- ٠5كتاب ومضات في الإسلام
- /
- ٠04الباب الثالث - موضوعات إيمانية
فإذا الرخاء مكان الشدة، واليسر مكان العسر، والنعمة مكان الشظف، والعافية مكان الضر، والذرية مكان العقر، والكثرة مكان القلة، والأمن مكان الخوف. وإذا هو متاع ورخاء، وهناءة ونعماء، وكثرة وامتلاء.. وإنما هو في الحقيقة اختبار وابتلاء..
والابتلاء بالشدة ينتفع به الكثيرون، فالشدَّة تستثير عناصر المقاومة للمعاصي والآثام، وقد تذكر صاحبها بالله ـ إن كان فيه بقية من خيرـ فيتجه إليه ويتضرع بين يديه، ويجد في ظلِّه طمأنينة، وفي رحابه فسحة، وفي فرجه أملاً، وفي وعده بشرى، أما الابتلاء بالرخاء فالذين ينتفعون منه قليلون. فالرخاء ينسي، والمتاع يلهي، والثراء يطغي، فلا ينتفع به إلا القليلُ من عباد الله، قال عزوجل:
﴿ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ ءَابَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ﴾
أي حتى كثروا وانتشروا، واستسهلوا العيش، واستيسروا الحياة: ولم يجدوا في أنفسهم تحرجاً من شيء يعملونه، ولا تخوفاً من أمر يصنعونه.. وكلمة: (عَفَوْا ) - إلى جانب دلالتها على الكثرة - توحي بحالة نفسية خاصة: حالة اللامبالاة، حالة الاستخفاف والاستهتار، حالة استسهال كل أمر، حالة اتباع كل خاطر.. وهي حالة مشاهدة في أهل الرخاء واليسار والنعمة، حين يطول بهم العهد - أفراداً وأمماً - كأن حساسية نفوسهم قد ترهلت فلم تعد تحفل بشيء، أو تحسب حساباً لشيء، فهم ينفقون في يسر، ويتلذذون في يسر، ويلهون في يسر، ويبطشون كذلك في يسر ! ويقترفون كل كبيرة تقشعر لها الأبدان ويرتعش لها الوجدان، في يسر واطمئنان ! وهم لا يتقون غضب الواحد الديان، ولا لوم الناس، ولا الخِلاَّن، فكل شيء يصدر منهم عفواً بلا تحرج ولا مبالاة. وهم لا يفطنون لسنة الله في الكون، ولا يتدبرون اختباراته وابتلاءاته للناس، ثم يحسبونها تمضي هكذا جزافاً، بلا سبب معلوم، ولا قصدٍ مرسوم،
﴿وَقَالُوا قَدْ مَسَّ ءَابَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ﴾
وقد أخذنا حظَّنا مِنَ الضراء، وجاء حظُّنا مِنَ السراء ! وها هي ذي ماضية بلا عاقبة لأْواء، فهي تمضي هكذا كخبطة عشواء، عندئذ.. وفي ساعة من الغفلة السادرة تجيء العاقبة وَفق السنة الجارية:
﴿فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾
جزاء بما نسوا، واغتروا، وبعدوا عن الله ؛ وأطلقوا لشهواتهم العنان، فما عادوا يتحرجون من فعل، وما عادت التقوى تخطر لهم ببال ! هؤلاء يبنون مجدهم ومجد شعوبهم على أنقاض بقية الشعوب، ويبنون غناهم على إفقار الشعوب، ويبنون قوتهم على إضعاف الشعوب، ويبنون سعادتهم على شقاء الشعوب إن تحكم القطب الواحد، وازدواجية المعايير، وسيطرة الاحتكارات الكبرى حول العالم إلى غابة تتحكم فيها قواعد القوة، وتغيب عنها ضوابط المبادئ والقيم، كما قال السيد الرئيس في أحد خطاباته،
﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ﴾
وحينما لا ينتفع الإنسان بالرخاء الاستدراجي، وهو آخر مرحلة ينتظر أن ينتفع بها الإنسان، حيث إنّ الله بيَّن له عن طريق الأنبياء والمرسلين والدعاة الصادقين فلم يستجب، وساق له مِنَ الشدائد فلم يتب، وأغرقه بالنعم فلم يشكر، عندئذ يحسم أمره، فيقصم ظهره، وهي المرحلة الرابعة.