وضع داكن
29-03-2024
Logo
رياض الصالحين - الدرس : 085 - باب استحباب العزلة عند فساد الزمان والناس - ماذا يصنع المؤمن بنفسه حينما يعم مجتمعه الفتنة والفساد لكي ينجو بدينه؟ وما هو المقياس الذي يجب أن يتخذه في هذه الفتنة
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .

هذا ما أراده الله :

 أيها الأخوة المؤمنون, الله جل جلاله حينما خلق الإنسان, أراده أن يعيش مع أبناء جلدته، أراده أن يكون اجتماعياً، الدليل: أنه مكنه من إتقان شيء، وأحوجه إلى مليار شيء، مكنه من إتقان شيء، هي حرفته، وأحوجه إلى مليار شيء، فما لم يكن الإنسان في مجموع، مع جماعة, لا يستطيع أن يعيش .
 إذاً: أراده الله عز وجل أن يكون الإنسان في مجتمع، لأن فضائل الإنسان لا تبدو وهو منعزل، يكذب على من؟ يصدق مع من؟ الصدق والكذب، والأمانة والخيانة، والنصح والغش، والإحسان والإساءة، هذه الفضائل وتلك الرذائل لا تكون إلا في مجتمع .
 فلو تصورنا إنسانًا يعيش وحده, كل هذه الفضائل لا تظهر، بالمقابل كل تلك الرذائل لا تظهر، فالإنسان كيف يمتحن، ولاسيما الدنيا مزرعة الآخرة، وأن الدنيا مدرسة للآخرة، لأن الدنيا إعداد للآخرة، ما دامت إعداداً, لا بد من أن يقدم الإنسان الفضائل, ويجتنب الرذائل، وهذه الفضائل وتلك الرذائل لا تبدو إلا في المجتمع .
 إذاً: كأن الله قهر الإنسان أن يكون في المجتمع، كل واحد منا يحتاج إلى طبيب، والطب عالم قائم بذاته، يحتاج إلى طبيب أسنان، قد يحتاج إلى طبيب فيزيائي, قد يحتاج إلى طبيب هضمي، طبيب عصب، طبيب قلب، طبيب عظام، طبيب جلد، طبيب عيون، طبيب أذن، طبيب حنجرة، يحتاج إلى مهندس يبني له بيته، يحتاج إلى معلم يعلم له أولاده، يحتاج إلى حلاق يحلق له شعره، يحتاج إلى بائع خضار يبيعه الخضار والفواكه، مكنك من إتقان شيء، وجعلك في حاجة إلى مليار شيء، إذاً: لا بد من أن تكون مع الجماعة .

إليكم هذه الطائفة من الآيات والأحاديث التي تؤيد فكرة الجماعة وأن يكون الإنسان معها :

 أيها الأخوة, في آيات كثيرة, يقول الله عز وجل:

﴿وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ﴾

[سورة المطففين الآية: 26]

 هل سمعتم أن هناك إنسانًا يتنافس وحده؟ مستحيل, قال تعالى:

﴿لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ﴾

[سورة الصافات الآية: 61]

 قال:

﴿وَسَارِعُوا﴾

[سورة آل عمران الآية: 133]

 المسارعة تقتضي الجماعة، قال:

﴿سَابِقُوا﴾

[سورة الحديد الآية: 21]

 المسابقة تقتضي الجماعة, قال تعالى:

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾

[سورة التوبة الآية: 119]

 آيات كثيرة، وأحاديث كثيرة, ترشد إلى أنه ينبغي أن تكون مع الجماعة، مع مجموع، لأنه ثمن الجنة الأخلاق، الأخلاق لا تظهر إلا في المجموع .
 أيها الأخوة, هذا هو الأصل .

((يد الله مع الجماعة, ومن شذ شذَّ في النار، وعليكم بالجماعة، وإياكم والفرقة, فإن الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد، وإنما يأكل الذئب من الغنم القاسية، والركب محروم من قبل الله عز وجل، والمسافر وحده شيطان))

 الركب جماعة .

((إذا كنتم ثلاثة فأمروا أحدكم))

 عشرات الآيات والأحاديث والنصوص, تبين: أن الإنسان ينبغي أن يكون مع المجموع، في مجتمع، والمجتمع يضبط، والانعزال قد يدعو إلى التفلت، ولكن هذا التمهيد هو الأصل .

 

ما علاج هذا الظرف ؟ :

 أيها الأخوة, ولكن قد يعم الفساد، وقد يستشري الإثم والعدوان، وقد يعجب كل بنفسه، وقد يؤثر شهوته، وقد يبيع دينه بعرض من الدنيا قليل، أحياناً: تجد نفسك وأنت في المجموع تنحرف، فنحن في حالة استثنائية .
 لذلك: الإمام النووي رحمه الله تعالى, عقد بابًا في كتابه رياض الصالحين, من كلام سيد المرسلين, عليه أتم الصلاة والتسليم، هذا الباب سماه: باب استحباب العزلة عند فساد الزمان والناس .
 الآن: أنت بحاجة إلى أخ كريم، أخ مؤمن، أن تكون معه، أن تنصحه، وأن ينصحك، أن تحسن إليه، وأن يحسن إليك، أن تأخذ بيده، وأنا يأخذ بيدك، أن تستشيره، وأن يستشيرك، نحن في أمس الحاجة إلى أخ مؤمن، لأنه عم الفساد في الأرض .
 لو سألت أهل الدنيا, لأرسلوك إلى المعصية والإثم، ليس عندهم ورع، يمكن أن يبيع خمر، يقول: أنا مطعمي خمس نجوم، خير إن شاء الله، سترى نجوم الظهر، يبيح لنفسه أن يبيع الخمر، وأن يقدم ما لا يرضي الله عز وجل في مكان عمله، وأن يتاجر بمادة محرمة، وأن يكون سببًا في فساد الناس، وأن يغريهم في الدنيا، فهناك فرص كثيرة جداً، لا تقوم إلا على أيدي من أدار ظهره لمنهج الله عز وجل .
 يا أيها الأخوة الكرام, في مثل هذه الحالات، في حالات الفساد والتفلت، والفتن يقظة، والمرأة وهي في الطريق يبدو أجمل ما فيها، لم يبق شيئاً لزوجها أبداً, الطرقات فيها فساد، وإذا اشتريت أي شيء, وجدتَ عليه صورة امرأة شبه عارية، هكذا العصر، في مثل هذا الزمان, ينبغي أن تطبق منهج الله الاستثنائي، هذا منهج استثنائي، يقول الله عز وجل:

﴿فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾

[سورة الذاريات الآية: 50]

 الله عز وجل أين هو؟ ففروا إليه، طبعاً الله عز وجل منزه عن المكان، منزه عن الجهة:

﴿ففروا إلى الله﴾

 يعني: أن تأتي إلى المسجد, كما ورد في الحديث القدسي, عن ابن مسعود رضي الله عنه قال:

((قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن بيوت الله في الأرض المساجد، وإن حقاً على الله أن يكرم الزائر))

[أخرجه الطبراني في المعجم الكبير]

 من أدراك وأنت في المسجد, أن الله عز وجل يضيفك شعورًا بالأمن، يضيفك وضوحًا بالهدف، يضيفك بشحنة روحية قوية، يضيفك بمنحك السلام؟ قال تعالى:

﴿يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ﴾

[سورة المائدة الآية: 16]

 فإذا قلنا: فروا إلى الله، يعني: الجأ إلى بيوت الله، لُذْ بأخوانك المؤمنين، اجعل ولاءك للمؤمنين، وبراءك من الكفار والمفسدين، هذا معنى: ففروا إلى الله، يعني اعتز بطاعتك، ولا تعتز بمعصيتك, قال تعالى:

﴿فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾

[سورة الذاريات الآية: 50]

هذا هو العبد الذي يحبه الله :

 عن عَامِرُ بْنُ سَعْدٍ رضي الله عنه قال:

((كَانَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ رضي الله عنه فِي إِبِلِهِ, فَجَاءَهُ ابْنُهُ عُمَرُ, فَلَمَّا رَآهُ سَعْدٌ قَالَ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شَرِّ هَذَا الرَّاكِبِ, فَنَزَلَ, فَقَالَ لَهُ: أَنَزَلْتَ فِي إِبِلِكَ وَغَنَمِكَ, وَتَرَكْتَ النَّاسَ يَتَنَازَعُونَ الْمُلْكَ بَيْنَهُمْ؟ فَضَرَبَ سَعْدٌ فِي صَدْرِهِ, وقَالَ: اسْكُتْ, سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْعَبْدَ التَّقِيَّ الْغَنِيَّ الْخَفِيَّ))

[أخرجه مسلم في الصحيح]

 معنى الخفي: إذا حضر لم يعرف، وإذا غاب لم يفتقد، لا يعنيه أن يكون مشهوراً.
 بالمناسبة: لا يمكن أن تكون الشهرة مقياساً، مستحيل، لأن أشهر مخلوق في الأرض هو إبليس، بكل اللغات معروف، يدور على ألسنة الخلق ملايين المرات كل يوم، مليارات المرات، فالشهرة ليست مقياساً .
 لما قال سيدنا عمر لأويس القرني التابعي الجليل:

((ابق معنا، قال: إنني أريد الكوفة، قال: أكتب لك إلى عاملها؟ قال: لا، أحب أن أكون من دهماء الناس))

 هذا التقي النقي الخفي، الذي إذا حضر لم يعرف، وإذا غاب لم يفتقد، هذا ممن يحبه الله عز وجل، بعيد عن الحياة الصارخة، وجوده ضعيف، وعند الله وجوده قوي، أما عند عبد الله فوجوده ضعيف .

((إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْعَبْدَ التَّقِيَّ الْغَنِيَّ الْخَفِيَّ))

 الغني عن الناس، الخفي، مغمور في التعتيم الإعلامي، طبعاً: إذا الإنسان زهد في الدنيا، وخاف على دينه، ابتعد عن النشاط العام، وأراد أن يكون طائعاً لله، عابداً له .

 

نقطة هامة :

 عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:

((قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ, أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مُؤْمِنٌ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، قَالُوا: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: مُؤْمِنٌ فِي شِعْبٍ مِنْ الشِّعَابِ يَتَّقِي اللَّهَ, وَيَدَعُ النَّاسَ مِنْ شَرِّهِ))

 لكن أنا أحب أن أقول لكم، في نقطة مهمة: هذه لعبة شد الحبل معروفة، إذا كنت بمجتمع ممكن أن تشدهم إلى الله, فينبغي أن تكون معهم، أما إذا أمكن أن يشدوك إلى الدنيا، وإلى مخالفة أو معصية, فينبغي أن تعتزلهم، هذا المقياس، معك مقياس دقيق جداً .
 إذا بجلسة تكلمت عن الله, وأصغوا, وأثنوا على هذا الكلام، وقالوا: والله ارتحنا، والله يجزيك الخير، ونحن بحاجة إلى هذا العلم، ينبغي أن تكون معهم، أما إذا تكلمت فلم يصغ لك أحد، وتعليقات لاذعة، وتهكم، وسخرية, ينبغي أن تعتزلهم، فالمقياس إن استطعت أن تشدهم فكن معهم، وإن لم تستطع فابتعد عنهم .
 وعندنا قاعدتان:

((دع خيراً عليه الشر يربو))

((ودرء المفاسد مقدم على جلب المنافع))

 أريد أن أزور رحمي، بارك الله بك، لكن رحمك غير منضبط، بنات الخالة، وبنات العمة غير منضبطات، ومتفلتات، وساخرات، فأنت تدخل عليهم بحال، وتخرج بحال، نقول لك : دع خيراً عليه الشر يربو .
 نقول لك: درء المفاسد مقدم على جلب المنافع .
 أنا في هذا الدرس, أحب أن أضع مقياسًا دقيقًا لأخواننا الكرام, حول مدى الانخراط في المجتمع، ومدى الابتعاد عنه، إذا انخرطت في المجتمع، وأمكنك الله من أن تقوده فلا تتركه، وإن وجدت أنك قد تحولت عن الله، وأن قلبك قد صدأ، وأنك يعني لم تكن مرتاحاً لهذا اللقاء، انسحب .

 

إياك أن تلبي هذه الدعوة :

 فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ, أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:

((شَرُّ الطَّعَامِ طَعَامُ الْوَلِيمَةِ, يُمْنَعُهَا مَنْ يَأْتِيهَا, وَيُدْعَى إِلَيْهَا مَنْ يَأْبَاهَا, وَمَنْ لَمْ يُجِبْ الدَّعْوَةَ, فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ))

 عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ, عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:

((لَوْ دُعِيتُ إِلَى ذِرَاعٍ أَوْ كُرَاعٍ لَأَجَبْتُ, وَلَوْ أُهْدِيَ إِلَيَّ ذِرَاعٌ أَوْ كُرَاعٌ لَقَبِلْتُ))

 ولكن إذا كان في الدعوة اختلاط، وفيها غناء, يجب ألاّ تذهب، لأنه في حالة مضحكة، الإنسان له هوية إسلامية، مؤمن، يتواجد في مكان ليس له، فأعوذ بالله، لماذا جئت إلى هنا؟ هذا المكان ليس لك، أنت مكانك مكان منضبط، رجال يعرفون الله، مكانك هنا، أنت أوجدت نفسك في مكان ليس لك، دائماً أعوذ بالله، نعوذ بالله من مجيئك إلى هذا المكان في الأساس، زوجته محجبة مثلاً، وهو قاعد في مكان عام، غناء وتفلت، هذا المكان ليس للمؤمن المنضبط، هذا الانفتاح غير المنضبط، هذا ليس انفتاحًا، هذا تفلت .

 

لا بد من التوازن بين هذين الاتجاهين :

 أخواننا الكرام, الاستئناس بالناس من علامات الإفلاس، أنت لا إمكان لك أن تجلس مع ربك ساعات، أقلها أن تقرأ القرآن، أقلها أن تقرأ أحاديث النبي الكريم، أقلها أن تبحث في موضوع علمي، في موضوع فقهي، أحدها أن تذكر الله عز وجل .
 درسنا في الجامعة, أن المدرس الناجح في التعليم, يتحدث ساعات طويلة دون تحضير، ثمة شيء داخل أعماقه، شيء متفاعل معه تفاعلا عميقًا جداً، فالمعلم الناجح من دون تحضير, يمكن أن يتحدث ساعات طويلة في موضوع معين، دون أن يرجع إلى مرجع, وأنت كونك مؤمنًا, لا تقدر أن تجلس مع نفسك خمس ست ساعات, وترتاح، وتذكر الله عز وجل, وتفكر، وتقرأ قرآن، وتفكر بموضوع، تعمل عملاً علميًا .
 هناك شخص دائماً مع الناس، ما دام دائما مع الناس, فهذا حظه من الله قليل، وشخص دائماً مع الله، واعتزل الناس، الاتجاهان مناقضان، البطولة في التوازن بينهما .

مثل ضربه القرآن :

 أيها الأخوة, والله عز وجل ضرب لنا مثلاً لطيفًا بسيدنا داود، كان محباً لله عز وجل ، هواه أن يكون مع الله مقبلاً، مبتهلاً، داعياً، فجاءه متخاصمان, فحكم لهما بسرعة، وتعجل دون أن يتحقق, قال تعالى:

﴿إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ﴾

[سورة ص الآية: 23]

 والله ليس له حق، قال له:

﴿قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ﴾

[سورة صَ الآية: 23]

 سألته للثاني, الثاني يقول: أنا أرعى الغنم, عندي تسع وتسعين نعجة، وأخي متفرغ لنعجة واحدة، أنا أرعاها له، الله عز وجل قال:

﴿يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى﴾

[سورة صَ الآية: 25]

 هنا سيدنا داود, آثر القرب من الله على خدمة الخلق، سيدنا سليمان بالعكس، أحب حب الخير عن ذكر ربه, قال تعالى:

﴿فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ﴾

[سورة صَ الآية: 31]

هذا ما أريد :

 أنا أريد إنسانًا لا يطغى عنده العمل الصالح على علاقة بالله، على شحناته الروحية، ولا تطغى شحناته الروحية التي يسعد بها على خدمة الخلق، يجب أن تقف في كل موقف الموقف المناسب .
 غير معقول من إنسان, عنده ضيوف يتركهم، ويجلس يقول: الله، الله، الله، هذا عمل غير مقبول أبداً، عندك ضيوف, فكن مع الضيوف، عندك جلوس مع ناس, فحدثهم عن الله، أما أن تجلس مع نفسك, تذكر الله عز وجل، فلكل مقام مقال, ولكل مقام موقف .

ما معنى الاعتزال في هذا الحديث؟ :

 قال:

((ثم من؟ قال: ثم رجل معتزل في شعب من الشعاب يعبد ربه))

 قد أفهم قوله تعالى:

﴿فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ﴾

[سورة الكهف الآية: 16]

 أيها الأخوة, أحياناً: أخوة كرام يجلسون مع بعضهم بعض, يسعدون سعادة ما بعدها سعادة، في سرور، يعبرون عنها بالتجلي والروحانية، فالإنسان مرآته أخوه، والإنسان قوي بأخيه، المعتزل في شعب من شعاب يعبد ربه، آثر صفاءه، أما إذا كان مع الصفاء عمل صالح, فيجب أن يؤثر العمل الصالح .
 سيدنا داود آثر صفاءه على خدمة الخلق، وسيدنا سليمان آثر خدمة الخلق على صفائه، هي قاعدة .
 قد تجد أخًا منهمكًا في العمل الصالح على حساب اتصاله بالله، وقد تجد أخًا منهمكًا بالاتصال بالله، لكن ليس له عمل صالح، الأولى أن تجمع بينهما، والأولى أن تكون كما قال عليه الصلاة والسلام:

((إن لله عمل في الليل لا يقبله في النهار، وإن لله عملاً في النهار لا يقبل في الليل))

 يعني: كل وقت له عبادة، هذا الحديث الثالث .

 

ما معنى الفرار من الفتن ؟ :

 عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه, ُأن رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:

((يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ خَيْرَ مَالِ الْمُسْلِمِ, غَنَمٌ يَتْبَعُ بِهَا شَعَفَ الْجِبَالِ, وَمَوَاقِعَ الْقَطْرِ, يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنْ الْفِتَنِ))

[أخرجه البخاري في الصحيح, وأبو داود والنسائي في سننهما, ومالك في الموطأ]

 الإنسان قد يدعى إلى وليمة, فيها اختلاط، نساء متكشفات، قد يدعى إلى طعام الحديث فيه لا يرضي الله عز وجل، يعكر القلب، معنى الفرار من الفتن: أن تفر من مكان يعصى الله فيه .
 أخواننا الكرام, المؤمنون الصادقون يعرفون، قد تدعى إلى بيت متواضع جداً، وإلى طعام خشن جداً، مع أخ مؤمن، وأنت أسعد الناس، وقد تدعى إلى مكان فخم جداً، وفيه طعام فاخر، وأنت لست مرتاحاً .
 أنا مرة دعيت إلى عقد قران, في قرية من قرى الغوطة الشرقية، في ساحة عامة في الطريق، كراسٍ، ومنصة، وشاي، سبحان الله فيه تجلٍّ وفائدة، وعقب هذه الكلمة التي ألقيتها, بضع عشرات من الأخوة هناك انضموا إلى المسجد .
 ومرة حضرت عقد قران فخم فاخر جداً، والله ما تمكنت أن أتكلم كلمة، ما لقيت وجهًا مفتوحًا، كلها مغلقة، تشعر بانقباض, لأن الإنسان المعرض عن الله يعاف، دائماً: كأنه آكل أكلة حامضة، دائماً يعلق تعليقات غير لائقة، ليس عنده أدب .
 وفي موضوع الدعوة إلى الله: المحب يعطيك طاقات فوق طاقتك، تجود، وإذا كان الإنسان معرضًا, تفقد معه كثير من إمكانياتك، أي إنسان منا بالود والحب ينطلق، بالنقد والقنص يحجب، فقد لا ترتاح للإنسان، هذا الإنسان يعكر صفاء المجلس .
 تروى قصة رمزية: أن شيخًا من الشيوخ, حضر درسه رجل معترض أو منتقد، فقال له:

((يا بني, يمكن أن تبيع لي هذه العباءة؟ -عباءة غالية-، قال له: نعم، قال له: خذ بعها، ذهب ولم يعد، سيدي هذا لم يرجع، قال: أعرف، أنا اشتريت لكم صفاء هذا المجلس بالعباءة هذه))

 قصة رمزية .
 في الجلسة واحد معرض، واحد منتقد، واحد غير منضبط، يعكر الجلسة كلها، فنحن يهمنا أنا نكون مع بعضنا، المؤمن قوي بأخيه، يسعد بأخيه، يتقرب إلى الله بخدمة أخيه .

((يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ خَيْرَ مَالِ الْمُسْلِمِ, غَنَمٌ يَتْبَعُ بِهَا شَعَفَ الْجِبَالِ, وَمَوَاقِعَ الْقَطْرِ, يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنْ الْفِتَنِ))

 لذلك قالوا:

((الوحدة خير من الجليس السوء، ولكن الجليس الصالح خير من الوحدة))

إليكم ما قرره هذا الصحابي, وما عاقبة هذا القرار؟ :

 أيها الأخوة, ثمة صحابي كان يرعى غنيمات له -عامر الجمحي- في البادية, فلما سمع ببعثة النبي عليه الصلاة والسلام, جاء إلى المدينة, وبايعه, وعاد إلى مكانه، فهو وأخوانه اتفقوا: أن يذهب كل يوم واحد, ليستمع من النبي صلى الله عليه وسلم، ويأتيهم بما قاله النبي صلى الله عليه وسلم في موضوع ما، هو قال: أنا أبقى مع غنيماتي دائماً، أنا دعوني في هذا المكان، بعد حين خاطب نفسه: ويحك ينبغي أن تكون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ قرارًا أن يذهب إلى النبي، ثم أصبح بعد ذلك أكبر قائد للمسلمين، كان قائدًا بحريًّا، وكان والي مصر، وكان أمير الشام، وكان عالمًا وقاضيًا، كل هذا بفضل أنه ترك غنيماته في الصحراء، وانضم إلى النبي عليه الصلاة والسلام، قال الله عز وجل:

﴿وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ﴾

[سورة الشرح الآية: 4]

 أنت لما تؤمن يرفع الله مكانتك، هناك شخص لا يقدم ولا يؤخر، وشخص كل الناس تنعقد عيونهم به .
 إذاً: الآيات التي وردت في حق النبي عليه الصلاة والسلام, لكل مؤمن منها نصيب, قال تعالى:

﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ * فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً﴾

[سورة الشرح الآية: 1ـ 6]

 المؤمن يرفع الله عز وجل قدره بين الناس .

 

قصة وردت :

 رجل من أهل الكتاب، يبدو أنه فقير جداً، ويعمل في حرفة مزعجة جداً، رأى عالمًا جليلاً من علماء المسلمين السابقين, حوله أخوانه، وهو بهي المنظر، مخدوم محشود، وقد سمع أن في أقوال النبي صلى الله عليه وسلم حديثاً .
 يقول فيه عليه الصلاة والسلام:

((الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر))

[أخرجه مسلم في الصحيح, والترمذي في سننه]

 وجد نفسه يعمل في أقذر حرفة، فقيرًا جداً، ومتعبًا، ومقهورًا، وهذا العالم مثل الملك، قام, فسأله في الطريق، قال:

((يقول نبيكم: الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر .
فأي جنة أنا فيها، وأي سجن أنت فيه؟ -فكان هذا العالم سريع البديهة-، قال: يا هذا ما أنا فيه مما ينتظرني في سجن، وما أنت فيه مما ينتظرك في جنة))

 حياة المؤمن بعد الموت أعظم مما قبل الموت، بعكس غير المؤمن، ما قبل الموت أعظم مما ما بعد الموت، صعوبات بالغة جداً .
 إذاً: عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ:

((قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ خَيْرَ مَالِ الْمُسْلِمِ, غَنَمٌ يَتْبَعُ بِهَا شَعَفَ الْجِبَالِ, وَمَوَاقِعَ الْقَطْرِ يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنْ الْفِتَنِ))

[أخرجه البخاري في الصحيح, وأبو داود والنسائي في سننهما, ومالك في الموطأ]

ما وراء هذا الحديث :

 وفي حديث آخر: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ, أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:

((مَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا إِلَّا رَعَى غَنَمَ, فَقَالَ أَصْحَابُهُ: وَأَنْتَ؟ فَقَالَ: نَعَمْ, كُنْتُ أَرْعَاهَا عَلَى قَرَارِيطَ لِأَهْلِ مَكَّةَ))

[أخرجه البخاري في الصحيح, ومالك في الموطأ]

 لا أعتقد أن ثمة عملاً أدنى اجتماعياً من رعي الغنم، لا يحتاج بكالوريا، ولا كفاءة، ولا ابتدائية، ولا حسن سلوك، ولا سوء سلوك، ولا شهادة صحية، ولا تزكية، ولا حكم عليه.
 أي إنسان يرعى الغنم، أعتقد أنه لا يوجد أجر أقل من أجر راعي الغنم، والله عز وجل شرف الأنبياء بهذه الحرفة، يبدو أن هذه الحرفة تطلق الفكر، هذه الحرف لها فائدة ثانية ، يعمل عمل مرهقًا وصاخبًا، والدخل قليل جداً، فإذا كان للرجل بداية متعبة صعبة وخشنة، ثم أكرمه الله بعد ذلك, فهذه من نعم الله الكبرى عليه، أما إذا نشأ إنسان في النعيم، ثم سلب الله منه هذا النعيم, دائماً اذكر بالدعاء:

((نعوذ بك من السلب بعد العطاء، نعوذ بك من عضال الداء ، نعوذ بك من شماتة الأعداء))

 وأشياء صعبة جداً، أن يشمت بك عدوك، وأن تسلب شيئاً أخذته سابقاً، وعضال الداء .
 يروى أن سيدنا عمر, كان على المنبر يخطب، قطع خطبته بلا مبرر، وقال كلمات لا معنى لها إطلاقاً، ولا علاقة لها بالخطبة، قال:

((يا عمر كنت ترعى الغنم بقراريط لبني مخزوم، ثم تابع الخطبة، -كأنه إعلان ضمن الأخبار, لا علاقة له-، فلما سأله سيدنا أبي ذر بعد ما انتهت الخطبة: ماذا قلت يا أمير المؤمنين؟ قال: جاءتني نفسي, فقالت لي: ليس بينك وبين الله أحد، -أنت أعلى إنسان-، فأردت أن أعرفها قدرها))

 كل هذه الأحاديث هي خاصة، وضع استثنائي، الأصل: أن تكون مع الجماعة، ولك وجود قوي، ولك عمل طيب، ولكن إذا كانت الجماعة منحرفة، بقاؤك معها بشكل صارخ قد يبعدك عن الدين, الأولى أن تنسحب .
 مرة ثانية أقول: لعبة شد الحبل هي المقياس، إما أن تشدهم إليك، وإما أن يشدونك إليهم، وازن .

 

ما معنى هذا الحديث؟ :

 عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه, أن رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, قَالَ:

((مِنْ خَيْرِ مَعَاشِ النَّاسِ لَهُمْ؛ رَجُلٌ مُمْسِكٌ عِنَانَ فَرَسِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ, يَطِيرُ عَلَى مَتْنِهِ, كُلَّمَا سَمِعَ هَيْعَةً أَوْ فَزْعَةً, طَارَ عَلى متنه, يَبْتَغِي الْقَتْلَ, أوَ الْمَوْتَ مَظَانَّهُ, أَوْ رَجُلٌ فِي غُنَيْمَةٍ, فِي شَعَفَةٍ مِنْ هَذِهِ الشَّعَافِ, أَوْ بَطْنِ وَادٍ مِنْ هَذِهِ الْأَوْدِيَةِ, يُقِيمُ الصَّلَاةَ, وَيُؤْتِي الزَّكَاةَ, وَيَعْبُدُ رَبَّهُ حَتَّى يَأْتِيَهُ الْيَقِينُ, لَيْسَ مِنْ النَّاسِ إِلَّا فِي خَيْرٍ))

[أخرجه مُسلِمٌ في الصحيح ]

 إنسان مجاهد في سبيل الله، هذا من أفضل الناس .
 بالمناسبة:

((من لم يجاهد في سبيل الله، ولم يحدث نفسه بالجهاد, مات على سنة من النفاق))

 ؛ ولكن الجهاد ليس كما يتوهم الناس جميعاً، هو جهاد قتال فقط .
 هناك جهاد النفس والهوى، والجهاد الدعوي، والجهاد القتالي، القتالي غير متاح، عندك الجهاد الدعوي، الدعوي متاح، والجهاد عند الله كبير, قال تعالى:

﴿وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً﴾

[سورة الفرقان الآية: 52]

((من خير معاش الناس؛ رجل ممسك عنان فرسه في سبيل اللَّه, يطير على متنه، كلما سمع هيعة أو فزعة، طار على متنه .
-يطير أي يسرع، والمتن هو الظهر .

طرقت الباب حتى كل متني  فلما كلمتني كلمتنـــــي

 يعني: ضعف، كَلَّ ضعف ظهري .

فقالت لي أي إسماعيل صبراً  فقلت لها أيا أسما عيل صبري

 اسمها أسمى، وعيل صبري، أي نفذ صبري .

طرقت الباب حتى كل متني  فلما كل متني كلمـــــتني

 كلّ يعني ضعف، والمتن هو الظهر، الكلمة الأولى والثانية كلّ متني، والثالثة كلمتني يعني حادثتني .

فقالت لي: أي إسماعيل صبرا ً فقلت لها: أيا أسما عيل صبري؟

 أي: يا أسما عيل صبري، أي نفذ صبري، يطير أي يسرع، والمتن هو الظهر، والهيعة الصوت للحرب، والفزعة نحوه- .
 أو رجل في غنيمة في شعفة من هذه الشعاف.
 -مرة حدثني شخص, قال لي: أنا أعمل في سوق من أسواق دمشق الفاخرة، يبيع ثيابًا نسائية، قال لي: والله كلما تابعت هذا العمل يوماً, ازددت بعداً عن الله أياماً، طول النهار حديث غير منضبط، نساء غير منضبطات، وملابس مغرية .
 قد تجد إنسانًا, يعمل في الميكانيك, بأحد المناطق الصناعية، أصوات غير مريحة، وشحوم, وزيوت، قد يكون هناك أصفى له من هذا المكان الرائع، فالعبرة ليست في المظاهر ، لكن في المخابئ- .
 أو رجل في غنيمة في شعفة من هذه الشعاف، أو بطن واد من هذه الأودية, يقيم الصلاة، ويؤتي الزكاة، ويعبد ربه حتى يأتيه اليقين, ليس من الناس إلا في خير))

 

يعني: إذا أردت أن تكون مع الناس, وأن تؤثر فيهم, ففعل، فإن لم تستطع فاعتزلهم .
 أيها الأخوة, دائماً: التطرف سهل، بمستوى تربية الأولاد، ممكن أن تكون أبًا بطاشاً ظالماً، ويمكن أن تكون أبًا سهلاً, ليناً, معصوراً، أما أن تجمع بين الحالتين، أن يهابك أولادك ، بقدر ما يحبونك، هذا يحتاج إلى جهد، التوسط يحتاج إلى جهد، أما التطرف لا يحتاج إلى جهد .
 لذلك:

((من خالط الناس, وصبر على أذاهم, خير من لم يخالطهم، ولم يصبر على أذاهم))

هذا ما ذكره النووي :

 الإمام النووي رحمه الله تعالى, عقد باباً آخر، المؤمن عنده حاسة سادسة، هذه الجلسة لا تناسبني اعتذر، هذا الكتاب لا يناسبني اعتذر، هذه النزهة لا تناسبني اعتذر، هذا الدور كل ثلاثاء لا يناسبني .
 وهناك أشخاص يلعبون النرد, ولا يصلُّون، يغتابون، ويقولون: نحن مسرورون، أنتم في معاص وآثام، الجلسة في ذكر الله عز وجل، ناس مؤمنون صادقون، والله الجلوس معهم جنة .
 لذلك: الإمام النووي, جاء بفصل آخر معاكس للأول, قال:

((باب فضل الاختلاط بالناس، ‏وحضور جمعهم وجماعاتهم، ومشاهد الخير، ومجالس الذكر، وعيادة مريضهم، وحضور جنائزهم, ومواساة محتاجهم، وإرشاد جاهلهم، وغير ذلك من مصالحهم, لمن قدر على الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر))

 فإذا كان الإنسان طليق اللسان, وقويًا، وإرادته صلبة، وإيمانه قوي، وموصول بالله عز وجل, اجلس مع الناس، انزل في أفراحهم, وأتراحهم، وانصحهم، ودلهم على الله، معك منطق، ومعك قوة شخصية، فلماذا تنسحب منهم؟ .
 لذلك: الأنبياء كانوا يمشون في الأسواق، ويأكلون الطعام .
 طبعاً: العلماء علقوا تعليقًا رائعًا: أن النبي ليس فوق البشر, هو بشر، مفتقر إلى وجوده إلى تناول الطعام، ومفتقر في تناول الطعام إلى العمل, لثمن الطعام .
 فهذا الباب, باب: فضل الاختلاط بالناس، ‏وحضور جمعهم, وجماعاتهم, ومشاهد الخير، يعني الأعياد، ومجالس الذكر معهم, وعيادة مريضهم، وحضور جنائزهم، ومواساة محتاجهم، وإرشاد جاهلهم، وغير ذلك من مصالحهم, لمن قدر على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .‏
 ماذا نفهم من كلمة معروف؟ يعني الدين فطرة, فما عرفته النفس بفطرتها أنه معروف فهو معروف، وما أنكرته النفس بفطرتها أنه منكر فهذا منكر، كلمة معروف ومنكر فيهما تعليق لطيف جداً، يعني الدين دين الفطرة، يعني الدين يتوافق مع فطرتك توافق تاماً، فما ارتاحت إليه نفسك معروف، ما لم ترتح إليه منكر .
 عَنْ وَابِصَةَ بْنِ مَعْبَدٍ قَالَ:

((أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ لَا أَدَعَ شَيْئًا مِنْ الْبِرِّ وَالْإِثْمِ, إِلَّا سَأَلْتُهُ عَنْهُ، وَإِذَا عِنْدَهُ جَمْعٌ, فَذَهَبْتُ أَتَخَطَّى النَّاسَ, فَقَالُوا: إِلَيْكَ يَا وَابِصَةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, إِلَيْكَ يَا وَابِصَةُ, فَقُلْتُ: أَنَا وَابِصَةُ, دَعُونِي أَدْنُو مِنْهُ, فَإِنَّهُ مِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ, أَنْ أَدْنُوَ مِنْهُ, فَقَالَ لِي: ادْنُ يَا وَابِصَةُ, ادْنُ يَا وَابِصَةُ, فَدَنَوْتُ مِنْهُ, حَتَّى مَسَّتْ رُكْبَتِي رُكْبَتَهُ, فَقَالَ: يَا وَابِصَةُ, أُخْبِرُكَ مَا جِئْتَ تَسْأَلُنِي عَنْهُ أَوْ تَسْأَلُنِي, فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَخْبِرْنِي, قَالَ: جِئْتَ تَسْأَلُنِي عَنْ الْبِرِّ وَالْإِثْمِ؟ قُلْتُ: نَعَمْ, فَجَمَعَ أَصَابِعَهُ الثَّلَاثَ, فَجَعَلَ يَنْكُتُ بِهَا فِي صَدْرِي, وَيَقُولُ: يَا وَابِصَةُ اسْتَفْتِ نَفْسَكَ, الْبِرُّ مَا اطْمَأَنَّ إِلَيْهِ الْقَلْبُ, وَاطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ, وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي الْقَلْبِ, وَتَرَدَّدَ فِي الصَّدْرِ, وَإِنْ أَفْتَاكَ النَّاسُ, قَالَ سُفْيَانُ: وَأَفْتَوْكَ))

 قلت قبل قليل: أن الأصل أن نكون مع الناس، وآيات كثيرة: سابقوا وسارعوا .
 يقول الإمام النووي رحمه الله تعالى: اعلم أن الاختلاط بالناس على الوجه الذي ذكرته, هو المختار الذي كان عليه رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم, وسائر الأنبياء صلوات اللَّه وسلامه عليهم، وكذلك الخلفاء الراشدون, ومن بعدهم من الصحابة, والتابعين، ومن بعدهم من علماء المسلمين وأخيارهم، وهو مذهب أكثر التابعين ومن بعدهم، وبه قال الإمام الشافعي ، وأحمد, وأكثر الفقهاء رَضِيَ اللَّهُ عَنهُم أجمعين .

 

خاتمة القول :

 أيها الأخوة, قال الله تعالى:

﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾

[سورة المائدة الآية: 2]

 التعاون؛ أنت مع المجتمع, مختلط معهم، منفتح، وإيجابي, تتعاون معهم .
 أيها الأخوة كما قلت قبل قليل: الموازنة تحتاج إلى جهد، أما التطرف فلا يحتاج إلى ذلك، لا يناسب أن تكون انعزالي، ولا اجتماعي متفلت, يجب أن تجمع بين الانعزالية التي فيها الصفاء، وبين أن تكون مع المجتمع الذي فيه المخاطر، فالإنسان إذا كان مع الله، الله عز وجل يسدد خطاه .
 الملاحظ: لماذا النبي عليه الصلاة والسلام قال:

((من بدا جفا))

 ماذا في البادية؟ بلاد الله، وأرض الله، لماذا من بدا جفا؟ بدا: أي سكن البادية، يعني: ابتعد عن العلم .
 مرة رأيت بيتًا جميلاً جداً في منطقة كلها غابات، ومطلة على بحر، البيت معتنى به كثيراً، فقلت في نفسي: والله لو أن إنسانًا سكن هذا البيت، وكل حاجاته عنده، لجاء يوم القيامة مفلساً، مثل العمل التجاري أفضل المحلات, ما كانت في تزاحم الأقدام .

 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور