وضع داكن
19-04-2024
Logo
الخطبة : 0716 - الافتقار إلى الله - التفسير الإلهي للمصائب والكوارث.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الخطبة الأولى:

 الحمد لله نحمده، و نستعين به و نسترشده، و نعوذ به من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له و من يضلل فلن تجد له وليّاً مرشداً، و أشهد أن لا إله إلا الله و حده لا شريك له إقراراً بربوبيته، و إرغاماً لمن جحد به و كفر، و أشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه و سلم رسول الله سيد الخلق و البشر، ما اتَّصلت عينٌ بنظر، أو سمعت أذنٌ بخبر، اللهم صلِّ وسلِّم و بارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وعلى ذرِّيته، ومن والاه، ومن تبعه إلى يوم الدين، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علِّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علَّمتنا، وزدنا علمًا، و أرنا الحق حقاً، وارزقنا اتِّباعه، وأرنا الباطل باطلاً، و ارزقنا اجتنابه، و اجعلنا ممن يستمعون القول فيتَّبعون أحسنه، و أدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

فقر العباد إلى الله :

 أيها الأخوة المؤمنون... بعد سلسلةٍ من الخُطَب حول الكبائر الباطنة المُهلكة، لابدَّ من الحديث بشكلٍ إيجابي عن الصفات التي ينبغي أن يتحلَّى بها قلب المؤمن، انطلاقاً من قول الله عزَّ وجل:

﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾

[ سورة الشعراء:88-89]

 فالقلب السليم رأس مال المؤمن في الآخرة، وقد ذكرت من قبل أن أمراض الجسد مهما تكن عُضالة، تنتهي عند الموت، محدودة في وقتها وفي أثرها، ولكن أمراض القلب إذا غفل عنها الإنسان ولم ينتبه إليها في حياته، ربَّما تكون مهلكةً له إن لم يتُب منها إلى أبد الآبدين. أمراض الجسد تنتهي عند الموت، وأمراض القلب تبدأ عند الموت..
 أيها الأخوة الكرام... موضوع الخطبة اليوم: الفقر، كل المعاني المتبادرة إلى أذهان الأخوة المستمعين والحاضرين ليست مقصودةً في هذه الخطبة، مرتبة الفقر منزلةٌ ينبغي أن يسلكها المؤمن كي يصل إلى الله عزَّ وجل، هذه المنزلة انطلاقاً من قول الله عزَّ وجل:

﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ﴾

[ سورة فاطر : 15]

 هذه الآية أصلٌ في هذا الموضوع..

﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ﴾

[ سورة فاطر : 15]

 قال العلماء: " فقر العباد إلى الله فقرٌ ذاتيٌ أصيل، لا ينفكُّ عنهم أبداً، وأن يكون الله غنياً حميداً هذا وصفٌ ذاتيٌ له لا لأمرٍ أوجبه "، أي أن الأصل أن العباد مفتقرون إلى الله لا لسببٍ طارئ، ولا لعلةٍ، ولا لتكليفٍ، هذه حقيقةٌ أصيلةٌ في كيانهم، والله عزَّ وجل غنيٌ حميد، ذاته، هذا الوصف ذاتيٌ له لا لأمرٍ أوجبه أو لعلةٍ أخرى. قال بعض علماء التوحيد:

والفقر لي وصفُ ذاتٍ لازمٌ أبداً  كما الغنى أبداً وصفٌ له ذاتي
* * *

 أي أنت مفتقر إليه دائماً شئت أم أبيت، علمت أو لم تعلم، أحببت أم كرهت، أنت مفتقرٌ إليه وهو غنيٌ حميد، الفقر في الإنسان صفةٌ ذاتيةٌ أصيلة، والغنى في الله عزَّ وجل صفةٌ ذاتية أصيلة.

 

الفقر الاضطراري و الاختياري :

 أيها الأخوة الكرام... لكن العلماء فرَّقوا بين فقرين؛ فقرٍ اضطراري، وفقرٍ اختياري. فالفقر الاضطراري لا خروج لأحدٍ عنه، لا لبرٍ ولا لفاجرٍ، وهذا الفقر الاضطراري الذي لا خروج لأحدٍ عنه لا لبرٍ ولا لفاجرٍ لا يقتضي مدحاً ولا ذماً، ولا ثواباً ولا عقاباً، أي أنت مفتقرٌ إلى إمداد الله؛ مفتقرٌ إلى الحركة التي تتحركها، مفتقرٌ إلى عمل الأجهزة، مفتقرٌ إلى عمل الحواس، مفتقرٌ إلى عمل المخ والأعصاب، أنت مفتقرٌ دائماً إلى الله شئت أم أبيت، وجودك مستمدٌ منه، وفق إمداد الله عزَّ وجل تكون أنت؛ إما أن يمدَّك بالصحة، وإما أن يحجب عنك بعض الصحة، إما أن يمدك بالفكر الصحيح فيصح عملك، وإما أن تبتعد عنه فيحجب عنك نوره، فأنت مفتقرٌ إليه شئت أم أبيت، هذا الفقر الاضطراري لا يقتضي مدحاً ولا ذماً، ولا ثواباً ولا عقاباً.
 ولكن الحديث اليوم عن الفقر الاختياري، هذا الفقر الاختياري هو كسبي من كسبك، ومن ثمار إيمانك، ومن محصِّلة معرفتك بالله عزَّ وجل، هذا الفقر الاختياري أيها الأخوة نتيجةٌ طبيعيةٌ حتميةٌ لعلمين شريفين، العلم الأول معرفة العبد بربه، والعلم الثاني معرفة العبد بنفسه.
 إن عرفت ربك عرفت نفسك، فمتى حصلَتْ هاتان المعرفتان أنتجتا فقراً - الآن دقِّقوا - أنتجتا فقراً هو عين الغنى، وعنوان الفلاح، وسرّ السعادة، وتفاوت الناس في هذا الفقر بحسب تفاوتهم في هاتين المعرفتين، أن تعرف ربك وأن تعرف نفسك، إن عرفتهما باختيارك أنتجتا فقراً هو عين الغنى، فقراً هو عين القوة، فقراً هو عين العلم، فقراً هو عين التوفيق، فقراً هو عين الرشاد، فقراً هو عين النصر، ألم تقرؤوا قول الله عزَّ وجل:

﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ﴾

[ سورة آل عمران: 123 ]

 أي مفتقرون إليه..

﴿فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ﴾

[ سورة البقرة: 249 ]

 عُدةٌ متواضعة غلبت عُدةً كثيرة بإذن الله.

 

التّولي و التّخلي :

 أيها الأخوة الكرام... هذا الدرس يحتاجه المسلم كل يوم عشرات المرات، بل مئات المرات، حينما يفتقر يمدُّه الله بالحكمة، بالقوة، بالصبر، بالعزيمة، بالرضا، بالتفاؤل، ينصره، يدعمه، يؤيِّده، يحفظه، يوفِّقه، إذا قال: الله.
 فإذا قال: أنا ابن فلان، أنا حجمي المالي كذا، أنا عندي خبرات متراكمة، لي باعٌ طويل في التجارة، حينما يعزو الأمر إلى ذاته الله عزَّ وجل يتخلَّى عنه، بل إن الصحابة الكرام وفيهم النبي العدنان عليه صلوات الله وسلامه، حينما قالوا يوم حنين:

((لن نُغْلَب من قلَّة))

[أبو داود والترمذي والحاكم عن ابن عباس ]

 قال تعالى:

﴿وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ﴾

[ سورة التوبة : 25]

 يا أيها الأخوة الكرام... درسان بليغان، المؤمن في أي مكانٍ وزمان في أمسِّ الحاجة إلى هذين الدرسين؛ درس بدر ودرس حنين، إن قلت: الله. إن افتقرت إليه، وهذا هو الواقع، ليس هذا كما يقول بعضهم أدباً مع الله. هذا هو الواقع، أنت من دون إمداد الله لا شيء، إن اعترفت بضعفك، إن اعترفت بجهلك، إن اعترفت بفقرك أغناك الله وعلَّمك وقوَّاك، وإن عزوت الأمر إلى ذاتك تخلَّى عنك وأوكلك إلى نفسك.. فمن اتَّكل على الله كفاه، ومن اتكل على نفسه أوكله الله إليها، هذا هو التوحيد، وهذه أكبر ثمرةٍ من ثمار الإيمان، أن تكون مفتقراً إلى الله افتقار حقيقة، افتقار علم، افتقار واقع.

 

أنواع الفقر و الغنى :

 أيها الأخوة الكرام... أنت حينما تتقن معرفة الله ومعرفة نفسك، ينتج عن هاتين المعرفتين حالة الفقر الاختياري التي هي من كسبك، أما الفقر الاضطراري فهذا قدرك شئت أم أبيت..

﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ﴾

[ سورة فاطر : 15]

 أيها الأخوة الكرام... من عرف ربه بالغنى المُطلق عرف نفسه بالفقر المطلق، ومن عرف ربه بالقدرة التامة عرف نفسه بالعجز التام، ومن عرف ربه بالعز العظيم عرف نفسه بالمسكنة التامَّة، ومن عرف ربه بالعلم التام والحكمة عرف نفسه بالجهل، فالله سبحانه وتعالى أخرج العبد من بطن أمه لا يعلم شيئاً، ولا يقدر على شيء، ولا يملك شيئاً، ولا يقدر على عطاءٍ، ولا على منعٍ، ولا ضُرٍ ولا نفعٍ، ولا شيءٍ من هذا القبيل.
 أيها الأخوة الكرام... ولكن الغنى الظاهري؛ قد يوفَّق الإنسان في عمله، قد يعطى فكراً دقيقاً، وثَّاباً، لمَّاعاً، قد يُنصر على خصمٍ له، قد يتألَّق في اختصاصٍ، قد يجمع ثروةً طائلة، ففي ساعة الغفلة يتوهَّم خطأً أن هذا إنما أوتيه على علمٍ عنده..

﴿قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي﴾

[ سورة القصص: 78]

﴿فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ﴾

[ سورة القصص: 81]

 أيها الأخوة... قد يكون طريق القمَّة صعباً جداً، ووعراً جداً، وفيه عقباتٌ كثيرة، وصوارف كثيرة، ومثبطاتٌ كثيرة، فإذا بلغ الإنسان القمَّة انهار أو سقط إلى الحضيض بمرض الغرور، بمرض الشرك الخفي، بمرض أنه يتصور أن هذا من إنتاجه، ومن ذكائه، ومن خبراته، وله باعٌ طويل. لذلك أكبر مرض مُهلك مدمِّر ينتظر الناجحين في الحياة هو مرض الشرك الخفي. لذلك أشار ربنا عزَّ وجل إلى هذا المرض الخطير فقال:

﴿كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى ﴾

[ سورة العلق : 6-7]

الشعور بالغنى أحد أسباب الطغيان والطغيان أحد أسباب الهلاك :

 حينما يستغني الإنسان بقدرةٍ، بمالٍ، بعزٍ، بسلطانٍ، بذكاءٍ، بأتباعٍ عندئذٍ يطغى، سبب الطغيان الغفلة عن الله..

﴿كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى ﴾

[ سورة العلق : 6-7]

 لذلك ورد حديثٌ شريف عن رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، والله أيها الأخوة كنت أصفه بأنه يقصم الظهر، قال عليه الصلاة والسلام:

(( بادِرُوا بالأعمال سبعا...))

[الترمذي والنسائي عن أبي هريرة ]

 هذه الدنيا التي نحن فيها، ماذا لو أننا أعرضنا عن الله لا سمح الله ولا قدَّر؟ لو أننا أردنا الدنيا؟ لو أننا أردنا أن ننغمس فيها ماذا ينتظرنا ؟

(( بادِرُوا بالأعمال سبعا...))

[الترمذي والنسائي عن أبي هريرة ]

 يقول عليه الصلاة والسلام:

((هَلْ تَنْتَظِرُونَ إِلا فقْرًا مُنْسِيًا - فقر ينسي الإنسان كل شيء - أَوْ غِنًى مُطْغِيًا...))

[الترمذي والنسائي عن أبي هريرة ]

 لعل النبي عليه الصلاة والسلام أخذها من هذه الآية:

﴿كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى ﴾

[ سورة العلق : 6-7]

 فالغنى عدَّه النبي أحد أكبر المصائب، الغنى أن يكون معك مال وفير، أن تكون مستغنياً بقوتك، مستغنياً بصحتك، مستغنياً بأتباعك، مستغنياً بأموالك بالمعنى المطلق، هذا الشعور بالغنى أحد أسباب الطغيان، والطغيان أحد أسباب الهلاك..

﴿كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى ﴾

[ سورة العلق : 6-7]

 ما دمت مفتقراً إلى الله فهو معك، ما دمت مفتقراً إلى الله فهو ناصرك، ما دمت مفتقراً إلى الله فهو وليُّك، ما دمت مفتقراً إلى الله فهو يعينك.

 

للمؤمن منظومة قيم يتعرف من خلالها إلى الله :

 أيها الأخوة الكرام... وازنوا بين طفلين ؛ طفلٍ شريد، وجهه متجهِّم، ثيابه رثَّة، قذرٌ في جسمه، بذيء في لسانه، منحرفٌ في أخلاقه، ينام في الطرقات. وطفلٌ له أبٌ كبير ؛ يرعى جسمه، ويرعى عقله، ويرعى دينه، ويرعى أخلاقه، ويرعى نفسه، يربيه اجتماعياً ونفسياً وعلمياً، فهو متألقٌ تألقاً رائعاً، وازن بين هذين الطفلين ثم اقرأ قوله تعالى:

﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ ﴾

[ سورة محمد : 11]

 المؤمن له مرجعيَّة، عنده كتابٌ كريم كلام رب العالمين، عنده سنةٌ مطهرة، المؤمن عنده منظومة قيَم؛ هذا حرام، وهذا حلال، وهذا يجوز، وهذا لا يجوز، وهذا يرضي الله، وهذا يغضب الله، وهذا يقطعني، وهذا يوصلني، وهذا يبعدني، وهذا يقربني، عنده منظومة قيّم، له مرجعيَّة، لذلك هذا المؤمن الذي تعرَّف إلى الله يهديه الله سبل السلام، يهديه الله سبل السلامة؛ حتى في صحته، وحتى في زواجه، وحتى في عمله، وحتى في تربية أولاده، وحتى في شيخوخته، كنت أقول دائماً: هؤلاء الذين عمَّروا سنواتٍ طويلة ولم يعرفوا الحرام، كانوا إذا سُئلوا: يا سيدي ما هذه الصحَّة التي متَّعك الله بها ؟ هو في السادسة والتسعين - والله زرت والد صديقٍ لي في السادسة والتسعين، قال لي: البارحة أجرينا فحوصاً كاملة، قال لي: الحمد لله كله طبيعي، وهو في السادسة والتسعين- يقول: يا بني حفظناها في الصغر فحفظها الله علينا في الكبر، من عاش تقياً عاش قوياً.
 والأعمق من ذلك أن الأمر الإلهي علاقته بنتيجته علاقةٌ علميَّة، ما معنى ذلك ؟ أي أن الطفل إذا وضع يده على المدفأة تحترق، فالاحتراق نتيجة، والسبب وضع اليد على المدفأة، أما حينما يأمره والده أن يجلس هنا، ويجلس هناك، فيضربه، نقول: هذه علاقةٌ ليست علميَّة بل وضعية، فإما أن يكون بين السبب والنتيجة علاقةٌ وضعية نحن اخترعناها، وإما أن تكون العلاقة بين السبب والنتيجة علاقةً علميَّة، أي علاقة سبب بنتيجة حتميَّة، يبدو أن كل أوامر الله العلاقة بينها وبين نتائجها علاقةٌ علميَّة، وأن كل النواهي التي نهى الله عنها العلاقة بينها وبين نتائجها علاقةٌ علميَّة، أي أن الأمر فيه مقومات نتائجه، والنهي فيه مقومات نتائجه، فلذلك:

﴿كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى ﴾

[ سورة العلق : 6-7]

 من لوازم الغفلة عن التوحيد الطُغيان، ولو على أموال الناس، ولو بالكذب والاحتيال والغش، حينما لا ترى الله هو الرزَّاق، هو الغني، حينما تعزو هذا إلى نفسك تأكل أموال الناس بالباطل، من خلال هذه الآية يبدو أن أي طغيانٍ سببه الشعور بالاستغناء عن الله، فلو كنت مفتقراً إلى الله لما زِحت عن منهج الله قيد أنمُلة أبداً.

 

المؤمن هدفه الله فهو كالبدر في شيخوخته :

 أيها الأخوة الكرام...

(( بادِرُوا بالأعمال سبعا: هل تُنْظَرون إلا فَقْرا مُنْسيا...))

[الترمذي والنسائي عن أبي هريرة ]

 فقر مفاجئ، شُح في المياه، تلف في المزروعات، عقبات في كسب المال، كارثة فجائيَّة..

(( بادِرُوا بالأعمال سبعا: هل تُنْظَرون إلا فَقْرا مُنْسيا، أو غِني مُطغيا، أو مَرَضا مُفسِدا، أو هَرَما مُفنِدا... ))

[الترمذي والنسائي عن أبي هريرة ]

 شيخوخة فيها خرف، وفيها ثقل، وفيها حشريَّة، وفيها تدخُّل بشؤون الآخرين، وفيها ظلٌ ثقيل، هذا هو أرذل العمر الذي ذكره الله عزَّ وجل في القرآن الكريم:

﴿وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئ﴾

[ سورة الحج : 5]

 انظر إلى أهل الإيمان في شيخوختهم كالبدور، والله كأنهم ملوك في شيخوختهم، الشيء الذي لا يصدَّق أن ترى إنساناً في عمرٍ متأخرٍ جداً يتمتع بذاكرةٍ قوية، وبحسٍ دقيق، وبتألُّقٍ عجيب، حتى إن بعضهم قال: " إن المؤمن لا يشيخ أبداً ". لأن هدفه هو الله، ولأنه قائمُ في خدمة عباد الله، ولأنه يطلب العلم حتى على شفير القبر.

 

الاستغناء عن الله مرض خطير و مهلك :

 أيها الأخوة الكرام... الآية الثانية في هذا الموضوع:

﴿ فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى*وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ ﴾

[ سورة الليل:5 -8 ]

 بخل أن يعطي، بنى حياته على الأخذ لا على العطاء، سمته العميقة أن يأخذ لا أن يعطي، وهذا موضوع الخطبة السابقة، أما المؤمن فبنى حياته على العطاء..

﴿ وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ ﴾

[ سورة الليل:8 ]

 أن يعطي..

﴿وَاسْتَغْنَى ﴾

[ سورة الليل:8 ]

 عن الله. هذا موضوع الخطبة اليوم، استغنى عن أن يعبد الله، استغنى عنه؛ لم يسأله، لم يدعُه، لم يطلب منه، اعتدَّ بقوته، بماله، بأتباعه، بشأنه، بذكائه، بخبرته، بشهادته..

﴿ وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى*وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى*فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى ﴾

[ سورة الليل: 8-10 ]

 من منا يحب أن تعسَّر أموره؟ ما من شيءٍ يزعج الإنسان كأن تعسَّر الأمور..

﴿ وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى*وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى*فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى ﴾

[ سورة الليل: 8-10 ]

 العسرى مقصودة أيها الأخوة، لذلك قال العلماء: إن أكمل الخلق هم أكملهم عبوديةً لله، وأعظمهم شهوداً لفقره وحاجته إلى ربه، وعدم استغنائه عنه طرفة عين .
 فموضوع الزلزال الذي حدث في تركيا، إنسان ساكن في بيت، البيت فيه كل وسائل الراحة، مبني على أحدث طراز، له دخلٌ كبير، يتمتع بكل أجهزة اللهو في البيت، مع العالَم كلِّه، غارقٌ في شهواته كلها، في ثوانٍ معدودة يصبح تحت الأنقاض! ألم يكن هذا واقعاً؟ وقد وقع قبل يومين في اليونان وفي أثينا؟
 نحن مفتقرون إلى الله، مفتقرون ببقاء الأرض ساكنة، هي متحرِّكة ولكن مع سكونٍ شديد، مفتقرون إلى قرار الأرض، فلو اهتزَّت - زلزال أثينا عشر ثوان، زلزال تركيا خمس وأربعون ثانية - خمسون ألفاً تحت الأنقاض، كلفة ترميم التدمير يحتاج إلى نصف ميزانية تركيا..

﴿كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى ﴾

[ سورة العلق : 6-7]

 أن تكون مستغنياً عن الله هذا مرضٌ خطير، هذا مرضٌ مهلك، يجب أن تفتقر إليه.
 لذلك كان عليه الصلاة والسلام يقول:

((أصلح لي شأني كله ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين ولا إلى أحد من الناس))

[ من مجمع الزوائد عن أنس ]

 إيَّاك أن تعتمد على إنسان، يغار الله عزَّ وجل، يخيِّب ظنك فيه، اعتمد على الله، كان عليه الصلاة والسلام يقول :

((... وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلا غَيْرَ رَبِّي لاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ وَلَكِنْ أُخُوَّةُ الإِسْلامِ))

[ البخاري عن أبي سعيد الخدري ]

 اجعل كل إخوانك إخواناً وأصحاباً في الله، ولا تعتمد، ولا تتكل، ولا تعلِّق الأمل، ولا تضع همك عندهم ؛ ضع همك عند الله، إلى الله أشكو بثي وحزني، هكذا قال الأنبياء والمقرَّبون.

 

ضرورة افتقار الناس إلى الله عز وجل :

 أيها الأخوة الكرام... وكان عليه الصلاة والسلام يدعو ويقول:

((يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ))

[ الترمذي عن أنس ]

﴿وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً * إِذاً لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً ﴾

[ سورة الإسراء : 74-75]

 وكان عليه الصلاة والسلام يقول:

((أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، أَنَا مُحَمَّدٌ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، مَا أُحِبُّ أَنْ تَرْفَعُونِي فَوْقَ مَنْزِلَتِي الَّتِي أَنْزَلَنِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ))

[ أحمد عن أنس ]

((لا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى المسيح ابْنَ مَرْيَمَ فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُهُ فَقُولُوا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ))

[البخاري عن عمر ]

 وهذا الذي خطب أمامه فقال: " ما شاء الله وشئت ". فقال عليه الصلاة والسلام:

(( بئس الخطيب أنت قل: ومن يعص الله ورسوله))

[ مسلم عن عدي بن حاتم]

 أيها الأخوة الكرام... في أشرف مواقف للنبي عليه الصلاة والسلام، وصفه الله بالعبوديَّة، وصفه الله بالعبودية وهو في سدرة المُنتهى، هذه المكانة التي لم يبلغها إنسانٌ على وجه الأرض، ألم يقل النبي عليه الصلاة والسلام:

(( سَلُوا اللّه لِي الوَسِيلَةَ، فإنها مَنْزِلَةٌ في الجَنَّةِ لا تَنْبَغِي إلاَّ لِعَبْدٍ مِنْ عِبادِ اللّه وأرْجُو أنْ أكُونَ أنا هُو))

[ الأذكار النووية عن عمرو بن العاص ]

 قال تعالى:

﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً﴾

[ سورة الإسراء: 1 ]

﴿فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى ﴾

[ سورة النجوم : 10]

 عبد، وفي مقام الدعوة..

﴿وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ﴾

[ سورة الجن: 19 ]

 عبد الله يدعوه، وفي مقام التحدي..

﴿وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا﴾

[ سورة البقرة: 23]

 لذلك أيها الأخوة الكرام لا يسعنا إلا أن نتمثَّل قوله تعالى:

﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ﴾

[ سورة فاطر: 15 ]

 الفقر الاضطراري فقرٌ عام لا يقتضي ثواباً ولا عقاباً، ولا مديحاً ولا ذماً، أما البطولة ففي الفقر الاختياري، أن تتعرَّف إلى الله وأن تتعرَّف إلى نفسك، فينشأ عن هاتين المعرفتين حالة الافتقار إلى الله، هذه الحالة هي عين الغنى، وعين القوة، وعين العلم، وعين التوفيق، وعين السداد، وعين الرشاد، وعين النصر.

 

على الإنسان أن يتصرَّف بما في يديه تصرف العبيد حتى يرضى الله عنه :

 كان عليه الصلاة والسلام يقول:

(( مَا أُعْطِيكُمْ وَلا أَمْنَعُكُمْ إِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ أَضَعُ حَيْثُ أُمِرْتُ))

[ البخاري عن أبي هريرة ]

 بعض العلماء ضرب هذا المثل فقال: رجل اشترى عبداً بخالص ماله، ثم علَّمه بعض الصنائع، فلما تعلَّمها قال له: اعمل وأدِّ إلي فليس لك في نفسك ولا في كسبك شيء. فلو حصل بيد هذا العبد من الأموال والأسباب ما حصل لم يرَ له فيها شيئاً، بل رآه كالوديعة في يده، وأنها أموال سيده، وأن خزائنه ملك سيده ".
 لذلك سُئل أحد الأعراب: لمن هذا القطيع من الإبل؟ قال: لله في يدي. وهذا أبلغ كلام، وأصوب كلام، وأقرب كلام للحقيقة، لمن هذا البيت؟ لله في يدي، لمن هذه المركبة؟ لله في يدي، لمن هذا الشيء؟ لله في يدي، لمن هذا المحل التجاري؟ لله في يدي، هذه رؤية يجب أن تراها، يجب أن ترى أن الله تفضَّل عليك، وجعل هذا الشيء بين يديك.
 ماذا ينتج عن هذه الرؤية؟ ينبغي أن تتصرَّف بما في يديك وفق ما يرضي سيدك، وفق ما يرضي الله عزَّ وجل، فلذلك نحن مستخلفون فيما بين أيدينا، يدنا على ما بين أيدينا يد أمانةٍ لا يد إطلاقٍ. لذلك ورد أن الله عزَّ وجل يقول يوم القيامة:

(( أليس عدلاً مني أن أولي كل رجلٍ منكم ما كان يتولَّى في الدنيا ؟ فيتولى عُبَّاد الأصنام والأوثان أصنامهم وأوثانهم، فتتساقط بهم في النار))

[ التفسير القيم لابن القيم]

﴿إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ﴾

[سورة الأنبياء : 97]

 ولهذا كان المشرك من أخسر الناس صفقةً يوم القيامة، ومن أغبنهم يوم معاده، فإنه يحال على مفلسٍ هالكٍ محترقٍ في النار، والموحِّد وحده حوالته على الملأ الكريم، فيا ما بُعد بين الحوالتين؛ بين أن تحال على مفلس، أن تحال على هالك، أن تحال على محترق، وبين أن تحال على مالك الملوك.
 بل إن المؤمنين أيها الأخوة يرون أن ما في أيديهم وديعة لله عزَّ وجل، ابتلاهم الله بها لينظر هل يتصرَّفون فيها تصرُّف العبيد أم تصرُّف المُلاَّك ؟ يجب أن تتصرَّف بما في يديك تصرف العبيد حتى يرضى الله عنك، أي أن تنفق المال فيما يرضي الله، أن تنفق كل ما آتاك الله في الوجه الصحيح.

 

من افتقر إلى الله تمتع بجنة عظيمة و نظر إلى وجه الله الكريم :

 أيها الأخوة الكرام... موضوع الافتقار إلى الله عزَّ وجل موضوعٌ مصيريٌ وخطير، إن لم تفتقر من لوازم عدم الافتقار الطغيان، والطغيان مصيره إلى النار، لذلك من أجمل التفاسير في قوله تعالى:

﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ﴾

[سورة يونس: 26 ]

 قال: للذين أحسنوا أي شهدوا أنه لا إله إلا الله، للذين وحَّدوا الجنَّة، وزيادة النظر إلى وجه الله الكريم..

﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ﴾

[سورة القيامة : 22-23]

 وزيادة الزيادة..

﴿وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ﴾

[سورة آل عمران: 15 ]

 فالمؤمن يتمتع بجنةٍ عرضها السموات والأرض، جنةٍ تجري من تحتها الأنهار، فيها حورٌ عين، وولدانٌ مخلدون، وأنهارٌ من عسلٍ مصفَّى، ومن لبنٍ لم يتغيَّر طعمه، وأنهارٌ من خمرٍ لذةٍ للشاربين، وأنهارٌ فيها ماءٌ غير آسنٍ، هذه المتع الحسيَّة، فوقها نظرٌ إلى وجه الله الكريم..

(( إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر))

[ من الجامع الصغير عن جرير]

 وفوق هذا وذاك..

﴿وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ﴾

[سورة آل عمران: 15 ]

 ورضوان من الله أكبر.. هذا كله بالافتقار إلى الله في الدنيا.
 يا أيها الأخوة الكرام... يقول الله عزَّ وجل:

﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾

[ سورة الجمعة :2]

 وفي آيةٍ أخرى:

﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾

[ سورة آل عمران:164]

 أيها الأخوة الكرام... حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، واعلموا أن ملك الموت قد تخطَّانا إلى غيرنا، وسيتخطى غيرنا إلينا فلنتخذ حذرنا، الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني.

 

* * *

الخطبة الثانية :
 أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، صاحب الخلق العظيم، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

التفسير الإلهي للمصائب و الكوارث :

 أيها الأخوة الكرام... أحبّ أن ألفت نظركم إلى أن الكوارث التي تقع تحت سمعنا وبصرنا لا ينبغي أن نكتفي أن نقوم بتفسيرها تفسيراً مادياً أرضياً، هذا التفسير ليس مُنكراً، هو صحيح، ولكن هذا لا يلغي التفسير الإلهي، أي أنه إذا أراد الله عزَّ وجل أن يهلك قريةً زلزل الأرض من تحتهم، فالزلزال حركة طبقات الأرض، حركة اهتزازيَّة تقاس بمقياس رختر، لكن لا ينبغي أن نفسر الزلزال على أنه حركة طبقات أرضية، حركة متتابعة بأربعين ثانية، خمسين ثانية، سبعة رختر، ستة رختر، لا، لا ؛ بل ينبغي أن نضيف إلى هذا التفسير الأرضي المادي تفسيراً إلهياً، يقول الله عزَّ وجل:

﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ﴾

[ سورة هود :117]

 كلام رب العالمين، والآية واضحة كالشمس..

﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ﴾

[ سورة الشورى: 30 ]

﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ﴾

[سورة النحل :112]

﴿قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً ﴾

[سورة الأنعام: 65 ]

 الحروب الأهليَّة..

﴿وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ﴾

[سورة الأنعام: 65 ]

 لا ينبغي أن تفسَّر الأحداث والكوارث تفسيراً أرضياً مادياً محضاً، يجب أن نرتقي، يجب أن ننظر إلى مسبب الأسباب، لهذه الكوارث أسباب ؛ أسباب أرضية، أسباب علمية، أسباب اهتزازية.
 من هو مسبِّب الأسباب؟ كل شيءٍ وقع أراده الله، وكل شيءٍ أراده الله وقع، وإرادة الله متعلقةٌ بالحكمة المطلقة، وحكمته المطلقة متعلّقةٌ بالخير المطلق..

﴿تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ﴾

[ سورة آل عمران: 26 ]

 هناك مدينة في شمال إفريقيا فيها الموبقات بشكلٍ لا يوصف، أصابها زلزالٌ، فأصبحت أثراً بعد عين في ثلاثين ثانية، وفيها فندق يتألف من ثلاثين طابقاً، غارت الأرض وبقي الطابق الأخير، وعليه اسم الفندق المشهور كشاهِدةٍ لهذا القبر، لماذا؟ لماذا في مكانٍ فيه إباحيةٍ لا تصدَّق؟ لماذا في مكانٍ آخر فيه تفلتٌ لا يصدَّق؟.
 أيها الأخوة دقِّقوا، الله عزَّ وجل يعاقب بعض المنحرفين وليس كل المنحرفين، نحن في دار ابتلاء ولسنا في دار جزاء، ولكن من رحمة الله بنا أنه يعاقب بعض المنحرفين ردعاً للباقين، ويكافئ بعض المحسنين تشجيعاً للباقين، فإذا مرَّت كارثةٌ من حولنا لا ينبغي أن نكون غافلين عن أسبابها الحقيقية، عن مسبب الأسباب، لماذا فعل هذا ؟..

﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ﴾

[ سورة هود :117]

 الشيء الذي أود أن أستنبطه قبل أن تنتهي الخطبة هو أنه إذا اتحدت الأسباب عندنا وعندهم، فمعنى ذلك ربما جاء البلاء إلينا، إذا اتحدت الأسباب؛ هناك تفلُّت وهنا تفلُّت، هناك بعد عن الله وهنا بعد عن الله، إذا اتحدت الأسباب ربما اتحدت النتائج. فكما قلت قبل قليل: لعل الله عزَّ وجل يعاقب بعضاً من عباده؛ بعض المناطق، بعض البلدان ردعاً للباقين، ولعلَّه يكافئ بعضهم الآخر تشجيعاً للباقين، فالحساب والرصيد يوم القيامة..

﴿وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾

[سورة آل عمران: 185 ]

 لا ينبغي أن نفهم الكوارث التي نستمع إليها فهماً أرضياً محضاً، أخي الأرض مضطربة، بؤرة الزلزال هنا، ربما انتقل إلى هنا أو إلى هناك، يجب أن نبقى مع التفسير الإلهي للكوارث..

﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ﴾

[ سورة هود :117]

على الإنسان الابتعاد عن المواقف السلبية و الاهتمام و لو بخاصة نفسه :

 لذلك - وهذا كلامٌ خطير- أرسل الله ملائكةً ليهلكوا بلدةً، قالوا: يا رب إن فيها رجلاً صالحاً؟ قال: به فابدؤوا، قالوا: ولمَ يا رب؟ قال: لأنه كان لا يتمعَّر وجهه إذا رأى منكراً، والآية لم يقل فيها الله عزَّ وجل: وأهلها صالحون، بل قال:

﴿وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ﴾

 لا ينبغي أن تقف سلبياً، لا ينبغي أن تنسحب، أن تتقوقع، أن تقول: أنا لا دخل لي. لا، هذا كلام لا يرضي الله عزَّ وجل، يجب أن تسهم ولو بخاصة نفسك، صح أن النبي عليه الصلاة والسلام قال:

(( إِذَا رَأَيْتَ شُحًّا مُطَاعًا وَهَوًى مُتَّبَعًا وَدُنْيَا مُؤْثَرَةً وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ ـ ولكن ماذا قال ؟ ـ فَعَلَيْكَ بِخَاصَّةِ نَفْسِكَ وَدَعِ الْعَوَامَّ))

[ سنن الترمذي عن أبي أمية ]

 من هم خاصة نفسك ؟ أقرباؤك، جيرانك، زملاؤك، من هم حولك، من تحبهم، من يحبونك، من تثق بهم، من يثقون بك، هؤلاء خاصة نفسك، لو كل إنسان اهتم بخاصة نفسه لكنا في حالٍ غير هذا الحال.
 أيها الأخوة الكرام... العبرة أن نتعظ بغيرنا لا أن نتعظ بأنفسنا، لذلك قال بعضهم: " من لم تحدث المصيبة في نفسه موعظةً فمصيبته في نفسه أكبر".

 

الدعاء :

 اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولَّنا فيمن توليت، وبارك اللهم لنا فيما أعطيت، وقنا واصرف عنا شرَّ ما قضيت، فإنك تقضي بالحق، ولا يُقضى عليك، وإنه لا يذل من واليت، ولا يعزُّ من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت، ولك الحمد على ما قضيت، نستغفرك ونتوب إليك، اللهم هب لنا عملاً صالحاً يقربنا إليك.اللهمَّ أعطنا ولا تحرمنا، أكرمنا ولا تهنا، آثرنا ولا تؤثر علينا، أرضنا وارض عنا. اللهمَّ بفضلك ورحمتك أَعل كلمة الحق والدين، وانصر الإسلام، وأعزَّ المسلمين، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى، إنك على ما تشاء قدير، وبالإجابة جدير.

تحميل النص

إخفاء الصور