وضع داكن
29-03-2024
Logo
الخطبة : 1185 - القوة لله - قصة جليبيب.
رابط إضافي لمشاهدة الفيديو اضغط هنا
×
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الخطبة الأولى:

الحمد لله نحمده، ونستعين به ونسترشده، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إقراراً بربوبيته، وإرغاماً لمن جحد به وكفر، وأشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله، سيد الخلق والبشر، ما اتصلت عين بنظر، أو سمعت أذن بخبر، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى صحابته الغر الميامين، أمناء دعوته، وقادة ألويته، و ارضَ عنا وعنهم يا رب العالمين، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وُحول الشهوات إلى جنّات القربات.

توزيع الحظوظ في الدنيا توزيع بلاء :

أيها الأخوة الكرام، تعلمون يقيناً أن الإنسان هو المخلوق الأول عند الله رتبة، لقوله تعالى:

﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ ﴾

[ سورة الأحزاب: 72 ]

فلما قَبِل هذا الإنسان حمل الأمانة أعطاه مقوماتها، أعطاه عقلاً، وأعطاه نفساً، أعطاه منهجاً، أعطاه شهوة، أعطاه حرية، أعطاه أشياء كثيرة، هذه الأشياء مقومات هذا الاختيار، الشيء الواقع أنه لحكمة بالغة بالغة جعل الله من عباده من هو قوي ومن هو ضعيف، ومن هو غني ومن هو فقير، ومن هو وسيم ومن هو غير وسيم، تفاوت الحظوظ له حكمة بالغة بالغة، هذا التفاوت يعني أن الإنسان ممتحن بحظوظه التي آتاه الله إياها سلباً أو إيجاباً، أعطاه المال ممتحن بالمال، حرمه المال ممتحن بحرمانه من المال، أعطاه الوسامة ممتحن بالوسامة، لم يعطه وسامة ممتحن بخلافها، أعطاه القوة ممتحن بالقوة، لم يعطه القوة ممتحن بخلافها، فهذه الدنيا دار ابتلاء لا دار استواء، ومنزل ترح لا منزل فرح، فمن عرفها لم يفرح لرخاء، ولم يحزن لشقاء، قد جعلها الله دار بلوى، وجعل الآخرة دار عقبى، فجعل بلاء الدنيا لعطاء الآخرة سبباً، وجعل عطاء الآخرة من بلوى الدنيا عوضاً، فيأخذ ليعطي، ويبتلي ليجزي، لذلك بحياتنا أناس أقوياء وأناس ضعفاء، والقوي ممتحن بالقوة، هل ضبطها؟ هل جعلها وفق منهج الله؟ هل استعان بها على عمل صالح تمتد آثاره إلى أبد الآبدين أم استغل هذه القوة بشهواته ومآربه الشخصية؟ يمتحن الإنسان بالقوة، أعطاه مالاً يمتحن بالمال، هل أنفقه على كل محتاج ومسكين أم أنفقه على ملذاته وشهواته؟ أعطاه مكانةً، أعطاه علماً، أي شيء أعطاك الله إياه أنت ممتحن به، وأي شيء زوي عنك أنت ممتحن بهذا الإذواء، لذلك:

((اللَّهُمَّ مَا رَزَقْتَنِي مِمَّا أُحِبُّ فَاجْعَلْهُ قُوَّةً لِي فِيمَا تُحِبُّ اللَّهُمَّ وَمَا زَوَيْتَ عَنِّي مِمَّا أُحِبُّ فَاجْعَلْهُ فَرَاغًا لِي فِيمَا تُحِبُّ))

[ الترمذي عن عبد الله بن يزيد الخطميّ الأنصاري]

من أراد القوة الحقيقية فعليه أن يستمدها من الله لأن هذه القوة لا تزول أبداً

أيها الأخوة الكرام، لو تحدثنا في هذا اللقاء الطيب عن موضوع القوة، الله جلّ جلاله وحده هو القوي، ولا قوي سواه، وكل قوة في الأرض في الذوات والأشياء مستمدة من قوة الله وحده، تأييداً، أو استدراجاً، أو تسخيراً لحكمة بالغةٍ بالغة، عرفها من عرفها، وجهلها من جهلها، في اللحظة التي تتوهم أنك قوي، وهذه القوة من صنعك، وقعت في شرك كبير، وأيها الضعيف حينما تتوهم أنك ضعيف، ولا تملك شيئاً، أنت قوي بالله، وأنت غني بالله، وأنت حكيم بالله، لذلك قد نستنبط من الأحداث أن الذي يتوهم أنه قوي، ومعه كل أوراق القوة، يفقدها في يوم واحد، والذي يتوهم أنه ضعيف، ولا يملك من أسباب القوة شيئاً، قد يتملكها في يوم واحد، فلذلك الله هو القوي، وكل إنسان أراد أن يكون قوياً ينبغي أن يستمد قوته من الله عز وجل، قال تعالى:

﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ ﴾

[ سورة البقرة: 165]

القوة كلمة واسعة جداً، هناك قوة بالمال، وقوة بالمكانة، و قوة بالمنصب، وقوة بالجمال، والقوة لله جميعاً، لذلك إن أردت قوة حقيقية لا تتحول عنك فابحث عن قوة لا تحتاج إلى غيرها، إنها قوة الله عز وجل، إن أردت أن تكون قوياً طوال حياتك فابحث عن قوة ليست مرتبطة بإنسان فلو أزيح هذا الإنسان فقدت كل القوة، إن أردت القوة الحقيقة فابحث عنها عند الله لأن هذه القوة لا تزول أبداً.

 

الإنسان قوي بالله و هذا أعظم ما في الدين :

لذلك إن الجبن والخور، والاستكانة والاستسلام، والانهزامية والذل، و جميع هذه المفردات في قاموس الضعف مرفوضة في حياة المؤمنين، فأنت كائن لم تخلق إلا لتكون قوياً، قوياً بالله، عزيزاً بالله، حكيماً بالله، عالماً بالله، هذا أعظم ما في الدين، أنت إنسان ضعيف لا تعلم، لا تقوى، لست حكيماً، لست قوياً، لست غنياً، لكنك إذا أقبلت على الله أنت قوي به، أنت حكيم به، أنت عليم به، أنت رحيم به، لذلك من أدعية النبي عليه الصلاة والسلام:

(( ... اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ الْجُبْنِ وَالْبُخْلِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ غَلَبَةِ الدَّيْنِ وَقَهْرِ الرِّجَالِ ))

[ أبو داود عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ]

قهر الرجال أصعب شيء: 

﴿ قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ ﴾ 

[ سورة الأنعام: 65 ]

هذه الصواعق، والآن الصواريخ:

﴿ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ ﴾

[ سورة الأنعام: 65 ]

هذه الزلازل، والألغام، دققوا في الثالثة:

﴿ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ ﴾

[ سورة الأنعام: 65 ]

هذه الحروب الأهلية، نحن بفضل الله عز وجل نجانا الله منها:

﴿ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ ﴾

[ سورة الأنعام: 65 ]

التوحيد هو تحرير الإنسان من كل عبودي إلا لربه الواحد الديان :

أيها الأخوة، الحديث عن القوة النابعة من الضعف ليس دعوة إلى الرضا بالضعف، أو السكوت عليه، بل هو دعوة لاستشعار القوة حتى في حالة الضعف، أنتم لو تابعتم هذه الأحداث ترون أن الذي يملك كل أسباب القوة فقدها في يوم، والذي لا يملكها أمسكها في يوم، معنى ذلك أن الله هو القوي، قد يعطيك القوة فتمتحن بها، وقد يأخذها منك فتمتحن بأخذها.
أيها الأخوة، ما هي أسباب القوة؟ نحن كمؤمنين أنت مسلم، موظف بسيط، عندك محل تجاري بسيط، ما هي أسباب القوة عندك؟ قال العلماء: التوحيد أحد أكبر أسباب القوة، التوحيد تحرير الإنسان من كل عبودية إلا لربه الواحد الديان، إذا كنت تابعاً لإنسان فقوتك منوطة بقوته، فإذا أزيح عن مكانه فقدت كل القوة، أما إذا كنت تابعاً للواحد الديان، فأنت قوي إلى كل الحياة، لذلك الله عز وجل خلق الإنسان فسواه، وكرمه وأعطاه، وجعل التوحيد تحريراً لعقله من كل الخرافات والأوهام، والتوحيد تحرير لضميرك من الخضوع والاستسلام، والتوحيد تحرير لحياتك من تسلط الأرباب والمتألهين، التوحيد يعين على تكوين الشخصية المتزنة التي توضحت في الحياة وجهتها، وتوحدت غايتها، وتحدد طريقها، فليس لها إلا إله واحد، أحد، فرد، صمد، لم يلد ولم يولد، هذه الذات الإلهية الكاملة، يتجه المؤمن إليه في الخلوة والجلوة، يدعوه في السراء والضراء، يرضيه في الصغيرة والكبيرة، قال تعالى:

﴿ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ﴾

[ سورة يوسف: 39]

أنت لله، من جعل الهموم هماً واحداً كفاه الله الهموم كلها، اعمل لوجه واحد يكفك الوجوه كلها.

المؤمن الموحد راسخ كالجبل لا تزحزحه الحوادث ولا تزعزعه الكوارث :

التوحيد أيها الأخوة ألا ترى مع الله أحداً، لا تقل زيداً وعبيداً، لا تقل فلاناً وعلاناً، لا تقل الجهة الفلانية، التوحيد ألا ترى مع الله أحداً، التوحيد يملأ النفس إيماناً، وأمناً، وطمأنينة، فلا تستبد بالنفس المخاوف التي تتسلط على أهل الشرك، فقد سدّ الموحد منافذ الخوف التي يفتحها الناس على أنفسهم، الخوف على الرزق، و الخوف على الأجل، و الخوف على النفس، والخوف على الأهل والأولاد، والخوف من الإنس، والخوف من الجن، والخوف من الموت، والخوف مما بعد الموت، أما المؤمن الصادق الموحد فلا يخاف إلا الله، ولا يخشى إلا الله، لهذا تراه آمناً إذا خاف الناس، مطمئناً إذا قلق الناس، هادئاً إذا اضطرب الناس، دقق في هذه الآية:

﴿ فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ ﴾

[سورة الشعراء: 213]

أن ترى نفسك بيد إنسان، أن تتوهم أنه بإمكانه أن يسعدك أو يشقيك، هذا هو الشرك، التوحيد ألا ترى مع الله أحداً، يمنح النفس قوة هائلة تمتلئ هذه النفس بالرجاء بالله تعالى، وبالثقة به، والتوكل عليه، والرضا بقضائه والصبر على بلائه، والاستغناء به عن خلقه، فالمؤمن الموحد راسخ كالجبل، لا تزحزحه الحوادث، ولا تزعزعه الكوارث.

من كان مع الله كان الله معه :

لما ولي الحجاج بن يوسف الثقفي العراق، وطغى وتجبّر، وكان الحسن البصري أحد الرجال القلائل الذين بينوا للناس الحق، والحقيقة لم تأخذه في الله لومة لائم، بين الحق والحقيقة، وصدع بكلمة الحق من دون خوف أو وجل، فعلم الحجاج بذلك فماذا فعل؟ دخل إلى مجلسه وهو يتميز من الغيظ وقال لجلاسه: تباً لكم وسحقاً، يقوم عبد من عبيد أهل البصرة ويقول فينا ما يشاء أن يقول ثم لا يجد فيكم من يردّه أو ينكر عليه، والله لأسقينّكم من دمه يا معشر الجبناء، ثم أمر بالسيف والنطع- والنطع قماش يوضع فوق السجاد لئلا يتأذى السجاد بالدم إذا قطع رأس المقطوع- ودعا بالسياف فمثل واقفاً بين يديه، ثم وجه إلى الحسن البصري بعض جنده وأمرهم أن يأتوا به، وينتهي الأمر، وما هو إلا قليل حتى حضر الحسن، فشخصت إليه الأبصار، ووجفت عليه القلوب، فلما رأى الحسن السيف والنطع والجلاد حرّك شفتيه، ثم أقبل على الحجاج وعليه جلال المؤمن، وعزة المسلم، ووقار الداعية إلى الله، فلما رآه الحجاج على حاله هذا هابه أشد الهيبة وقال له: هاهنا يا أبا سعيد.. هاهنا.. ثم ما زال يوسع له ويقول: هاهنا.. الناس لا يصدقون جيء به ليقتل، لقد طلب ليقتل والنطع جاهز، والسياف واقف، وكل شيء جاهز لقطع رأسه، ما الذي حصل؟ وكيف يستقبله الحجاج ويقول له: تعال إلى هنا يا أبا سعيد، حتى أجلسه على سريره ووضعه إلى جانبه.
ولما أخذ الحسن مجلسه التفت إليه الحجاج، وجعل يسأله عن بعض أمور الدين، والحسن يجيبه كل مسألة بجنان ثابت، وبيان ساحر، وعلم واسع، فقال له الحجاج: أنت سيّد العلماء يا أبا سعيد، ثم دعا بغالية، نوع من أنواع الطيب الغالي جداً وطيّب له بها لحيته وودّعه، إلى باب القصر، ولما خرج الحسن من عنده تبعه حاجب الحجاج وقال له: يا أبا سعيد لقد دعاك الحجاج لغير ما فعل بك، وإني رأيتك عندما أقبلت ورأيت السيف والنطع حرّكت شفتيك، فماذا قلت؟ فقال الحسن: لقد قلت: ولي نعمتي وملاذي عند كربتي، اجعل نقمته برداً وسلاماً عليّ كما جعلت النار برداً وسلاماً على إبراهيم.
التوحيد قوة، إذا كنت موحداً لا ترى مع الله أحداً، إذا أصلحت علاقتك مع الله، إذا تبت إليه، إذا اصطلحت معه، إذا أقبلت عليه، إذا كنت صادقاً، أميناً، مطيعاً، قائماً بعباداتك، متبعاً منهج رسولك، إذا كنت معه كان معك وإذا كان معك فمن عليك؟ من يستطيع أن ينال منك؟ من يستطيع أن يهينك؟ إذا كان الله معك فمن عليك؟ وإذا كان عليك فمن معك ؟ إذا كان عليك لو أنك تملك كل أسباب القوة الأحداث في شمال إفريقيا هؤلاء الثلاثة يملكون كل أسباب القوة، وفي يوم واحد فقدوها كلها، وهذه الشعوب الضعيفة لا تملك شيئاً من أسباب القوة، وتملكتها في يوم واحد، إذا كان الله معك فمن عليك؟ وإذا كان عليك فمن معك؟

بطولة الإنسان أن يفهم الأحداث التي تجري فهماً توحيدياً :

أيها الأخوة، الأحداث التي تنقل إلينا عبر وسائل الإعلام هذه تفهم فهماً دولياً وفهم عربياً، وفهم إسلامياً، وفهم وطنياً، تفهم بزوايا كثيرة، لكن البطولة أن تفهمها فهماً توحيدياً، قال تعالى:

﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ﴾

[ سورة النحل: 112]

التوحيد قوة، إذا كنت موحداً لا ترى مع الله أحداً، إذا كنت معه كان معك، وإذا كان معك لا أحد على وجه الأرض يستطيع أن يصل إليك.

العلم قوة هائلة تكسب صاحبها علواً وتمهّد الطريق أمامه للرفعة في الدنيا والآخرة :

شيء ثان: العلم قوة، بل هو قوة هائلة، فالعلم يعطيك طاقة لا تتقيد بحدود الزمان والمكان، وتكسب صاحبها علواً ومنزلة، وتمهّد الطريق أمامه للرفعة في الدنيا والآخرة، والدليل:

﴿ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ﴾

[ سورة المجادلة: 11]

دخل سليمان بن عبد الملك الحرم المكي، ومعه الوزراء، والأمراء، والحاشية، وقادة الجيش، وكان حاسِرَ الرأس، حافِيَ القدَمَيْن، ليس عليه إلا إزارُهُ ورداءه، شأنُهُ كَشَأن أيّ حاجٍّ محرم من المسلمين، ومن خلْفِهِ ولدان وهما غلامان كَطَلْعَة البدْر بهاءً، وكأكْمام الورْد نضارةً وطيباً، وما إن انتهى خليفة المسلمين وهو أعظمُ مُلوك الأرض، من الطَّواف حول البيت العتيق، حتى مالَ على رجلٍ من خاصَّتِهِ، وقال مَن عالم مكة؟ هذا خليفة المسلمين كان يحكم ثلث الأرض ومع ذلك سأل من عالم مكة، فقالوا: عطاء بن أبي رباح، قال: أروني عطاء هذا، فالتقى به، فوجده شَيْخٌاً حبَشِيّاً، أسْوَدُ البشَرَة، مُفَلْفَلُ الشَّعْر، أفْطَسُ الأنف، إذا جلسَ بدا كالغُراب الأسْوَد، كأن رأسه زبيبة، مشلولاً نصفه، لا يملك من الدنيا درهماً ولا ديناراً، فقال سليمان: أأنت عطاء بن أبي رباح الذي طوّق ذكرك الدنيا؟ قال: هكذا يقولون، قال: بماذا حصلت على هذا الشرف، اسمعوا أيها الدعاة إلى الله، اسمعوا يا طلاب العلم، قال: باستغنائي عن دنيا الناس، وحاجتهم إلى علمي، فإذا عكستها استغنى الناس عن علمك، وأنت بحاجة إلى دنياهم، سقط العلم، يجب أن تستغني عن دنياهم وأن يحتاج الناس إليك، تستغني عن دنياهم بأن يكون لك حرفة مثلهم، تأكل من كد يدك وعرق جبينك، تستغني عن دنياهم إذا عملت مثلهم، ومعظم علماء المسلمين الكبار كانت لهم حرفة يحترفونها. باستغنائي عن دنيا الناس، وحاجتهم إلى علمي، الذي انقطعت له ثلاثين عاماً، قال سليمان: لا يفتي في المناسك إلا عطاء.
وحدث بعد اللقاء الأول أن اختلف سليمان وأبناؤه في مسألة من مسائل الحج، فقال: خذوني إلى عطاء بن أبي رباح، فأخذوه إلى عطاء وهو في الحرم، والناس متحلقون حوله، فأراد سليمان أن يجتاز الصفوف، ويتقدم إليه وهو الخليفة، فقال عطاء: يا أمير المؤمنين، خذ مكانك، ولا تتقدم الناس، فإن الناس سبقوك إلى هذا المكان، فلما أتى دوره سأله المسألة فأجابه، فقال سليمان لأبنائه: يا أبنائي، عليكم بتقوى الله، والتفقه في الدين، فو الله ما ذللت في حياتي إلا لهذا العبد، لأن الله يرفع من يشاء بطاعته، وإن كان عبداً حبشيًّاً، لا مال ولا نسب، ويذل من يشاء بمعصيته، وإن كان ذا نسب وشرف.

الله يرفع من يشاء بطاعته ويذل من يشاء بمعصيته :

العبرة بالطاعة:

((سلمان منَّا أهل البيت ))

[ الحاكم والطبراني عن كثير بن عبد الله المزني عن أبيه عن جده ]

سلمان إنسان فقير:

(( نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه))

[ كنز العمال عن عمر]

سيدنا الصديق من أعلى أرومة في قريش، لما اشترى بلالاً قال له سيد بلال: والله لو دفعت به درهماً لبعتكه، فقال له الصديق: والله لو طلبت به مئة ألف درهمٍ لأعطيتكها، فلما اشتراه وضع يده تحت إبطه وقال: هذا أخي حقاً، فكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذكروا الصديق قالوا: هو سيدنا وأعتق سيدنا أي بلالاً.
لا حسب ولا نسب ولا مكانة ولا جاه:

﴿ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ﴾

[ سورة الحجرات: 13]

أية أمة تجعل المرجح بين الناس مقياساً موضوعياً ترقى إلى أعلى عليين :

بالمناسبة أية أمة في هذا العصر تجعل المرجح بين الناس مقياساً موضوعياً ترقى إلى أعلى عليين، إن جعلت المرجح بين الناس مقياساً انتمائياً تهوي إلى أسفل سافلين، كلمتان المرجح بين الناس مقياس موضوعي أو انتمائي، انتمائي تهوي موضوعي ترقى.
لذلك أيها الأخوة، قال سليمان لأحد ولديه: هذا الذي رأيْتَهُ يا بنيّ، ورأيْتَ ذُلَّنا بين يدَيْه، هو وارِث عبد الله بن عبَّاس، الصحابيّ الجليل الذي أوتِيَ فهْمًا في القرآن الكريم، وكان مَوْسوعةً في كلّ العُلوم، ثمَّ أرْدَفَ يقول: يا بنيّ! تَعَلّم العِلْم، فَبِالعِلْم يشْرُفُ الوضيع، وينْبُهُ الخامِل، ويَعْلو الأرِقَّاء إلى مراتب المُلوك، ولذلك قِيل: رُتْبةُ العِلْم أعلى الرُّتَب، تعلَّموا العِلم، فإنْ كنتُم سادةً فُقْتُم، وإن كنتم وسطًا سُدْتُم، وإن كنتم سُوقةً عِشْتُم.
أيها الأخوة الكرام، أردت من هاتين القصتين أن أبين أنك إذا كنت موحداً وكنت طالباً للعلم فأنت من الأقوياء ولو كان ترتيبك الاجتماعي من الضعفاء، أنت قوي بالله، وغني بالله، وعالم بالله، وحكيم بالله.
أيها الأخوة الكرام، حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا، وسيتخطى غيرنا إلينا، فلنتخذ حذرنا، الكيّس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني، والحمد لله رب العالمين.

* * *

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، صاحب الخلق العظيم، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

قصة جليبيب مع النبي صلى الله عليه و سلم :

أيها الأخوة، التوحيد قوة، والعلم قوة، والعبادة قوة، رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، اسمه جُليبيب، رجل فقير معدوم، عليه أسمال بالية، جائع البطن، حافي القدمين، مغمور النسب، لا جاه، ولا مال، ولا عشيرة، ليس له بيت يأوي إليه، ولا أثاث، ولا متاع، يشرب من الحياض العامة بكفيه مع الواردين، وينام في المسجد، وسادته ذراعه، وفراشه الأرض، هل هناك أقل من هذا؟ وكان في وجهه دمامة، لكنه صاحب ذكر لربه، وتلاوة لكتاب مولاه، لا يغيب عن الصف الأول في كل الصلوات، ولا في كل الغزوات، ويكثر الجلوس عند النبي صلى الله عليه وسلم، أي هو واحد في الطبقة الدنيا الدنيا الدنيا، لا يملك شيئاً، لا يملك بيتاً، ولا مأوى، ولا ثياباً، ولا طعاماً، ولا شراباً، لا وسامة، قال له النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم : يا جُليبيب ألا تتزوج؟ فقال : يا رسول الله ومن يزوجني؟ فقال رسول الله: أنا أزوجك يا جُليبيب. هنا هذه اللقطة من الصعب أن تصدق، لكن هكذا كان أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، لتعلموا من هم أصحاب النبي، فالتفت جُليبيب إلى الرسول فقال: إذاً تجدُني كاسداً يا رسول الله.. فقال الرسول الكريم: غير أنك عند الله لست بكاسد.
دخل شخص على النبي فقال له: أهلاً بمن خبرني به جبريل، قال له: أو مثلي؟! قال له: نعم يا أخي، خامل في الأرض علم في السماء، وكل واحد منكم ولو كان شاباً صغيراً بإمكانه أن يكون علماً في السماء، لأن طاعة الله بين يديه، والطريق إلى الله سالك، اطلب العلم واعمل به.
جاء في يوم من الأيام رجلٌ من الأنصار، قد توفي زوج ابنته، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، يعرضها عليه ليتزوجها، فقال له النبي: نعم، لما قال له نعم والد الفتاة اختل من الفرح، صارت ابنته زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن لا أتزوجها أنا، فسأله الأب: لمن يا رسول الله! فقال صلى الله عليه وسلم: أزوجها جُليبيباً، تصور إنساناً لا يملك شيئاً، لا يملك بيتاً لا جمالاً، فقال ذلك الرجل: يا رسول الله تزوجها لجُليبيب؟ انتظر حتى أستأمر أمها- يريد أن يخرج من الموضوع- ثم مضى إلى أمها، وقال لها: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب إليك ابنتك، قالت: نعم لرسول الله، ومن يرد النبي صلى الله عليه وسلم.. فقال لها: إنه لا يريدها لنفسه، قالت: لمن؟ قال: يريدها لجُليبيب !! قالت: لجُليبيب؟! لا لعمر الله، لا أزوج جُليبيباً، وقد منعناها فلاناً وفلاناً، فاغتم أبوها لذلك، ثم قام ليأتي النبي صلى الله عليه وسلم، فصاحت الفتاة من خدرها، وقالت لأبويها: من خطبني إليكما؟؟ قال الأب : خطبك رسول الله.. قالت : أفتردان على رسول الله أمره؟ أي هل من المعقول أن يرد أمر النبي عليه الصلاة والسلام، هكذا كان أصحاب رسول الله، ادفعاني إلى رسول الله فإنه لن يضيعني، البنت وافقت - جُليبيب لا يوجد أدنى منه في المدينة، إنسان فقير، يعيش بالطرقات، ليس له بيت - ثم ذهب إلى النبي الكريم وقال: يا رسول الله شأنك بها... فدعا النبي، صلى الله عليه وسلم جُليبيباً ثم زوجه إياها، ورفع النبي صلى الله عليه وسلم كفيه الشريفتين، وقال: اللهم صب عليهما الخير صباً، ولا تجعل عيشهما كداً، ثم لم يمض على زواجهما عدة أيام حتى خرج النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه في غزوة، وخرج معه جُليبيب، فلما انتهى القتال اجتمع الناس، وبدؤوا يتفقدون بعضهم بعضاً، فسألهم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: هل تفقدون من أحد؟ قالوا: نعم يا رسول الله نفقد فلاناً وفلاناً، ونسوا جليبيباً، ليس له مكانة إطلاقاً، فقال صلى الله عليه وسلم: ولكنني أفقد جُليبيباً.. فقوموا فالتمسوا خبره، فقاموا وبحثوا عنه في ساحة القتال، وطلبوه مع القتلى، ثم مشوا فوجدوه في مكان قريب، وقد استشهد، وقف النبي صلى الله عليه وسلم أمام جسده المقطع، ثم قال: أنت مني وأنا منك، لاحظوا أن الإسلام ألغى كل هذه الفوارق، لا يوجد أقل منه، قال: أنت مني وأنا منك، ثم تربع النبي صلى الله عليه وسلم جالساً بجانب هذا الجسد، ثم حمل هذا الجسد ووضعه على ساعديه، وأمرهم أن يحفروا له قبراً.. قال أنس: فمكثنا والله نحفر القبر وجُليبيب ليس له فراش غير ساعدي النبي صلى الله عليه وسلم، فقال أنس: فعدنا إلى المدينة وما كادت تنتهي عدة زوجة جليبيب حتى تسابق إليها كبار الصحابة.
هذا هو الامتحان، أخواننا الكرام هؤلاء الصحابة وصلوا إلى ما وصلوا إليه لأن القيم المادية كانت تحت أقدامهم.

الدعاء :

اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولنا فيمن توليت، وبارك لنا فيما أعطيت، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت، فإنك تقضي بالحق ولا يقضى عليك، وإنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت، ولك الحمد على ما قضيت، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردنا، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، اللهم لا تؤمنا مكرك، ولا تهتك عنا سترك، ولا تنسنا ذكرك، وصلِّ اللهم على سيدنا محمد النبي الأمي، وعلى آله وصحبه وسلم.

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

اللغات المتوافرة

إخفاء الصور