وضع داكن
29-03-2024
Logo
رياض الصالحين - الدرس : 038 - أحاديث تتعلق بالورع وترك الشبهات1 - إعانة الرفيق – قصة الصحابي الجليل سيدنا خالد بن الوليد
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

 

أحاديث تتعلق بالورع وترك الشبهات:


أيها الإخوة المؤمنون؛ في رياض الصالحين عقد الإمام النووي رحمه الله تعالى, باباً تحت عنوان باب الورع، وفي هذا الباب أحاديث كثيرة, تبيِّن حقيقة الورع، من هذه الأحاديث:

 الحديث الأول: 

(( عَنْ النَّوَّاسِ بْنِ سِمْعَانَ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْبِرِّ وَالْإِثْمِ, فَقَالَ: الْبِرُّ حُسْنُ الْخُلُقِ، وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي صَدْرِكَ، وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ منك ))

[ أخرجه مسلم والترمذي  ]

معنى ذلك: أن أناساً كثيرين يتجهون إلى العلماء، لينتزعون منهم الفتاوى، وهم يعتقدون: أنهم إذا انتزعوا فتوى تحقق مصالحهم، أو تغطي بعض سلوكهم، إنهم بهذا قد أفلحوا ، مع أن الإنسان لا يعفيه هذا السلوك, من مساءلة الله سبحانه وتعالى له.

 الحديث الثاني: 

(( عَنْ وَابِصَةَ بْنِ مَعْبَدٍ قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ لَا أَدَعَ شَيْئًا مِنْ الْبِرِّ وَالْإِثْمِ إِلَّا سَأَلْتُهُ عَنْهُ، وَإِذَا عِنْدَهُ جَمْعٌ، فَذَهَبْتُ أَتَخَطَّى النَّاسَ, فَقَالُوا: إِلَيْكَ يَا وَابِصَةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِلَيْكَ يَا وَابِصَةُ، فَقُلْتُ: أَنَا وَابِصَةُ، دَعُونِي أَدْنُو مِنْهُ، فَإِنَّهُ مِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ, أَنْ أَدْنُوَ مِنْهُ، فَقَالَ لي: ادْنُ يَا وَابِصَةُ, ادْنُ يَا وَابِصَةُ, فَدَنَوْتُ مِنْهُ, حَتَّى مَسَّتْ رُكْبَتِي رُكْبَتَهُ, فَقَالَ: يَا وَابِصَةُ, أُخْبِرُكَ مَا جِئْتَ تَسْأَلُنِي عَنْهُ أَوْ تَسْأَلُنِي, فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ, فَأَخْبِرْنِي؟ قَالَ: جِئْتَ تَسْأَلُنِي عَنْ الْبِرِّ وَالْإِثْمِ, قُلْتُ: نَعَمْ, فَجَمَعَ أَصَابِعَهُ الثَّلَاثَ, فَجَعَلَ يَنْكُتُ بِهَا فِي صَدْرِي, وَيَقُولُ: يَا وَابِصَةُ, اسْتَفْتِ نَفْسَك,َ الْبِرُّ مَا اطْمَأَنَّ إِلَيْهِ الْقَلْبُ, وَاطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ, وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي الْقَلْبِ, وَتَرَدَّدَ فِي الصَّدْرِ, وَإِنْ أَفْتَاكَ النَّاسُ وَأَفْتَوْكَ ))

[ أخرجه أبو يعلى والإمام أحمد في مسنده ]

وكما قلت لكم من قبل: الله عزَّ وجل أعطاك ميزانًا، فقال :

﴿ وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) ﴾

[ سورة الرحمن ]

هناك: 1- ميزان عقلي. 2- ميزان نفسي. 3- ميزان شرعي.

عقلك ميزان، نفسك ميزان، الشرع ميزان.

لكن العقل قد يطغى، والفطرة قد تنطمس، ولكن ميزان الموازين: هو الشرع.

لذلك ما دام الإنسان على منهج الشرع, فهو على الطريق الصحيح.

أحبابنا اختاروا المحبة مذهباً وما خالفوا في مذهب الحب شرعاً.

فلذلك كنت أقول لكم دائماً: إن هذا الدين قد اكتمل، وقد تم، وقد رضيه الله عزَّ وجل:

﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3)﴾

[ سورة المائدة ]

إذاً: ما من تشريعٍ على وجه الأرض, يمكن أن يسد ثُغرةً في الشرع، ولا أن يضيف نقصاً، ولا أن يحقق فائدةً, غفل عنها الشرع، هذا كله مرفوض، الحق كله أن تكون على الصراط المستقيم، فلذلك ربنا عزَّ وجل يقول:

﴿ فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32)﴾

[ سورة يونس ]

ليس هناك أحوال وسط، في موضوع الاستقامة, لا يوجد حل وسط.

أنت مثلاً تقول: هذا المستودع محكم أو غير محكم، الإحكام حالة واحدة، حد واحد، أما عدم الإحكام فحالات متعددة، فهذا المستودع قد يضيع ما فيه من مخزون في شهر، وهذه حالة، أو في شهرين, هذه حالة أخرى، في سنة, هذه حالة ثالثة، في ساعة, هذه حالة، هذا كله عدم الإحكام، أما الإحكام: فحالة واحدة لا يضيع شيءٌ، فالاستقامة له حدٌ واحد، والانحراف له أنواعٌ منوعة, لا يعلمها إلا الله، من هنا جاء التوجيه القرآني:

﴿ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)﴾

[ سورة الأنعام ]

هذا معنى من معاني الورع، فهل رأيتم في حياتكم بائع حليب, يضيف الماء أمام الناس؟ لأنه يعرف بالفطرة, أن هذا العمل غير صحيح، وأنه غير مقبول، فلا يفعل هذا إلا في خلوةٍ، أما أمام المشتري, هل يستطيع أن يقول: انتظر, يا بني أعطن كأس الماء؟ مستحيل ((اسْتَفْتِ نَفْسَكَ, الْبِرُّ مَا اطْمَأَنَّ إِلَيْهِ الْقَلْبُ, وَاطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ, وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي الْقَلْبِ, وَتَرَدَّدَ فِي الصَّدْرِ, وَإِنْ أَفْتَاكَ النَّاسُ وَأَفْتَوْكَ)) العمل الذي تفتخر به، لو أن الناس تناقلوه, لا تستحي، هذا عمل طيب، فبالنهاية حينما يوضع الإنسان في قبره, سيحاسب على فطرته, التي فطره الله عليها.

لو قال له: يا رب, أنا لم أتلقَ العلم من أحد، لم أستمع إلى درس دين، ما قرأت كتاباً، ما وضعني أبي في مدرسة، يقول له الله عزَّ وجل: دعك من كل هذا، أنا فطرتك فطرةً عالية ، لو أنك انحرفت عنها لعرفت ذلك, قال تعالى: 

﴿ فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) ﴾

[ سورة الشمس ]

أنت حينما تفجر, تعلم أنك قد فجرت بدافع الفطرة، رجل يقود سيارته في ساعة متأخرة من الليل، دهس طفلاً، وما أحد أوقفه، وما سائله أحد، وما حاسبه أحد، يقول للمقرَّبين إليه: بقيت عشرين يوماً, لم أذق طعم النوم، لماذا؟ ما حاسبه أحد، لم يُكتب ضبطٌ بحقه، القضية كتبت ضد مجهول، فطرته حاسبته.

لذلك: نصحه الطبيب النفسي, أن يدفع لأهل الطفل مبلغاً كبيراً, لعله يستطيع أن ينام، إذاً: كل أنواع العذاب النفسية, أساسها الفطرة، والفطرة ميزان، حتى أؤكد لكم: أن تنتزع فتوى من عالم، تعطيه وصف معيَّن، تنتزع فتوى معينة, تغطي فيها حالة معينة، وتظن أنك قد نجوت من الله، لا، لا ((اسْتَفْتِ نَفْسَكَ, الْبِرُّ مَا اطْمَأَنَّ إِلَيْهِ الْقَلْبُ, وَاطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ, وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي الْقَلْبِ, وَتَرَدَّدَ فِي الصَّدْرِ, وَإِنْ أَفْتَاكَ النَّاسُ وَأَفْتَوْكَ)) حتى أنه قد ثبت في الحديث.

 الحديث الثالث: 

(( عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ, عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ, وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ, وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، فأَقْضِيَ نَحْوِ مَا أَسْمَعُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بحَقِّ أَخِيهِ, فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ النَّارِ ))

[ أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي ومالك ]

إنسان طليق اللسان، قوي الحجة والبيان، ذكي, يستطيع بذكائه وبراعته في الحديث، وقوة إقناعه, أن يقلب الحق باطلاً، والباطل حقاً.

((قَالَ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ, وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ, وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، فأَقْضِيَ نَحْوِ مَا أَسْمَعُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بحَقِّ أَخِيهِ, فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ النَّارِ)) لا تنجو من الله عزَّ وجل، لو فعلت فعلاً, وأقرك الناس عليه جميعاً، واستطعت بقوة إقناعك, أن تقنعهم بصواب عملك، وقد أثنى عليك الناس جميعاً، أنت لا تنجو من عذاب الله يوم القيامة، علاقتك مع الله إذاً، إذاً: الورع أن تبحث عن راحة نفسك، لذلك الإنسان أحياناً يسأل ويسأل، ويلح في السؤال, ليأخذ فتوى، لمجرد أن يسأل، لمجرد إلحاحه في السؤال، هو في قلق داخلي، لذلك: ((الْبِرُّ مَا اطْمَأَنَّ إِلَيْهِ الْقَلْبُ, وَاطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ, وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي الْقَلْبِ, وَتَرَدَّدَ فِي الصَّدْرِ, وَإِنْ أَفْتَاكَ النَّاسُ وَأَفْتَوْكَ)) .

أقول لكم مرة ثانية: لو قال الإنسان لربه يوم القيامة يا رب أنا ما تعلمت، لم يوجّهن أحد، والدي لم يضعن في مدرسة، سكنت في قريةٍ نائية, ليس عندنا خطيب مسجد، مثلاً لو جرى هذا الحديث يوم القيامة، ماذا يقول الله سبحانه وتعالى له؟ يقول له: يا عبدي أنا فطرتك فطرةً عالية، وبفطرتك التي فطرتك عليها, تعرف وحدك من دون معلم، من دون توجيه، من دون درس، ماذا ينبغي أن تفعل؟.

إذاً أول نقطة في درس الورع:

((الْبِرُّ مَا اطْمَأَنَّ إِلَيْهِ الْقَلْبُ)) مرتاح ((وَاطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ, وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي الْقَلْبِ, وَتَرَدَّدَ فِي الصَّدْرِ, وَإِنْ أَفْتَاكَ النَّاسُ وَأَفْتَوْكَ)) أوصاني أن أشتري له حاجات من السوق، لي أصدقاء أعطوني سعراً خاصاً، أيحق لي أن أحاسبه بسعر السوق، وآخذ الحسم لي؟ هذا السؤال يتكرر كثيراً، لأن الذي يفعل هذا لا يطمئن، أنت مؤتمن، هذا الذي أرسلك لشراء الحاجات من السوق, لم يظن أنك ستربح عليه، اعتقد أنها خدمة، فإذا كانت خدمة, فينبغي أن تكون خدمة من دون مقابل، وإن كانت مأجورة قل له: أنا لا أقوم بهذا العمل إلا بأجر، فلي حسم خاص، يستحي أن يقول له ذلك، إذاً: الاتفاق اتفاق خدمة، وليس اتفاق تجارة، ويخاف أن يأخذ الفرق، يخاف من الله، هذا الشيء حاك في صدره، يسأل، يقدم.

أعطى زوجته قطعة من الذهب، وفي نيَّته أنه إذا اشترى بيتاً, يأخذها منها, كي يستعين بها على إتمام ثمن البيت، طلَّق هذه المرأة، وهذه القطعة الذهبية لها، دعاه القاضي لحلف اليمين: أأنت أعطيتها هذه القطعة الذهبية عطاءً، هبةً، هديةً، أم أعرتها إعارةً؟ ما قال لها: أعرتكِ، فوقع في إشكال، إذاً: لا بد أن يؤثر السلامة، ويقدمها لزوجته.

أنا أقول لكم: حينما أرى إنسانًا يسأل, ويسأل، ويلح، ويطلب الفتوى, معنى ذلك: أنه في حالة غليان داخلي، أو في قلق، أو في اضطراب، ليس مرتاح.

إذاً: ((الْبِرُّ مَا اطْمَأَنَّ إِلَيْهِ الْقَلْبُ, وَاطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ, وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي الْقَلْبِ, وَتَرَدَّدَ فِي الصَّدْرِ, وَإِنْ أَفْتَاكَ النَّاسُ وَأَفْتَوْكَ)) وكل شيء تخاف أن يظهر، كل شيء تفعله بالسر, لا تحب أن يشيع عنك، هذا ليس صحيحاً، اطمئن.

أحياناً مثلاً يكتب على الحواشي: هذا القماش مصنوع في دولة شهيرة, بصناعة هذا القماش، أحياناً تأتي الحواشي من ورق حريري، تكوى به حاشية القماش، لو دخل عليك إنسان، وأنت تفعل هذا، قماش من مصدر آخر، وأنت أعطيته صفة مصدر آخر، مصدر جيد جداً, لتأخذ فارقاً في الثمن، هل تفعل هذا أمام الناس؟ لا تستطيع، هذا هو المقياس الدقيق:

﴿ وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9)﴾

[ سورة الرحمن ]

 الحديث الرابع: 

في باب الورع حديثٌ آخر: يقول عليه الصلاة والسلام.

أنا أقول لكم حديث من دون دقة في النقل، لأنني لم أعثر على الباب.

(( عَنْ أَبِي الْحَوْرَاءِ السَّعْدِيِّ قَالَ: قُلْتُ لِلْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ: مَا حَفِظْتَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: حَفِظْتُ مِنْه: دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ ))

[ أخرجه الترمذي والنسائي ]

هذا هو الورع، يعني قضية فيها إشكال، فيها خلاف بين العلماء، دعها كلها, واخرج من هذا الخلاف، فأحياناً في موضوع الزكاة، في موضوع زكاة الحلي، في موضوع زكاة الزروع، العلماء قالوا: 

إنه فقط على الزبيب, والقمح, والشعير, والتمر.

هذا عنده مزرعة كرز، عنده مزرعة تفاح مثلاً, فيقول: يا أخي لا يوجد عليها زكاة هذه، لأن الفقهاء ما قالوا ذلك، الإمام الشافعي قال كذا، الحنفي قال كذا، خذ الأحوط، الورع يأخذ الأحوَط، وكلما بالغت في أخذ الرُخَص من المذاهب، فهذا من علامة رقَّة الدين، لأن النبي قال:

لا زكاة إلا في القمح, والشعير, والزبيب, والتمر

مشروع عسل، مشروع تفاح، مشروع أشجار مثمرة، مشروع ألبان، مشروع أجبان، مشروع دواجن، مشروع أبقار, يكلف مئات الألوف، مئات الملايين، وله دخل وفير، فالشرع هكذا تظنه, إذا لم يكن عندك زبيب, أو قمح, أو تمر, ليس عليك زكاة أبداً.

يا ترى النبي عليه الصلاة والسلام قال: الزكاة في عينها أم في علتها؟.

في علتها، لا في عينها.

يعني شيء محصول غذائي وفير له دخل كبير، لا بد من أن تؤدى زكاته.

فأول شيء: إذا الشيء حاك في صدرك، وكرهت أن يطلع الناس عليه, دعه، الشيء الذي تطمئن له خذه، أكثر هذا في الأمور المالية، في الحسابات, يا ترى هذا السفر إلى أوروبا هل أسجله على مصروف الشركة؟ فأنت الهدف الحقيقي من السفر, قد يكون الاطلاع، قد يكون الاستجمام، قد يكون لاستخدام عروض كثيرة جداً، وأنت اشتريت صفقة واحدة، أيجوز أن تحمل كل هذه المصاريف على هذه السفر؟ الأحوط أن تخرج من الخلاف إلى موطن عدم الخلاف، هذا معنى آخر من معاني الورع.

أيها الإخوة؛ فلو لاحظتم، أو لو سألتموني: ما حقيقة الفساد في الأرض؟.

مرة فكرت في هذا الموضوع، ما وجدت الفساد في الأرض, يزيد على حريةٍ في كسب الأموال، من دون قيدٍ أو شرط، من دون ورع، وعن حريةٍ, في اقتناص الملذات، فالفساد أساسه المال والنساء، وهذا أساس الفساد، ولو ذهبت إلى مجتمعات الغرب، ورأيت الناس وهم غارقون إلى قمة رؤوسهم في الفساد، ما زاد فسادهم عن كسب المال الحرام، وعن ممارسة الشهوات التي حرمها الله عزَّ وجل.

لذلك أمور النساء والمال, جاءت في السنة النبوية بعنايةٍ فائقة، الإنسان يؤخذ إما من شهوته، وإما من حرفته، إما من شهوته للملذات التي حرمها الله عزَّ وجل، وإما من حرصه على المال، لذلك أحكام كسب المال، أحكام إنفاق المال....

فهناك أشياء دقيقة جداً, أفاض فيها الشارع الحكيم قضايا النساء أيضاً؛ أمر بغض البصر، وأمر بالبعد عن مظان الزنا.

الآن: أكبر شخصية إن لم يكن مؤمناً، أو محصناً بالدين، عنده نقطتا ضعفٍ خطيرتان هما: المال والنساء، خصوم الإنسان، الإنسان الناجح في الحياة, الذي بلغ مرتبةً عالية، من أين يؤتى؟ من المال والنساء، فإن هاتين النقطتين ضعف في حقه، أما المؤمن فمحصنٌ من هاتين النقطتين.

 

 ورع سيدنا الصديق :


  شيءٌ آخر في موضوع الورع: أن سيدنا الصديق رضي الله عنه, كان له غلام، وكان هذا الغلام, يأتيه ببعض الخراج، يبدو أنه في أحد المرات سقاه لبناً، وبعد أن شرب اللبن هذا, أخبره الغلام بأن في هذا اللبن شبهةً.

تروي الكتب الصحيحة: أن هذا الصحابي الجليل, سيدنا الصديق رضي الله عنه وأرضاه, وضع يده في حلقه, فقاء اللبن.

قد يقول أحدكم هل هذا حكمٌ شرعي؟. 

أقول لكم: لا. 

فإذا لم يعرف الإنسان، دُعي إلى طعام، وإذا بصاحب الطعام دخله مشبوه، لكن الموضوع إذا كان دخله كله حراماً, في حكم، وإذا كان ثمة تداخل, فهناك حكم آخر، قد يكون للإنسان دخل مشروع، ومع هذا الدخل المشروع, دخلٌ آخر غير مشروع، فأنت ليس عندك وسيلة فعالة للتفريق.

فمثلاً:

هذه التفاحة, يا ترى من دخله المشروع أم من دخله غير المشروع؟. 

في مثل هذه الحالات, الفقهاء تسامحوا في تداخل المال، أما إذا كان المال حرامًا صرفًا، وأنت قد علمت ذلك، فلا ينبغي أن تأكله، ولا أن تستخدمه، ولا أن تعامل هذا الإنسان.

على كلٍ؛ سيدنا الصديق من باب الورع, أخذ بالأحوط, وقاء اللبن الذي شربه.

وكلكم يعلم الحديث الشريف الذي يقول فيه النبي عليه الصلاة والسلام:

(( ركعتان من ورع خيرٌ من ألف ركعة من مخلِّط ))

[ ورد بالأثر ]

لأن الورع يجعل الطريق إلى الله سالكاً، وعدم الورع يجعل عقبات، كل مخالفة, وكل تقصير, صارت حجابًا.

الحقيقة في نقطة مهمة جداً أن العمل الصالح له وظيفتان:

 الوظيفة الأولى: أنه يعينك على الإقبال على الله عزَّ وجل.

الوظيفة الثانية: أن الله عزَّ وجل يثيبك عليه في الدنيا، فإثابة الله للذي يعمل صالحاً في الدنيا، هذه مضمونة، ((ما أحسن عبدٌ من مسلمٍ أو كافر, إلا وقع أجره على الله في الدنيا أو في الآخرة)) .

الحديث:

(( عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ما أحسن محسن من مسلم ، ولا كافر إلا أثابه الله، قال : فقلنا: يا رسول الله، ما إثابة الله الكافر؟ قال: إن كان قد وصل رحما، أو تصدق بصدقة أو عمل حسنة أثابه الله المال والولد والصحة وأشباه ذلك، قال: فقلنا: ما إثابته في الآخرة؟ فقال: عذابا دون العذاب، قال: وقرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ ))

[ أخرجه الحاكم في المستدرك على الصحيحين ]

لكن أن تستخدم العمل الصالح, لترقى به إلى الله، إذا كان العمل تارةً صالحاً, وتارةً سيئاً، هذا مستحيل، لأنه عدم الانضباط, وعدم الاستقامة, هذا يسبب حجبًا بين العبد والله عز وجل، لذلك: ((ركعتان من ورع خيرٌ من ألف ركعة من مخلِّط)) و((من لم يكن له ورعٌ يصده عن معصية الله إذا خلا, لم يعبأ الله بشيءٍ من عمله)) .

 

مراتب الورع:


وفي درسٍ سابق, تحدثنا عن مراتب الورع: 

1- عندنا ورع الصالحين.

2- وعندنا ورع العدول.

3- وعندنا ورع الأتقياء.

4- وعندنا ورع الصدِّيقين.

كل ما حرمته الفتوى فتركه ورع.

ورع العدول: ما معنى إنسان عدل؟ يعني أنه مستقيم، فإذا حرم الفقهاء هذا الشيء, فهو حرام، وتركه من باب الورع العدول.

ورع الصالحين: الأسباب التي تؤدِّي إلى ترك هذا الحرام، من تركها, كان ورعه ورع الصالحين، ترك الأسباب المؤدية، الطعام مباح تناوله، ولكن إذا كان تناول هذا الطعام, سيؤدي إلى كسل على الطاعة، فترك هذا الطعام الزائد: من باب ورع الصالحين.

أما ورع الأتقياء: ترك الأسباب الأبعد التي تؤدي إلى الوقوع في بعض المحرَّمات. 

أما ورع الصديقين: فترك ما سوى الله عزَّ وجل، فكلما ارتقى مستوى الورع, ارتقى مقامك عند الله عزَّ وجل.

 

إعانة الرفيق:


وننتقل إلى بابٍ آخر هو: باب إعانة الرفيق, كما جاء في عنوان هذا الفصل, وقد صُدِّرَ هذا الباب بقول النبي عليه الصلاة والسلام:

(( واللهُ في عَونِ العبدِ ما كانَ العبدُ في عَونِ أَخيهِ ))

[ أخرجه مسلم والترمذي عن أبو هريرة رضي الله عنه ]

يعني هذه ((مَا كَانَ)) بمعنى ما دام، ما دمت أنت في خدمة الخلق, فالله سبحانه وتعالى ييسر لك أمورك, قال تعالى:

﴿ فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10)﴾

[ سورة الليل ]

أحياناً الإنسان يفرح إذا كانت الأمور ميسَّرة؛ في عمله، في بيته، في أعماله، إذا جاءت الأمور تباعاً، وأحياناً تنشأ العقبات، فتسبب للإنسان إحباطًا، هذا الإحباط مزعج جداً، يا ترى التيسير والتعسير له قانون؟ الجواب: نعم، القانون في قوله تعالى: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى) أعطى ماذا؟ القرآن فيه إيجاز، وربما كان إعجازه في إيجازه، أعطى كل شيء، أعطى من وقته، أعطى من ماله، أعطى من علمه، أعطى من خبرته، أعطى من مشاعره، أعطى من رحمته، متى تعطي؟ إذا عرفت الله عزَّ وجل.

الآن: الناس لا يمكن أن يقدموا شيئاً من دون ثمن، وثمن باهظ، وتشعر أن هذا الثمن ليس ثمناً، هكذا الإنسان البعيد عن الله عزَّ وجل، المؤمن بالعكس أساس حياته العطاء، يجلس ساعات طويلة مع إنسان بلا مقابل، ينصح، يأمر بالمعروف، ينهى عن المنكر، يعلم الناس، يقدِّم لهم خدمات، لأنه يبتغي بهذا وجه الله عزَّ وجل, قال تعالى: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى) .

(أَعْطَى) : يا من جئت الحياة, فأعطيت ولم تأخذ، الأنبياء أعطوا كل شيء، وغير الأنبياء أخذوا كل شيء، فإذا كانت أساس حياتك العطاء, فأنت مؤمن ورب الكعبة، وإذا كانت أساس الحياة الأخذ, فأنت تعرف ما إذا كنت من أهل الدنيا أم من أهل الآخرة، بماذا تفرح: بالعطاء أم بالأخذ؟ أهل الدنيا يفرحون بالعطاء، أهل الدنيا يفرحون بالأخذ.

أحياناً الإنسان أساس حياته، يسمونه باللغة الدارجة: استراتيجية الأخذ، هذه ضبطت معه، هذه انتهز الفرصة، هذه بليلة ما فيها ضوء قمر التوى بالبيت، هذا يقول لك: يعرف من أين تؤكل الكتف, تجد عنده حاسة سادسة, هذا عمل له عقد فكتفه، هذا أساس حياته الأخذ، المؤمن بالعكس لا يرتاح، لا يقر له قرار, إلا إذا أعطى من كل شيء, أعطاه إياه الله، فكلام عزَّ وجل إعجازه في الإيجاز, قال تعالى: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى) لماذا أعطى؟ لأنه يبتغي بهذا العطاء وجه الله عزَّ وجل، يبتغي أن يرضى الله عنه, قال تعالى: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6)) صدق بالحسنى، يعني هذا القرآن كله حسنى, قال تعالى: (يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ) إذا اتبع الإنسان ما في كتاب الله, يهديه الله سبل السلام، إذاً: (أَعْطَى وَاتَّقَى) أن يعصي الله عزَّ وجل، أحياناً الأشخاص يبني حياته على العطاء، لكن مع العطاء في تساهل في الشهوات، يعمل أعمال طيبة، وله أعمال الناس يثنون عليها، ولكن هو غير منضبط شرعاً، لا يستطيع أن يغض بصره، أخي عمَّر كذا، وفعل كذا، وقدم الخدمات الفلانية، وعضو في كذا، وعضو في كذا، والله شيء جميل، أعمال كالجبال، لكن لما يقدم الإنسان أعمالا كالجبال، وليس عنده إمكانية يضبط بها شهواته ابتغاء مرضاة الله عزَّ وجل، هنا في مشكلة، كأن هذه الشهوة التي أصر عليها أغلى عنده من الله عزَّ وجل.

فلذلك: الله عزَّ وجل يتأبى عليه، دفعت ألف, هذه عشرة آلاف، مليون, هذه عشرة ملايين، ضيعت وقتك الثمين في خدمة الخلق، أنا سأوفر لك وقتك، سأمتعك بصحةٍ طيبة، أعطيك مقابل ما أعطيت كل شيء، أما أن أتجلى على قلبك، وأما أن أذيقك طعم القُرب، وأنت تؤثر علي شيئاً آخر من شهوات الدنيا، هذا مستحيل, أنت إما أن تطلب ما عند الله عزَّ وجل، وإما أن تطلب القرب من الله، هذا القرب من الله أثمن مطلب, وأعلى شيء، ومن ذاق عرف.

(( عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا تُوَاصِلُوا, قَالُوا: فَإِنَّكَ تُوَاصِلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ, قَالَ: إِنِّي لَسْتُ كَأَحَدِكُمْ, إِنَّ رَبِّي يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِي ))

[ أخرجه البخاري ومسلم والترمذي ]

سأعيد الفكرة مرة ثانية: ممكن أن تعطي, تعطي من وقتك، تعطي من مالك، تعطي من جاهك، تعطي من إمكانياتك، تطعم الناس، إلا أنك إذا كنت مصراً على شهوة، وتقول: هذه والله صعبة، لا تدقق كثير، الله عزَّ وجل غفور رحيم، الله لن يعاملنا على عملنا، فهذا كلام الناس.

يعني جلسنا, وشاهدنا، أكلناها؟ ما أكلناها، قاعدة: الله يستر عليها، مثلاً، يريد أن يقعد هذه القعدة, ويرغب فيها، وله أعمال طيبة جداً، يخدم الناس، ويعطي، ويطعم المساكين، هذا كله محفوظ، يعطيك أضعاف مضاعفة, معه مئة ضعف معهم, قال تعالى:

﴿وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً﴾

﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً (77)﴾

[ سورة النساء ]

أما أن الله عزَّ وجل يتجلى على قلبك، يقربك منه، يخصك بالرحمة, هذه ما دمت تؤثر عليه شيئاًُ آخر, فهذا مستحيل.

فأنت أحياناً وازن، ماذا تريد؟ هل تريد ما عند الله أم تريد ذات الله عزَّ وجل؟ ما عنده يعطيه للمؤمن, ويعطيه لغير المؤمن.

إن الله يعطي الصحة, والذكاء, والمال, والجمال, للكثيرين من خلقه، ولكنه يعطي السكينة بقدرٍ لأصفيائه المؤمنين.

حضرنا دروسًا، ونحن محسوبون عند الناس على أننا مؤمنون، ومعظم الأشياء الكبيرة تركناها، فهل من المعقول من أجل أشياء صغيرة نقطع الصلة بالله عزَّ وجل؟ ماذا قال النبي في حجة الوداع؟ قال عليه الصلاة والسلام:

(( إن الشيطان يئس أن يعبد في أرضكم ))

يعني بعد الإسلام: أن تنشأ عبادة أصنام, هذا مستحيل، هذا انتهى أمره، هذه بلاد التوحيد.

(( ولكن الشيطان رضي فيما سوى ذلك, مما تحقرون من أعمالكم ))

فهل من المعقول سيارة ثمنها ستة ملايين، أحدث موديل، تقف من أجل قشة بداخل الكاربيراتير؟ معقول هذه, معطلة ولا تسير؟ إذا ليس فيها محرك، هذه معقولة، لكن لسببٍ تافه جداً, توقفت حركتها.

فقد تجد أحد الناس صائمًا، حاجًّا، مزكيًّا، ما بقي شيء، فغض البصر، هذا الاختلاط غير صحيح، هذه الشبهة في قبض المال لا تفعلها، هذه الشبهة بالإنفاق لا تفعلها، هذه الزيارات غير المنضبطة لا تفعلها، هذه النزهة بهذا المقهى لا تفعلها، فماذا رضي الشيطان؟ ما تحقرون من أعمالكم، هذه الأشياء التي أفعلها ما فيها شيء، الله لن يدقق علينا، هذه عقبة، ما دمت تؤثر هذا على مرضاة الله عزَّ وجل، فالله عزَّ وجل يتأبى، الله عزَّ وجل عزيز.

يقول أحدهم: يا رب راعنا، هذه عند الله غير واردة إطلاقاً.

يا رسول الله مثِّل بهم، هؤلاء ائتمروا على قتلك، وأخرجوا أصحابك، وعذَّبوهم، وكانوا زعماء الكفر، مشركين، كفار، فجار، مثل بهم، قال عليه الصلاة والسلام:

(( لَا أُمَثِّلُ بِهِ فَيُمَثِّلُ اللَّهُ بِي ، وَإِنْ كُنْتُ نَبِيًّا ))

[ حديث ضعيف رواه الطبري في تاريخه وابن إسحاق في السيرة ]

كلما عرفت الله أكثر تنضبط أكثر، فهناك أشياء دقيقة بالنفس، النفس دقيقة، إذا نظرة في غير محلها, والعوام يسمونها: غبشة، صار في حالة سيئة، حالة قطيعة قصيرة، فالاستقامة التامة شيء ثمين جداً، بل هي التي ترد الإنسان إلى كل خير، هذا: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى) أعطى واتقى أن يعصي الله، وليس أعطى ويقع في تساهلات، أعطى مع تجاوزات، أعطى ولا تدقق، أعطى والله غفور رحيم، أعطى ونحن عبيد إحسان، ولسنا عبيد امتحان، هذه من الكلمات التي ليس لها معنى، تعطي الإنسان فرصة أن يقصر مع الله عزَّ وجل، وعندما يقصر انقطع عن الله عزَّ وجل, قال تعالى: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى) أن يعصي الله عزَّ وجل, قال تعالى: (وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى) صدق بهذا الكتاب، بهذا المنهج، بهذا الدين، بهذه السنة, قال تعالى: (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى) تأتي الأمور كما تشتهي، هذا هو التوفيق، الآية الكريمة:

﴿ قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88)﴾

[ سورة هود ]

لا يتحقق شيءٌ على وجه الأرض, إلا إذا أمر الله عزَّ وجل.

أحياناً يقول بعض التجار: التجارة ليست بالذكاء، ولكنها بالتوفيق، هناك أشخاص لهم عقول راجحة، ومع ذلك لا يحققون أرباحًا، لأنه يبدو أنه ليس هناك توفيق، وأشخاص يوفّقهم الله عزَّ وجل، فالتوفيق سره, قال تعالى: (أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6)) إذاً النتيجة : (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10) وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى (11))

فالتيسير والتعسير أساسه: (أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6))

والتعسير: (بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9)) بخل بما عنده، حتى خبراته, تجده لا يعطيها لأحد، فإذا أراد أن يفك المحرك, يقول لصانعه: ابق في الخارج يا بني، لماذا؟ حتى لا يتعلم، إذا تعلم, يفتح محلا وينافسه، عقلُه ضيق جداً، يرى أنه هو يرزق نفسه، بخل بخبرته، بخل بالمعلومات، بخل بالتوجيهات، بخل بالمال، بخل بالوقت.

الآن: خرج المريض، ورجع مرة ثانية ليسأل، فادفعهم، سؤال فقط، أول جلسة انتهت، هذه جلسة ثانية، هذا بخل, قال تعالى: (أَعْطَى وَاتَّقَى (5)) ، (بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8)) استغنى عن طاعة الله، ما عنده اهتمام للطاعة, قال تعالى: (وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9)) رأى أن هذا القرآن الكريم, لا يصلح لهذا الزمن, هذا عصر علم، عصر تشريع وضعي، عصر أشياء تحتاج إلى دراسة جديدة، فهذا المعنى يجعل أموره معسرة، هذا قانون التيسير والتعسير، ((وَاللهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا دَامَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ)) ، ((إِذَا أَرَدْتُمْ رَحْمَتِي فَارْحَمُوا خَلْقِي)) .

(( الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ اللهُ, ارحموا أهل الأرض, يرحمكم أهل السماء ))

[ أخرجه الحاكم في مستدركه عن عبد الله بن عمرو بن العاص ]

 

قصة الصحابي الجليل سيدنا خالد بن الوليد.


والآن إلى موضوعٍ آخر عن سيدنا خالدٍ بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه.

سيدنا خالد قصته عجيبة، هذا الاسم الكبير الكبيرُ الكبير، القائد الذي خاض مئة معركةٍ أو زهاءها، هكذا كتب على نصبٍ تذكاري, أقيم إلى جانب قبره في حمص:

لقد خضت مائة معركةٍ أو زهاءها، وما بجسدي موطن شبرٍ, إلا وفيه ضربة بسيفٍ, أو طعنة برمحٍ، وها أنذا أموت على فراشي, فلا نامت أعين الجبناء

يعني الحرب لا تميت، لا يميت إلا أن ينتهي الأجل، هذه أول فائدة.

الفائدة الثانية: هذا الاسم الكبير، فكلمة سيدنا خالد, أكبر كلمة في التاريخ العسكري الإسلامي، كم عاش في الإسلام؟ سبعة أعوام، كل هذه البطولات، كل هذه المعارك، كل هذه الإنجازات في سبعة أعوام، لذلك العمر قد يطول ويهزل، وقد يقصر ويغتني، لا تبحث عن العيش إلى الستين أو الأربعين، الإمام الشافعي عاش أقل من خمسين سنة، الإمام النووي، هذا الإمام الذي له بطولات لا يعلمها إلا الله، له مؤلَّفات، وله مواقف بطولية, تكتب بماء الذهب، مات بالأربعينات، يعني الأعمار لا قيمة لها عند الله, ولكن القيمة إلى المضمون.

مثلاً: افتح المحل ثلاثة أيام بالشهر, وبع كل يوم بمائة ألف، أحسن من أن تفتحه شهرًا, وتبيع كل يوم بمئة ليرة، فالعمر يقاس لا بامتداده الزمني، بل بغناه بالعمل الصالح، سبع سنوات سيدنا خالد.

مَن هو هذا الفاتك الذي فتك بالمسلمين يوم أحد؟ بأحد هو الذي سبب هذا الوضع الحرج للمسلمين، بعد أن لاح لهم النصر، وبعد أن أصبح النصر قاب قوسين، التف من ورائهم، وجاء من خلف ظهورهم، وانقض عليهم، فوقعوا في حرجٍ شديد.

معركة أحد, غير بدر, وغير الخندق، بأحد صارت مشكلة، فالرماة نزلوا من مواقعهم ، وطمعوا بالغنائم، أدرك ذلك, فجاء من خلف ظهورهم, وانقض عليهم، مَن هو الذي فتك بالمسلمين يوم أحد، والذي فتك بأعداء المسلمين بقية الأيام؟ سيدنا خالد.

 

إسلامه.


سيدنا خالد قال:

لقد خلا يوماً بنفسه.

هذه النقطة مهمة جداً, هذا الذي نفتقده نحن، حياته مستمرة ومستهلكة مثل الآلة، وصل إلى البيت، أكل ونام، عنده بعد الظهر, كم مشكلة ليحلها؟ سهر, أكل, ونام، استيقظ في اليوم الثاني أكل, وذهب إلى عمله، حركة دائمة بلا معنى، طعام وشراب، وعمل واستجمام، إلى أن يأتي مَلك الموت.

فهذا الإنسان له أن يخلو بنفسه، من أنا؟ ما هويتي؟ أين كنت؟ وإلى أين المصير؟ ما جدوى هذه الدنيا؟ ولماذا أنا فيها؟.

سيدنا خالد خلا بنفسه يوماً، وأدار خواطره الرشيدة على الدين الجديد، الذي تزداد راياته كل يومٍ تألُّقاً وارتفاعاً، وتمنَّى على الله علاَّم الغيوب, أن يمد إليه من الهدى بسبب.

 إذا جلس أحدنا بينه وبين نفسه قال: يا رب اهدن واهد بي، يا رب في هذا الموضوع أرن فيه الخير، يا رب استعملن في الصالحات، يا رب دلن عليك، يا رب هب لي عملاً صالحاً يرضيك، يا رب وفقن لما تحب وترضى.

وقع في مشكلة، أقدم على مشروع, فليقل: يا رب إن كان في هذا العمل ما يرضيك, فاختره لي, وإلا فاصرفه عني، فهل لك مع ربك خلوات، في مناجاة، في دعاء، في استشارة، في استخارة، في تأمل، في نظرة للماضي, وللحاضر، وللمستقبل، في إعداد للموت، في تصحيح لما مضى، لما هكذا من دون تفكر!!. 

أيها الإخوة؛ ولمع في فؤاده الذكي بشائر اليقين، فقال: 

هذا بينه وبين نفسه.

والله لقد استقام المَنْسِم، وإن الرجل لرسول، فحتى متى؟ اذهب والله فأسلم.

فكر، هذا ليس قضية رجلٍ يحتاج إلى منصب، أو إلى مال، أو إلى زعامة, سيدنا النبي، وضح لكل ذي عينين أنه رسول، وأنه مؤيد من قِبَل الله عزَّ وجل، وأنه على خلقٍ عظيم، إلى متى أنت؟!.

فأحياناً الإنسان يخاطب نفسه:

إلى متى أنت باللذات مشغول      وأنت عن كل ما قدمت مسؤولُ

﴿ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (16) ﴾

[ سورة الحديد ]

أيا عبد سوء ما قرأت كتابنا

أما تستحي منا ويكفيك ما جرى 

أما تخجلن من عتبنا يوم جمعنا

أما آن أن تقلع عن الذنب راجعا 

وتنظر ما به جاء وعدنا؟

إلى متى أنت هكذا؟ الواحد يخاطب نفسه، يأتي على الدروس باستمرار، ومتى سيستقيم استقامة تامة؟ متى سيأخذ عهد مع الله عزَّ وجل على طاعته التامة؟ إلى متى هذا الموقف المتردد؟ والله يا أخي نحن محتارون، أصلحنا الله وهدانا، الله يتوب علينا، إلى متى هذا الموقف المائع المتردد؟ يجب أن تأخذ موقف حازم لأنك تعامل الله عزَّ وجل، انظر سيدنا خالد قال: إلى متى؟ إن الرجل لرسول, فحتى متى؟ اذهب واللهِ فأسلم، خاطب نفسه.

  الآن يحدثنا هو مباشرةً, كيف توجه إلى النبي عليه الصلاة والسلام؟.


كان بمكة، فتوجه إلى المدينة, كي يعلن إسلامه، قال: وددت لو أجد من أصاحب.


يا ليت في الطريق رفيق، طبعاً الرفيق قبل الطريق.

قال: فلقيت عثمان بن طلحة، فذكرت له الذي أريد، فأسرع الإجابة.

توافق خواطر.

وخرجنا جميعاً فأدلجنا سحراً.

يعني قبل الفجر.

فلما كنا بالسهل, إذا عمرو بن العاص, فقال: مرحباً بالقوم، قلنا: وبك، قال: أين مسيركم؟ فأخبرناه ، وأخبرنا أيضاً أنه يريد النبي عليه الصلاة والسلام.

يعني لا تنشأ عندك حاجة, أن تصالح الله عزَّ وجل صلحًا كاملاً، وليس نصف صلح, لا تنشأ حاجة توبة نصوح, لا تنشأ حاجة أن تدع كل مخالفة إلى غير رجعة, من علامة الإيمان: أن تكره أن تعود في الكفر, كما تكره أن تلقى في النار.

فاصطحبنا جميعاً.

سيدنا خالد بن الوليد، وعثمان بن طلحة، وعمرو بن العاص.

حتى قدمنا المدينة أول يومٍ من صفرٍ سنة ثمانٍ للهجرة، فلما اطلعت على رسول الله صلى الله عليه وسلم, سلَّمت عليه بالنبوة.

كانت قريش يسلمون عليه باسمه، لكن الذي عرف رسول الله سلم عليه بالنبوة. 

فرد علي السلام بوجهٍ طلق.

هذه كذلك من علامة الإيمان، إذا كنت تعرف شخصًا ليس فيه دين، معاند، ضد الدين، ووجدته قرب من الدين, إن لم تفرح, فأنت لست مؤمناً، إذا ما نسيت كل عداوة سابقة, فلست بمؤمن، لو كان أكل مالك، إذا وجدته قد دخل الإيمان في قلبه, فهذه سعادتك العظمى.

 

اسلام سيدنا عمير بن وهب.


أضرب على ذلك مثلاً: سيدنا عمير بن وهب, لما جاء المدينة ليقتل محمداً، وعلى عاتقه سيف حاد، سيدنا عمر رآه, فقال:

هذا عدو الله, جاء يريد شراً.

قيده بسيفه, وساقه إلى النبي، القصة تعرفونها سابقاً.

لكن موطن الشاهد فيها: أن النبي عليه الصلاة والسلام شيء مؤنس، لما رأى رسول الله, رأى كوكب غير كوكب، نفس طاهرة، نفس تحب البشر، الذي يحقد لا يكون داعية، من كان يدعو إلى الله, يجب أن يضع كل حظوظه تحت قدمه، لو الإنسان فعل بك ما فعل، وجاء منيباً، إن لم تفرح فرحك بنجاة ابنك من الغرق, فلست مؤمناً.

فالمشكلة: أنه دخل سيدنا عمير على النبي الكريم, فقال له: يا عمر أطلقه.

لأنه كان مقيدًا.

فأطلقه، قال: ابتعد عنه, وادنُ مني يا عمير.

هذا جاء يقتل نبيًّا كريمًا، جاء ليقتل، وليس ليصالح، قاتل مجرم.

قال: يا عمر –بمودة- ما الذي جاء بك إلينا؟.

قال له: جئت لأفك أسر أخي.

هو عنده تغطية معقولة.

قال له: وهذا السيف الذي على عاتقك؟.

قال له: قاتلها الله من سيوف, وهل نفعتنا يوم بدر؟.

قال له: ألم تقل لصفوان كذا، وكذا، وكذا؟.

وقد اتفق مع صفوان, أنه لولا ديون ركبتني، ولولا أطفال صغار, أخاف عليهم العنت، لذهبت وقتلت محمداً, وأرحتكم منه.

قال له : ألم تقل هذا لصفوان؟ فوقف, وقال: أشهد أنك رسول الله.

موطن الشاهد ليس هنا، ولكن موطن الشاهد، أنه يقول سيدنا عمر: دخل عمير على رسول الله, والخنزير أحب إلي منه، وخرج من عنده, وهو أحب إلي من بعض أبنائي.

إن لم تكن كذلك, فلست مؤمنًا، عدو لدود لك، أكل مالك، ثم تاب إلى الله، إن لم ترحب به، لم تفرح من أعماقك، لا تشعر أنك بالجنة لأنه آمن, لست مؤمناً، انضم أخ كريم للمؤمنين، عبد شارد, عاد إلى ربه، إنسان بعيد عن الله, اهتدى إلى الصواب.

 

تتمة قصة سيدنا خالد بن الوليد.


انظر النبي ماذا فعل؟ ماذا فعل سيدنا خالد مع رسول الله بأحد؟ إذا كان سندخل بالحقد هو الذي أفشل المعركة، عمل التفاف، وقتَّل، وفعل.

قال: فلما سلمت عليه بالنبوة, ردَّ علي بوجهٍ طلق.

أنا عند كلمة طلق وقفت.

فأسلمت, وشهدت شهادة الحق.

فقال عليه الصلاة والسلام: يا خالد.

هذه كلمة تكتب بماء الذهب واجعلوها ببالكم.

قد كنت أرى لك عقلاً, رجيت ألا يسلمك إلا إلى خير.

إنسان واحد يحيرني، هو أن يكون ذكيًّا، وآتاه الله عقلاً راجحًا، وله معصية، أين عقلك؟ هذا الإنسان يحير، إذا كان الإنسان ضعيف التفكير, محدودًا, فالأمر مختلف، أما الإنسان المفكر، المتفوق باختصاصه، المثقف، الدارس، آتاك الله عقلا، وترتكب هذه المعصية, وتفعل هذا المنكر, وتتأخر في التوبة إلى الله عزَّ وجل, لا تحضر مجالس العلم, لتتعرف إلى الله عزَّ وجل- قال له: يا خالد, قد كنت أرى لك عقلاً, رجيت ألا يسلمك إلا إلى خير.

قال: وبايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم, وقلت: يا رسول الله, استغفر لي كل ما أوضعت من صدٍ عن سبيل الله.

له ماض خطير، وليس ماضيًا عاديًا، قائد معركة أحد، وهو الذي التف على المؤمنين.

قلت: يا رسول الله علي ذلك، فقال: اللهم اغفر لخالد بن الوليد, كل ما أوضع فيه من صدٍ عن سبيلك.

وتقدم عمرو بن العاص، وعثمان بن طلحة, فأسلما وبايعا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ويجب يا أخي الكريم, أن تعرف إذا قلت: يا رب، ما بقي شيء، الإسلام يجب ما قبله ، هذا عفو الله عز وجل ((لو جئتني بذنوبٍ, ملء السموات والأرض, غفرتها لك ولا أبالي)) قل: يا رب، يقول لك الله عزَّ وجل: ((لقد قبلت، لبيك يا عبدي)) .

 

علة هذه التسمية لسيدنا خالد بن الوليد، سيفٌ من سيوف الله.


في قصة ثانية شهيرة جداً: كلكم يعلم أنه في غزوة مؤتة في أرض الشام، هذه الغزوة حشد لها الروم مئتا ألف مقاتل، وأبلى فيها المسلمون بلاءً حسناً، وتذكرون أن النبي عليه الصلاة والسلام, عيَّن سيدنا زيد بن حارثة، ثم جعفر، ثم عبد الله بن رواحة، وسيدنا زيد سرعان ما قتل, فأخذ منه الراية سيدنا جعفر، ولكنه سرعان ما قتل، فأخذ الراية ابن رواحة، وابن رواحة كان شاعرًا، يبدو أنه بساعة من ساعات التردد, القضية الموت قريب جداً، الكلام سهل، فأول قائد قتل، والثاني قتل، وهو القائد رقم ثلاثة، صار في تردد، تردد ثلاثين ثانية, ثم قال:

يا نفـس إلا تقتلي تموتِ      هذا حمام الموت قد صليتِ

إن تفـعلي فعلهما رضيتِ          وإن تـــوليت فقد شقيتِ

وقاتل حتى قتل، والنبي قال:

أخذ الراية أخوكم زيد، فقاتل بها حتى قتل, وإني لأرى مقامه في الجنة، وأخذ الراية أخوكم جعفر, فقاتل بها حتى قتل, وإني لأرى مقامه في الجنة ثم سكت، فلما سكت, قال أصحابه: ما فعل عبد الله؟ قال: ثم أخذها عبد الله, فقاتل بها حتى قتل, وإني لأرى في مقامه ازوراراً عن صاحبيه.

ما دام تردد للموت, هبط مقامه, القصة انتهت هنا، ولكن لها تتمة، ماذا حصل بعد ذلك؟ جاء سيدنا خالد. 

ثم قال عليه الصلاة والسلام: ثم أخذ الراية سيفٌ من سيوف الله.

هذه أول تسمية من سيدنا رسول الله لسيدنا خالد.

ثم أخذ الراية سيفٌ من سيوف الله, ففتح الله بها على يديه

فمن هذا السيف؟ إنه سيدنا خالد, كيف تمت إمارته؟ طبعاً هو بمؤتة, كان حديث عهد بالإسلام، خجل لم ير من حقه أن يكون قائد, فجاء أحد الصحابة الكرام وهو سيدنا ثابت، وقال:

خذ اللواء يا أبا سليمان.

شعر أن هذا الإنسان أفضل من يقود المعركة، مئتا ألف جندي من الروم، والمسلمون أنهكوا، أول قائد قتل، والثاني، والثالث، صفيت معركة إبادة، امتنع سيدنا خالد.

فقال له: لا، لا آخذ اللواء, أنت أحق به، لك سنٌ, وقد شهدت بدرا, أجابه ثابت: خذه, فأنت أدرى بالقتال مني.

هذه اللقطة مهمة جداً، لا نريد زعامات, ولكن نريد مصلحة عامة، إذا كان من المصلحة, أن يتولى أخوك فولّه، أنت مؤمن، وجالس في سهرة، هذا أبسط عمل، هو يستطيع أن يتكلم أكثر منك، اتركه، لا، يريد هو أن يأخذ مكانه، إذا كان من المصلحة أن يتكلم أخوك, فاجعله صدر المجلس، واسكت أنت، نذهب وفدًا، المصلحة: أن يتكلم فلان، اسكت أنت، إذا عزَّ أخوك فهن أنت.

سيدنا ثابت لو يريد قيادة جيش لاستلمها.

قال له: دعك من هذا, أنت أدرى مني بالقتال, فو الله ما أخذته إلا لك.

هذا الإخلاص لله، إذا كنت مخلصاً لله, لا تؤثر نفسك على من هو أكبر منك، لا تؤثر نفسك على من هو أعلم منك، لا تؤثر نفسك على من هو أقدر منك، إذا عزَّ أخوك فهن أنت، أما التنافس فليس من صفات المؤمن إطلاقاً.

ثم نادى في المسلمين: أتريدون إمرة خالد؟ قالوا: نعم.

اعتلى سيدنا خالد جواده، ودفع الراية بيمينه إلى الأمام، كأنما يقرع بها أبواباً مغلقةً, آن لها أن تفتح عن طريقٍ طويلٍ، فيقطعه البطل وثباً في حياة النبي وبعد مماته.

ولِيَ هذا الصحابي الجليل سيدنا خالد إمرة الجيش، بعد أن كان مصير المعركة قد تحدد، فضحايا المسلمين كثيرون، وجناحهم مهيض، وجيش الروم في كثرته الساحقة, كاسحٌ ظافرٌ, مدمْدم، وسيدنا خالد بحنكةٍ رائعة، وعبقريةٍ فذَّة, استطاع أن يناور، أن ينسحب ليغريهم بالمتابعة، ينسحب ويلتف عليهم، ينسحب، ويلتف إلى أن ورَّطهم, فأوغلوا في الصحراء، وخافوا من كمينٍ خطير، عندئذٍ توقفوا.

ولما عاد سيدنا خالد بجيش المسلمين إلى المدينة، أول من وصفه بأنه قد انتصر, سيدنا النبي عليه الصلاة والسلام.

لأن الإنسان غالٍ على الله، إنقاذ حياة الإنسان شيء ثمين جداً، صار النصر الآن إنقاذ حياة الصحابة، بعد أن أصبحت المقابلة مستحيلة، مئتا ألف مقابل آلاف عديدة، وكثر القتل، والضحايا كثيرون جداً، بقي أن تنجو بأصحاب النبي، بحفَّاظ القرآن، بهؤلاء الأعلام، هذا هو النصر, فالمناورة ذكية جداً، تقدم, وتراجع, والتف، وتقدم, وتراجع، والتف إلى أن أنقذ الجيش.

بعضهم قال له: فرارٌ فرار، فقال عليه الصلاة والسلام: بل كرار.

يعني هذا أحد أنواع النصر, إذ أنقذت أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام.

لنا مع هذا الصحابي الجليل وقفةٌ أخرى إن شاء الله تعالى في وقتٍ آخر، لكن أنهي الدرس بهذه اللقطة الأخيرة:

أحياناً الإنسان يقرأ التاريخ, فيجد فيه بعض الثغرات، يعني سيدنا عمر حينما تولى الخلافة, عزل سيدنا خالد، المستشرقون البعيدون عن روح الإسلام، وعن روح البطولة، يفسرون هذا بعداوات الجاهلية، وتفسيرات مضحكة, المسلمون منها براء، لكن عثرت على نصٍ دقيقٍ دقيق, يوضح هذا العزل.

أن سيدنا خالد, حينما عزل, جاء المدينة, وقال:

يا أمير المؤمنين لمَ عزلتني؟.

ماذا فعلت؟.

فقال: يا أبا سليمان, والله إني لأحبك.

اطمئن.

قال له: لم عزلتني؟.

قال: والله إني لأحبك.

فسأل مرة ثالثة قال: لم عزلتني؟.

جاء الجواب.

قال: والله ما عزلتك يا ابن الوليد, إلا مخافة أن يفتتن الناس بك, لكثرة ما أبليت في سبيل الله.

كلما دخل معركة ينتصر، اعتقد الناس: أن خالد هو الذي ينصرهم، خاف سيدنا عمر على التوحيد، فعزله ليرى أصحابه, كيف أن الله هو الناصر؟ هذا التفسير يليق بأصحاب رسول الله، أما أن نعيد الموضوع لخلافات جاهلية, ولعداوات قبلية، هذا الشيء الإسلام وضع كل الجاهلية تحت قدمه.

 

موقف سيدنا عمر من جبلة بن الأيهم.


أنتم تعرفون, عندما جاء جبلة بن الأيهم لسيدنا عمر, وهو ملك من ملوك الغساسنة، جاء وأسلم، فلما أسلم, وهو ملك, له تاج، وله مظاهر العظمة والكبرياء، في أثناء الطواف حول الكعبة, بدوي من فزارة, داس طرف ردائه، فلما داس طرف ردائه, انخلع الثوب من كتفه، هو ملك عظيم، فالتفت نحو هذا البدوي، وضربه ضربةً هشَّمت أنفه، هذا البدوي شكاه لسيدنا عمر، وبعض الشعراء قد صاغ هذا الموقف صياغة شعرية:

فقال له:

 أصحيحٌ ما ادعى هذا الفزاري الجريح؟.

 فقال جبلة:

لست ممن يكتـــم شيئا أنا أدبت الفتى أدركت حقي بيدي

 قال له:

أرضِ الفتى لا بد من إرضـائه ما زال ظفرك عالــقاً بدمائه أو يهشمن الآن أنفك.

سيدنا عمر  يخاطب ملك.

وتنال ما فعلته كفك.

قال:

كيـــــف ذاك هــو سوقة وأنـا عـــــرشٌ وتاج.

كيف ترضى أن يخر النجم أرضا!؟.

 قال له:

نزوات الجاهلية ورياح العنجهية  قد دفناها أقمنا فوقها صرحاً جديدا.

وتساوى الناس أحراراً لدينا وعبيدا.

 قال:

أنا مرتدٌ إذا أكرهتني.

قال:

عنق المرتد بالسيف تحز.

عالمٌ نبنيه كل صدعٍ فيه بشبا السيف يداوى وأعز الناس بالعبد بالصعلوك تساوى.

 أنا أخذت المقطع:

 نزوات الجاهلية ورياح العنجهية قد دفناها ..............

ثم ترجع أنت أيها المؤرخ, تفسر عزل سيدنا خالد تفسيرًا جاهليًّا عصبيًّا, تفسيرًا قبليًا, الإسلام قضى على العصبية القبيلة, والجاهلية، فالتاريخ يحتاج إلى تفسير, يليق بأصحاب النبي، فهذا العزل كان إنقاذاً للتوحيد فقط وليس غير.

و الحمد لله رب العالمين

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور