وضع داكن
16-04-2024
Logo
المؤلفات - كتاب ومضات في الإسلام – الباب الثالث - الفقرة : 15 - السكينة
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 نحن في ذكرى مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن في أمس الحاجة إلى هديه الرباني، الذي لا تزيده الأيام إلا رسوخاً وشموخاً، ونحن في أمس الحاجة إلى سنته المطهرة، المنهج القويم، والصراط المستقيم، ونحن في أمس الحاجة إلى أخلاقه العظمى، التي لا يزيدها التأمل والتحليل إلا نضارة وتألقاً.
 حقيقة إحياء هذه الذكرى أن نطبق سنته، وأن نتأسى بسيرته، لنقطف الثمار اليانعة التي قطفها أصحابه الكرام، وإحدى أكبر هذه الثمار تلك السكينة التي تتنزل على قلوب المؤمنين فتجعل الواحد منهم، وهو في الناس رجلاً، وهو في الرجال بطلاً، وهو بين الأبطال مثلاً. ذلك أن المؤمن استجاب لنداء فطرته، واهتدى إلى سر وجوده، فتوضحت لديه الغاية والطريق، وأنس بالوجود كله، وعاش في معية الله ومعية رسله وأوليائه، ونجا من عذاب الحيرة والشك.

 إنّ السكينة وردت في القرآن الكريم في عدة آيات من أبرزها قولُه تعالى:

﴿ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (4)﴾

( سورة الفتح)

 وقال تعالى:

 

﴿ لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً (18)﴾

 

( سورة الفتح)

 فلا سعادة بلا سكينة، ولا سكينة بلا إيمان.

 

السكينة لا تعز طالب كائنا من كان في أي زمان ومكان:

 السكينة هي الغاية المثلى للحياة الرشيدة، فلا سعادة بلا سكينة، وهذه السكينة تزهر بغير عون من المال، بل بغير مدد من الصحة، يسعد بها الإنسان ولو فَقَدَ كلَّ شيء، ويشقى بفقدها ولو ملَك كل شيء، هذه السكينة ليست مِلْكَ أحد، فيمسكَها أو يرسلَها، ولكنها في متناول كل واحد من البشر إذَا هو دفع ثمنها. فما مِن نعمة تُحجب معها السكينة إلا وتنقلب بذاتها إلى نقمة، وما من محنة تحفها السكينة إلا وتكون هي بذاتها نعمة، ينام الإنسان على الشوك مع السكينة فإذا هو مهاد وثير، وينام على الحرير وقد أمسكت عنه السكينة فإذا هو شوك القتاد.
يعالج المرء أعسر الأمور ومعه السكينة فإذا هي هوادة ويسر، ويعالج أيسر الأمور وقد تخلت عنه السكينة فإذا هي مشقَّة وعسر، ويخوض المخاوف والأخطار ومعه السكينة فإذا هي أمنٌ وسلام، ويعبر المناهج والسبل وقد أمسكت عنه السكينة فإذا هي مهلكةٌ وبوار.
هذه السكينة لا تعز على طالب كائناً من كان في أي زمان ومكان، وفي أي حال ومآل، وجدها إبراهيمُ عليه الصلاة والسلام في النار، ووجدها يوسفُ عليه الصلاة والسلام في الجُبِّ، كما وجدها في السجن، ووجدها يونس عليه الصلاة والسلام في بطن الحوت في ظلمات ثلاث، ووجدها موسى عليه الصلاة والسلام في اليم، وهو طفلٌ مجرد من كل قوة وحراسة، ووجدها أصحاب الكهف في الكهف، حينما افتقدوها في الدور والقصور، ووجدها نبينا عليه الصلاة والسلام وصاحبه في الغار، والأعداء يتعقبونه، ويَقُصُّون الآثار، ويجدها كل مؤمنٍ أوى إلي ربه يائساً ممن سواه، قاصداً بابه وحده من دون كل الأبواب.

 

 

سكينة النفس هي الينبوع الأول للسعادة:

 يبسط الله الرزق مع السكينة، فإذا هو متاع طيبٌ، ورخاء وفير، وإذا هو رغد في الدنيا، وزادٌ إلى الآخرة، ويمسك السكينة مع الرزق، فإذا هو مثار قلق وخوف، وإذا هو مثار حسد وبغض، وقد يكون معه الحرمان ببخل أو مرض، وقد يكون معه التلف بإفراط واستهتار.
يمنح الله الذرية مع السكينة فإذا هي زينة الحياة الدنيا ومصدر فرح واستمتاع، ومضاعفة للأجر في الآخرة بالخلف الصالح، ويمسك رحمته فإذا الذرية بلاءٌ، ونكدٌ، وعنتٌ، وشقاءٌ، وسهرٌ بالليل، وتعب بالنهار.
يهب الله الصحة والعافية مع السكينة فإذا هي نعمة وحياة طيبة، ويمسك سكينته فإذا الصحة والعافية بلاءٌ يسلطه الله على الصحيح المعافى فينفق الصحة والعافية فيما يحطم الجسم ويفسد الروح، ويزخر السوء إلى يوم الحساب.
 يعطي الله الجاه والقوة مع السكينة فإذا هي أداة إصلاحٍ، ومصدر أمنٍ، ووسيلةٌ لادخار الطيب الصالح من العمل والأثر، ويمسك سكينته فإذا الجاه والقوة مصدرا قلق على فوته، ومصدرا طغيان وبغيٍ، ومصدرا حقدٍ وكراهية، لا يقر لصاحبها قرار، ويدخر بها للآخرة رصيداً ضخماً إلى النار.
 سكينة النفس هي الينبوع الأول للسعادة، ولكن كيف السبيل إليها إذا كانت شيئاً لا يثمره الذكاء، ولا العلم، ولا الصحة والقوة، ولا المال والغنى، ولا الشهرة والجاه، ولا غير ذلك من نعم الحياة المادية ؟!!

 

 

للسكينة مصدر واحد ثاني له هو الإيمان بالله واليوم الأخر:

إن للسكينة مصدراً واحداً لا ثاني له هو الإيمان بالله واليوم الآخر، الإيمان الصادق العميق الذي لا يكدره شك ولا يفسده نفاق، والعمل بمقتضى هذا الإيمان، هذا ما يشهد به الواقع الماثل، وما يؤيده التاريخ الحافل، وما يلمسه كل إنسان بصير منصف في نفسه وفيمَن حوله.
 لقد علمتنا الحياة أن أكثر الناس قلقاً، وضيقاً، واضطراباً، وشعوراً بالتفاهة والضياع هم المحرومون من نعمة الإيمان وبرد اليقين. إن حياتهم لا طعم لها ولا مذاق، وإن حفلت باللذائذ والمرفهات، إنهم لا يدركون لها معنى، ولا يعرفون لها هدفاً، ولا يفقهون لها سراً، فكيف يظفرون مع هذا بسكينة النفس وانشراح الصدر ؟!!
إن هذه السكينة ثمرة من ثمار دوحة الإيمان، وشجرة التوحيد الطيبة التي تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها.
 هي نفحة من السماء ينزلها الله على قلوب المؤمنين من أهل الأرض ليثبتوا إذا اضطرب الناس، وليرضوا إذا سخط الناس، وليوقنوا إذا شك الناس، وليصبروا إذا جزع الناس، وليحلُموا إذا طاش الناس.
هذه السكينة نور من الله وروح منه ؛ يسكن إليها الخائف، ويطمئن عندها القلق، ويتسلى بها الحزين، ويستروح بها المتعب، ويقوى بها الضعيف، ويهتدي به الحيران.
 هذه السكينة نافذة على الجنة يفتحها الله للمؤمنين من عباده، منها تهب عليهم نسماتها، وتشرق عليهم أنوارها، ويفوح شذاها وعطرها، ليذيقهم بعض ما قدموا من خير، ويريهم نموذجاً لما ينتظرهم من نعيم، فينعموا من هذه النسمات بالروح والريحان، والأمن والإيمان، في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة، إنها جنة القرب، إنها جنة السكينة، قال تعالى:

 

 

﴿ وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ (6)﴾

 

( سورة محمد)

إخفاء الصور