وضع داكن
24-04-2024
Logo
الخطبة : 0713 - الكبائر4 - الكبائر الباطنة3 - غض البصر .
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الخطبة الأولى:

 الحمد لله نحمده، ونستعين به ونسترشده، ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيِّئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إقراراً بربوبيَّته، وإرغاماً لمن جحد به وكفر، وأشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلَّم رسول الله سيد الخلق والبشر، ما اتصلت عين بنظرٍ، أو سمعت أذنٍ بخبر، اللهم صلِّ وسلَّم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه، وعلى ذريَّته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين.
 اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

الكبائر الباطنة المتعلقة بإلقاء العلم :

1 ـ تعمد الكذب على الله و رسوله :

 أيها الأخوة المؤمنون... لازلنا في موضوعٍ كبيرٍ وخطير، إنه موضوع الكبائر الباطنة.
 الكبائر الظاهرة يعرفها الناس جميعاً، ولأنها معروفةٌ وصارخةٌ يسهل التوبة منها، أما الكبائر الباطنة فخفيَّة تخفى على كثيرٍ من الناس، تحدثت عن مجموعتين من الكبائر:
 المجموعة الأولى: الأمن من مكر الله، واليأس من روح الله، وسوء الظن به. والمجموعة الثانية: تعلُّم العلم لغير الله، وكتم العلم، وعدم العمل به.
 والمجموعة الثالثة اليوم: تعمُّد الكذب على الله ورسوله، هذه من أكبر الكبائر ؛ لأن الله عزَّ وجل يقول:

﴿وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ﴾

[ سورة الزمر: 60]

 قال الإمام الحسن: هم الذين يقولون: إن شئنا فعلنا، وإن شئنا لم نفعل، هم بهذا كذبوا على الله، وأي كذبٍ هذا؟؟ وأخرج الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلَّم قال:

((من كذب عليَّ متعمداً فليتبوَّأ مقعده من النار))

[متفق عليه عن أبي هريرة]

 ولهذا الحديث طرقٌ كثيرةٌ صحيحةٌ بلغت التواتر. وفي صحيح مسلم:

((من حدَّث عني بحديثٍ يُرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين))

[ مسلم عن المغيرة بن شعبة]

 أول حديث:

((من كذب عليَّ متعمداً...))

 فقد يقول قائل: أنا لم أتعمَّد الكذب على رسول الله، نقول له في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام مسلم:

((من حدَّث عني بحديثٍ يُرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين))

[ مسلم عن المغيرة بن شعبة]

 وفي حديثٍ صحيحٍ آخر يقول عليه الصلاة والسلام:

((إِنَّ كَذِبًا عَلَيَّ لَيْسَ كَكَذِبٍ عَلَى أَحَدٍ مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ))

[ البخاري عن المغيرة ]

 والطبراني أخرج هذا الحديث، يقول عليه الصلاة والسلام:

((اللهمَّ ارحم خلفائي، قلنا: يا رسول الله ومن خلفاؤك ؟ قال: الذين يأتون من بعدي يروون أحاديثي ويعلِّمونها الناس))

[الطبراني عن علي ]

 والطبراني عن واثلة يقول عليه الصلاة والسلام:

((إن من أكبر الكبائر أن يقول الرجل عليَّ ما لم أقل))

[ الطبراني عن واثلة]

 وفي كتاب الطبراني الكبير:

((ما من قومٍ يجتمعون على كتاب الله يتعاطونه بينهم، إلا كانوا أضيافاً لله، وإلا حفَّتهم الملائكة حتى يقوموا أو يخوضوا في حديثٍ غيره، وما من عالِم يخرج في طلب علمٍ مخافة أن يموت أو ينسخه مخافة أن يدرس إلا كان كالغادي الرائح في سبيل الله، ومن بطَّأ به عمله لم يسرع به نسبه))

 أيها الأخوة الكرام... الحديث الذي تعرفونه جميعاً والذي رواه الإمام مسلم:

((إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث ؛ صدقةٍ جاريةٍ ـ فُسِّرت بالوقف ـ أو علمٍ ينتفع به، أو ولدٍ صالحٍ مسلمٍ يدعو له))

الكذب على الله و رسوله كفر و كبيرة عظيمة :

 أيها الأخوة الكرام... أن يكذب الإنسان على الله أو على رسوله هذه من أكبر الكبائر، وقد بيَّنت لكم فيما مضى أن الله سبحانه وتعالى ذكر المعاصي، ورتَّبها ترتيباً تصاعدياً؛ الإثم، والفحشاء، والمُنكر، والعدوان، والشرك، والكفر، وجعل على رأسها..

﴿وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾

[ سورة البقرة : 169]

 أيها الأخوة الكرام... إن الكذب على النبي صلى الله عليه وسلَّم كما يقول بعض العلماء: كفرٌ ، بل إن طائفةً من العلماء ذهبت إلى أن الكذب على الله وعلى رسوله كفرٌ يُخرج من المِلَّة. ولا ريب أن تعمُّد الكذب على الله ورسوله في تحليل حرامٍ، أو تحريم حلالٍ كفرٌ محضٌ، وإنما الكلام في الكذب عليهما فيما سوى ذلك.
 أيها الأخوة الكرام... هذا الحديث بلغ حد التواتر:

((من كذب عليَّ متعمداً فليتبوَّأ مقعده من النار))

[متفق عليه عن أبي هريرة]

 فبعض علماء الحديث كابن الصلاح يقول: " إنه حديثٌ بلغ حدّ التواتر، ورواه جمٌ غفيرٌ من الصحابة ". وقيل: إنهم يبلغون ثمانين، وجمع الحافظ طرقه في جزءٍ ضخم، وقيل: رواته فوق سبعين صحابياً، وذكروا أن ومن جملة من رواه العشرة المبشرين بالجنة إلا عبد الرحمن بن عوف، وبلغ بهم الطبراني سبعةً وثمانين منهم العشرة، فهذا حديثُ متواتر..

((من كذب عليَّ متعمداً فليتبوَّأ مقعده من النار))

[متفق عليه عن أبي هريرة]

 فأن تقول كلاماً ما قاله النبي هذه كبيرةٌ بل هي من أكبر الكبائر.

 

2 ـ سنّ سنة سيئة :

 أيها الأخوة الكرام... كبيرةٌ ثانية متعلِّقةٌ بإلقاء العلم، المجموعة في الأسبوع الماضي كانت بتلقِّي العلم، هذه المجموعة بإلقاء العلم..

(( من سنَّ سنةً سيئة ))

[ابن ماجه عن أبي جحيفة ]

 أخرج مسلمٌ وغيره عن جرير رضي الله عنه قال:

((كنا في صدر النهار عند رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، فجاء قومٌ عراةٌ مجتابي النمار - أي لابسي النمار - قد خرقوها في رؤوسهم - والجوب هو القطع، والنِمار جمع نَمِرَة وهي كساءٌ من صوفٍ مخطَّط - متقلِّدي السيوف، عامَّتهم من مُضر، بل كلهم من مضر، فتمعَّر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلَّم- أي تغيَّر - لما رأى ما بهم من الفاقة فدخل ثم خرج، فأمر بلالاً فأذَّن، وأقام فصلى، ثم خطب فقال: يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفسٍ واحدة، وخلق منها زوجها، وبثَّ منهما رجالاً كثيراً ونساء، واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً، وقال: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفسٌ ماذا قدمت لغد، قال عليه الصلاة والسلام: تصدَّق رجلٌ من درهمه، من ثوبه، من صاع بُرِّه، من صاع تمره حتى قال: ولو بشق تمرة، فجاء رجلٌ من الأنصار بصرةٍ كادت كفُّه تعجز عن حملها، بل قد عجزت، ثم تتابع الناس حتى رأيت كَوْمَين من طعامٍ وثيابٍ حتى رأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلَّم تهلَّل كأنه مذهبةـ أي ورقةٌ مطليَّةٌ بالذهب، كنايةٌ عن ظهور البشر والإشراق من شدة السرور ـ فقال عليه الصلاة والسلام:

(( من سنَّ سنةً حسنةً فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سنَّ في الإسلام سنةً سيِّئةً كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من غير أن ينقص من أوزارهم شيء ))

[ مسلم عن جرير بن عبد الله]

 أيها الأخوة... تعليقٌ لابدَّ منه: البدعة في العقيدة وفي العبادة مرفوضةٌ، إنها ضلالة، لا يضاف على الإسلام شيء..

﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِيناً﴾

[ سورة المائدة: 3 ]

 أيها الأخوة الكرام... إن إضافة شيءٍ إلى الإسلام اتهامٌ له بالنقص، وإن حذف شيءٍ اتهامٌ له بالزيادة. كلمة: من سنَّ سنةً حسنة في غير العقيدة والعبادات، أي جمع مالاً أنفقه على الفقراء، أنفقه على طلاَّب العلم، أنفقه على المرضى الفقراء، أنفقه على طالبي الزواج، السنة الحسنة هنا لا تعني في العبادة :

((... وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ وَكُلُّ ضَلالَةٍ فِي النَّارِ ))

[ النسائي عن جابر بن عبد الله ]

 أما هنا السنة الحسنة فحملها العلماء على من عمل شيئاً في أمور الدنيا لصالح المسلمين، يندرج تحت مقاصد الإسلام الكُبرى، على كل الشيء الذي لم يكن من قبل يجب أن يُضبط بالكتاب والسنة، فإذا وافق مقاصد الشريعة فهو مرغوبٌ فيه، وإذا خالفها فهو محرَّم.
 وهناك أشياء لم تكن موجودة حكمها متوقفٌ على نوع استخدامها.
 أيها الأخوة الكرام... يقول عليه الصلاة والسلام:

((من أحيا سنةً من سنتي قد أميتت بعدي كان له من الأجر مثل من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن ابتدع بدعة ضلالةٍ لا يرضاها الله ورسوله كان عليه مثل آثام من عمل بها لا ينقص ذلك من أوزار الناس شيء))

[ الترمذي عن عن كثير بن عبد الله]

 وصحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

((مَا مِنْ دَاعٍ يَدْعُو إِلَى شَيْءٍ إِلا وُقِفَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لازِمًا لِدَعْوَتِهِ مَا دَعَا إِلَيْهِ وَإِنْ دَعَا رَجُلٌ رَجُلا))

[ ابن ماجة عن أبي هريرة]

 وأخرج ابن ماجة وغيره بسندٍ فيه لين:

((إن هذا الخير خزائن ولتلك الخزائن مفاتيح، فطوبى لعبدٍ جعله الله مفتاحاً للخير مغلاقاً للشر، وويلٌ لعبدٍ جعله الله مفتاحاً للشر مغلاقاً للخير))

[ ابن ماجه عن سهل بن سعد الساعدي]

 

3 ـ ترك السنة :

 أيها الأخوة الكرام... ومن الكبائر الباطنة.. ترك السنة ، وكما قال عليه الصلاة والسلام:

((الصلاة المكتوبة إلى التي بعدها كفارةٌ لما بينها، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان كفارةٌ لما بينهما، ثم قال بعد ذلك: إلا الإشراك بالله وترك السنة، قلنا: يا رسول الله أما الإشراك فقد عرفناه فما ترك السنة؟ فقال عليه الصلاة والسلام: وأما ترك السنة فالخروج عن الجماعة))

 هذا حديثٌ صحيحٌ على شرط مسلم..و:

((مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ قِيدَ شِبْرٍ فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الإِسْلامِ مِنْ عُنُقِهِ))

[الترمذي عن زيد بن سلام ]

((يَدُ اللَّهِ مَعَ الْجَمَاعَةِ ))

[ الترمذي عن ابن عباس ]

 و..

((عَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ وَإِيَّاكُمْ وَالْفُرْقَةَ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الْوَاحِدِ وَهُوَ مِنَ الاثْنَيْنِ أَبْعَدُ))

[ الترمذي عن ابن عمر ]

 وصحَّ عنه صلى الله عليه وسلَّم أنه قال:

((... فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي ))

[ البخاري عن أنس بن مالك ]

 وروى الطبراني كما قال عليه الصلاة والسلام:

(( ما من أمةٍ ابتدعت بعد نبيِّها في دينها بدعةً إلا أضاعت مثلها من السنة))

[ الطبراني عن عفيف بن الحارث اليماني ]

 والحديث الذي تعرفونه أيضاً:

((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد، فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدى هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلَّم، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعةٍ ضلالة، إنما أخشى عليكم شهوات الغَيّ في بطونكم وفروجكم، ومضلات الهوى، وإياكم والمحدثات فإن كل محدثةٍ ضلالة، إن الله حجب التوبة عن كل صاحب بدعةٍ حتى يدع بدعته))

[متفق عليه من حديث عائشة]

 وفي روايةٍ لابن ماجة:

((أبى الله أن يقبل عمل صاحب بدعةٍ حتى يدع بدعته))

[ابن ماجه عن ابن عباس]

 أيها الأخوة الكرام... هناك خطآن: خطأٌ في الوزن وخطأٌ في الميزان، فالخطأ في الوزن لا يتكرَّر، الخطأ في مفردات الأوامر والنواهي سهلٌ أن يتوب الإنسان منه، أما الخطأ في الميزان فلا يصحَّح، إذا الميزان فيه خلل لو وزنت به مليون مرة، المليون مرة غلط، أما إذا كان الخطأ بوزنة واحدة فهذه لا تتكرَّر، فشتَّان بين خطأٍ في الوزن وبين خطأٍ في الميزان، بين خطأٍ في السلوك وبين خطأٍ في العقيدة، صاحب البدعة لا تقبل توبته لأنه لا يدري ماذا يفعل.
 أيها الأخوة الكرام... وفي حديثٍ آخر:

((لا يَقْبَلُ اللَّهُ لِصَاحِبِ بِدْعَةٍ صَوْمًا وَلا صَلاةً وَلا صَدَقَةً وَلا حَجًّا وَلا عُمْرَةً وَلا جِهَادًا وَلا صَرْفًا وَلا عَدْلا يَخْرُجُ مِنَ الإِسْلامِ كَمَا تَخْرُجُ الشَّعَرَةُ مِنَ الْعَجِينِ))

[ابن ماجة عن حذيفة ]

((لقد تركتكم على مثل البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك))

[ من كنز العمال عن العرباض ]

((إِنَّ لِكُلِّ عَمَلٍ شِرَّةً - الشِرَّة هنا النشاط والهِمَّة - وَلِكُلِّ شِرَّةٍ فَتْرَةٌ فَمَنْ كَانَتْ شِرَّتُهُ إِلَى سُنَّتِي فَقَدْ أَفْلَحَ وَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَقَدْ هَلَكَ ))

[ احمد عن عبد الله بن عمرو ]

((إني أخاف على أمتي من ثلاث؛ من زلة عالمٍ، وهوىً متَّبَع، وحَكَمٍ جائر))

[ الترمذي عن عمرو بن عوف]

 أيها الأخوة الكرام... صحَّ عن ابن مسعودٍ رضي الله عنه أنه وقف على قَصَّاصٍ فقال له: " لقد ابتدعت بدعةً ضلالة أو إنك لأهدى من محمد صلى الله عليه وسلَّم وأصحابه "، فتفرَّق الناس عنه لم يبقَ عنده أحد.

 

4 ـ نشر الكلمة التي تعظم مفسدتها وينتشر ضررها :

 أيها الأخوة الكرام... في خاتمة المطاف، مطاف الكبائر الباطنة حول إلقاء العلم، آخر كبيرة: الكلمة التي تعظم مفسدتها وينتشر ضررها .
 أيها الأخوة الكرام... جاء في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال عليه الصلاة والسلام:

((إن العبد ليتكلَّم بالكلمة ما يتبيَّن فيها، فينزل بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب))

[ صحيح عن أبي هريرة]

 كلمة واحدة. وجاء أيضاً أنه صلى الله عليه وسلَّم قال:

((إن الرجل ليتكلَّم بالكلمة من رضوان الله تعالى ما كان يظن أن تبلغ ما بلغت، يكتب الله له رضوانه إلى يوم القيامة، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما كان يظن أن تبلغ ما بلغت يكتب الله له بها سخطه إلى يوم القيامة))

[ أحمد و النسائي عن عن بلال بن الحارث المزني]

 وفي بعض الروايات:

((إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ لا يَرَى بِهَا بَأْسًا يَهْوِي بِهَا سَبْعِينَ خَرِيفًا فِي النَّارِ))

[الترمذي عن أبي هريرة ]

 بعض علماء الحديث فسَّر هذا الحديث فقال: كالكلام عند الملوك والولاة مما يحصل به خيرٌ عام أو شرٌ عام.
 أي الذي تكلَّم كلمةً فأنتجت معاهد تحفيظ قرآن هذه كلمة طيبة، والعكس أيضاً صحيح، فمن تكلَّم كلمةً حرم بها الناس الخير أيضاً له عند الله حسابٌ آخر.
 أيها الأخوة المؤمنون... كلمةٌ تضمَّنت مذمَّة سُنَّةٍ، مقالة كُتبت عن السُنَّة، أطاحت بالسُنَّة، اعتمدت على القرآن وحده كفخٍ لهدم الإسلام، هذه كلمة كُتبت في جريدة مثلاً.
 أيها الأخوة الكرام... كلمةٍ تضمَّنت مذمة سُنَّةٍ، أو إقامة بدعةٍ، أو إبطال حقٍ، أو تحقيق باطلٍ، أو سفك دمٍ، أو استحلال فرجٍ، أو استغلال مالٍ، أو هتك عِرَضٍ، أو قطيعة رحمٍ، أو وقوع غدرةٍ بين المسلمين، أو فراق زوجةٍ، وما إلى ذلك. كلمة أحياناً تؤدِّي إلى طلاق، وتشريد الأولاد، وضياعهم، وانحرافهم، كلمة واحدة غير متأكدة..

(( قذف محصنةٍ يهدم عمل مئة سنة ))

[ورد في الأثر]

((إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ لا يَرَى بِهَا بَأْسًا يَهْوِي بِهَا سَبْعِينَ خَرِيفًا فِي النَّارِ))

[ الترمذي عن أبي هريرة ]

 قالت له: " يا رسول الله إنها قصيرة ". ماذا قالت؟ قصيرة فقط وهي قصيرة، السيدة صفيَّة، قال:

(( يا عائشة لقد قلتٍ كلمةً لو مزجت بمياه البحر لأفسدته ))

[ أبو داود عن عائشة ]

 ضبط اللسان من الدين، عدَّ الإمام الغزالي رحمه الله تعالى أكثر من خمسة عشر باباً من آفات اللسان ؛ السخرية، المحاكاة، البُهتان، الكذب، الغيبة، النميمة، وما إلى ذلك..

((لا يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ وَلا يَستَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ وَلا يَدْخُلُ رَجُلٌ الْجَنَّةَ لا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ))

[ أحمد عن أنس بن مالك ]

 ومن قال لك: كلام بكلام. جاهل، من عدَّ كلامه من عمله نجا. يجب أن تدقِّق فيما تقول، رُبَّ كلمةٍ شرَّدت أسرة، ربَّ كلمةٍ أفسدت شركة، ربَّ كلمةٍ أثارت خصوماتٍ لا تنتهي، كلمة، وهناك كلمات قيلت في تاريخ البشرية سبَّبت حروباً لم تنته بعشر سنوات، هناك حروب تركت خمسين مليون قتيل أساسها كلمة ؛ سوء ترجمة. فيا أيها الأخوة الكرام دققوا فيما تقولون..

(( إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ لا يَرَى بِهَا بَأْسًا يَهْوِي بِهَا سَبْعِينَ خَرِيفًا فِي النَّارِ))

[الترمذي عن أبي هريرة ]

 كل كلام الإنسان محاسبٌ عليه.
 أيها الأخوة الكرام... حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، واعلموا أن ملك الموت قد تخطَّانا إلى غيرنا، وسيتخطَّى غيرنا إلينا، فلنتخذ حذرنا، الكيِّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني.

* * *

الخطبة الثانية :

 

 أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، صاحب الخلق العظيم، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

فوائد غض البصر :

1 ـ تخليص القلب من الحسرة :

 حينما تمتلئ الشوارع بالنساء الكاسيات العاريات المائلات المُميلات ما موقف المسلم ؟ موقفه تطبيق قوله تعالى:

﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ﴾

[ سورة النور: 30 ]

 بعض العلماء أحصى فوائد غض البصر فذكر منها تخليص القلب من الحسرة، فإن من أطلق نظره دامت حسرته، وأضرُّ شيٍ على القلب إرسال البصر، فإنه يريد ما لا سبيل إلى وصوله، ولا صبر له عنه وذلك غاية الألم، فمن غضَّ بصره أراح قلبه، هذه واحدة. وبعضهم قال:

من كان يؤتى من عدوٍ وحاسدٍ  فإني من عيني أوتيتُ ومن قلبي
* * *

2 ـ يورث القلب نوراً وإشراقاً يظهر في العين :

 الفائدة الثانية: أن غض الطرف يورث القلب نوراً وإشراقاً يظهر في العين، وفي الوجه، وفي الجوارح؛ كما أن إطلاق البصر يورث ظلمةً وكآبة، قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه روضة المحبين: الله جلَّ جلاله ذكر آية النور في قوله تعالى:

﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾

[ سورة النور: 35 ]

 عقب قوله:

﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ﴾

[ سورة النور: 30 ]

 وكما قال عليه الصلاة والسلام:

((النظرة سهمٌ مسمومٌ من سهام إبليس))

[الحاكم وصحح إسناده من حديث حذيفة ]

 وفي بعض رواياته:

((مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَنْظُرُ إِلَى مَحَاسِنِ امْرَأَةٍ أَوَّلَ مَرَّةٍ ثُمَّ يَغُضُّ بَصَرَهُ إِلا أَحْدَثَ اللَّهُ لَهُ عِبَادَةً يَجِدُ حَلاوَتَهَا))

[ أحمد عن أبي أمامة ]

 

3 ـ يورث صحة الفراسة :

 الفائدة الثالثة: أنه يورث صحة الفراسة فإنها من النور وثمراته، فإذا استنار القلب صحَّت فراسة المؤمن. وقال أحد العلماء: من عمَّر ظاهره باتباع السُنَّة، وباطنه بدوام المراقبة، وغضَّ بصره عن المحارم، وكفَّ نفسه عن الشهوات، وأكل من الحلال لم تخطئ فراسته.
 ومن غضَّ بصره عن المحارم عوَّضه الله سبحانه وتعالى إطلاق نور بصيرته، فلما حبس بصره له تعالى أطلق الله بصيرته جزاءً وفاقا. إذا حبس الإنسان بصره عن شيءٍ محرَّم أطلق الله بصيرته، ونوَّر بصيرته.

4 ـ يفتح للإنسان طرق العلم وأبوابه :

 الفائدة الرابعة: أنه يفتح له طرق العلم وأبوابه، ويسهِّل عليه أسبابه، وذلك بسبب نور قلبه. يروى أن الإمام الشافعي رأى كعب امرأةٍ ترتدي جلباباً ساتراً كل جسمها، رأى كعبها فتلكَّأ في حفظ العلم، فسأل شيخه وكيعًا فقال له: عليك بطاعة الله، فنظم بيتين من الشعر فقال:

شكوت إلى وكيعٍ سوء حفظي  فأرشدني إلى ترك المعاصي
وأخبرني بأن العلـــــــــــــم نــــورٌ  ونــــور الله لا يهدى لعاصِي
* * *

 فإذا رأى كعب امرأةٍ هذا حاله، فكيف من يطلق بصره في الطرقات الآن؟!
 أيها الأخوة الكرام... الفائدة الرابعة - كما قلت قبل قليل - أنه يفتح له طرق العلم وأبوابه، ويسهِّل عليه أسبابه، وذلك سبب نور القلب، فإذا استنار القلب ظهرت فيه حقائق الإيمان، وانكشفت له بسرعة، ونفذ من بعضها إلى بعض. ومن أرسل بصره تكدَّر عليه قلبه وأظلم، وانسدَّ عليه باب العلم وأحجم.

5 ـ يورث قوة القلب وثباته وشجاعته :

 الفائدة الخامسة: أنه يورث قوة القلب وثباته وشجاعته، فيجعل الله له سلطان البصيرة مع سلطان الحُجَّة، وفي الأثر أن الذي يخالف هواه يفرق الشيطان من ظله.
 أيها الأخوة الكرام... مع غض البصر قوة بالنفس، شعور بالعزَّة، شعور بالقوة، هذه من فوائد غض البصر. قال بعض العلماء: الناس يطلبون العِزَّ في أبواب الملوك ولا يجدونه إلا في طاعة الله .

6 ـ يورث القلب سروراً وفرحةً :

 أيها الأخوة الكرام... والفائدة السادسة: أنه يورث القلب سروراً وفرحةً أعظم من الالتذاذ بالنظر، وذلك لقهره عدوه، وقمعه شهوته، ونصرته على نفسه.

7 ـ يخلِّص القلب من أسر الشهوة :

 والفائدة السابعة: أنه يخلِّص القلب من أسر الشهوة، فلا أسر أشدّ من أسر الشهوة والهوى.

8 ـ يسد عن الإنسان باباً من أبواب جهنم :

 والفائدة الثامنة: أنه يسد عنه باباً من أبواب جهنم، فإن النظر باب الشهوة الحاملة على مواقعة الفِعل، وتحريم الرب تعالى، وشرعه حجابٌ مانعٌ من الوصول، فمتى هُتك الحجاب تجرَّأ على المحظور.

9 ـ يقوي عقله ويثبته ويزيده :

 أيها الأخوة الكرام... والفائدة التاسعة: أنه يقوي عقله ويثبته ويزيده، فإرسال البصر لا يحصل إلا من قلة العقل، والدليل:

﴿وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ ﴾

[ سورة يوسف : 33]

 فإن خاصَّة العقل ملاحظة العواقب، وكل إنسان يندم لم يستخدم عقله استخداماً صحيحاً، كل إنسانٍ إذا أقبل على شيء عليه أن يتدبَّر عاقبته، فإن كانت العاقبة جيدة يُقبل عليه، وإلا كان الندم، والندم دليل عدم استخدام العقل.

10 ـ يخلِّص القلب من سكرة الشهوة ورقدة الغفلة :

 والفائدة العاشرة: أنه يخلِّص القلب من سكرة الشهوة ورقدة الغفلة، فإن إطلاق البصر يوجب استحكام الغفلة عن الله والدار الآخرة، ويوقع في سكرة العشق، كما قال تعالى:

﴿لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴾

[ سورة الحجر : 72]

 فالنظرة كأسٌ من خمرٍ، والعشق سكرٌ من ذلك الشراب، وآفات العشق تكاد تُقارب الشرك، فإن العشق يتعبَّد القلب الذي هو بيت الرب للمعشوق. وفوائد غض البصر وآفات إطلاقه أكثر من أن تُذكر.

 

مساواة المرأة للرجل في التكليف و التشريف و المسؤولية :

 أيها الأخوة الكرام... يكفينا قوله تعالى:

﴿ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ﴾

[ سورة النور: 30 ]

 أي كلَّما غضضت عن امرأةٍ لا تحل لك كان هذا سبباً في قربك من الله، وإقبالك عليه، وإنك تصلي في اليوم خمس مرات، لكنك تتصل بالله عقب كل غض بصرٍ عن امرأةٍ لا تحل لك. أيها الأخوة، وما أضاع الناس إلا شهوتان: شهوة المال وشهوة النساء و..

(( مَا تَرَكْتُ بَعْدِي فِتْنَةً هِيَ أَضَرُّ عَلَى الرِّجَالِ مِنْ النِّسَاءِ ))

[ مسلم عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ ]

 أيها الأخوة الكرام... المجتمع الإسلامي مجتمع منضبط، مجتمع نظيف، المرأة إنسان جعلها الله مكرَّمة، جعلها الله مساويةً للرجل تماماً؛ في التكليف والتشريف والمسؤوليَّة، وإنها في الإسلام زوجة، أو أم، أو بنت، أو أخت، وليس هناك علاقةٌ بين رجل وامرأة خارج النطاق الزوجي.
 يا أيها الأخوة الكرام... أردت من هذا الكلام أن يكون ملجماً عن سلوك بعض الناس حيث يطلقون أبصارهم، فيحجبون عن الله عزَّ وجل.

 

الدعاء :

 اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولَّنا فيمن تولَّيت، وبارك اللهم لنا فيما أعطيت، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت، فإنك تقضي بالحق ولا يقضى عليك، وإنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت، ولك الحمد على ما قضيت، نستغفرك ونتوب إليك. اللهم هب لنا عملاً صالحاً يقربنا إليك، اللهم أعطنا ولا تحرمنا، أكرمنا ولا تهنا، آثرنا ولا تؤثر علينا، أرضنا وارض عنا، أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردُّنا، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير، واجعل الموت راحةً لنا من كل شر، مولانا رب العالمين. اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمن سواك. اللهم لا تؤمنا مكرك، ولا تهتك عنا سترك، ولا تنسنا ذكرك يا رب العالمين. اللهم صُن وجوهنا باليسار، ولا تبذلها بالإقتار؛ فنسأل شر خلقك، ونبتلى بحمد من أعطى، وذم من منع، وأنت من فوقهم ولي العطاء، وبيدك وحدك خزائن الأرض والسماء. اللهم كما أقررت أعين أهل الدنيا بدنياهم، فأقرر أعيننا من رضوانك يا رب العالمين.
 اللهم بفضلك ورحمتك أعل كلمة الحق والدين، وانصر الإسلام وأعز المسلمين، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى، إنَّك على ما تشاء قدير، وبالإجابة جدير.

تحميل النص

إخفاء الصور