وضع داكن
19-04-2024
Logo
المؤلفات - كتاب ومضات في الإسلام – الباب الثالث - الفقرة : 14 - الإيمان قوة مطلقة
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 ماشطة بنت فرعون هي تلك المرأة الصالحة، التي كانت تعيش هي وزوجها في ظل ملك فرعون، زوجها مقرب من فرعون.. وهى خادمة ومربية لبنات فرعون، فمن الله عليهما بالإيمان... وعلم فرعون بإيمان زوجها فقتله، فلم تزل الزوجة تعمل في قصر فرعون تمشط بناته، وتنفق على أولادها الخمسة، وفي يوم من الأيام وهي تمشط ابنة فرعون، وقع المشط من يدها فقالت: بسم الله، فقالت ابنة فرعون: الله... أبي ؟ فصاحت الماشطة بابنة فرعون: كلا.. بل الله ربي وربك ورب أبيك، فتعجبت البنت أن تعبد ماشطتها غير أبيها، فأخبرته فعجب فرعون أن يوجد في قصره من يعبد غيره، فدعا بها، وقال لها: من ربك ؟ فقالت: ربي وربك الله، فاشتعل غيظاً، وأمر بقدر من نحاس مملوء بالزيت المغلي، وأوقفها أمام القدر، فلما رأت العذاب، أيقنت أنما هي نفس واحدة، تخرج وتلقى الله تعالى، وعلم فرعون أن لها أولاداً خمسة أيتاماً وهي تكدح لهم لتطعمهم، فأراد أن يزيد من عذابها فأمر بإحضار أطفالها الخمسة، فلما رأوا أمهم تعلقوا بها وهم يبكون، فانكبت عليهم تقبلهم وتبكي، وأخذت أصغرهم وكان رضيعاً ضمته إلى صدرها، وألقمته ثديها، فلما رأى فرعون المنظر سأل أمهم: ألك رب غيري ؟ قالت الله ربي وربك، فأمر برمي أكبرهم في القدر، فجره الجنود، ودفعوه إلى الزيت المغلي، والغلام يصيح بأمه ويستغيث، ويسترحم الجنود، ويتوسل إلى فرعون، ويحاول الفكاك والهرب، وينادي إخوته الصغار، ويضرب الجنود بيديه الصغيرتين، وهم يصفعونه ويدفعونه، وأمه تنظر إليه وتودعه، فما هي إلا لحظات، حتى ألقي الصغير في الزيت المغلي، والأم تبكي، وإخوته يغطون أعينهم بأيديهم الصغيرة، حتى ذاب لحمه من على جسده النحيل، وطفت عظامه البيضاء فوق الزيت، فنظر إليها فرعون، وقال لها: ألك رب غيري ؟ قالت الله ربي وربك، وأمرها أن تنطق بكلمة الكفر أمرها أن تقول أنت ربي، فأبت عليه ذلك، فغضب فرعون وأمر بولدها الثاني، فسحب من عند أمه وهو يبكي، ويستغيث، وألقي في القدر، فما هي إلا لحظات، حتى طفت عظامه البيضاء، واختلطت بعظام أخيه، والأم ثابتة على دينها، موقنة بلقاء ربها، ثم قال لها: ألك رب غيري ؟ قالت: الله ربي وربك، ثم أمر فرعون بالولد الثالث، فسحب وفعل به ما فعل بأخويه، والأم ثابتة على دينها، فأمر فرعون أن يطرح الرابع في الزيت، فأقبل الجنود إليه، وكان صغيراً يتعلق بثوب أمه، فلما جذبه الجنود بكى، وانطرح على قدمي أمه، ودموعه تجري على رجليها، فحاولت أن تحمله لتودعه، وتقبله قبل أن يفارقها، فحال الجنود بينه وبينها، وحملوه من يديه الصغيرتين، وهو يبكي، ويستغيث، ويتوسل، بكلمات غير مفهومة، وهم لا يرحمونه، وما هي إلا لحظات حتى غرق في الزيت المغلي، وغاب الجسد، وانقطع الصوت، وعلت عظامه الصغيرة البيضاء فوق الزيت، والأم تنظر إلى عظامه، وقد رحل عنها إلى الدار الآخرة، وهي تبكي لفراقه، إذ طالما ضمته إلى صدرها، وأرضعته من ثديها، وطالما سهرت لسهره، وبكت لبكائه، بقي الرضيع الذي يلتقم ثديها... فجاهدت الأم نفسها أن تتجلد وتتماسك، وهنا سألها فرعون: ألك رب غيري ؟ فسكتت، وتضعضعت... وهنا حدثت المعجزة التي أخبر عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد أنطق الله هذا الرضيع فقال: اثبتي يا أمي... أنت على الحق... ( ورد هذا في فتح الباري في شرح صحيح البخاري ) فقالت الأم لفرعون: الله ربي وربك، فأمر فرعون الجنود، فانطلقوا إليها، وتدافعوا نحوها، وانتزعوا الخامس الرضيع من بين يديها، وكان قد التقم ثديها، فلما انتزع منها، صرخ الصغير، وبكت المسكينة، وألقي في الزيت، وفي فمه بقايا من حليبها، وفي يده شعرة من شعرها، وعلى ثيابه بقية من دمعها، وذهب الأولاد الخمسة، وبعد قليل ستكون معهم، ولم يبق إلا هي فأقبلوا إليها كالكلاب الضارية ودفعوها إلى القدر، فلما حملوها ليقذفوها في الزيت نظرت إلى فرعون وقالت له: اجعل عظامي وعظام أولادي في قبر واحد

 كانت هذه الماشطة تستطيع أن تحول بينها وبين هذا العذاب الذي لا يحتمله بشر بكلمة كفر تسمعها لفرعون لكنها علمت أن ما عند الله خير وأبقى... فلله در هذه الماشطة.. فما أقوى إيمانها، وما أعظم ثباتها، وحينما لا يملك الإنسان سلاحاً يحمي به نفسه، أو يواجه به عدوه، ويثبت على مبدئه ولا يتضعضع أمام الطغيان، يكون قد انتصر انتصاراً مبدئياً، يقطف ثماره في اليوم الآخر.
 ولقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء شيئاً من نعيم هذه الماشطة فحدث أصحابه به وقال: " لما أسرى بي مررت برائحة طيبة ( لم أشم مثلها قط )، فقلت ما هذه الرائحة يا جبريل ؟ فقال لي: هذه رائحة ماشطة بنت فرعون وأولادها " رواه البيهقي
وفي صحيح البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لو أن امرأة من أهل الجنة اطلعت إلى أهل الأرض لأضاءت ما بينهما ( أي ما بين المشرق والمغرب ) ولملأته ريحاً، ولنصيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها.
 ولنا أن نستنبط من هذه القصة الشيء الكثير، ولنا أن نأخذ منها إسقاطات كثيرة على واقع العرب والمسلمين، والفراعنة الذين تآمروا على الأمة العربية والإسلامية كثيرون، وهم في كل عصر ومصر، فمعركة الحق والباطل معركة أزلية أبدية، ولعل في هذه القصة مواساة لمن يقتل مقهوراً ثابتاً على مبدئه، متمسكاً بقيمه.
ولا تَهِنوا ولا تَحزَنُوا وأنتُم الأعلَوْن إن كنتم مؤمنين

 قال تعالى: إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ، وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا، يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ، وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ، وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً، وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ، وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ.
 وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِـهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ، وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ
وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ، النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا، وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ.

هذه قصة الطغاة في الأرض.

إخفاء الصور