وضع داكن
24-04-2024
Logo
فقه السيرة النبوية - الدرس : 08 - بناء الكعبة .
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين, أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات.

ما المقصود بكلمة بيت التي وردت في الآية الكريمة ؟

أيها الأخوة الكرام، مع درس جديد من دروس فقه السيرة النبوية، والموضوع اليوم عن بناء الكعبة، الله عز وجل يقول:

﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ﴾

( سورة آل عمران الآية: 96 )

أيها الأخوة، الله عز وجل في كل مكان, يقول الله:

﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ﴾

( سورة الحديد الآية: 4 )

ما معنى أن يتخذ الله له بيتاً في الأرض؟ قال علماء التفسير: هذه معية العلم, قال تعالى:

﴿إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّاً﴾

( سورة مريم الآية: 3 )

سيدنا زكريا.

لو أنك خاطبت ربك بقلبك يسمعك، ما معنى أن يتخذ الله بيتاً في الأرض, ويقول؟

﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً﴾

( سورة آل عمران الآيات: 96 ـ 97)

المعنى: أن الله جلت حكمته مراعاةً للإنسان، أو للنزعة المادية في الإنسان اتخذ له بيتاً، وقال: يا عبدي تعال إلى بيتي، لماذا يقول الحاج: لبيك اللهم لبيك؟ يعني تلبية لندائك يا رب، تعال يا عبدي لأريحك من هموم أثقلت ظهرك، تعال كي تذوق طعم القرب مني، تعال كي تذوق طعم محبتي، فالله عز وجل اتخذ بيتاً في الأرض لنفسه ليكون هذا البيت رمز التوحيد، ورمز العبودية لله.
أيها الأخوة، أنت تصلي في بلدك، وفي مسجدك، وفي غرفتك، وتصوم في بلدك، وتزكي في بلدك، وتشهد أن لا إله إلا الله في بلدك، إلا أن الحج وحده يقتضي أن تذهب إلى بيت الله الحرام، الحج يقتضي تفرغاً كاملاً، فيه بذل، فيه جهد، فيه نفقة، فيه ترك أهل، ترك أولاد، ترك منصب، ترك وظيفة، ترك غرفة نوم، ترك أشياء مريحة في بلدك، ترك مكانة، ترك سمعة، تذهب إلى هناك لأنك دفعت الثمن باهظاً، هناك يتجلّى الله عليك تجلياً يناسب هذا الثمن الذي دفعته.

موقع مكة المكرمة حسب خارطة أقاليم جغرافية الأرض في العالم:


بالمناسبة، في بحث من الإعجاز العلمي يؤكد أن مكة المكرمة هي الوسط الهندسي للأرض، لذلك هناك العالم القديم، آسيا، أوربا، إفريقيا، أقينوسيا، والعالم الجديد أمريكا، المدن التي في أقصى أطراف العالم القديم تبعد عن مكة المكرمة 8500 كم، أي مدينة على أطراف العالم القديم، فمكة في وسط العالم القديم، فإذا أضفنا إلى العالم القديم العالم الحديث تبعد مكة عن أي مكان كوسط هندسي في العالمين القديم والحديث 13500 كم، البحث مودع في جامعة في القاهرة، مكة المكرمة تقع في الوسط الهندسي بين العالم القديم والعالم الحديث، ولا يقابلها في الطرف الآخر مدينة، بل لا يقابلها يابسة أصلاً، يقابلها المحيط الهادي.

أقوال المؤرخين حول موضوع بناء الكعبة:


أيها الأخوة، بعض المؤرخين ذكروا أن البيت العتيق انهدم مرتين بعد أن بناه سيدنا إبراهيم عليه السلام بفعل السيول، وبنته قصي بن كلاب بعد أن انهدم في المرة الأولى، وجرهم في المرة الثانية، أما المؤرخ الماوردي يذكر أن أول من جدد بناء الكعبة من قريش بعد إبراهيم قصي بن كلاب، وهو جد من أجداد النبي صلى الله عليه وسلم، وسقفها بخشب الروم، والنخل، على أن المهم هنا بناء قريش للكعبة البناء الثالث، علاقة هذا الدرس بالسيرة النبوية أنه مع بعثة النبي صلى الله عليه وسلم بنيت الكعبة للمرة الثالثة.هذا ورد بنص الصحيحين، البخاري ومسلم، قبيل بعثة النبي، وقد يسأل سائل: ما علاقتنا ببناء الكعبة؟ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان له من العمر 35 عاماً، وله موقف رائع في أثناء بناء الكعبة.

ما هي الأسباب التي دفعت قريش لإعادة بناء الكعبة ؟

أيها الأخوة، يعود سبب بناء قريش للكعبة إلى جملة عوامل: منها أنها كانت قامة ارتفاع الكعبة تساوي قامة الإنسان، أو فوقها بقليل، ولم يكن لها سقف، وكانت ذات ركنين كهيئة الحلقة المتطاولة، وكانت الكسوة تدلى على جذر الكعبة من الخارج، وتشد من أعلى الجذر في بطنها بلا سقف، تركوا القماش يشد إلى داخل الكعبة، وكانت البئر التي جعلها إبراهيم عليه السلام خزانة داخل الكعبة يوضع فيها ما يهدى إليها من أموال وحلي، وقد امتدت أيدي اللصوص إلى خزانة الكعبة عدة مرات.
الله عز وجل كلفنا أن نكون مع الحق، وأن نقاوم الباطل، إلا أن امرأة من قريش ذهبت تجمر الكعبة، أي تبخرها، والبخور يحتاج إلى جمر، فطارت من مجمرها شرارة، فاشتعلت النار في كسوة الكعبة والتهمتها، وكانت الكسوة توضع فوق بعضها بعضاً، وكل كسوة توضع فوق التي قبلها، فصار هناك كمٌّ كبير من الكسوات، اشتعلت كلها، فلما اشتعلت تهدمت الكعبة، ثم أعقب ذلك الحريق سيل جارف غمر الكعبة حتى دخل خوفها، فجزعت قريش لذلك جزعاً شديداً، وخافوا أن تنهدم، وخشي القوم إن قاموا بهدمها وبنائها أن ينزل عليهم العذاب، وأخذوا ينظرون ويتشاورن، ويدرسون الأمر في روية وتؤدة.

كيف نفهم هذه الآية ؟

سؤال: ألم يقل الله عز وجل:

﴿ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ ءَامِنًا ﴾

( سورة آل عمران الآية: 97 )

كيف امتدت إليها أيدي اللصوص؟ وكيف ضربت قبل 26 عاماً؟ في عام 1400 اقتحمتها قوات الأمن، وذهب قتلى كثيرون في هذا الاقتحام، كيف نوفق بين قوله تعالى:

﴿ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ ءَامِنًا ﴾

( سورة آل عمران الآية: 97 )

وقد قتل مئات بل ألوف؟ الدقة البالغة أيها الأخوة, أن هذه الآية أنهت, بمعنى يا عبادي اجعلوه آمناً، أو ينبغي أن يكون آمناً، وأمن الكعبة أمر تكليفي، وليس أمراً تكوينياً، يشبه هذا المعنى أن الله سبحانه وتعالى حينما يقول:

﴿وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ ﴾

( سورة النور الآية: 26 )

ألا تجد امرأة طيبة تحت زوج خبيث, ألا تجد زوجاً طيباً عنده امرأة خبيثة, ما معنى الآية؟ في بعض الآيات القرآنية صيغتها خبرية، لكنها تعني الإنشاء، وهذا أبلغ, قوله تعالى:

﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ﴾

( سورة البقرة الآية: 233 )

يعني أيتها الوالدات أرضعن أولادكن، هذا أبلغ لأن أي أمر يقتضي العصيان، لو قلت لابنك: اشتر بهذا المبلغ هذه الحاجة، ورد لي الباقي، يفهم من هذا الأمر أنه بإمكانه ألا يرد الباقي، كل أمر ينطوي فيه احتمال معصيته، فالأمور القطعية المصيرية ينبغي أن يأتي الأمر على شكل خبر, قال تعالى:

﴿ وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ ﴾

( سورة البقرة الآية: 233 )

يعني من شأن الوالدات أن يرضعن أولادهن، ولا تجد على وجه الأرض أم لا ترضع ولدها, قال تعالى:

﴿ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ ءَامِنًا ﴾

( سورة آل عمران الآية: 97 )

يعني: اجعلوه آمناً, قال تعالى:

﴿ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ ﴾

( سورة النور الآية: 26 )

أي اجعلوا الطيبون للطيبات، هذه صيغة خبر يراد بها الإنشاء، وهذا من بلاغة القرآن الكريم.

تفسير بسيط للأمرين التكويني والتكليفي مع ذكر مثال على ذلك:

أيها الأخوة, كما تعلمون هناك أمر تكلفي، وهناك أمر تكويني، كيف؟ الجواب هو التالي: طريق فيه لوحة مكتوب عليها ممنوع المرور، هذا أمر تكليفي، لكن أي سائق بإمكانه أن يمشي فيدفع الثمن، وهو مخالف، لكن لو وضع على مدخل هذا الطريق قطع إسمنت مسلح، مكعبات، ارتفاع الضلع متر، هذا أمر تكويني، والأمر التكليفي أمر الله عز وجل ونهيه، والأمر التكويني فعلُه، فالحفاظ على أمن بيت الله الحرام أمر تكليفي، قال تعالى:

﴿ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ ءَامِنًا ﴾

( سورة آل عمران الآية: 97 )

بصيغة صيغة خبرية.
إذاً: البئر التي جعلها إبراهيم عليه السلام خزانة داخل الكعبة ليوضع فيها ما يهدى إليها من أموال وحلي، وقد امتدت إليها أيدي اللصوص إلى خزانة الكعبة عدة مرات, أمر تكويني أم تكليفي؟ تكليفي, قال تعالى:

﴿وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ﴾

( سورة محمد الآية: 4 )

علام ترمز الكعبة ؟

أيها الأخوة، لا بد من حقيقة، لا يمكن أن تكون الكعبة وثناً، أرقى المخلوقات هو الإنسان، يأتي بعده الحيوان، يأتي بعده النبات، يأتي بعده الجماد، الجماد شيء يشغل حيزاً، له طول وعرض وارتفاع، وله وزن، هذا الجماد ـ دقق ـ.
النبات شيء يشغل حيزاً، له طول وعرض وارتفاع، لكنه ينمو، افترق النبات عن الجماد بالنمو.
الحيوان شيء يشغل حيزاً، له طول وعرض وارتفاع، وينمو، ويتحرك.
أما الإنسان شيء يشغل حيزاً، له طول وعرض وارتفاع، وينمو، ويتحرك، ويفكر، إذاً: الله عز وجل ميز الإنسان بقوة إدراكية, قال تعالى:

﴿الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ﴾

 

( سورة الرحمن الآية: 1-4 )

فأنت مكرم بهذه القوة الإدراكية، والقوة الإدراكية غذائها العلم، والقلب غذاءه الحب، والجسم غذاءه الطعام والشراب، والإنسان المتفوق هو الذي يتحرك على الخطوط الثلاثة، التفوق يعني أن تغذي عقلك بالعلم، وأن تغذي جسمك بالطعام والشراب، وأن تغذي قلبك بالحب، التطرف أن تغذي جهة على حساب جهة, فالكعبة ليست وثناً، وإنما هي رمز.
لو واحد جاء بقماش أخضر، وداس عليه بقدمه، هل يحاسب؟ لا، لو جاء بقماش أبيض، وداس عليه بقدمه, هل يحاسب؟ لا، لو جاء بقماش أحمر، ووضعه على الأرض، وداس بقدمه عليه, هل يحاسب؟ لو جاء بمستطيل ثلثه أخضر وأحمر وأبيض, وفيه نجمتان وداس عليه بقدمه يساق إلى السجن، لماذا؟ لأنه رمز الوطن.
فالكعبة ليست وثناً، ولكنها رمز التوحيد، نحن لا نعبد حجارة، سيدنا عمر وضع يده على الجرح حينما قبل الحجر الأسود، مع أن بعض الروايات تبين أنه يمين الله في الأرض، وأن بعض الروايات تبين أنه:

(( من فاوض الحجر الأسود فإنما يفاوض يد الرحمن )) 

[ ورد في الأثر]

ولكن سيدنا عمر عملاق الإسلام, يقول: " أعلم أنك حجر لا تنفع ولا تضر، ولولا أن رأيت رسول الله يقبلك ما قبلتك ".
نحن لا نعبد أحجاراً، ولكن الكعبة رمز التوحيد، رمز العبودية لله، قال تعالى:

﴿ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ ﴾

 

( سورة آل عمران الآيات: 96 ـ 97)

فهذا الذي داس بقدمه على مستطيلات ذات ألوان ثلاثة هي رمز الوطن يساق إلى السجن، وقد يحكم سنوات وسنوات تأديباً له على تجاوزه على رمز الأمة.

الاتفاق الذي تم بين قريش على تجديد بناء الكعبة:

أيها الأخوة, بالنهاية استقر رأي قريش قبل بعثة النبي، وكان النبي صلى الله عليه وسلم في الخامسة والثلاثين من عمره على إعادة بناء الكعبة، الحياة متواضعة جداً، وخشنة جداً، فسمع زعماء قريش أن سفينة رومية تحطمت قرب الشعيبية هي ميناء مكة القديم، فركب الوليد بن المغيرة ومعه نفر من زعماء قريش، واشتروا خشبها لاستخدامه في سقف الكعبة، واستعانوا بنجار رومي يسمى باقوم، وتعاونوا، وتراكضوا بالنفقة، أي جمعوا النفقة من بعضهم، واختلفوا في بنيان مقدم البيت، فقال أبو أمية بن المغيرة: يا معشر قريش، لا تنافسوا، ولا تباغضوا، فيطمع فيكم غيركم.
الإيمان فطري، الآن تستمعون إلى بعض الأقوال، هذه من بقايا بعثة الأنبياء:
يا معشر قريش، لا تنافسوا، ولا تباغضوا، فيطمع فيكم غيركم، ولكن جزئوا البيت أربعة أجزاء، أربعة جدران، وربعوا القبائل، فلتكن أربعاً، يعني كل مجموعة قبائل يسمح لها أن تبني جداراً واحداً، لأن شرف بناء الكعبة شرف كبير.
أنا سمعت عن عالم كبير جليل في مصر توفي رحمه الله كان في مكة المكرمة يعمل أستاذاً في الجامعة، فلما وسع الحرم نقل التراب بيده، واشتغل فاعلاً بالمفهوم الدمشقي، لينقل التراب في أثناء توسعة الحرم، شرف كبير.
لهذا البيت قدسية قديمة جداً، توارثتها الأجيال جيلاً عن جيل، قال: ثم اقترعوا عند هبل في بطن الكعبة، وعلى جوانبها.
أخواننا الكرام، القرعة من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، إذا كان هناك خلاف بين أولادك، خلاف بين زوجاتك، إن كنت من ذوي التعدد، خلاف بين من حولك، بين شركائك، نظام القرعة نظام مريح جداً.
كل مجموعة قبائل أخذت جداراً، هناك جدار الشامي، واليمني، والجنب الشرقي والغربي، ولما أجمعت قريش على هدم الكعبة أخرجوا ما كان فيها من مال وحلي، وجعلوه عند أبي طلحة عبد الله بن عبد العزى، وأخرجوا كبير الأصنام هبل، ونصبوه عند المقام، ولما أرادوا الشروع في الهدم ظهرت لهم حية كانت داخل الكعبة، وكشت، أي أخافتهم، وفتحت فاها فهابوها، فقال لهم الوليد بن المغيرة: ألا أيها القوم, ألستم تريدون هدمها لإصلاحها؟ قالوا: بلى، قال: فإن الله لا يهلك المصلحين.
يقول عبد العزى: لا تدخلوا في عمارة البيت إلا من طيب أموالكم، ولا تدخلوا فيه مالاً من ربا، ولا من مال ميسر، ولا مهر بغي ـ من ربح نواد ليلية ـ ولا مظلمة أحد من الناس مصادرة، وجنبوه الخبيث من أموالكم، فإن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، ففعلوا، ثم وقفوا عند المقام، ودعوا الله أن يذهب عنهم تلك الحية، فأقبل طائر كبير فاختطفها, هذا كلام قيل قبل البعثة، هذا يؤكد أن الإيمان فطري، وأن أصول الإيمان مزروعة في قلب كل إنسان.
أنا كنت في القاهرة، وعند الأهرامات برنامج اسمه الضوء والصوت، يعرض تاريخ الفراعنة، لا أنسى كلمة قالها أحد الفراعنة سمعتها بأذني، قال: أنت تريد، وأنا أريد، والله يفعل ما يريد.
الدين أصل في كيان الإنسان، الذي أدهشني أن هذا الكلام قبل البعثة، وقبل القرآن، وقبل الوحي.

دعوة لك أيها المسلم:

 

أيها الأخوة, السيدة خديجة رضي الله عنها وأرضاها لما رأت النبي مضطرباً بعد مجيء الوحي، ماذا قالت له؟ قالت: والله لا يخزيك الله أبداً، إنك لتقري الضيف، وتحمل الكل، وتعين على نوائب الدهر، من أين جاءت بهذا؟ هذا من الفطرة.

أنا أقول لكم أيها الأخوة، ما دام الإنسان مطيعاً لله، ما دام محسناً، ما دام مستقيماً، والله الذي لا إله إلا هو لا يخزيه الله أبداً، ولو افتقر إلى كل مقومات الحياة، ما دام مستقيماً، لم يبن مجده على أنقاض الناس، ولا غناه على فقرهم، ولا أمنه على خوفهم، ولا عزه على ذلهم، ولا حياته على موتهم، ما دام منضبطاً، دققوا أيها الأخوة:

﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ﴾

( سورة الجاثية الآية: 21)

محياهم في الدنيا, قال تعالى:

﴿وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ﴾

( سورة الجاثية الآية: 21)

مستحيل وألف ألف مستحيل أن يعامل المستقيم كالمنحرف، والصادق كالكاذب, والعفيف كالعاصي، والمخلص كالخائن, قال تعالى:

﴿أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لَا يَسْتَوُونَ﴾

( سورة السجدة الآية: 18)

﴿أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ﴾ 

( سورة القلم الآية: 35-36 )

﴿أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ﴾

( سورة القصص الآية: 61 )

شروط الدعاء المستجاب:

أيها الأخوة, الآن هناك استنباط دقيق، لا سمح الله ولا قدر، لو لم تكن مستقيمًا، ووقعت في أزمة، ودعوت الله، فإن الله يجيبك، قال علماء العقيدة: للدعاء شروط لا يستجاب الدعاء إلا إذا توافرت هذه الشروط:

﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ﴾

( سورة البقرة الآية: 186)

يجب أن تؤمن، ويجب أن تستجيب، ويجب أن تخلص، الدعاء يستجاب، لكن يستثنى من ذلك دعاء المضطر والمظلوم، المضطر يستجيب الله له لا بأهليته للدعاء، ولكن برحمة الله، والمظلوم يستجاب له لا بأهليته للدعاء، ولكن بعدل الله لذلك:

(( واتّقِ دَعْوَةَ المَظْلُومِ، فإنّهَا لَيْسَ بَيْنَهَا وبَيْنَ الله حِجَاب ))

[أخرجهما البخاري ومسلم في صحيحهما ]

رجل يعد الرجل الثاني عند هارون الرشيد، فجأة وجد نفسه في السجن، زاره أحد أقرباءه، فقال له: لعل دعوة مظلوم أصابتنا،

(( واتّقِ دَعْوَةَ المَظْلُومِ، فإنّهَا لَيْسَ بَيْنَهَا وبَيْنَ الله حِجَاب ))

( أخرجهما البخاري ومسلم في صحيحهما )

اتقوا دعوة المظلوم، ولو كان كافراً، هؤلاء مشركون، الإله هبل وضعوه في مقدم البيت، و مع ذلك دعوا ربهم أن ينجيهم من هذه الحية المخيفة، أقبل طائر كبير فاختطفها، و ألقى بها في أجياد، فاعتبروا ذلك دليلاً على رضاء الله عز وجل عن عملهم.

مشكلة حدثت أثناء بناء الكعبة:

أيها الأخوة, تقدم الوليد بن المغيرة بمعول في يده، وبدأ في الهدم بمفرده، ما أحد عاونه أبداً، لأنهم خائفون أن الإله يدمره، لأنه هدم الكعبة.
الحقيقة أحيانا هناك وسوسة، واحد يطوف حول الكعبة، وجد لوزة فملأ الحرم ضجيجاً وصراخاً، من صاحب هذه اللوزة؟ فقال له: عمر كلها يا صاحب الورع الكاذب، يعني كلها وأرحنا.
فبدأ الوليد بن المغيرة وحده بهدم الكعبة، والباقون خائفون، حتى أمسى، ولما أصبح سليماً اشتركوا معه في الهدم، يعني جعلوه ضحية، وافتدوا به، حتى بلغوا حجارة لا يطيق على تحريكها إلا عدد كبير من الرجال، فاتخذوا في ذلك أساساً للبناء، ولما جمعوا ما أخرجوه من النفقة وجدوها أقل من أن تبلغ بهم عمارة البيت كله فتشاوروا، واستقر رأيهم على أن يقتروا على القواعد، ويحذروا ما يقدرون عليه، القواعد حجار وبلاط، لكن بعد ذلك حجارة فقط.
كل شيء جمعوه من أموال ما كفى لبناء الكعبة، القسم الآخر عبارة عن حجار قد صفت بعضها فوق بعض.
أيها الأخوة، الحقيقة أن حجر إسماعيل من الكعبة، قصر بهم المال ينبغي أن يبنى فوق حجر إسماعيل، وأن تكون الكعبة متصلة بحجر إسماعيل، حجر إسماعيل هو دليل أن المال الذي استخدمته قريش لبناء الكعبة لم يكن كافياً.
فالإمام البخاري رحمه الله تعالى روى عن السيدة عائشة رضي الله عنها أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الحجر:

(( أمن البيت هو؟ قال: نعم ))

[ ورد في الأثر]

إذا أكرم أحدكم الله بعمرة أو بحج، وطاف حول الكعبة ضمن الحجر طوافه مرفوض، وغير مقبول، لأن الحجر من الكعبة، يجب أن يطوف حول الحجر، فالسيدة عائشة سألت النبي صلى الله عليه وسلم:

(( الحجر أمن البيت هو؟ قال: نعم، قلت: فما لهم لم يدخلوه في البيت؟ قال: إن قومك قصرت بهم النفقة، قلت: فما شأن بابه مرتفعاً، قال: فعل ذلك قومك ليدخلوا من شاؤوا ويمنعوا من شاؤوا ))

[ ورد في الأثر]

لو أن بابه على مستوى الأرض لكان الدخول إليه سهلا، الآن هناك سلم متحرك، كسلم الطائرة، وفيه تكييف.

الصفات التي ينبغي أن يتحلى بها الداعي إلى الله:

أيها الأخوة, يقول المصطفى صلوات الله عليه:

(( ولولا أن قومك حديث عهد بكفر، وأخاف أن تنكر قلوبهم لنظرت أن أدخل الحجر بالبيت، وأن ألزق بابه بالأرض لفعلت ))

[ أخرجه الترمذي في سننه]

ماذا يستنبط من كلام النبي عليه الصلاة والسلام؟ أحياناً هناك شيء ينكره من حولك إنكاراً شديداً، فأنت إذا تلطفت بهم، طبعاً لا يدخل في الحلال والحرام، ولم تستفزهم، ولم تحرجهم, فأنت حكيم.
فكان عليه الصلاة والسلام حكيماً، من الصعب أن آتي بأمثلة كثيرة، هناك أشياء هي من الشرع، لكن ليس هناك مناسبة للحديث عنها إطلاقاً، يقول لك: حكم الإماء في الإسلام، الآن ليس هناك إماء، دائماً هناك أسئلة استفزازية، فالأولى إذا كان الشيء مرفوضًا في الثقافة المعاصرة، مشروعًا في الثقافة الإسلامية، وغير مطبق، وغير موجود فالداعية الحكيم لا يثير هذه الموضوعات أبداً.
أخواننا الكرام، هذا النص من رسول الله صلى الله عليه وسلم:

(( ولولا أن قومك حديث عهد بكفر, وأخاف أن تنكر قلوبهم لنظرت أن أدخل الحجر بالبيت، وأن ألزق بابه بالأرض لفعلت ))

[ أخرجه الترمذي في سننه]

شخص في بلد إسلامي رأى جماعة غير مسلمين، دعاهم للإسلام، وهو جاهل، طيب كيف ندخل في الإسلام؟ قال, قولوا: أشهدوا أن لا إله إلا الله، شهدوا، طيب ماذا بعد ذلك؟ قال لهم: الطهور في كل الدين، ما اختار إلا الطهور، قالوا: لا نريد، قال لهم: أنتم مرتدون، وفيها قطع رقابكم، قالوا له: والله شيء جميل، بالدخول قص من تحت، وبالخروج قص من فوق، هذه دعوة إلى الله عز وجل؟ الطهور حق، ولكن واحد أسلم حديثا ما وجدت في الدين إلا الطهور، أنا آتي بأمثلة بناء على قول النبي الكريم صلى الله عليه وسلم: لولا أن قومك حديث عهد بهذا الدين لفعلت كذا وكذا، لكن راعى مشاعرهم، فأنت كداعية يجب أن تراعي المشاعر، يجب أن تختار أجمل الكلمات, قال تعالى:

﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾ 

( سورة فصلت الآية: 33)

انظر إلى مدى حكمة النبي في تدبير الأمور:

 

أيها الأخوة, اختلفت قريش في موضع الحجر الأسود، من يرفعه؟ ومن يحمله؟ وكل فريق أراد أن يذهب بشرف وضعه في مكانه.
نحن عندنا اختلاف طبيعي، نحن عشية العيد سمعنا صوتًا يشبه المدفع، قلنا: لقد أثبت العيد، ولكن غير متأكدين، هذا خلاف، يا ترى انفجار بالجبل لفتح طريق، أم مدفع العيد، نفتح الإذاعة، فإذا ثبت أنه العيد جاء الخبر الصادق، وحسم الموضوع، وهذا الاختلاف الطبيعي أساسه نقص المعلومات، صاحبه معذور, قال تعالى:

﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ﴾

( سورة البقرة الآية: 213 ) 

نقص المعلومات يؤدي إلى اختلاف، لكن عندنا اختلاف قذر, قال تعالى:

﴿وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ﴾

 

( سورة آل عمران الآية: 19 )

بسبب الحسد اختلفوا، اختلاف مصالح، اختلاف تنافس، اختلاف كبر، اختلاف سيطرة، اختلاف مكاسب، هذا الاختلاف القذر، عندنا اختلاف حيادي لا محمود ولا مذموم، وعندنا اختلاف محمود, قال تعالى:

﴿وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافسِ الْمُتَنَافِسُونَ﴾

( سورة المطففين الآية: 26)

إنسان يرى أن أعظم شيء تأليف الكتب، وهو جاد في هذا المضمار، إنسان يرى أن أعظم شيء تأليف القلوب، تسليك الناس إلى الله، إنسان يرى أن أعظم شيء بناء المساجد، فكل إنسان يرى عملاًَ صالحاً في مقدمة الأعمال، هذا اختلاف رحمة، هذا اختلاف محمود، اختلاف تنافس.
قريش أوشكت أن تقتتل من أجل الحجر الأسود، من يحمله؟ ومن يضعه في مكانه؟ فأشار عليهم أبو أمية حذيفة بن المغيرة أن يحكموا أول من يطلع عليهم من باب بني شيبة، رضوا بذلك، طلع عليهم محمد بن عبد الله، فلما رأوه قالوا: هذا الأمين قد رضينا بما قضى بيننا، فلما أخبروا الخبر أمر بثوب، فوضع فيه الحجر الأسود، وطلب أن يتقدم من ربع من أرباع قريش رجل أن يأخذ بزاوية من زوايا الثوب القبائل قسمت أربعة أقسام، وكل مجموعة اختارت رجلا يمسك بطرف الثوب، والنبي عليه الصلاة والسلام أمسك الحجر، ووضع بيده الشريفة في مكانه الصحيح، وحسم الخلاف كلياً، وقد قال عليه الصلاة والسلام: ليس منا من فرق، انظروا إلى حكمته، انظروا إلى تواضعه, انظروا إلى أنه قبل الأطراف كلها، فالحكمة ضالة المؤمن, قال تعالى:

﴿وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً ﴾

( سورة البقرة الآية: 269 )

الدروس والعبر التي يمكن أن نستنبطها من موضوع بناء الكعبة:


أيها الأخوة، هذا موضوع بناء الكعبة نستنبط منه أشياء كثيرة، إذا ورد شيء في النصوص، ولسنا بحاجة إليه، ولا علاقة له بعقلنا، وفيه استفزاز أحياناً، ليس من الحكمة أن تستفز مشاعر الناس، فتكون عندهم منفراًَ لا داعية إلى الله عز وجل.مثلاً: في الإعجاز العلمي أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر ببعض الحالات المرضية أن يعالج الإنسان ببول الإبل، وثمة بحث في أكثر من ثلاثين صفحة المراجع باللغة الإنكليزية حول صواب هذا التوجه، لكن الإنسان حديث عهد بالإسلام، تقول له: النبي أمر أن تستطب ببول الإبل، هذه لا بد لها من تمهيدات كثيرة جداً، فلا تكن استفزازياً، الشيء غير موجود عندنا الآن، وغير مطروق، وفيه نص صحيح، ويحتاج إلى شرح طويل إياك أن تستفز به أحداً، انطلاقاً من هذا النص.

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

اللغات المتوافرة

إخفاء الصور