهد ؟ وقدّم مَن قدّم ؟ ولمْ يَنَلْ جزاء ما قدَّم، ألا يحِقّ للعقل أن يؤمن إيماناً جازماً أنّه لا بد من أن توجدَ دارٌ أخرى تُسوَّى فيها الحسابات، ويُجزى فيها المحسِنُ بإحسانه، والمُسيء بإساءته.

أثار الإيمان في نفس الإنسان:

 أيها الأخوة الكرام، هذه بعضُ حقائق الإيمان، فما هي آثار الإيمان في نفس الإنسان ؟ الله جلّ جلاله يقول:

 

﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً (70)﴾

 

( سورة الإسراء )

 إنّ الإنسان أيّها الأخوة الأحباب مخلوقٌ كريمٌ عند الله تعالى، خلقهُ في أحسن تقويم، وكرَّمه أعظم تكريم، وصوّرهُ فأحسنَ صورته، خلقهُ بيده، ونفخَ فيه من روحه، وأسْجَدَ له ملائكته، وميّزه بالعلم والإرادة، وجعله خليفته في الأرض، وسخّر له ما في السماوات وما في الأرض جميعاً منه، وأسبغ عليه نعمهُ ظاهرةً وباطنة، فكلّ ما في الكون له ولخِدْمته، أما هو فجعله تعالى لنفسه، لذلك يشعر المؤمن بذاته، ويُغالي بقيمة نفسه، لأنّه يعْتزّ بانتسابه إلى الله تعالى، وارْتباطه بكلّ ما في الوُجود، ويحيى عزيز النفس، عاليَ الرأس، أبيّاً للضّيْم، عصِيّاً على الذلّ، بعيداً عن الشّعور بالتفاهة والضّياع والصّغار والفراغ، لله درّ القائل مخاطباً الإنسان:

 

دواؤُك فيك وما تبصـره  وداؤُك منك وما تشعـرهُ
* * *

 

وتحسبُ أنّك جِرْمٌ صغير  وفيك انطوى العالم الأكبر
* * *

 أمَّا الإنسان أيّها الأخوة في نظر الماديّين لا يزيد ثمنه على مئة من العملات الرخيصة، لأنّ فيه من الدّهن ما يكفي لصُنع سبع قطعٍ من الصابون، وفيه من الفحم ما يكفي لصُنع سبعة أقلام من الرصاص، وفيه من الفوسفور ما يكفي لِصُنع مئة وعشرين عود ثقاب، وفيه من ملح المَغنيزيوم ما يصلحُ جرعةً واحدة لأحد المسهّلات، وفيه من الحديد ما يساوي مسماراً متوسّط الحجم، وفيه من الكلس ما يكفي لطلاء بيت دجاج، وفيه من الكبريت ما يكفي لتطهير جلد كلبٍ واحد، وفيه من الماء ما يزيد عن ثلاثين لتراً ؛ وهذا هو الإنسان في نظر الماديّين.

 

الفرق بين السعادة واللذة:

 أيها الأخوة الأكارم، السلامة والسعادة مطلبان ثابتان لكلّ إنسان كائناً من كان، وفي كلّ زمانٍ ومكان، من الفيلسوف في قمّة تفكيره إلى العاميّ في قاع سذاجته، ومن الملِكِ في قصره المشيد إلى الصعلوك في كوخه الحقير، ومن المتْرف في ملذّاته إلى الفقير في ويْلاتِهِ، ولكنّ السؤال الذي حيَّر الإنسان عبْر العصور والأجيال أين السعادة ؟ ولماذا الشقاء ؟ والجواب: لقد طلبَها أكثر الناسِ في غير موْضِعها، فعادوا كما يعود طالب اللّؤلؤ في الصّحراء، صفْر اليدين، مجهود البدَن، كثير النّفْس، خائبَ الرّجاء، لقد توهّموها في ألوانٍ من المُتَعِ الماديّة، وفي أصنافٍ من الشّهوات الحسيّة، فما وجدوها تحقّق السعادة أبداً، وربّما زادتْهم مع كلّ جديد منها همّاً جديداً، خُذْ من الدّنيا ما شئْت وخُذْ بقدرها همّاً، ومن أخذ من الدّنيا فوق ما يكفيه أخذ من حتفهِ وهو لا يشعر، ولا بد من التفريق بين السعادة واللّذّة، فاللّذة أيها الأخوة طبيعتها حِسِيَّة، مرتبطة بالجسد الفاني، تأتي من خارج الإنسان، فهو يلهثُ وراءها، متعبةٌ في تحصيلها، متناقصةٌ في تأثيرها، تتْبعها كآبةٌ مدمِّرة، تنقطع بالموت، فإن كانتْ مبنيّة على الظنّ والعدوان اسْتحقّ صاحبها جهنّم إلى أبد الآبدين، بينما السعادة طبيعتها نفسيّة مرتبطةٌ بذات الإنسان الخالدة، تنبعُ من داخل الإنسان، سهلةٌ في تحصيلها، متناميَةٌ في تأثيرها، يشفى الإنسان بِفَقْدها ولو ملكَ كلّ شيء، ويسْعد بها ولو فقدَ كلّ شيء، تقفز إلى ملايين الأضعاف بعد الموت، ويستحقّ صاحبها جنّة عرضها السماوات والأرض فيها ما لا عينٌ رأتْ، ولا أُذنٌ سمعتْ، ولا خطر على قلب بشر، وفيها نظرٌ إلى وجه الله الكريم، ورضوانٌ من الله أكبر.
 أيها الأخوة، واللّذّة تحتاجُ إلى عناصر ثلاثة ؛ وقتٌ وصحّةٌ ومال، والإنسان يفتقد أحد هذه العناصر في كلّ طورٍ من أطوار حياته، ففي الطّور الأوّل من حياته يتوافر له الوقت والصحّة ويفتقد المال، وفي الطور الثاني من حياته يتوافر المال والصحّة ويفتقد الوقت، وفي الطور الثالث من حياته يتوافر الوقت والمال ويفتقد الصحّة، بينما السعادة تحتاج إلى عناصر ثلاثة ؛ إيمان بالله إيماناً حقيقيّاً، واستقامةُ على أمره، وعملٌ صالح تجاه خلقه، وهذه متوافرةٌ في كلّ زمان ومكان، وفي كلّ طورٍ من حياة الإنسان.
 غاضبَ زوجٌ زوجته، فقال لها متوعِّداً: لأُشْقِيَنَّكِ ! فقالتْ الزوجة في هدوء: لا تستطيع أن تُشقيَني، ولا تملك أن تُسعدني، فقال الزوج في حمق: وكيف لا أستطيع ؟ فقالتْ الزوجة في ثقة: لو كانتْ السعادة في مال وكنت تملكهُ لقطعْتهُ عنّي، ولو كانت السعادة في الحليّ لحرمْتني منها، ولكنّها في شيءٍ لا تملكهُ أنت، ولا الناس جميعاً، فقال الزوج في دهشة: وما هو ؟ فقالت الزوجة في يقين: إنّي أجدُ سعادتي في إيماني، وإيماني في قلبي، وقلبي لا سلطان لأحدٍ عليه غير ربّي.

 

 

للجانب المادي مكان محدود في تحقيق السعادة:

 أيها الأخوة الكرام، هذه هي السعادة الحقيقية التي لا يملك بشرٌ أن يُعطِيَها، ولا يملكُ أحدٌ أن ينتزعها ممّن أوتِيَها، ولكن بِنَظْرةٍ واقعيّة لا ننْكرُ أنّ للجانب الماديّ مكاناً محدوداً في تحقيق السعادة، فقد قال عليه الصلاة والسلام:

 

 

((من سعادة ابن آدم ثلاثة المرأة الصالحة والمسكن الصالح والمركب الصالح.))

 

[أخرجه أحمد وصححه ابن حبان والحاكم من حديث سعد بن أبي وقاص]

 ولكن ليس لهذا الجانب المكان الأوّل، ولا المكان الفسيح، والمدار فيه على الكَيْف لا على الكمّ، فحسْبُ الإنسان أن يسْلم من المنغِّصات الماديّة التي يضيقُ بها الصّدْر من مثل المرأة السوء، والمسكن السوء، والجار السوء، والمركب السوء، وأن يُمنحَ الأمْن والعافيَة، وأن يتيسّر له القوت من غير حرجٍ ولا إعنات، وما أرْوَع وأصدق الحديث النبوي الشريف:

 

(( مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِناً فِي سِرْبِهِ مُعَافًى فِي جَسَدِهِ عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا))

 

[ أخرجه البخاري والترمذي وابن ماجة عن عبد الله بن محصن ].

 أيها السادة المستمعون، أيتها السيّدات المستمعات، يقول عليه الصلاة والسلام:

 

(( وَإِنَّ اللهَ بِحِكْمَتِهِ وَجَلاَلِهِ جَعَلَ الرُّوحَ وَالْفَرَحَ فِي الرِّضَا وَالْيَقِينِ، وَجَعَلَ الْهَمَّ وَالْحُزْنَ فِي الشَّكِّ والسُّخْطِ ))

 

[رواه البيهقي عن أبي سعيد]

 يكشف هذا الحديث الشريف عن حقيقة نفسيّة باهرة، فكما أنّ سنّة الله قد ربطَتْ الشِّبَع والريّ بالطعام والشراب في عالم المادّة، فإنّ سنّته تعالى في عالم النفْس قد ربطَتْ الفرحَ والرَّوْح أي السرور وراحة النفس بالرضا واليقين، فبرِضا الإنسان عن نفسه وعن ربّه يطمئنّ إلى يومه وحاضره، وبيقينه بالله تعالى وبالجزاء في اليوم الآخر يطمئنّ إلى غدِهِ ومستقبله، فما ربَطَتْ سنّة الله الغمَّ والحزنَ بالسّخط والشكّ، فالساخطون والشاكون لا يذوقون للسرور طعماً، إنّ حياتهم كلّها سوادٌ ممتَدّ، وظلامٌ متّصل، وليلٌ حالك، لا يعقبهُ نهار، أما حزن المؤمن فلغيره أكثر من حزنه لنفسه، وإذا حزِنَ لنفسه فلآخرته قبل دنياه، وإذا حزن لدُنياه فهو حزنٌ عارضٌ موقوف كغمام الصّيف، سرعان ما ينقشع إذا هبَّتْ عليه رياح الإيمان.

 

إخفاء الصور