وضع داكن
29-03-2024
Logo
الخطبة : 0660 - أخلاق الإسلام - العلاقة بين الأخلاق والإيمان - مقارنة في الإيثار بين الأمس واليوم.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الخطبة الأولى:
 الحمد لله نحمده، ونستعين به ونسترشده، ونعوذ به من شرور أنفسنـا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إقراراً بربوبيته وإرغامـاً لمن جحد به وكفر. وأشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله سيد الخلق والبشر، ما اتصلت عين بنظر أو سمعت أذن بخبر. اللهم صلّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وعلى ذريته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين. اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحــق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممــــن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

علاقة الأخلاق بالإيمان :

 أيها الأخوة الكرام: موضوع الخطبة اليوم علاقة الأخلاق بالإيمان، فالإيمان هو الخلق ومن زاد عليك في الخلق زاد عليك بالإيمان، كتمييز لهذا الموضوع الخطير يقول عليه الصلاة والسلام:

(( عَنْ أَبِي مُوَيْهِبَةَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ فَقَالَ يَا أَبَا مُوَيْهِبَةَ إِنِّي قَدْ أُمِرْتُ أَنْ أَسْتَغْفِرَ لِأَهْلِ الْبَقِيعِ فَانْطَلِقْ مَعِي فَانْطَلَقْتُ مَعَهُ فَلَمَّا وَقَفَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ قَالَ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ يَا أَهْلَ الْمَقَابِرِ لِيَهْنِ لَكُمْ مَا أَصْبَحْتُمْ فِيهِ مِمَّا أَصْبَحَ فِيهِ النَّاسُ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا نَجَّاكُمُ اللَّهُ مِنْهُ أَقْبَلَتِ الْفِتَنُ كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ يَتْبَعُ أَوَّلُهَا آخِرَهَا الْآخِرَةُ شَرٌّ مِنَ الْأُولَى قَالَ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيَّ فَقَالَ يَا أَبَا مُوَيْهِبَةَ إِنِّي قَدْ أُوتِيتُ مَفَاتِيحَ خَزَائِنِ الدُّنْيَا وَالْخُلْدَ فِيهَا ثُمَّ الْجَنَّةَ وَخُيِّرْتُ بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ لِقَاءِ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ وَالْجَنَّةِ قَالَ قُلْتُ بِأَبِي وَأُمِّي فَخُذْ مَفَاتِيحَ الدُّنْيَا وَالْخُلْدَ فِيهَا ثُمَّ الْجَنَّةَ قَالَ لَا وَاللَّهِ يَا أَبَا مُوَيْهِبَةَ لَقَدِ اخْتَرْتُ لِقَاءَ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ وَالْجَنَّةَ ثُمَّ اسْتَغْفَرَ لِأَهْلِ الْبَقِيعِ ثُمَّ انْصَرَفَ فَبُدِئَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي وَجَعِهِ الَّذِي قَضَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِ حِينَ أَصْبَحَ))

[أحمد والدارمي عَنْ أَبِي مُوَيْهِبَةَ]

 وفي رواية أخرى:

((بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا ))

[مسلم عن أبي هريرة]

 أثمن شيء على الإطلاق أن تعرف الحقيقة المطلقة، أن تعرف الله، لأن أساس السعادة العمل، وأساس العمل صحة العقيدة، وما من إنسان على وجه الأرض إلا ويبحث عن سلامته وسعادته بحكم فطرته، وسلامتُهُ وسعادتُهُ بطاعة ربه والتقرب منه، وأساس هذه السعادة الاستقامة والعمل الصالح، ولن تستقيم ولن تعمل صالحاً إلا إذا عرفت الله، إلا إذا عرفت ما عنده من عطاء كبير، وما ينتظر الذي يعصيه من عذاب أليم.

 

سلامة الإنسان و سعادته بطاعة الله فقط :

 لابد من معرفة الحقيقة، فإن بحثت عنها فأنت من بين البشر، وإن ألغيت طلب الحقيقة هبطت عن مستوى بني البشر، ما من جهة في الكون معها الحقيقة المطلقة إلا الله:

﴿ تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ ﴾

[سورة الجاثية: 6]

﴿ وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ﴾

[ سورة آل عمران: 73]

﴿ وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ﴾

[سورة البقرة: 120]

 ما من جهة معها الحقيقة المطلقة، معها الحق الذي لا ريب فيه، معها الحق الذي لا خلل فيه، ولا نقص فيه، ولا زيادة فيه، ولا تناقض فيه، ولا ضعف فيه إلا الله، فإن أردت الحقيقة فابحث عنها من خلال الوحي، ابحث عنها من خلال السنة التي هي وحي غير متلو.
 لو أن إنساناً وقف أمام باب عليه أقفال كثيرة، باب ضخم حديدي مثبت بجدر متينة، صلبة قاسية، وأراد أن يفتح هذا الباب، قد يستخدم المعاول ليهدم الجدار، ليخلع الباب، ليحطمه، يبذل جهداً لا حدود له، قد يصدر أصواتاً لا تُحتمل، قد يقع في مشكلات مع الآخرين لا تقاوم، قد تنشأ خصومات، قد تقترن  بالعداوات، أما لو أمسك بمفتاح لا يزيد وزنه عن عشرين غراماً وفتحه لانفتح الباب ودخل، فشتان بين من يأتي البيوت من ظهورها، وبين من يأتي البيوت من أبوابها.. إن أردت أن تصل إلى سلامتك فعليك بطاعة الله. وإن أردت أن تصل إلى سعادتك فعليك بالتقرب منه بالأعمال الصالحة، قال تعالى:

﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً ﴾

[سورة الكهف : 110]

من يطع الله ينصره الله ولا يعذبه :

 إنك إن أطعت الله ماذا ينتظرك ؟.. قال تعالى:

﴿ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾

[سورة الروم: 47]

 أنشأ الله لك حقاً عليه..

(( عن معَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِي اللَّهم عَنْهم قَالَ بَيْنَا أَنَا رَدِيفُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ إِلَّا أَخِرَةُ الرَّحْلِ فَقَالَ يَا مُعَاذُ بْنَ جَبَلٍ قُلْتُ لَبَّيْكَ رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ ثُمَّ سَارَ سَاعَةً ثُمَّ قَالَ يَا مُعَاذُ قُلْتُ لَبَّيْكَ رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ ثُمَّ سَارَ سَاعَةً ثُمَّ قَالَ يَا مُعَاذُ قُلْتُ لَبَّيْكَ رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ قَالَ هَلْ تَدْرِي مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ قُلْتُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ حَقُّ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ثُمَّ سَارَ سَاعَةً ثُمَّ قَالَ يَا مُعَاذُ ابْنَ جَبَلٍ قُلْتُ لَبَّيْكَ رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ فَقَالَ هَلْ تَدْرِي مَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ إِذَا فَعَلُوهُ قُلْتُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ أَنْ لَا يُعَذِّبَهُمْ ))

[ متفق عليه عن معَاذِ بْنِ جَبَلٍ ]

 أنشأ الله لك حقاً عليه ألا يعذبك، أنشأ الله لك حقاً عليه أن ينصرك، أنشأ الله لك حقاً عليه أن ينجيك من كل المخاطر.

﴿ ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقّاً عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾

[سورة يونس: 103]

 ومن أبرز هذه الثمار اليانعة التي يقطفها المؤمن قوله تعالى:

﴿ الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً ﴾

[سورة النساء: 141]

 أرأيتم إلى هذه الآية؟ إذا كان للكفار على المؤمنين ألف سبيل وسبيل ما معنى ذلك؟ أن هناك ضعفاً في الإيمان، أن هناك خللاً خطيراً في الإيمان، قال المفسرون: إن الله سبحانه وتعالى لا يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلاً منه إلا.. متى يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً؟ إلا أن يتواصوا بالباطل، ولا يتناهوا عن المنكر، ويتقاعسوا عن التوبة فيكون تسليط العدو من قبلهم، قال تعالى:

﴿ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ﴾

[سورة الشورى: 30]

 ويدل على هذا المعنى قول النبي عليه الصلاة والسلام في حديث ثوبان:

(( حتى يكون بعضهم يهلك بعضاً، ويسبي بعضهم بعضاً، عندئذ يسلط الله عليهم عدوهم فيستبيحهم ))

[ مسلم عن ثوبان]

أساس السعادة صحة العمل :

 أيها الأخوة الكرام: حينما يجعل بأس المسلمين بينهم، حينما تقع بينهم العداوة والبغضاء، حينما يكفر بعضهم بعضاً، حينما يأخذ بعضهم أموال بعض بغير حق، حينما يظلم بعضهم بعضاً، يجعل الله للكافرين عليهم سبيلاً، يجعل الله للكافرين عليهم ألف سبيل وسبيل.

﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾

[سورة النور: 55]

 كل البشر على الإطلاق يبحثون عن سلامتهم، وعن سعادتهم، سلامتهم في طاعة الله، وسعادتهم في التقرب منه، من خلال خدمة عبادة:

﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً ﴾

[سورة الكهف : 110]

 أساس السعادة صحة العمل، وصحة العمل لا تكون إلا بمعرفة الحقيقة المطلقة.

 

لله قوانين ثابتة فعلى كل إنسان أن يبحث عن الخلل في نفسه :

 أيها الأخوة الكرام ، لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، مركبة توقفت ماذا ينفعك؟ أن تصيح؟ ماذا ينفعك؟ أن تبكي؟ ماذا ينفعك؟ أن تتبرم؟ أن تشتكي؟ ينفعك أن تبحث عن الخلل، لأن لله قوانين، لله سنن، لله قواعد ثابتة، ابحث عن الخلل، إذا كان قوله تعالى:

﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾

[سورة النور: 55]

 إن لم تكن مستخلفاً، إن لم تكن ممكناً، إن لم تكن مطمئناً، إن لم يدافع الله عنك، إن لم ينصرك الله عز وجل، ابحث عن الخلل، إما أن تبحث عن خلل جماعي، والأحسن لك أن تبحث عن خللك الفردي. انج بنفسك أولاً، ابحث عن الخلل في بيتك، في دخلك، في إنفاقك، في تربية أولادك، في علاقاتك، في حلك وترحالك، في إقامتك وسفرك، في كسبك للمال، في إنفاقك للمال، ابحث عن الخلل، فإن وصلت الى الحقيقة وطبقت الحقيقة انتظرت وعد الله عز وجل، وإن الله سبحانه وتعالى لا يخلف الميعاد.
 أيها الأخوة الكرام: منهج الله كامل، منهج الله لا يقبل الخلل، لو أن مركبةً نقص أحد أجهزتها الرئيسة إنها واقفة لا تسير، لا تسير إلا إذا استكملت مقومات السير، وأنت أيها الإنسان لا تستطيع أن تسير إلى الله، ولا أن تتصل به، ولا أن تقبل عليه، ولا أن ترجو رحمته، إلا إذا استكملت وسائل السلامة والسعادة.

 

أركان الخلق الكريم الأمانة والصدق والعفاف :

 أيها الأخوة الكرام: النبي عليه الصلاة والسلام حينما جاء بهذه الدعوة الكريمة العظيمة ماذا قال أصحابه عنه؟ قال: " كنا قوماً أهل جاهلية نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الرحم، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، حتى بعث الله فينا رجلاً - هل قالوا رجلاً ذا مال؟.. ذا سلطان؟..- رجلاً نعرف أمانته وصدقه وعفافه ".
 أركان الخلق الكريم الأمانة والصدق والعفاف.
 أيها الأخوة الكرام: النبي عليه الصلاة والسلام حينما يذهب المسلمون بعد الحج لزيارته لماذا يقفون أمام مقامه الشريف ويبكون؟ ماذا أعطاهم؟ ما أعطاهم شيئاً، ماذا منحهم؟ ما منحهم شيئاً.. ولكن هذا النبي العظيم كان رحيماً بأمته. طبق في سلوكه ما قاله بلسانه، ما أمر الناس بشيء إلا كان أول سابق إليه، وما نهاهم عن شيء إلا كان أول تارك له، هذا النبي العظيم تعلق أصحابه الكرام به، وتعلقنا به، لا لما جاء به من منطق عظيم ووحي عظيم فحسب بل لما جاء به من خلق قويم، قال تعالى:

﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ﴾

[سورة آل عمران: 159]

 معه العصمة، ومعه الوحي، ومعه المعجزات، ومعه تأييد الله له، ومعه كل شيء، وعلى الرغم من كل هذا، قال تعالى:

﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ﴾

[سورة آل عمران: 159]

 أيها الأخوة: الإمام الجليل ابن عباس رضي الله عنهما فسر قوله تعالى:
 "وإنك لعلى خلق عظيم" قال: وإنك لعلى دين عظيم، ففي هذا التفسير جُعل الخلق هو الدين، وجُعل الدين هو الخلق، وكلاهما يعني شيئاً واحداً، إن كنت ديناً فأنت أخلاقي، وإن كنت أخلاقياً أخلاقية التعدد لله عز وجل فأنت، دين وذكرت أخلاقية التعبد لأن هناك أخلاقاً تعارف الناس عليها، الأخلاق التي يفعلها الناس لينتزعوا إعجاب الآخرين، ابتسامة عريضة، انحناء شديد عند السلام، ترحيب بالغ، استقبال حار، اعتذار لطيف، نعومة ما بعدها نعومة، فإذا تضاربت مصالحه، ماذا فعل؟ انقلب وحشاً كاسراً حرق الأخضر واليابس، بطش بطشةً شديدة، ليست هذه الأخلاق التي نبحث عنها، خلق المؤمنين، الخلق الذي جاء به الإسلام، الخلق الذي جاء به النبي العدنان.

 

الخلق الحسن هو الإيمان ومن زاد عليك في الخلق زاد عليك في الإيمان :

 أيها الأخوة الكرام: قال الله عز وجل:

﴿ خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ﴾

[سورة الأعراف: 199]

 في هذه الآية الكريمة جمعت مكارم الأخلاق، كلمة خذ تعني شيئاً ثميناً، العفو شيء ثمين، العفو يقرب القلوب، تنصهر النفوس في بوتقة واحدة من خلال العفو، خذ العفو، يجب أن تعفو، ويجب أن تعفو عمن ظلمك، ويجب أن تعطي من حرمك، ويجب أن تصل من قطعك، هذه أخلاق المؤمنين.

(( أَمَرَنِي رَبِّي بِتِسْع : خَشْيَةِ الله في السِّرِّ والعلانية، وكلمة العدل في الغضب والرضا، والقصد في الفقر والغنى، وأن أَصِلَ مَنْ قَطَعَنِي، وأعطي مَنْ حَرَمَنِي، وأعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَنِي، وأن يكون صَمْتي فِكْرا، ونُطْقِي ذِكْرا، ونظري عبرة ))

[زيادات رزين عن أبي هريرة]

 الجاهلون أعرض عنهم، لا تناقشهم، لا تحاورهم، دعهم وشأنهم:

﴿ وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً ﴾

[سورة الفرقان: 63]

 لا تهبط إلى مستواهم. قال تعالى في موضوع الزوجية:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهاً وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً ﴾

[ سورة النساء: 19]

 قال المفسرون: ليست المعاشرة بالمعروف أن تمتنع عن إيقاع الأذى بها بل أن تحتمل منها، ولو أن كل طرف احتمل الأذى من الطرف الآخر لسارت هذه المركبة إلى نهاية الشوط، ما من أسرة إلا وفيها خلاف، ولو أن كل طرف تجاوز عن أخطاء الطرف الآخر، لو أن كل طرف تسامح مع سلبيات الطرف الآخر، لسارت المركبة بسلام إلى دار السلام. في شأن الوالدين:

﴿ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾

[سورة العنكبوت: 8]

 حتى لو جاهداك على أن تشرك بالله فقل لهما قولاً ميسوراً، الخلق الحسن هو الإيمان، ومن زاد عليك في الخلق زاد عليك في الإيمان.

 

من أقام الإسلام في نفسه و بيته و عمله فقد أدى الذي عليه :

 أيها الأخوة الكرام: معنىً آخر من معاني وإنك لعلى خلق عظيم. قالت السيدة عائشة وقد سئلت عن خلق رسول الله، فقالت رضي الله عنها:

((.. كان خلقه القرآن ))

[ مسلم عن عائشة ]

 وقال عليه الصلاة والسلام:

(( أدبني ربي فأحسن تأديبي ))

[الجامع الصغير عن ابن مسعود ]

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾

[ سورة المائدة: 105]

 قبل أن تعترض على حال المسلمين في العالم، وقبل أن تقلق لمصير بعض المسلمين في أطراف الأرض، وقبل أن تنزعج لما يصيب المسلمين من ظلم وعدوان، هل أقمت الإسلام في نفسك؟ هل أقمت الإسلام في بيتك؟ هل أقمت الإسلام في عملك؟ وهذا كله بإمكانك وتحت سيطرتك، وفي دائرة ملكك، فإذا أقمت الإسلام في نفسك، ثم أقمته في بيتك، ثم أقمته في عملك، فقد أديت الذي عليك، قال تعالى:

﴿ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ ﴾

[سورة الزمر: 66]

﴿ قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ ﴾

[ سورة الأعراف: 144]

 أيها الأخوة الكرام:

((عَنْ سَعْدِ بْنِ هِشَامِ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: أَتَيْتُ عَائِشَةَ فَقُلْتُ يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ أَخْبِرِينِي بِخُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَالَتْ: كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ أَمَا تَقْرَأُ الْقُرْآنَ قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ( وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ) قُلْتُ: فَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَتَبَتَّلَ؟ قَالَتْ: لَا تَفْعَلْ أَمَا تَقْرَأُ ( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ) فَقَدْ تَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ وُلِدَ لَهُ ))

[متفق عليه عن سعد بن هشام بن عامر]

الإسلام هو الحياة :

 أيها الأخوة الكرام: القرآن الكريم والسنة المطهرة طافحة بمكارم الأخلاق، فالآية التي نقرؤها ينبغي أن نعيشها، لا ينبغي أن نفهمها فقط، لا ينبغي أن نعجب بمعناها، لا ينبغي أن نتكلم بها دون أن نطبقها، فما آمن بالقرآن من استحل محارمه. يقول عليه الصلاة والسلام:" من جاءه أخوه متنصلاً فليقبل منه محقاً كان أو مبطلاً " ولو كان مبطلاً، ما دام قد جاءك متنصلاً فهذا اعتذار ضمني، هذا اعتذار ينبغي أن تقبله، ينبغي أن تزيل من قلبك كل ما علق فيه من ألم من هذا الأخ.

((عَنِ أَنَسٍ قَالَ: خَدَمْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشْرَ سِنِينَ لَا وَاللَّهِ مَا سَبَّنِي سَبَّةً قَطُّ وَلَا قَالَ لِي أُفٍّ قَطُّ وَلَا قَالَ لِي لِشَيْءٍ فَعَلْتُهُ لِمَ فَعَلْتَهُ وَلَا لِشَيْءٍ لَمْ أَفْعَلْهُ أَلَّا فَعَلْتَهُ ))

[البخاري عن أنس ]

 هذه أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم.

(( عَنِ النَّوَّاسِ بْنِ سِمْعَانَ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْبِرِّ وَالْإِثْمِ؟ فَقَالَ: الْبِرُّ حُسْنُ الْخُلُقِ وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي صَدْرِكَ وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ ))

[مسلم عن النواس بن سمعان ]

 يا أيها الأخوة الكرام: بالأخلاق العلية، والأخلاق الرضية، والأخلاق الفاضلة، يصبح المسلمون كتلة واحدة، يصبحون كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً، يصبحون صفاً واحداً، يصبحون كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.
 كل هذه النصوص القرآنية والنبوية، كل هذه الأفكار والتعليقات والتمهيدات، إن لم تطبق، إن لم تترجم إلى سلوك يومي، إن لم تترجم إلى أخلاق يتحلى بها المؤمن، فوالله الذي لا إله إلا هو لا قيمة لا لإلقائها، ولا لاستماعها، ولا للإعجاب بها، ما قيمة الإلقاء وما قيمة الاستماع وما قيمة الإعجاب إذا كنا في واد والإسلام في وادٍ آخر؟ الإسلام هو الحياة، الإسلام ليس معلومات تأخذها من كتب صفراء وتستقر في الذهن لتلقى على الناس وتنتهي إلى كتب صفراء، الإسلام هو الحياة، الإسلام أن تكون مع أخيك مخلصاً، مع أخيك محباً، مع أخيك ناصحاً، مع أخيك متسامحاً.

 

من تخلّق بخلق الإسلام نال مقاماً عند الله عالياً جداً :

 أيها الأخوة الكرام:

(( عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَا شَيْءٌ أَثْقَلُ فِي مِيزَانِ الْمُؤْمِنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ خُلُقٍ حَسَنٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَيُبْغِضُ الْفَاحِشَ الْبَذِيءَ ))

[الترمذي عن أبي الدرداء ]

 وما قولكم أيها الأخوة هؤلاء المؤمنون الصادقون الذين تخلقوا بأخلاق الإسلام، تخلقوا بأخلاق النبي، الذين جعلوا النبي أسوةً حسنة، هؤلاء لهم مقام عند الله لا يعلمه إلا الله، يكفيهم قوله تعالى:

﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً ﴾

[ سورة مريم: 96]

 ويكفي المؤمنون في عهد أصحاب رسول الله أن الله نظر إليهم، نظر إلى محبتهم، نظر إلى تعاونهم، نظر إلى تسامحهم، نظر إلى تضحياتهم.. يا أخي خذ نصف مالي، خذ نصف بستاني، خذ نصف دكاني ـ ما هذه التضحية؟! يقول الطرف الآخر: بارك الله في مالك ولكن دلني على السوق.
 بهذه الأخلاق انتصر المسلمون، بهذه الأخلاق رضي الله عنهم، بهذه الأخلاق أحبهم الله، بهذه الأخلاق رفع الله شأنهم، وجعل كلمتهم هي العليا، بهذه الأخلاق رفرفت راياتهم في الخافقين:

﴿ الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً ﴾

[ سورة النساء: 141]

 فإذا كان بأس المسلمين بينهم، إذا كفر بعضهم بعضاً، إذا طعن بعضهم ببعض، إذا نافس بعضهم بعضاً، إذا تخاصم بعضهم مع بعض، استحقوا سخط الله جميعاً.

 

أكثر ما يدخل النّاس الجنة و النار :

 أيها الأخوة الكرام:

((عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَكْثَرِ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ الْجَنَّةَ فَقَالَ: تَقْوَى اللَّهِ وَحُسْنُ الْخُلُقِ، وَسُئِلَ عَنْ أَكْثَرِ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ النَّارَ فَقَالَ: الْفَمُ وَالْفَرْجُ))

[الترمذي عن أبي هريرة]

 شهوتا الفم والفرج هما الشهوتان اللتان تدخلان الناس النار.

((إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَيُدْرِكُ بِحُسْنِ خُلُقِهِ دَرَجَةَ الصَّائِمِ الْقَائِمِ ))

[ أبو داود عن عائشة]

 صائم في النهار، قائم في الليل، عبادة ما بعدها عبادة، عبادة شاقة، عبادة متعبة، أن تصوم النهار وأن تقوم الليل.

(( وعَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّ مِنْ أَحَبِّكُمْ إِلَيَّ وَأَقْرَبِكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَحَاسِنَكُمْ أَخْلَاقًا وَإِنَّ أَبْغَضَكُمْ إِلَيَّ وَأَبْعَدَكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الثَّرْثَارُونَ وَالْمُتَشَدِّقُونَ وَالْمُتَفَيْهِقُونَ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ عَلِمْنَا الثَّرْثَارُونَ وَالْمُتَشَدِّقُونَ فَمَا الْمُتَفَيْهِقُونَ قَالَ: الْمُتَكَبِّرُونَ ))

[ الترمذي عن جابر]

عدم الفصل بين الأخلاق و الإيمان :

 أيها الأخوة الكرام: آيات كثيرة، وأحاديث صحيحة كثيرة، تجعل الإيمان حسن الخلق، تجعل الإيمان يتطابق مع حسن الخلق، فمن زاد عليك في الخلق زاد عليك في الإيمان، لا تفصل بين الإخلاق والإيمان، لا تجعل الإيمان عبادات جوفاء، والإنسان في علاقاته اليومية ليس على خلق رضي، النبي عليه الصلاة والسلام كان على خلق عظيم، أي كان على دين عظيم، النبي عليه الصلاة والسلام كان على خلق عظيم أي أخلاقه القرآن:

﴿ وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ﴾

[ سورة فصلت: 34]

 هذه أخلاق القرآن:

﴿ خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ﴾

[سورة الأعراف: 199]

 أيها الأخوة الكرام: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا، وتخطى غيرنا إلينا فلنتخذ حذرنا، الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني، والحمد لله رب العالمين.

* * *

الخطبة الثانية :
 أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، صاحب الخلق العظيم، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

مقارنة في الإيثار بين الأمس و اليوم :

 أيها الأخوة الكرام: في بعض الكتب المدرسية، التي ألفت للمرحلة الثانوية، في كتاب النصوص المختارة بالذات، قصة مترجمة عن الأدب الغربي، هذه القصة مفادها أن باخرة سياحية كبيرة غرقت، وأن بعض ركابها نجوا بقوارب النجاة، وأن هذا القارب فيه ماء عذب قليل لا يكفي الأربعين راكباً على ظهر هذا القارب، فاتفق أن يشرب كل واحد في اليوم ملعقة صغيرة، بهذه الملعقة الصغيرة ينجو الجميع ويصلون إلى الشاطئ بأمان.
 القصة مأساوية، كان الواحد من الركاب ينتظر أن ينام صاحبه ليقتله فيشرب حصته مكانه، ملعقتا شاي من الماء العذب، هؤلاء الأربعون وصلوا إلى الشاطئ، الأربعون فقط وقد قتل بعضهم بعضاً، هذا هو الإنسان حينما يقع في شدة، أما و هم على ظهر الباخرة فابتسامة، وترحيب، وسلام حار، وانحناء ظهر، واعتذار، هذه أخلاق لا قيمة لها، فلما وقعوا في مأساة الماء القليل، والطريق الطويل، قتل بعضهم بعضاً لينجو الواحد منهم، أو ليأخذ ملعقة من الماء تعينه على أن يسد عطشه ولو على حساب أخيه.
 هذه القصة التي كانت قصةً في بعض الكتب الأدبية في المرحلة الثانوية، ذكرتني بقصة وقعت مع أصحاب رسول الله ما ذكرت الأولى إلا لتعرفوا قيمة الثانية.
 روى حذيفة العدوي قال: انطلقت يوم اليرموك، أطلب ابن عم لي في القتلى، ومعي شيء من الماء، وأنا أقول: إن كان به رمق سقيته فإذا أنا به بين القتلى، قلت له: أسقيك؟ - كلكم يعلم، والأطباء يعلمون قبل غيرهم أن الجريح يموت من شدة العطش يموت، العطش في الجريح لا يوصف- قلت له: أسقيك؟ فأشار إلي أن نعم، فسمع رجلاً يقول آه.. فأشار إليَّ ابن عمي أن انطلق واسقه ودعني، فإذا هو هشام بن العاص قلت: أسقيك؟ قال: نعم. فسمع آخر يقول: آه، فأشار هشام إليّ أن انطلق إليه فاسقه، فجئته فإذا هو قد مات، رجعت إلى هشام فإذا هو قد مات، رجعت إلى ابن عمي فإذا هو قد مات. هذه أخلاق المؤمنين، هو على وشك أن يموت عطشاً، هو بين الموت والحياة، قال له: اسق أخي لعله أشدّ حاجة مني إلى الماء، وهؤلاء الأربعون راكباً وصلوا أربعة، لأن بعضهم قتل بعضهم الآخر من أجل ملعقة ماء يشربها زيادة عن أخيه.
 أيها الأخوة المؤمنون: بين أخلاق الإيمان وأخلاق العصيان مسافة كبيرة، هذه الأخلاق التي يسمونها أخلاق مدنية، أخلاق العصر، هذه في الرخاء محببة، أما في الشدة فالإنسان مستعد أن يبني مجده على أنقاض الآخرين، أن يبني حياته على موتهم، أن يبني غناه على فقرهم، ليست هذه هي الأخلاق التي ننتظرها، ننتظر أخلاق المؤمنين:

﴿ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾

[سورة الحشر: 9]

 مهما كان جائعاً يؤثر أخاه، هذه الأخلاق نابعة من الإيمان، هذه الأخلاق نابعة من معرفة الله، نابعة من محبته لخلقه، نابعة مما وعد الله به عباده المؤمنين، لا تعبأ بأخلاق أهل الدنيا، لا تعبأ بأخلاق الشاردين، أخلاق ناعمة، لكنها لا تقدم ولا تؤخر، الأخلاق الحقيقية في الشدة.
 المركبة لا تُمتحن في الطريق الهابطة، أية مركبة تنطلق مسرعةً بل الدراجة التي لا محرك فيها تنطلق في الطريق الهابطة مسرعةً، المركبات تُمتحن في الطريق الصاعدة، في الشدائد.

 

الاقتداء بأخلاق الرسول لمن كان يرجو الله و اليوم الآخر :

 فيا أيها الأخوة الكرام: ابحث عن الأخلاق في الإسلام، ابحث عن الأخلاق التي جاء بها النبي العدنان، تخلق بخلق النبي، هذا الخلق في الشدة والرخاء، دخل بيته قال: " هل عندكم من شيء نأكله؟ قالوا: لا، قال: إني صائم"، في الطائف قال: " إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي". في فتح مكة " اذهبوا فأنتم الطلقاء" ، " لمن هذا الوادي؟ قال: هو لك، قال: أتهزأ بي؟" عند موت ابنه: " إن القلب ليحزن، وإن العين لتدمع، ولا نقول إلا ما يرضي الرب، وإنا عليك يا إبراهيم لمحزونون". امتحن النبي في الرخاء فكان مثلاً أعلى. امتحن في الشدة فكان مثلاً أعلى.
 امتحن في النصر فكان مثلاً أعلى. امتحن في القهر فكان مثلاً أعلى. امتحن في موت الولد فكان مثلاً أعلى. امتحن في الهجرة فكان مثلاً أعلى.

﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً﴾

[ سورة الأحزاب: 21]

 علامة أنك ترجو الله واليوم الآخر أن تقتدي بأخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم:

﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً﴾

[ سورة الأحزاب: 21]

الدعاء :

 اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولنا فيمن توليت، وبارك لنا فيما أعطيت، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت، فإنك تقضي بالحق ولا يُقضى عليك، إنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت، لك الحمد على ما قضيت، نستغفرك ونتوب إليك، اللهم هب لنا عملاً صالحاً يقربنا إليك. اللهم أعطنا ولا تحرمنا، أكرمنا ولا تهنا، آثرنا ولا تؤثر علينا، أرضنا وارض عنا. اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، ودنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردنا، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، مولانا رب العالمين. اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمن سواك. اللهم لا تؤمنا مكرك، ولا تهتك عنا سترك، ولا تنسنا ذكرك يا رب العالمين. اللهم صن وجوهنا باليسار، ولا تبذلها بالإقتار، فنسأل شر خلقك، ونبتلى بحمد من أعطى وذم من منع، وأنت من فوقهم ولي العطاء وبيدك وحدك خزائن الأرض والسماء. اللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا، وآمنا في أوطاننا، واجعل هذا البلد آمناً سخياً رخياً، وسائر بلاد المسلمين.
 اللهم إنا نعوذ بك من الخوف إلا منك، ومن الفقر إلا إليك، ومن الذل إلا لك، نعوذ بك من عضال الداء، ومن شماتة الأعداء، ومن السلب بعد العطاء، مولانا رب العالمين.
 اللهم بفضلك وبرحمتك أعل كلمة الحق والدين، وانصر الإسلام، وأعز المسلمين، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى، إنك على ما تشاء قدير وبالإجابة جدير.

تحميل النص

إخفاء الصور