وضع داكن
28-03-2024
Logo
الخطبة : 0797 - الاستقامة - اللبن آية من آيات الله .
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الخطبة الأولى:
 الحمد لله نحمده ، ونستعين به ونسترشده ، ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مُضل له ، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إقراراً بربوبيته وإرغاماً لمن جحد به وكفر ، وأشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم عبده و رسوله ، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه ، وعلى ذريته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علِّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .

افتقاد المسلمين في هذه العصور لحقيقة الإسلام :

 أيها الأخوة الكرام ؛ الناظر في أحوال المسلمين اليوم يجد بوناً شاسعاً بين حالهم في العصور الثلاثة الأولى ، وبين حالهم في العصور الأخيرة ، كانوا قلة وانتصروا ، والمسلمون اليوم يزيدون على مليار ومئتي مليون ، ولم يحققوا أهدافهم ، أين السر ؟ أين الخلل ؟ أين السبب ؟ هذا سؤال كبير جداً .
 أيها الأخوة الكرام ؛ لعل أهم شيء في هذا الدين العظيم بعد سلامة العقيدة الاستقامة على أمر الله ، كل مظاهر الإسلام صارخة في هذه العصور ، ولكن حقيقة الإسلام وهي الاستسلام لله عز وجل ، الانصياع لأمره ، العمل بسنّة نبيه ، العمل بمنهج القرآن ، هذا الذي يفتقده معظم المسلمون في بلادنا .
 أيها الأخوة الكرام ؛ لعل في هذه الآية الكريمة :

﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا ﴾

[ سورة فصلت : 30 ]

 هذه الآية على إيجازها فيها العقيدة والعمل ، عقيدتهم أنهم ربانيون ، ربنا الله ، ومنهجهم أنهم استقاموا على أمره .

﴿إنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ﴾

[ سورة فصلت : 30 ]

 أيها الأخوة الكرام ؛ كما أن الربح أهم شيء في التجارة كذلك أهم شيء في الدين الاستقامة ، والمسلمون لم يستطيعوا أن يقطفوا ثمرة واحدة من ثمار هذا الدين ، إنه انتماء شكلي، إنه انحياز لا معنى له ، إنه اعتزاز لا يثمر .

﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا ﴾

[ سورة فصلت : 30 ]

 كم من المسلمين من يعتز بإسلامه ، ولكن حياتهم في واد والإسلام في واد آخر .

 

تعلق إيمان المرء باستقامة قلبه و لسانه :

 أيها الأخوة الكرام ؛ لعل في هذا الحديث الشريف المروي عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيِّ قَالَ :

((قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ قُلْ لِي فِي الْإِسْلَامِ قَوْلًا لَا أَسْأَلُ عَنْهُ أَحَدًا بَعْدَكَ ؟ وَفِي حَدِيثِ أَبِي أُسَامَةَ غَيْرَكَ ؟ قَالَ : قُلْ : آمَنْتُ بِاللَّهِ فَاسْتَقِمْ))

[مسلم عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيِّ]

 يريد كلاماً موجزاً ، كلاماً جامعاً مانعاً ، كلاماً مختصراً ، كلاماً بليغاً .

((قُلْ لِي فِي الْإِسْلَامِ قَوْلًا لَا أَسْأَلُ عَنْهُ أَحَدًا بَعْدَكَ فقال عليه الصلاة والسلام : قُلْ آمَنْتُ بِاللَّهِ فَاسْتَقِمْ ))

[مسلم عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيِّ]

 هذا الرجل أيها الأخوة لا يريد وصايا كثيرة ، يريد وصية واحدة موجزة فكأنه طلب من النبي أن يضغط الدين كله في وصية واحدة فقال عليه الصلاة والسلام :

((قُلْ آمَنْتُ بِاللَّهِ فَاسْتَقِمْ))

[مسلم عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيِّ]

 أيها الأخوة الكرام ؛ في رواية أخرى قل آمنت بالله ثم استقم أيضاً وفي رواية الترمذي أنه قال :

(( حَدِّثْنِي بِأَمْرٍ أَعْتَصِمُ بِهِ قَالَ : قُلْ : رَبِّيَ اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقِمْ ، قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَخْوَفُ مَا تَخَافُ عَلَيَّ ؟ فَأَخَذَ بِلِسَانِ نَفْسِهِ ثُمَّ قَالَ : هَذَا ))

[الترمذي عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيِّ]

 أي أخوف ما أخاف عليك هذا اللسان . وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

((لَا يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ وَلَا يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ. .))

[ أحمد عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ]

الالتزام بمنهج الله يميز الإنسان عن غيره :

 أيها الأخوة الكرام ؛ آيتان في القرآن الكريم الأولى :

﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾

[سورة الأحقاف : 13-14]

 وفي سورة أخرى :

﴿ِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ ﴾

[ سورة فصلت : 30-32]

 أيها الأخوة الكرام ؛ مرة بعد مرة أقول : الحقيقة المرة أفضل ألف مرة من الوهم المريح ، لا تطمع بشيء من الله قبل أن تستقيم ، لا ترجُ شيئاً مما وعد الله به المؤمنين قبل أن تستقيم ، لا تستطيع أن تقيم علاقة مع الله قبل أن تستقيم ، لا تستطيع أن تدعو الله قبل أن تستقيم ، لا تستطيع أن تحكم اتصالك به قبل أن تستقيم ، إنه حجر الزاوية .

﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا ﴾

[ سورة فصلت : 30 ]

 لا يميز المؤمن في الحياة عباداته الشكلية بقدر ما يميزه عن بقية الناس التزامه بمنهج الله عز وجل .

 

من صحت عقيدته صحّ عمله :

 أيها الأخوة الكرام ؛ عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال :

(( ثم استقاموا فلم يلتفتوا إلى إله غيره ))

[الإمام القرطبي عن أبي بكر]

 لو تعمقنا في معنى استقاموا لوجدنا أنها تعني أول ما تعني استقامة العقيدة ، ومن صحت عقيدته صح عمله وقُبل عمله ، ومن فسدت عقيدته فسد عمله ولم يقبل عمله الطيب ، لأنه ذو عقيدة فاسدة ، فلعل في معنى قول الله عز وجل :

﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا ﴾

[ سورة فصلت : 30 ]

 أي صحت عقيدتهم ، فإن صحت العقيدة صح العمل ، وفي معنى آخر : استقاموا أي وحدوا وجهتهم ، استقامة العقيدة واستقامة الوجهة ، وفي معنى ثابت استقامة الجوارح ، للعين عبادتها ، وللأذن عبادتها ، ولليد ، وللرجل ، كل جارحة ينبغي أن تضبط بمنهج الله عز وجل .

 

الاستقامة حديّة و ليست نسبية :

 بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقول : الاستقامة هي الطاعة ، وعدم الروغان كروغان الثعلب ، كم من المسلمين من يبحث عن فتوى ضعيفة ؟ عن رأي ضعيف ؟ عن حكم شاذ يتعلق به ليفعل ما يريد ؟ هذا نوع من الروغان ، حينما تجمع الرخص كلها في مذهب واحد ، هذا دليل رقة الدين ، هذا روغان عن منهج الله عز وجل ، لذلك عن ابن عباس :

(( ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم آية هي أشد ولا أشق من هذه الآية عليه ، ولذلك قال لأصحابه حين قالوا له : لقد أسرع إليك الشيب! فقال : شيبتني هود وأخواتها))

[الإمام القرطبي عن ابن عباسٍ]

 روي عن أبي عبد الرحمن السلمي قال سمعت أبا علي يقول :

((رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقلت : يا رسول الله! روي عنك أنك قلت : شيبتني هود ؟ فقال : نعم ، فقلت له : ما الذي شيبك منها ؟ قصص الأنبياء وهلاك الأمم ؟ فقال : لا ولكن قوله : فاستقم كما أمرت))

[الإمام القرطبي عن أبي عبد الرحمن السلمي]

 أيها الأخوة الكرام ؛ هناك من يقول : أنا لست نبياً ، ومن قال لك إنك نبي ؟ بمعنى أنه ليس مطالباً أن يستقيم كما استقام رسول الله! الجواب هذه الآية :

﴿ فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ ﴾

[ سورة هود : 112 ]

 وفي حديث صحيح :

((وإن اللّه أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين ))

[أخرجه مسلم والترمذي عن أبي هريرة ]

 بعض الأعمال الطبية يفعلها أقل ممرض كما يفعلها أكبر طبيب ، هذا الحد الأدنى كتعقيم الإبرة مثلاً ، يفعلها أدنى ممرض كما يفعلها أعلى طبيب . فالاستقامة أيها الأخوة ليست نسبية ، ولكنها حدّية ، أما الانحراف فنسبي ، إذا قلت : هذا المستودع محكم ، للإحكام حالة واحدة ، أما إذا قلت غير محكم فعدم الإحكام نسبي ، قد يفرغ ما فيه في ساعة ، وقد يفرغ ما فيه في سنة ، وقد يفرغ ما فيه في خمس سنوات ، عدم الإحكام نسبي ، أما الإحكام فحّدي .
 أيها الأخوة الكرام ؛

﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا ﴾

[ سورة هود : 112 ]

 كأن الله سبحانه وتعالى بهذا النهي الذي جاء بعد الأمر عرّف مضمون الأمر ، الاستقامة ألا تطغى ، ألا تتجاوز الحدود ، من تجاوز الحدود فهو من الحضرة مطرود ، ألا تطغى على من حولك ، ألا تطغى عليهم بلسانك ولا بفعلك ولا بمعاملتك ولا بنظراتك ولا بسوء ظنك .

﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا ﴾

[ سورة هود : 112 ]

الاستقامة هي الثبات على الحق :

 أيها الأخوة الكرام ؛ هناك معنى في الاستقامة دقيق جداً : الاستقامة أن تثبت على الحق ، هذه الثورة التي تظهر عند بعض الشباب ثم تهمد ، هذا الإقبال ثم الإدبار ، هذا الالتفات ثم التولي ، هذه الموجة الطارئة التي تصيب بعض الشباب هذه لا تعني أنهم مستقيمون على أمر الله ، الاستقامة تعني الثبات .

﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً ﴾

[سورة الأحزاب : 23]

 ينبغي أن تكون مستقيماً في الرخاء وفي الشدة ، في إقبال الدنيا وفي إدبارها ، في المنشط والبركة ، حينما تكون شاباً كسيدنا أسامة ، وحينما تكون شيخاً كأبي أيوب الأنصاري ، الاستقامة تعني الثبات ، الإنسان يستقيم إذا كان فقيراً أحياناً ، ويفسق إذا اغتنى ، يستقيم إذا كان أعزبَ ، ويقصر إذا كان متزوجاً ، يستقيم إذا كانت الدنيا منصرفة عنه ، فإذا أقبلت عليه قد لا يستقيم ، من معاني الاستقامة : الثبات .

﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً ﴾

[سورة الأحزاب : 23]

 ماذا قال بعضهم في غزوة الخندق ؟ أيعدنا صاحبكم أن تفتح علينا بلاد قيصر وكسرى وأحدنا لا يأمن أن يقضي حاجته ؟

﴿مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً ﴾

[ سورة الأحزاب : 12]

 لذلك لا بد من امتحانات ، من أجل فرز المؤمنين .

﴿ مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ﴾

[ سورة آل عمران : 179 ]

 لابد من فرز ، وأحياناً بعض الشدائد هي التي تفرز .

﴿إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً ﴾

[سورة الأحزاب : 10-11]

 أما الذين في قلوبهم مرض فقالوا :

﴿مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً ﴾

[ سورة الأحزاب : 12]

﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً ﴾

[سورة الأحزاب : 23]

معاني الاستقامة :

 أول معنى من معاني الاستقامة : الثبات في المنشط وفي المكره ، في العسر واليسر ، في الشباب والشيخوخة ، في إقبال الدنيا وفي إدبارها ، قبل الزواج وبعد الزواج ، قبل التجارة وبعد التجارة .
 ومن معاني الاستقامة أن تقف عند حدود الله لأن تجاوز الحدود طغيان ، وهذا يتناقض مع الاستقامة .
 ومن معاني الاستقامة : السير ، من لم يكن في زيادة فهو في نقصان ، المغبون من تساوى يوماه ، لابد من أن تسير في طريق الإيمان .
 أيها الأخوة الكرام ؛ من معاني الاستقامة أن ترتقي من حال إلى حال ، ومن منزلة إلى منزلة ، ومن مقام إلى مقام ، لئلا تكون مغبوناً ، فالمغبون من تساوى يوماه .
 ومن معاني الاستقامة : ألا تنحرف يميناً أو شمالاً ، أن تبقى على طريق مستقيم ثابتاً ماشياً متقدماً مرتقياً . عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ :

((خَطَّ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا خَطًّا ثُمَّ قَالَ : هَذَا سَبِيلُ اللَّهِ ، ثُمَّ خَطَّ خُطُوطًا عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ ثُمَّ قَالَ : هَذِهِ سُبُلٌ ، عَلَى كُلِّ سَبِيلٍ مِنْهَا شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهِ ثُمَّ تَلَا : وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ))

[الدارمي عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ]

 من شأن الانحراف أن يكون متعدداً ، ومن شأن الحق أن يكون واحداً ، وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ، ينبغي أن تكون ثابتاً على الصراط المستقيم لا تنحرف لا يمنة ولا يسرة وتتقدم نحو الأمام ، هذه بعض معاني الاستقامة الفرعية .

﴿ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ ﴾

[ سورة الأنعام : 153 ]

 الانحراف متعدد ، يؤكد هذا المعنى قول الله عز وجل :

﴿ يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ ﴾

[ سورة البقرة : 257 ]

 الظلمات جمع ، إلى النور مفرد ، الحق واحد .
 أيها الأخوة الكرام ؛ مرة ثانية : أهم شيء في الاستقامة استقامة العقيدة ، أهم شيء في العقيدة أن توحد الله ، وألا ترى مع الله أحداً ، أن ترى رؤية عميقة ثابتة واضحة صارخة أن الأمر بيد الله وحده :

﴿ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ ﴾

[ سورة هود : 123 ]

﴿ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدً ﴾

[ سورة الكهف : 26 ]

﴿ وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ ﴾

[ سورة الزخرف : 84 ]

﴿لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ﴾

[سورة الأعراف : 54]

﴿اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ﴾

[سورة الزمر : 62]

 هذا أهم شيء في الاستقامة العقدية ، أو الاستقامة الاعتقادية ، أن تعتقد أن الله واحد ، وأنه وحده المتصرف .

 

اتجاه المؤمن إلى الله حينما يوقن بأن الأمر كله بيده :

 أيها الأخوة الكرام ؛ ما تعلمت العبيد أفضل من التوحيد ، وأن نهاية العلم التوحيد ، نهاية العلم أن توحد الله ، وأن توحيد الله مضمون رسالات السماء كلها .

﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ﴾

[سورة الأنبياء : 25]

 الإنسان متى يعصي ؟ حينما يرى جهة غير الله تنفع وتضر ، تعطي وتمنع ، ترفع وتخفض ، تعز وتذل ، إذاً يرضيها بمعصية الله ، أما حينما لا يرى مع الله أحداً يرى يد الله وحدها تعمل ، يرى الله في السماء إلهًا ، وفي الأرض إلهًا ، يرى الله خلّاقاً وفعّالاً ، حينما يوقن المرء أن الأمر كله بيد الله ، لابد من أن يتجه إليه وحده .
 فالمؤمن الموحد لا يرجو غير الله ، ولا يتوكل إلا على الله ، ولا يعقد الأمل إلا على الله ، ولا يخاف إلا الله ، ولا يحب إلا الله ، فإذا أحب المؤمنين فمن حبه لله ، إن أحب أنبيائه المرسلين فمن حبه لله ، إن أحب الأعمال الصالحة فمن حبه لله ، هذا حب في الله وقد فرق بعض العلماء الكبار الحب في الله عن الحب مع الله ، شتان بين الحب في الله وبين الحب مع الله ، الحب في الله عين التوحيد ، والحب مع الله عين الشرك . فلا تتخذ غير الله رباً ولا ولياً ولا حكماً هذا توحيد الألوهية ، أن تكون مستقيماً على أمر الله ، قانعاً بما أتاك الله ، راضياً بما قسمه الله لك ، لا تعتمد إلا على الله ، لا ترجو إلا الله ، لا تفرح إلا بما عند الله ، لا تخاف إلا من الله ، لا ترى في الأرض جهة تعمل إلا الله .

 

أنواع النفاق :

 أيها الأخوة الكرام ؛ لذلك هناك نفاق يخرج من الملة أي من الدين ، النفاق الاعتقادي ، هو عكس الاستقامة الاعتقادية ، أن تقول ما لا تعتقد ، أن تجامل الناس فيما يعتقدون وأنت لا تعتقد ذلك ، هذا هو النفاق الاعتقادي الذي يخرج من الملة وهذا الذي قال الله عنه :

﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ ﴾

[ سورة النساء : 145]

 وما من مؤمن ورع إلا ويخشى على نفسه من النفاق ، وهذا التابعي الجليل الذي التقى بأربعين صحابياً ما منهم واحد إلا وهو يظن نفسه منافقاً من شدة خوفه من الله وورعه .
 أيها الأخوة الكرام ؛ هناك نفاق عملي ، أن تأتي أفعالك على غير أقوالك ، أن تأتي أقوالك على غير معتقداتك ، هذا نفاق اعتقادي يخرج من الملة أشدّ من الكفر ، أما أن تأتي أفعالك خلاف كلامك فهذا نفاق عملي ، هذا صاحبه وقع في معصية كبيرة لكن يرجى له التوبة، ثم إن هناك معاصي اللسان .

 

استقامة القلب و اللسان دليل إيمان العبد :

 أيها الأخوة : أعيد عليكم الحديث مرة ثانية ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

((لَا يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ وَلَا يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ. .))

[ أحمد عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ]

 المعاصي التي يجترحها اللسان لا تعد ولا تحصى ، بعض الأئمة الكبار أحصى منها عدداً كبيراً ، هناك الغيبة والنميمة والهمز واللمز والاحتقار والسخرية والمحاكاة وما إلى ذلك، فحينما يستقيم لسان الإنسان يستقيم قلبه ، لذلك من الذي ينجو من عذاب الله ؟ من عدّ كلامه من عمله ، أما المقصرون ، بعض المنافقين فيقول باللغة الدارجة : كله كلام بكلام ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

((إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ لَا يَرَى بِهَا بَأْسًا يَهْوِي بِهَا سَبْعِينَ خَرِيفًا فِي النَّارِ ))

[ الترمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ]

 ورد أن قذف محصنة يعدل أي يستحق صاحبه العذاب مئة سنة ، قذف محصنة يهدم عمل مئة سنة ، وهذا باللسان فقط ، وحينما يتوهم المسلمون أن معاصيهم فقط أن يشربوا الخمر ، وأن يزنوا ، وأن يسرقوا ، وأن يقتلوا ، وما سوى ذلك من اللمم ، هذا الذي ضيعهم ، وهذا الذي مزقهم ، وهذا الذي أفسد حياتهم ، وهذا الذي حجبهم عن الله عز وجل :

((لَا يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ وَلَا يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ. .))

[ أحمد عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ]

 ويقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح :

(( ... أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ ))

[البخاري عن النعمان بن بشير ]

 فلابد من أن يكون قلبك مستقيماً .

﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾

[ سورة الشعراء : 88-89]

 من أجمل ما قاله العلماء عن القلب السليم : هو قلب لا يشتهي شهوة لا ترضي الله ، هو قلب لا يقبل خبراً يتناقض مع وحي الله ، هو قلب لا يحكم غير شرع الله ، ولا يعبد غير الله .

﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾

[ سورة الشعراء : 88-89]

بطولة الإنسان أن تكون مقاييسه قرآنية وفق منهج الله :

 ما معنى قول النبي الكريم في حديث أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

((إِنَّ اللَّهَ قَالَ : مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا ، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا ، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ))

[البخاري عن أبي هريرة]

 أي لا يرى إلا بنور الله ، ضبط عينه عن أي نظرة لا ترضي الله ، وإن قلنا : العين بداية البصيرة أي لا يعتقد ولا يرى حقيقة إلا وفق ما جاء به الوحيان ، الكتاب والسنّة ، وأما سمعه لا ينظر إلى باطل ، ولا إلى كذب ، ولا إلى بهتان ، ولا إلى غيبة ، ولا إلى نميمة ، ولا إلى كلام يتناقض مع كلام الله ، ولا يصغي إلى اقتراحات تتناقض مع أصل الدين ، يسمع بنور الله .

((كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ ))

[البخاري عن أبي هريرة]

 و لا يفعل شيئاً لا يرضي الله بيده ، وَيَدهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا ، ولا يتجه إلى مكان لا يرضي الله يتجه نحو مساجد الله ، نحو حفل يرضي الله ، نحو إصلاح بين زوجين ، نحو دعوة إلى الله ، حركته في سبيل الله ، وأعماله مضبوطة بمنهج الله ، ورؤيته وسمعه وفق وحي الله .

 

استقرار حقيقة الإيمان في القلب تعبر عن ذاتها بحركة نحو الخلق :

 أيها الأخوة الكرام ؛ وقف سيدنا أبو بكر رضي الله عنه بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال :

(( يا أيها الناس ، إنكم تقرؤون هذه الآية {يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم} ، وإنكم تضعونها على غير موضعها ، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إن الناس إذا رأوا المنكر ولم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده))

[السيوطي عن قيس بن أبي حازم]

 لماذا أهلك الله بني إسرائيل ؟ قال : لأنهم كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه كم منا يصادق أخاه وقد ظلم زوجته ؟ كم منا يصادق صديقاً وقد أكل المال الحرام ؟ هذا الذي لا ينهى أخاه عن منكر فعله ، هذا لم يفهم معنى قوله تعالى :

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ ﴾

[ سورة المائدة : 105 ]

 لذلك حينما أراد الله إهلاك بلدة ، وأرسل ملائكة ليهلكوها قالوا : يا رب إن فيها صالحاً ؟ قال : به فابدؤوا ، قالوا : ولم يا رب ؟ قال : لأنه كان وجهه لا يتمعر إذا رأى منكرًا.
 هذا الذي يقول : أنا عليّ من نفسي ، ما لي ولمن حولي من الناس ؟ هذا الذي لا يحمل هموم المسلمين ولا يتحرك حركة مهما تكن ضئيلة لحل مشكلتهم هذا إنسان يفتقد الإيمان الصحيح .
 إن استقرت حقيقة الإيمان في قلبك ، لابد أن تعبر عن ذاتها بحركة نحو الخلق ، أما أن تقول : ما شأني وشأن الناس فهذا كلام لا يقوله مؤمن ، لابد من أن تسهم في حل مشكلات المسلمين ، ولو أن تنهى عن المنكر قال :

((يا رسول الله ماذا ينجي العبد يوم القيامة ؟ قال : إيمان بالله ، قال : مع الإيمان عمل ؟ قال : أن تعطي مما أعطاك الله ، قال : فإن كان لا يجد ما يعطي ؟ قال : أن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ، قال : فإن كان لا يستطيع ؟ قال : فليعن الأخرق ، قال : فإن كان لا يحسن ؟ قال : أما تريد أن تدع لصاحبك من خير ؟ فليكف أذاه عن الناس ، فقال : أو إن فعل هذا دخل الجنة ؟ فقال عليه الصلاة والسلام : ما من عبد مسلم يصيب خصلة من هذه الخصال إلا أخذت بيده حتى تدخله الجنة ))

[ شعب الإيمان عن أبي ذر]

 لابد من حركة ، لابد من عمل ، لابد من إسداء نصيحة ، لابد من أمر بمعروف ، ونهي عن منكر ، لابد من حركة ، وإلا السكون علامة الموت ، إن كان القلب ميتاً فالإنسان سكوني ، وإن كان القلب حياً فالإنسان حركي ، لذلك : وتواصوا بالحق هي أحد أركان النجاة .

﴿ وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴾

[ سورة العصر : 1-3]

 الباطل ينمو ، الحق إن لم ينمُ ضيّق عليه الباطل ، وحجمه ، وقيده ، فأحد أركان النجاة أن ينطلق لسانك بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .

 

الاستقامة على أمر الله أهم شيء في الدين بعد سلامة العقيدة :

 أيها الأخوة الكرام ؛ هذا الصحابي الجليل الذي أرسله النبي لتقييم تمر خيبر ، فاليهود أغروه بحلي بعض نسائهم ليخفض التقييم ، فقال : "والله جئتكم من عند أحبّ الخلق إليّ ، ولأنتم عندي أبغض من القردة والخنازير ، ومع ذلك لن أحيف عليكم ، فقال اليهود : بهذا قامت السموات والأرض ، وبهذا غلبتمونا "
 ونحن الآن لا نستطيع أن ننتصر على أعدائنا وما أكثرهم إلا باستقامتنا على منهج الله .
 أيها الأخوة الكرام ؛ أهم شيء في الدين بعد سلامة العقيدة الاستقامة على أمر الله ، استقامة العقيدة واستقامة الوجهة واستقامة العمل ، والآيات التي تتحدث عن الاستقامة كثيرة جداً من أبرزها :

﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ ﴾

[ سورة هود : 112 ]

﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا ﴾

[ سورة فصلت : 30 ]

 أيها الأخوة ، أشرح لكم معنى هذه الآية : لو أنك بحاجة ماسة لأشعة الشمس من أجل مرض جلدي لا سمح الله ، وقلت : إن الشمس ساطعة ، وهي فعلاً ساطعة ، ما أعظم ضياء الشمس! نور الشمس جميل ، تحدّث عن الشمس ما شئت ، وآمن بوجودها ما شئت ، وأثني على أشعتها ما شئت ، إن لم تتعرض لأشعة الشمس هذا الكلام لا يفيد إطلاقاً ، أي لو تحدثت عن الإسلام وعن عظمة الإسلام وعن عمق الإسلام وعن منهجية الإسلام وعن وعن وعن . . . . . إن لم تلتزم بقواعد الإسلام لن تنتفع من كل هذا الدين ، مشكلة المسلمين يعتزون بإسلامهم ولا يطبقونه في حياتهم ، وهذا معنى قوله تعالى :

﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ ﴾

[ سورة الأنفال : 33 ]

 إذا كانت سنّتك يا محمد مطبقة فيهم هم في مأمن من عذاب الله ، أما إن لم تكن مطبقة لا في أفراحهم ، ولا في أتراحهم ، ولا في تجارتهم ، ولا في سفرهم ، ولا في زواجهم ، ولا في تطبيقهم ، ولا في توزيع إرثهم ، كم من المسلمين يحرمون البنات بحجة أن هذا المال سيذهب إلى الصهر ؟ كم من المسلمات يحتكمن إلى قاض أمريكي من أجل أن تأخذ نصف ثروة زوجها ولا تحتكم إلى قاض مسلم لأن القاضي المسلم يعطيها مهرها ؟ كم من انحراف في حياة المسلمين ؟ مع أن مساجدهم شامخة ومزخرفة ومزينة ومؤتمراتهم رائعة وكتبهم جميلة ، هناك مظاهر إسلامية صارخة جداً ، ولكن المضمون هزيل جداً ، لذلك لم تحقق وعود الله لنا .

﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ ﴾

[ سورة الأنفال : 33 ]

﴿ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً ﴾

[ سورة النساء : 141 ]

﴿ إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾

[سورة غافر : 51]

﴿ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ ﴾

[سورة الصافات : 173]

 كل هذه الآيات لم تحقق ، لأننا فهمنا الدين اعتزازاً بالإسلام ، وبعداً عن تطبيقه ، فهمنا الدين شيئاً نزين به صدورنا ، فهمنا الدين افتخاراً ولم نفهمه منهجاً تطبيقياً .
 أيها الأخوة الكرام ؛ حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا ، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا ، وسيتخطى غيرنا إلينا ، فلنتخذ حذرنا ، الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتبع نفسه هواها ، وتمنى على الله الأماني ، والحمد لله رب العالمين .

* * *

الخطبة الثانية :
 أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين ، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله ، صاحب الخلق العظيم ، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

اللبن آية من آيات الله الدالة على عظمته :

 أيها الأخوة الكرام ؛ في القرآن آيتان تتحدثان عن اللبن ، الآية الأولى :

﴿وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خَالِصاً سَائِغاً لِلشَّارِبِينَ ﴾

[ سورة النحل : 66]

 بآية من آيات الله الدالة على عظمته هذا اللبن الذي نشربه ، وفي الآية الثانية :

﴿مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى ﴾

[سورة محمد : 15]

 وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم فضل اللبن لأنه يجزئ مكان الطعام و الشراب، من أطعمه الله طعاماً فليقل :

((اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِيهِ وَأَطْعِمْنَا خَيْرًا مِنْهُ ، وَمَنْ سَقَاهُ اللَّهُ لَبَنًا فَلْيَقُلِ : اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِيهِ وَزِدْنَا مِنْهُ فَإِنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ يُجْزِئُ مَكَانَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ غَيْرَ اللَّبَنِ ))

[ أحمد عن ابن عباس ]

 هذا كلام الله ، وهذا كلام رسول الله ، وهناك بحث طويل في موقع معلوماتي سأختار منه بعض الفقرات قال : تمكن الباحثون حديثاً من معرفة سبعة مضادات حيوية من اللبن الرائب ، وبعض هذه المضادات أقوى من (التكراسكلين ) وهو من أقوى المضادات في الحيوية ، سبعة مضادات حيوية في اللبن ، وفي دراسة أخرى : أن اللبن الرائب يفيد في القضاء على الجراثيم المسببة للتسمم الغذائي ، وفي دراسة ثالثة : أنه بإمكان اللبن الرائب منع حدوث الديزانتريا الزحار ، وفي دراسة رابعة أن إعطاء اللبن للأطفال المصابين بالإسهالات نوع من أنواع الأدوية ، قال : ولا يقوم اللبن بفعل مضاد للجراثيم فحسب ، بل إن الأبحاث الحديثة تؤكد أن اللبن يقوي الوظيفة المناعية في خلايا الجسم ، وأخطر جهاز بالإنسان جهازه المناعي ، لأن هذا الجهاز هو الذي يقاوم الأمراض ، اللبن يقوي الجهاز المناعي ، بل هناك دراسة أخرى تشير إلى أن اللبن الرائب يفيد في الوقاية من سرطان القولون ، وفي دراسة من فرنسا تبين أن أكثر النساء اللواتي يتناولن اللبن كن أقلهن عرضة للإصابة بسرطان الثدي .
 أيها الأخوة الكرام ؛ اللبن غذاء ذو سعرات حرارية قليلة ، فمئة غرام من اللبن الرائب يساوي خمساً وعشرين سعرة حرارية فقط ، يفيد طعاماً للرضع حين البدء بإدخال الطعام لمعدتهم، يستعمل عند المرضى في فترات النقاهة ، أما علاقته بالشيخوخة فشيء لا يصدق قال: إن الذين يعيشون فوق المئة عام هم من آكلي اللبن لأنه يحتوي على بكتريا تصل إلى الأمعاء ، وتكون بيئة تمنع دخول الجراثيم غير المرغوب فيها ، وقد أُطلق عليه في البلقان اسم (غذاء العمر المديد) اللبن ، لاحتوائه على مواد بروتينية ذات قيمة حيوية عالية ، وعلى أغلب المواد المعدنية اللازمة ، عند بعض الشعوب لا تخلو مائدة من اللبن . لذلك المعمرون يتمتعون بصحة جيدة بسبب هذا ، هؤلاء الذين يعانون من هشاشة العظام دواؤهم اللبن ، والذين يعانون من تفاقم نخر الأسنان دواؤهم في اللبن .
 أيها الأخوة ، فيه ماء ستة وثمانون بالمئة ، وبروتين ، ودهون ، وسكر أنواع عديدة، وصودوم ، وبوتاسيوم ، ومغنيزيوم ، وفوسفور ، و كلور ، و أربعة أنواع فيتامينات ، و حمض النيكوتين ، هذا كله في اللبن ، لذلك اللهم زدنا منه . كان عليه الصلاة والسلام إذا أكل طعاماً يقول :

((اللهم بارك لنا فيه وأطعمنا خيراً منه ))

 أما إذا شرب اللبن فقال :

((اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِيهِ وَزِدْنَا مِنْهُ ))

 وهناك آيتان قرآنيتان أشير فيهما إلى اللبن .
 والحديث أعيده مرة ثانية فيما رواه الإمام أحمد وأبو داود :

((فَلْيَقُلِ اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِيهِ وَأَطْعِمْنَا خَيْرًا مِنْهُ وَمَنْ سَقَاهُ اللَّهُ لَبَنًا فَلْيَقُلِ اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِيهِ وَزِدْنَا مِنْهُ فَإِنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ يُجْزِئُ مَكَانَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ غَيْرَ اللَّبَنِ ))

[ أحمد عن ابن عباس ]

 هناك شراب يأتينا من بلاد بعيدة ليس فيه مادة طبيعية إطلاقاً بل كله مواد كيماوية، فهذا الذي جعله الله لنا ، وفي متناول أيدينا ، ولا يعلو سعره عن الحد المعقول .

الدعاء :

 اللهم اهدنا فيمن هديت ، و عافنا فيمن عافيت ، و تولنا فيمن توليت ، و بارك اللهم لنا فيما أعطيت ، و قنا و اصرف عنا شر ما قضيت ، فإنك تقضي بالحق و لا يقضى عليك ، و إنه لا يذل من واليت و لا يعز من عاديت ، تباركت ربنا و تعاليت ، و لك الحمد على ما قضيت ، نستغفرك و نتوب إليك ، اللهم هب لنا عملاً صالحاً يقربنا إليك ، اللهم أعطنا و لا تحرمنا ، أكرمنا و لا تهنا ، آثرنا و لا تؤثر علينا ، أرضنا و ارض عنا ، اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا و بين معصيتك ، و من طاعتك ما تبلغنا به جنتك ، و من اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا ، و متعنا اللهم بأسماعنا و أبصارنا و قوتنا ما أحييتنا ، و اجعله الوارث منا ، و اجعل ثأرنا على من ظلمنا ، و انصرنا على من عادانا ، و لا تجعل الدنيا أكبر همنا ، و لا مبلغ علمنا ، و لا تسلط علينا من لا يخافك و لا يرحمنا ، مولانا رب العالمين ، اللهم صن وجوهنا باليسار ، ولا تبذلها بالإقتار فنسأل شر خلقك ، ونبتلى بحمد من أعطى ، و ذم من منع ، وأنت من فوقهم ولي العطاء ، و بيدك وحدك خزائن الأرض و السماء ، اللهم كما أقررت أعين أهل الدنيا بدنياهم فأقرر أعيننا من رضوانك يا رب العالمين ، اللهم ما رزقتنا مما نحب فاجعله عوناً لنا فيما تحب ، و ما زويت عنا ما نحب فاجعله فراغاً لنا فيما تحب ، اللهم إنا نعوذ بك من الفقر إلا إليك ، و من الخوف إلا منك ، و من الذل إلا لك ، نعوذ بك من عضال الداء ، و من شماتة الأعداء ، و من السلب بعد العطاء ، مولانا رب العالمين ، اللهم بفضلك و رحمتك أعل كلمة الحق و الدين ، و انصر الإسلام و أعز المسلمين ، و خذ بيد ولاتهم إلى ما تحب و ترضى ، إنك على ما تشاء قدير و بالإجابة جدير .

تحميل النص

إخفاء الصور