- السيرة / ٠1السيرة النبوية
- /
- ٠2فقه السيرة النبوية
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين, أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات.
لماذا خص النبي بدعوته أحد هذين الشخصين ؟
أيها الأخوة، مع درس جديد من دروس فقه السيرة النبوية، ووصلنا في فقرات السيرة النبوية إلى إسلام حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه.
بادئ ذي بدء كان عليه الصلاة والسلام, يقول:
(( اللهم أعز الإسلام بأحد العمرين))
ويقصد عمر بن الخطاب، وعمرو بن هشام ( أبو جهل )، ولا بد من وقفة متأنية في شرح هذا الحديث:
النبي عليه الصلاة والسلام طلب النخبة تقدم، بينما غير النخبة لا تقدم، بل تأخذ النخبة تحمل معك، وغير النخبة ينبغي أن تحملهم، النخبة كالأعمدة للحق، بينما غير النخبة غثاء كغثاء السيل، والذي يؤلم الآن أشد الألم المسلم مع الاحترام البالغ لأية حرفة، لكن لماذا المسلم في أدنى درجة؟ ولماذا غير المسلم في أعلى درجة؟ الاختصاصي باختصاص نادر غير مسلم، المهندس البارع غير مسلم، الطبيب الأول غير مسلم، مع أن الله سبحانه وتعالى وزع القدرات بين كل الشعوب والأمم توزيعاً عادلاً.
أيها الأخوة، حينما قال عليه الصلاة والسلام:
(( تناكحوا، تكاثروا، تناسلوا، فإني مباهٍ بكم الأمم يوم القيامة ))
والله الذي لا إله إلا هو لا أصدق ثانية واحدة أن يكون التباهي بالعدد، والدليل الأمة الإسلامية اليوم يزيد تعدادها على مليار و300 مليون مسلم، ثلث سكان الأرض، ويتربعون على ربع احتياطي نفط في العالم، ويحتلون أكبر موقع استراتيجي في العالم، وعندهم ثروات لا يعلمها إلا الله، وإلههم واحد، ونبيهم واحد، وكتابهم واحد، ولا وزن لهم في الأرض، وليس أمرهم بيدهم، وليست كلمتهم هي العليا، وللطرف الآخر عليهم ألف سبيل وسبيل.
كيف يحترم الطرف الآخر دينك أيها المسلم ؟
أيها الأخوة، اسمعوا مني هذه الكلمة: ما لم تكن متفوقاً في دنياك فلن يحترم دينك، أريد مسلماً صناعياً كبيراً، وأستاذاً جامعياً كبيراً، وخبيراً نادراً، لذلك عليه الصلاة والسلام طلب النخبة, قال:
(( اللهم أعز الإسلام بأحد العمرين ))
لا تقنع أن تكون رقماً لا معنى له، لا تقنع بأن تكون إنساناً لا يقدم ولا يؤخر، علو الهمة من الإيمان, صدق القائل:
ملك الملوك إذا وهب قم فاسألن عن السبب
الله يعطي من يشـاء فقف على حـد الأدب
أيها الأخوة، المسلمون اليوم في محنة كبيرة، وما لم يتفقهوا في العلوم، وفي الصناعات، وفي استخراج الثروات، وفي استصلاح الأراضي، وفي إنشاء السدود، لا أحد يقيم لهم وزناً, وويل لأمة تأكل ما لا تزرع، وويل لأمة تلبس ما لا تنسج، وويل لأمة تستخدم آلة لا تصنعها، النبي عليه الصلاة والسلام طلب النخبة.
فإن أردتم لهذا الإسلام عزاً فتفوقوا، وما لم نتفوق الآن فلا تقوم لنا قائمة، هذه الحقيقة التي أنا قانع بها، طريق أن تعز الإسلام أن تكون قوياً بعلمك، بمالك، كن صاحب مشروع، هؤلاء القمم كانوا أشخاصاً عاديين في مقتبل حياتهم، أنا أطالبكم أن تكون همتكم عالية، علو الهمة من الإيمان.
ما هو سبب إسلام جيفري لانج ؟
مرةً أحد أكبر الملحدين في أمريكا كان طالباً في التعليم الثانوي، وانتقد أستاذ الديانة عندهم، فطرده والده من البيت، فاعتنق الإلحاد، وتابع دراسته، حتى صار أكبر عالم رياضيات في أمريكا، كان أستاذاً في جامعة سان فرانسيسكو، وكان متفوقاً إلى درجة أن أستاذه كان يقول له: اخرج من القاعة، وخذ علامة تامة، لأنه يربك أستاذه، أستاذه يستعين به أحياناً في بعض معضلات الرياضيات، عنده طالبة مسلمة من الشرق الأوسط، في أطروحتها مشكلة، فأرسلها إلى هذا العالم، يقول هذا العالم: رأيت فتاة من الشرق الأوسط تحضر دكتوراه في الرياضيات، وهي محجبة حجاباً تاماً، في حين أن فتيات أمريكا في الصيف يمشين في الطرقات شبه عرايا، فماذا في ذهن هذه الفتاة من مبادئ وقيم حتى ارتدت هذا الحجاب؟ قال: أعجبت بأنها إنسانة تملك مبدأ، أو تملك قناعة، ولم أجرؤ أن أنظر إلى وجهها لأنها قديسة، هكذا يقول، ورغبة أن أقدم لها كل خدمة، وعكفت في اليوم نفسه على قراءة القرآن، إلى أن أسلم، وهو الآن أكبر داعية في أمريكا، اسمه جيفري لانج، ما الذي جعله يسلم؟ فتاة تحضر دكتوراه في الرياضيات ومتحجبة.
الآن القوي لا يحترم إلا القوي، والعالم لا يحترم إلا العالم، فإن أردتم لهذا الإسلام عزاً فتفوقوا، وما لم نتفوق الآن فلا تقوم لنا قائمة، هذه الحقيقة التي أنا قانع بها، طريق أن تعز الإسلام أن تكون قوياً بعلمك، بمالك، كن صاحب مشروع، هؤلاء القمم كانوا أشخاصاً عاديين في مقتبل حياتهم، أنا أطالبكم أن تكون همتكم عالية، علو الهمة من الإيمان.
الخير العميم الذي نزل بالإسلام وأهله عند إسلام حمزة بن عبد المطلب:
سأريكم الآن ماذا حصل بعد أن أسلم سيدنا حمزة، وسيدنا عمر، علم حمزة بن عبد المطلب بعد عودته إلى مكة من الصيد، وذلك في السنة السادسة من بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن أبا جهل قد شتم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأساء إليه إساءات بذيئة، فبادر إلى أبي جهل، وهو في مجلسه بين قومه فضربه بالقوس على رأسه فشجه شجة منكرة، وقال له: أتشتمه، وأنا على دينه؟ وانشرح صدر حمزة للإسلام، وعرفت قريش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عز وامتنع، وأن حمزة سيمنع عنه الأذى، فكفوا عن بعض ما كانوا ينالون منه، كان حمزة قوياً، فلما انضم إلى الإسلام قوي الإسلام به.
وأنت حينما تكون قوياً، وتأتي إلى المسجد، وقد تكون صناعياً، أو تاجراً كبيراً، أو عالماً فذاً، أو أستاذاً جامعياً، وتجلس تقوي همة من حضر، فلان يحضر هذا المجلس، فلان أتى للمجلس، فلان صلى الجمعة، فلان حضر في هذا المسجد، أنت حينما تكون قوياً تدعم الحق وتنصره.
هل تفوق الأنبياء أمام التحديات التي وقفت في طريقهم؟
أيها الأخوة، هناك نقطة دقيقة جداً: أن الإسلام ينبغي أن يستخدم السلاح الفعال، يوم كان السحر متفوقاً في عهد موسى عليه السلام، ما نوع معجزة موسى؟ شيء يفوق إمكانات السحرة, قال تعالى:
﴿فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ * وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ﴾
ويوم كان الطب متفوقاً في عهد سيدنا عيسى, ماذا فعل هذا النبي الكريم؟ قال تعالى:
﴿وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ﴾
ويوم كانت العرب في أعلى درجات البلاغة والفصاحة جاء القرآن بأسلوب معجز، ونحن الآن حينما نتفوق يحترمنا أعداؤنا، حينما نأتي بشيء جديد، حينما نحل مشكلاتنا.
مرةً أحد أخوتنا الكرام متفوق تفوقاً كبيراً في هندسة الري، وحضر مؤتمرًا في فرنسا، وعرضت مشكلة حار بها المؤتمرون طوال أيام المؤتمر، فألقى محاضرة، وقدم حلاً لهذه المشكلة، دُهش المؤتمرون، وسألوه في أية جامعة درست؟ فقال بأعلى صوته: درست في جامعة دمشق.
كيف نوظف منهج القوة في الإسلام ؟
أيها الأخوة, قال تعالى:
﴿وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً﴾
القوي هو الله, ولا قوي سواه، وكل قوة في الأرض مستمدة من قوة الله، استدراجاً لغير المؤمنين، أو تمكيناً للمؤمنين، أو تسخيراً لغير البشر، هذه القوة وزعت بحكمة بالغة عرفها من عرفها، وجهلها من جهلها، القوة قوة العلم، وقوة المال، وقوة المنصب، فإذا وصلت إلى أحد هذه القوى خياراتك في العمل الصالح كثيرة جداً، وحينما تعلم أن سر وجدوك في الدنيا العمل الصالح, فالحالة التي تمكنك من الأعمال الصالحة حالة تتوافق مع دينك، القوي بماله يفتح مستشفى، يفتح ميتم, يؤسس مدرسة، يبني جامع، ينشر كتاب، يرسل بعثات إلى الخارج، لو أن واحداً من أهل الغنى أرسل فرضاً ألف طالب على نفقته إلى جامعات الغرب، وجاؤوا بأعلى الشهادات، وكانوا في خدمة المسلمين اختلف الوضع.
أيها الأخوة، إذا كان الطريق إلى القوة سالكاً وفق منهج الله فينبغي أن تكون قوياً، وإذا كان طريق الغنى سالكاً وفق منهج الله فينبغي أن تكون غنياً، وإذا كان الطريق إلى منصب قوي سالكاً وفق منهج الله فينبغي أن تبلغ هذا المنصب، أما إذا كان طريق القوة في العلم، أو المال، أو المنصب يقوم على معصية الله فأن تكون فقيراً هو وسام شرف لك، وأن تكون ضعيفاً وسام شرف لك، وأن تكون محدود الإمكانات وسام شرف لك، العبرة أن تكون في طاعة الله.
خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا:
أيها الأخوة، أما سيدنا عمر فكان رجلاً قوياً مهيباً، وكان يؤذي المسلمين، ويشتد عليهم، وكان عليه الصلاة والسلام يدعو الله أن ينصر دينه به.
لكن هناك ناحية دقيقة، الإنسان الذي لم يعرف الحق، وكان قوياً, ويحب الخير، ويحب ألا يؤذي أحداً، هذا الصالح يتولى الله أمره، لقوله تعالى:
﴿وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ ﴾
تجد إنسانًا في الجاهلية لا يصلي، ولا ينتمي إلى هذا الدين، لكن لا يحب أن يظلم، لا يحب أن يؤذي، لا يحب أن يعمل شيئاً لا يرضي ضميره، هذا الإنسان الصالح يتولاه الله بالهداية، لذلك قال عليه الصلاة والسلام:
(( خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا ))
وحينما أسلم بعض الصحابة, قال:
(( أسلمت على ما أسلفت من خير ))
هناك توجيه لطيف، إن رأيت صديقاً لك لا يصلي، ولا يؤدي العبادات، لكنه لا يؤذي، عنده مروءة، عنده شهامة، لا يحب إلا أن يكون بطلاً، هذا الإنسان فاطمع به، وقدم له كل خير، فلعل الله سبحانه وتعالى يجعله يلتزم فيكون قوة للمسلمين.
صفات عمر قبل الإسلام:
أيها الأخوة, فكان عمر رجلاً قوياً مُهيباً، وكان يؤذي المسلمين، ويشتد عليهم، وكان عليه الصلاة والسلام يدعو الله أن ينصر دينه به،
(( اللهم أعز الإسلام بأحد العمرين ))
قال سعيد بن زيد بن عمر، ابن عم عمر، وزوج أخته: والله لقد رأيتني، وأن عمر لموثقي ـ قيّده ـ وأخته على الإسلام قبل أن يسلم، يعني كان يشتد على ابنه عمه زوج أخته وعلى أخته، ماذا قال النبي عن أهل الطائف:
(( اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون ))
اعتذر عنهم، واحد دخل إلى بستان أنصاري، وأكل من دون إذن، وساقه صاحب البستان إلى رسول الله على أنه سارق، فقال عليه الصلاة والسلام:
((هلا علمته إن كان جاهلاً ، وهلا أطعمته إن كان جائعاً قبل أن تنفجر، وقبل أن تصرخ))
هل أديت واجبك نحو هذا الفقير ؟ علمته إن كان جاهلاً, أطعمته إن كان جائعاً.
ما هو سر إسلام عمر بن الخطاب ؟
أيها الأخوة, لم تصح رواية في تعيين وقت إسلام عمر، فقد جعل ابن إسحاق كاتب السيرة الشهير إسلامه بعد هجرة المسلمين إلى الحبشة، والواقدي جعل إسلامه في نهاية السنة السادسة من البعثة النبوية، وكان عدد المسلمين أربعين مسلما، وفي رواية 56، منهم 11 امرأة، هؤلاء:
﴿وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ﴾
أخبرت أم عبد الله وهي مهاجرة إلى الحبشة أن عمر اطلع على استعدادها للهجرة، وأنه رق لها ولزوجها، على الرغم ما كان يلقون منه من البلاء والأذى قبل ذلك، ولأنها رأت منه رقة لم تكن تراها من قبل، قالت: قد أحزنه ما رأى من استعدادنا للخروج، لذلك مرة ثانية، إن رأيت قلباً رحيماً اطمع به، واعتنِ به لعل يكون هدايته على يديك، وإن رأيت ذكياً فاطمع به.
الآن يجب أن تعلموا سر إسلامه, كان في قلبه رقة، كان رحيم، لما سيدنا عمر تولى الخلافة، وسيدنا الصديق استخلفه، جاء من يلوم سيدنا الصديق لأن عمر فيما يزعمون شديد وقوي، فقال سيدنا الصديق: أتلومونني على أنني وليت عمراً؟ والله إنه أرحم الناس بكم، فإن بدل وغير فلا علم لي بالغيب.
سيدنا عمر لما تولى الخلافة, قال: إن الناس هابوا شدتي، كنت خادم رسول الله وسيفه المسلول وجلواده، فكان يغمدني إذا شاء، وتوفي وهو عني راضٍ، الحمد لله على هذا كثيراً، وأنا به أسعد، ثم كنت خادماً لأبي بكر وجلواده، وسيفه المسلول، فكان يغمدني إذا شاء، وتوفي وهو عني راضٍ, وأنا بذلك أسعد، ثم آلت الأمور إلي فاعلموا أن تلك الشدة قد أضعفت، وإنني سأضع رأسي ليدوس عليه أهل العفاف والتقوى، كان رحيماً، قال: والله لو يعلم الناس ما في قلبي من الرحمة لأخذوا عباءتي هذه.
سيدنا عمر كان رحيماً، وأي قلب ليس فيه رحمة بعيد عن الله، وأي قلب ينبض بالرحمة قريب من الله عز وجل، الإنسان قبل أن يسلم، وقبل أن يؤمن، وقبل أن يلتزم، إن كان رحيماً هذه بشارة طيبة، لأن الله سيتولاه.
أيها الأخوة، سيدنا خالد أسلم متأخراً، فلما أسلم قال عليه الصلاة والسلام:
((عجبت لك يا خالد، أرى لك فكراً))
لذلك ورد في الأثر:
(( أن أرجحكم عقلاً أشدكم لله حباً ))
فهذه أم عبد الله طمعت في إسلامه في حين أن زوجها كان يائساً من إسلامه لما يرى من غلظته وقوته وقسوته على المسلمين.
أي القلبين أقرب إلى الله:
أخوانا الكرام، بالمناسبة إن كان هناك مؤشر للإيمان ومؤشر للرحمة, اعلم علم اليقين أن المؤشرين يتحركان معاً، بقدر إيمانك وبقدر رحمتك، والله عز وجل يقول:
﴿فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ﴾
أبعد قلب عن الله القلب القاسي، وأقرب قلب إلى الله القلب الرحيم، وهل تصدقون أن بغياً من بني إسرائيل رأت كلباً يأكل الثرى من العطش فرقت له، وأدلت بخفها مع نطاقها وملئت خفها ماء فسقت الكلب؟ فشكر الله لها وغفر لها، لأنها رحمت هذا الكلب، بينما امرأة:
(( عذبت امرأة في هرة سجنتها حتى ماتت فدخلت فيها النار؛ لا هي أطعمتها وسقتها إذ حبستها، ولا هي تركتها تأكل من حشاش الأرض ))
كيف نوفق بين هذين الحديثين ؟
أيها الأخوة، هناك ملمح آخر يجب أن يكون واضحًا عندكم، حينما جاء جبريل عليه السلام، وسأل سيد الأنام، قال: يا رسول الله! أتحب أن تكون نبياً ملكاً، أم نبياً عبداً؟ قال: بل نبياً عبداً أجوع يوما فأذكره، وأشبع يوماً فأشكره" كيف نوفق قول النبي عليه الصلاة والسلام:
(( المُؤْمِنُ القَوِيُّ خَيْرٌ وَأحَبُّ إلى اللَّهِ تَعالى مِنَ المُؤْمِنِ الضَّعِيف ))
وبين قول النبي الكريم حينما سُئل أتحب أن تكون نبياً ملكاً, أم نبياً عبداً؟ التوفيق سهل، القوي بماله، أو القوي بعلمه، أو القوي بمنصبه أقدر على العمل الصالح من الضعيف والجاهل ومحدود الإمكانات، القوي أقدر والضعيف أقل قدرة، والغني أقدر والفقير أقل قدرة، والذي يحتل منصب رفيع أقدر من الذي لا يحتله، لأنه عنده قدرة في إحقاق الحق وإبطال الباطل.
إليكم الحكمة الربانية في توزيع الحظوظ في الدنيا بين البشر:
أيها الأخوة, هناك ملمح ينفعنا جميعاً، المئة قوي إذا امتحنهم الله بالقوة قد ينجح منهم 10 %، و100 غني لو امتحنوا بالغنى قد ينجح منهم 10 %, لكن الـ 100 ضعيف قد ينجح 90, والـ 100 فقير قد ينجح 90، فإذا كان الواحد إيمانه قوي جداً أنا أدعو له أن يكون قوياً بالمعنى المادي، لأن أعماله الصالحة كبيرة جداً، والله هناك أعمال صالحة كالجبال، والله بعض أغنياء المسلمين لهم أعمال كالجبال، ويحملون عبئا كبير جداً، أما إذا كان الإنسان ضعيفاً فهو أقرب إلى العبودية من القوي.
هناك مغامرة، إذا كنت قوياً قد لا تنجح، وإذا كنت غنياً قد لا تنجح، لذلك أجمل ما يقال في هذا المقام علم ما كان، وعلم ما يكون، وعلم ما سيكون، لكن الرابعة أقوى شيء، وعلم ما لم يكن لو كان كيف كان يكون؟ أنت على دخل محدود، من طلاب المساجد، مستقيم، بيتك إسلامي، دخلك حلال، إنفاقك حلال، زوجتك محجبة، لا تقترف المعاصي، لو كان معك ألف مليون، أين تكون؟ لا نعرف، من يعرف ذلك؟ الله وحده، وعلم ما لم يكن لو كان كيف كان يكون؟ لذلك قال عليه الصلاة والسلام فيما يرويه عن ربه:
(( إن من عبادي من لا يصلح له إلا الغنى، فإذا أفقرته أفسدت عليه دينه، وإن من عبادي من لا يصلح له إلا الفقر فإذا أغنيته أفسدت عليه دينه ))
دعاء النبي لأحد العمرين دخل في طور الاستجابة الإلهية:
أيها الأخوة، لا زلنا مع سيدنا عمر، الله عز وجل استجاب لدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأسلم عمر، لكن عدة روايات لا ترقى إلى مستوى الصحة تتحدث عن سبب إسلام عمر، لكن أقواها أن هذا الخليفة الراشد يوم كان في الجاهلية يبدو أنه أصغى إلى تلاوة القرآن، وقد سمعها من سيد الأنام، والقرآن فيه روعة وبيان، وتصوير لمشاهد يوم القيامة، ووصف للجنة والنار، رقى قلبه.
أحياناً تلقي محاضرة، هذه المحاضرة تضيف إلى قناعتك بهذا الدين خمسة غرامات، ومحاضرة ثانية خمسة غرامات، تتنامى قناعتك إلى أن تصل إلى درجة الالتزام عندئذٍ تطبق، في البداية أنت لست قانعاً، كلما استمعت إلى درس، كلما فهمت آية، كلما وصلت إلى معنى حديث صحيح، كلما قرأت عن مشهد بطولي لأصحاب رسول الله، كلما اطلعت على آية في الإعجاز العلمي تتنامى قناعاتك، فإذا تنامت قناعتك, ما الذي يحصل؟ تدخل في طور آخر وهو التطبيق.
إن صح التمثيل: ميزان، كفة للقناعات، وكفة للشهوات، كفة الشهوات راجحة، لو أن الشهوات مثلناها بعشرة كيلو هذه المحاضرة خمس غرامات، الكفة راجحة، الشهوات راجحة، هذه المحاضرة خمسون غرامًا، هذه خمسمئة، إلى أن تتجمع القناعات إلى مستوى الشهوات، تدخل بالصراع، تحتار أفعل أو لا تفعل, عندك قناعات كثيرة، عندك قوى ضاغطة، أما إذا جاءت القناعات مئة كيلو، والشهوات عشرة كيلو دخلت في الأعماق,
(( والله يا عم، لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه ))
استجاب الله تعالى لدعوة رسول الله فأسلم عمر، وأعز الله به الإسلام والمسلمين.
ما هي الثمرة التي اقتطفها المسلمون من إسلام عمر:
1- أن المسلمين صلوا بالبيت العتيق:
أيها الأخوة, أول ثمرة من ثمرات إسلام عمر أن المسلمين صلوا بالبيت العتيق، ولم يكونوا يجرؤون أن يصلوا في هذا البيت إلا بعد أن أسلم عمر، وبعد أن أسلم حمزة امتنع الكفار عن إيذاء المسلمين،
(( اللهم أعز الإسلام بأحد العمرين ))
سيدنا عبد الله بن مسعود, قال: " لقد رأيتنا ما نستطيع أن نصلي بالبيت العتيق حتى أسلم عمر، وما زلنا أعزة منذ أسلم عمر "، إن إسلامه كان نصراً، وهو ما عناه حبر الأمة عبد الله بن عباس حينما خاطب عمر رضي الله عنه بعد حادثة طعنه، فقال له: فلما أسلمت يا أمير المؤمنين كان إسلامك عزاً، وأظهر بك الإسلام وأيده وقواه.
لذلك كن قوياً، إذا كان طريق القوة سالكاً وفق منهج الله، وكن غنياً إذا كان طريق الغنى سالكاً وفق منهج الله، أما إذا كان طريق القوة سالكاً على حساب دينك فمرحباً بالضعف، وإذا كان طريق الغنى سالكاً على حساب دينك مرحباً بالفقر.
لذلك قالوا: فرق بين المداهنة والمداراة، المداهنة بذل الدين من أجل الدنيا، والمداراة بذل الدنيا من أجل الدين، والفرق كبير بينهما.
هل سلم عمر من أذى قريش ؟
أيها الأخوة, فما أن علم جميل بن معمر الجمحي بإسلام عمر حتى قام يجر رداءه، وعمر خلفه، حتى إذا قام على باب المسجد صرخ بأعلى صوته: يا معشر قريش، ألا إن عمر قد صبأ، كان مصطلحًا لمن يسلم، وعمر خلفه، يقول: كذب والله، ولكنني أسلمت، وشهدت أنه لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله، فساروا، حتى لقد سال بهم الوادي من كثرتهم يريدون قتله، لولا أن أجاره العاص بن وائل السهمي، وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم سماه الفاروق، أي الذي فرق بين الحق والباطل.
سر الفرق بين هجرة النبي سراً وهجرة عمر جهراً ؟
أيها الأخوة, سيدنا عمر رضي الله عنه كان رجل مبدأ، وقد أنشئ متحف في بريطانيا سمي كهف العدالة، فيه أقوال هذا الخليفة العظيم، وأحكامه السديدة، سيدنا عمر هناك من يصفه بأنه عملاق الإسلام، وكان هذا الخليفة الراشد قوياً، لكن قد يتساءل بعضكم: كيف يهاجر جهاراً نهاراً، ويتحدى المشركين، بينما النبي عليه الصلاة والسلام يهاجر سراً متخفياً؟ النبي عليه الصلاة والسلام مشرع، وسيدنا عمر غير مشرع، لو أن النبي هاجر كهجرة عمر لعد اقتحام الأخطار واجباً، ولعد أخذ الحيطة حراماً, فهلكت أمة النبي من بعده، ولكن النبي مشرع، وسيدنا عمر وقف موقف شخصي.
إن شاء الله في درس قادم ننتقل إلى موضوع جديد موضوع الحصار الاقتصادي الذي ضربه المشركون حول المسلمين، والتاريخ يعيد نفسه.