وضع داكن
20-04-2024
Logo
دروس جامع الأحمدي - الدرس : 054 - فلسفة البلاء.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد؛ الصادق الوعد الأمين.
 اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً، وارزقنا اتباعاً، وأرنا الباطل باطلاً، وارزقنا اجتناباً، واجعلنا ممن يستمعون القول؛ فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

ما الفرق بين مصائب الأنبياء والمؤمنين وبين مصائب الكافرين؟ :

 روى الإمام البخاري عن سيدنا سعدٍ -رضي الله عنه-, أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال:

((أشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل؛ يبتلى الرجل على حسب دينه, فإن كان في دينه صلب اشتد بلائه، وإن كان في دينه رقةٌ ابتلي على قدر دينه، فما يبرح البلاء بالعبد, حتى يتركه يمشي على الأرض, وما عليه من خطيئة))

 هذه فلسفة المصائب للمؤمن.
 مصائب الكافر شيء؛ مصائب الكافر ردعٌ أو قصم؛ إن علم الله عز وجل أنه لن يتوب ولن يؤمن قصمه، مصائب الكافر قصم:

﴿وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾

[سورة هود الآية:36]

 إن كان في علم الله عز وجل: أن هذا الإنسان لن يتوب قصمه، وإن كان فيه بقية خير: أعطاه فرصة، هذه مصائب الكفار؛ قصم وردع، أما المؤمنون مصائبهم من نوع آخر؛ دفع ورفع، أما مصائب الأنبياء؛ كشف, الأنبياء يبتلون لتظهر فضائلهم، لتظهر رحمتهم، ليظهر حلمهم، ليظهر عفوهم؛ الأنبياء والمؤمنون يدفعون إلى باب الله، أو يرتقون عند الله، والكفار يقصمون أو يردعون.

 

إليكم هذا المثال شاهد عيان على الكلام الذي سبق ذكره :

 تجد إنساناً يحلف يميناً غموساً، واليمين الغموس لا كفارة لها تخرجه من الدين, أشخاص يحلفون هذه اليمين, فيصابون بالشلل مباشرة, وهم في قاعة المحكمة, وأناس يمهلهم الله عز وجل سنوات وسنوات، الذين قصمهم لا خير فيهم، والذين ردعهم لعل فيهم بقية خير، على كل حال؛ الإنسان -الكافر- بين الردع والقصم، والمؤمن بين الدفع والرفع، آيات المؤمن:

﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾

[سورة البقرة الآية:155-157]

ما هي المراحل التي يعامل الله بها عباده لتبليغ دعوته؟ :

 أيها الأخوة، ذكرتكم كثيراً: أن هناك أربع مراحل يعامل فيها الله الإنسان؛ أرقى مرحلة، و أكمل مرحلة: أن يبلغك بالبيان على أنك إنسان لك عقل راجح، ولك إدراك عميق، ولك شعور رقيق، وتحرص على سعادتك، وعلى سلامتك، فيأتي البيان من خلال خطبة، من خلال درس، من خلال كتاب، من خلال صديق، من خلال ناصح, هذه الدعوة البيانية، الدعوة البيانية أكمل استجابة لها: أن تستجيب لله في طاعته:

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾

[سورة الأنفال الآية:24]

 يعني: في مرض يحتاج إلى أدوية يتناولها عن طريق الفم، فإن حرص المريض على أن يشفي نفسه بهذه الطريقة اللطيفة جداً كان بها، وإلا لا بد من عمل جراحي, فإن لم تجد الدعوة البيانية؛ دخل الإنسان في مرحلة مع الله جديدة: هي مرحلة التأديب التربوي -شدائد- والله جل جلاله لأنه عليم حكيم؛ يعرف المنطقة التي تؤلمك، يعرف الجهة التي ترتعد منها فصائلك, فيؤتى الإنسان من نقطة ضعفه.
 مثلاً: إنسان قوي وغني، لكن له بنت صغيرة يحبها كثيراً, تمرض, ترتفع حرارتها إلى درجة على وشك الموت، الله عز وجل طبيب, أما دواؤه ناجع، يداوي الإنسان في المكان الذي يحتاجه.
 المرحلة الثانية -التأديب التربوي- أكمل ما في هذه المرحلة: أن تتوب إلى الله، لم يتب. دخلت بمرحلة ثالثة: الإكرام الاستدراجي؛ يعطيك الدنيا، يعطيك مالها، يعطيك قوتها، يعطيك حظوظاً كثيرة فيها، أكمل استجابة في هذه المرحلة: أن تشكر الله، فإن لم تستجب لدعوته البيانية، ولم تتب لتأديبه التربوي، ولم تشكر لإكرامه الاستدراجي؛ ما بقي إلا القصم، نرجو الله سبحانه وتعالى أن نكون جميعاً في علاقتنا مع الله في المرحلة الأولى, أنت صحيح معافى؛ بيتك سليم، زوجتك، أولادك، بناتك، أصهارك، دخلك، عملك، مكانتك، كله جاهز, استجب، لا تدخل مع الله في المرحلة الثانية، ولا تدخل مع الله في المرحلة الثالثة، ولا في الرابعة، كن من أبناء المرحلة الأولى:

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾

[سورة الأنفال الآية:24]

لماذا الأنبياء وأمثالهم أشد الناس بلاء من غيرهم؟ :

((أشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل, يبتلى الرجل على حسب دينه:

 -كلما كنت أرقى؛ معناها تتحمل أكثر، معناها تصبر أكثر، معناها تفهم على الله أكثر.
 جاء في الأثر:

((إذا أحب الله عبده ابتلاه، فإن صبر اجتباه، وإن شكر اقتناه))

 إذا أحب الله عبده عجل له بالعقوبة؛ إذا أحب الله عبده جعل له واعظاً من نفسه، إذا أحب الله عبده عاتبه في منامه، إذا أحب الله عبده جعل حوائج الناس إليه، هذا الذي يطرق بابه ليلاً ونهاراً، صبحاً ومساء، في الطريق، وفي المحل، وفي البيت، الناس يقصدونه من كل فج عميق؛ لا ينبغي أن يتضجر, لأن:

((لله تعالى جل جلاله رجالاً اختصهم بمنافع العباد، يقرهم على النعم التي أعطاهم إياها ما بذلوها, فإن منعوها، سلبها منهم وحولها إلى غيرهم))

 إذا أنت عميد أسرة؛ مرة ابن أخيك، مرة ابن أخيك الثاني، مرة أخوك الأصغر، مرة ابن ابنك، هذا سألك؛ لا تضجر, الله يحبك.
 جاء في الأثر:

((إذا أحب الله عبداً, جعل حوائج الناس إليه))

أسر عريقة من دمشق يفتخر بها الإسلام وأهله :

 أنا أعرف أسراً عريقة في هذه البلدة الطيبة, ما من شاب يعرفهم إلا زوجوه، وأكرموه، وهيؤوا له عملاً، يمكن أن أعطيك مقياساً لطيفاً، ما الذي يسعدك أن تأخذ أم أن تعطي؟ إن كان الذي يسعدك أن تأخذ فأنت من أهل الدنيا، وإن كان الذي يسعدك أن تعطي فأنت من أهل الآخرة.
 صدقوا: سعادة المؤمن بالعطاء، تفوق آلاف المرات سعادته بالأخذ، يعني إذا ارتسمت بسمة على شفاه أيتام؛ لأنك مددت لهم بيد المساعدة، إنسان هيأت له عملاً جراحياً لا يملك ثمنه، إنسان أصلحت بينه وبين زوجته، يتيم ربيته، فقير أعنته، مريض أعنته على أن يشفي نفسه؛ هذه الأعمال الطيبة لا تكون إلا لمن يحبهم الله عز وجل.

طوبى لمن قدرت على يده الخير, والويل لمن قدرت على يده الشر :

 أيها الأخوة, جاء في الأثر:

((يا عبادي، الخير بيدي والشر بيدي؛ فطوبى لمن قدرت على يده الخير، والويل لمن قدرت على يده الشر))

 إما أن تكون أداة خير يكرم الله بك الناس، أو أداة شر والعياذ بالله.
 أحياناً الإنسان يقع في دورة المياه حاجة ثمينة؛ ماذا يفعل؟ يأتي بملقط بيد الله, يستخدمه الله بأقذر العمليات, يريد أن يؤدب إنساناً, يسلط عليه إنساناً شريراً قلبه كالصخر، هذا أداة بيد الله لتأديب العباد:

﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً﴾

[سورة القصص الآية:4]

 الآية تقول:

﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ﴾

[سورة القصص الآية: 5]

 لذلك جزء من دينك، جزء من إيمانك: أن تفهم على الله فلسفة المصيبة-.

كن إنساناً مقدساً ولا تكن كغيره :

 أشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل, يبتلى الرجل على حسب دينه.
 -يعني: إذا واحد اشتكى لك أنه هو طالب دكتوراه؛ والدكتور المشرف صعب جداً، وكتب ثمانمئة صفحة، فقال له: أعدهم، وأريد وثائقاً أدق، وأريد أدلة أقوى، وأريد مراجعة أكثر، وأريد إطلاعاً أكثر, وأريد اتصالات مع أشخاص أكثر، والأسلوب فيه ضعف، أعد لي الأسلوب، وحسن كذا ... بعد عمل سنتين جعله يعيد العمل كله، اشتكى لك همه، قال لك واحد جالس: أنا ما عندي ولا مشكلة، -طبعاً أمي, لا يقرأ ولا يكتب-, أنام للظهر، أستيقظ الظهر، أتناول الطعام، أعود أنام مرة ثانية، أسهر عشاء، أنا ما عندي مشكلة، نقول له: أنت خارج القوس أنت كله، أنت ليس لك علاقة بالموضوع إطلاقاً، هذا سيأخذ دكتوراه بعد جمعة، سوف يصير عالماً، فهذه المرتبة التي طمح إليها: تحتاج هذا الجهد، وهذا التعب، وهذا القلق، وهذا الحزن، وهذا الخوف، أما أنت إنسان لا قيمة لك إطلاقاً, الأبله مرتاح ما عنده مشكلة:

ذو العقل يشقى بالنعيم بعقله  وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم

 ففي هموم مقدسة؛ فالذي ليس لديه هماً مقدساً, هذا حياته قريبة للبهيمة.

 

انظر إلى منطق العصر في عهد عمر بن الخطاب وبين منطق عصرنا:

 أيها الأخوة, أساساً أحد الشعراء في عهد سيدنا عمر، هجا رجلاً, النقاد قالوا: هذا أهجى بيت قالته العرب -ما سبه أبداً-, قال له:

دع المكارم لا ترحل لبغيتها  واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي

 أنت كل, واشرب, ونم, وارتح، واعمل نزهات, واعمل ولائم، كفى، لا ينقصك شيئاً:

دع المكارم لا ترحل لبغيتها  واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي

 هذا أهجى بيت قالته العرب, وقد دخل الشاعر السجن في عهد سيدنا عمر, أما الآن: قد يكون هذا البيت شعار أي إنسان, ما ينقصك؟ ما يهمك من وضع الناس؟ ما دام عندك دخل كبير، عندك كل وسائل الراحة, على الدنيا السلام, هذا منطق هذا العصر.
 يعني هكذا من الطرف؛ أن محكمة العدل قبل عشرين سنة، من اجتهاداتها: أن الفعل المنافي للحشمة الذي يستوجب السجن: أن ترتدي المرأة بنطالاً فقط، ويمكن كان فضفاضاً، كان عريضاً، ومع ذلك: هذا الفعل في القانون الوضعي, من اجتهادات محكمة النقد: أنه فعل مناف للحشمة يستوجب العقاب والسجن-.

 

انظر إلى حكمة الله في عباده :

 أشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل, يبتلى الرجل على حسب دينه, فإن كان في دينه صلب اشتد بلاؤه.
 -الألماس لماذا هو غالٍ؟ أنا رأيت ألماسة في استانبول ثمنها مئة وخمسين مليون دولاراً، بالمتحف المشهور توبي كابي, مئة وخمسين مليوناً، الألماس ما أصله؟ فحم، إذاً: أحضر فحمة بحجم الألماسة, ما ثمنها بسوق الفحامة؟ بياع الفحم قل له: أعطني واحدة كبيرة فحلة, أعطاك واحدة هكذا، ما ثمنها؟ قرشان، ثلاثة, أما تلك فثمنها خمسون مليوناً؛ ما الفرق بين هذه وتلك؟ هذه أصلها فحم، الألماس أصله فحم، فحم عادي لكن اشتد الضغط عليه، واشتدت حرارته، الضغط والحرارة, فإذا واحد انضغط فلا يحزن, الله عز وجل يؤدبه، يربيه، يطوره، إلى أن يصبح كالألماس، فإن كان في دينه صلابة: اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة: ابتلي على قدر دينه، يعني الله عز وجل حكيم، لو أنه ابتلى إنساناً دينه رقيق ابتلاء شديداً كفر، فربنا عز وجل -انظر إلى الإنسان النجار الماهر, وهو يشد البرغي؛ يعرف متى يقف، لو شد زيادة ينحل، فالحكمة أن تقف في الوقت المناسب-, فربنا عز وجل يشتد على عباده أحياناً، يشدد عليهم لكن هو حكيم؛ يعلم بدقة متى ينبغي أن يريح العبد؟ لذلك ورد عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:

((إن الصالحين يشدد عليهم))

[أخرجه ابن حبان في صحيحه, والحاكم في مستدركه]

 واحد مرتدٍ ثوباً أصله أزرق، من الاستعمال في الميكانيك؛ الوحل, والزفت, والزيت, صار أسوداً، لو رششته بليتر حبر: ما في مشكلة، أما الذي يرتدي ثوباً أبيضاً ناصعاً؛ لو نقطة كرأس الدبوس تظهر عليه، فالإنسان إذا ثوبه نظيف, يحاسب على أدق الهفوات، وإن كان بعيد جداً عن الله عز وجل:

﴿وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ﴾

[سورة القصص الآية:78]


 واحد محكوم بالإعدام، ظهر أن عليه مخالفة سير؛ يسامحونه فيها، ما في مشكلة، وهو في طريقه ليشنق, لا ينظر إلى مخالفاته للسير, سيشنق لأنه:

﴿وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ﴾

[سورة القصص الآية:78]


 لا يسألون؛ لأنهم استوجبوا جهنم، فهذه الذنوب التي ارتكبوها, لا يحاسبون عليها إطلاقاًًًًً!!!-.

 

ألا يستحق هذا الرب أن يشكر؟ :

((وإن كان في دينه رقةٌ, ابتلي على قدر دينه, فما يبرح البلاء بالعبد, حتى يتركه يمشي على الأرض, وما عليه من خطيئة))

 يعني: إذا واحد من أخواننا الحاضرين وأنا معكم وصلنا للقبر وقد غفر لنا, هذا مكسب عظيم، ومهما سيق لنا من شدائد, هذه لصالحنا، الإنسان يسأل الله المغفرة.

 

دعاء الختام :

 

 بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد؛ الصادق الوعد الأمين، اللهم أعطنا ولا تحرمنا، أكرمنا ولا تهنا، آثرنا ولا تؤثر علينا، أرضنا وارض عنا، وصل الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين، الفاتحة.

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور