وضع داكن
29-03-2024
Logo
رياض الصالحين - الدرس : 035 - أحاديث تتعلق بالإنفاق وعدم السؤال والتعفف – قصة سيدنا عمير بن سعد وعمه الجلاس
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

 

ترحيب:


أيها الإخوة الأكارم؛ قبل أن نبدأ درسنا، نُرَحِّب بضيوفنا الأكارم, وعلى رأسهم السيد وزير الأوقاف, الأستاذ عبد المجيد الطرابلسي، وصحبه الكرام، سائلين الله عز وجل, أن يديم نعمته علينا، فوزيرنا أكرمه الله, من أولي العلم, والفضل, والبيان، أستاذ في جامعة دمشق، وله مؤلفات قيمة، ويرأس أكبر جمعية للبر والإحسان في القطر، وهو فوق ذلك, خطيبٌ من الطبقة الأولى، نرجو الله أن ينفع المسلمين به.

 

أحاديث تتعلق بالإنفاق وعدم السؤال والتعفف:


أيها الإخوة الأكارم؛ لا زلنا في رياض الصالحين، ولا زلنا في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتعلمون أن النبي عليه الصلاة والسلام, كان أجود ما يكون في رمضان، اخترت لكم من أحاديث رياض الصالحين, مجموعة من الأحاديث الشريفة, تتعلق بالإنفاق.


 الحديث الأول: 

 

(( عَنْ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ, عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ أحبلهُ, ثم يأتي الجبل, فَيَأْتِيَ بِحُزْمَةِ من حَطَبِ عَلَى ظَهْرِهِ, فَيَبِيعَهَا, فَيَكُفَّ اللَّهُ بِهَا وَجْهَه, خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ, أَعْطَوْهُ أَوْ مَنَعُوهُ ))

[ أخرجه البخاري ]

هذا الحديث الشريف يبين قيمة العمل، والنبي عليه الصلاة والسلام حينما أمسك بيد عبد الله بن مسعود ورآها خشنة، قال عليه الصلاة والسلام: ((إن هذه اليد يحبها الله ورسوله)) النبي عليه الصلاة والسلام دخل إلى المسجد، فرأى إنساناً يصلي سأله: ((من يطعمك؟ قال: أخي, فقال عليه الصلاة والسلام: أخوك أعبد منك)) .

 

شرح الحديث: لأن يأخذ أحدكم حبله...


في هذا الحديث إشاراتٌ دقيقة: ((عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ, عَنْ أَبِيهِ, عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ)) وفي رواية: ((أَحْبُلَهُ)) جمع حبل، ولكن الجموع في اللغة العربية على نوعين، جموع قلةٍ وجموع كثرة، هذا من جموع القلة، وجمع الكثرة الحبال ((لَأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ أَحْبُلَهُ, ثم يأتي الجبل)) لماذا اختار النبي عليه السلام الجبل؟ يبدو أن صعود الجبل أمر شاق، فيعطينا النبي عليه الصلاة والسلام أعلى درجات بذل الجهد، قال تعالى:

﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2)﴾

[ سورة الملك ]

خلقنا ليبتلينا، فهنا حدد النبي عليه السلام الجبل، أو قال بعض شارحي الحديث: المقصود أي مكان آخر، على كلٍ؛ هناك بذل للجهد ((ثم يَأْتِيَ الْجَبَلَ, فيأتي بِحُزْمَةِ من حَطَبٍ عَلَى ظَهْرِهِ)) قال بعضهم: على ظهر حماره، أو على ظهره هو، والأولى على ظهره, مبالغة في بذل الجهد، كم يقدِّس النبي عليه السلام العمل، إذا فعل هذا؛ توجه إلى جبل، وجاء بحزمة حطب، وتجشم مشاق قطعها، ومشاق بيعها، خير له ألف مرة من أن يسأل الناس، بل إن الإمام الشافعي رضي الله عنه, يرى أن الذي يستطيع أن يكسب رزقه ويسأل الناس، فقد وقع في إثمٍ كبير، بل وقع في درجة الحرمة ((فَيَأْتِيَ بِحُزْمَةِ من حَطَبِ عَلَى ظَهْرِهِ, فَيَبِيعَهَا, فَيَكُفَّ اللَّهُ بِهَا وَجْهَهُ)) .

فقد سئل الإمام علي كرم الله وجه ما الذل؟ 

فقال: أن يقف الكريم في باب اللئيم, ثم يرده

بل في نهج البلاغة قول للإمام علي كرم الله وجهه: 

واللهِ والله مرتين، لحفر بئرين بإبرتين، وكنس أرض الحجاز في يوم عاصف بريشتين، ونقل بحرين زاخرين بمنخلين، وغسل عبدين أسودين, حتى يصيرا أبيضين، أهون علي من طلب حاجة من لئيم لوفاء دين

أن يقف الكريم بباب اللئيم ثم يرده، لذلك من الذل: أن يحتاج الكريم اللئيم، فالنبي عليه السلام يقول:

(( اطْلُبوا الحَوائِجَ بعِزَّةِ الأَنْفُسِ؛ فإنَّ الأُمورَ تَجري بالمَقاديرِ ))

[ حديث ضعيف ]

النبي عليه الصلاة والسلام يقول:

(( لا يحل لمؤمن أن يذل نفسه ))

[ رواه أحمد والترمذي وابن ماجه ]

يقول عليه الصلاة والسلام:

(( شرف المؤمن قيامه الليل، وعزه استغناؤه عن الناس ))

[ رواه الحاكم في المستدرك عن سهل بن سعد ]

يقول عليه السلام :

(( الإِمَامُ عَفِيفٌ عَنِ الْمَحَارِمِ ، عَفِيفٌ عَنِ الْمَطَامِعِ ))

[ ورد بالأثر ]

يعني: نفس المؤمن نفس راقية، شخصيته شخصية فذة، تأبى الضيم، تأبى الذل: ((من جلس إلى غني فتضعضع له, ذهب ثلثا دينه)) إذاً: ((لَأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ أحبله, ثم يأتي الجبل, فَيَأْتِيَ بِحُزْمَةِ من حَطَبِ عَلَى ظَهْرِهِ, فَيَبِيعَهَا, فَيَكُفَّ اللَّهُ بِهَا وَجْهَهُ)) يستغني بهذا الدخل عن بذل ماء وجهه، يستغني بهذا الدخل, عن أن يريق ماء وجهه، يستغني بهذا الكسب, عن أن يقف بباب اللئيم ((خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ أَعْطَوْهُ أَوْ مَنَعُوهُ)) لذلك سيدنا الصديق كان على ناقته، فنزل من على ناقته, وحوله أصحابه، تعجبوا، نزل ليلتقط زمام بعيره، فازدادوا عجباً، قالوا: يا خليفة رسول الله, نكفيك ذلك، قال: أمرني حبيبي ألا أسأل الناس شيئاً، ما دمت قادراً على أن تقضي حاجتك بيدك فافعل، هذا من أخلاق المسلم، بل إن بذل الجهد قوام الطب الوقائي، الطب الوقائي قوامه: بذل الجهد، ما الذي يزعج الناس الآن؟ هذه الأمراض الوبيلة سببها: التوتر العصبي, والكسل العضلي، أجدادنا رحمهم الله عز وجل كانوا يتعبون ونفوسهم مرتاحة، أساس صحة القلب: في بذل الجهد, وفي راحة النفس، والناس اليوم يريحون عضلاتهم, ويتعبون أنفسهم، قيل:

من جعل الهموم هماً واحد, كفاه الله هموم الدنيا والآخرة

اعمل لوجه واحد يكفك الوجوه كلها

ما من مخلوق يعتصم بي من دون خلقي، أعرف ذلك من نيته، فتكيده أهل السموات والأرض، إلا جعلت له من بين ذلك مخرجاً، وما من مخلوق يعتصم بمخلوق دوني, أعرف ذلك من نيته، إلا جعلت الأرض هوياً تحت قدميه، وقطعت أسباب السماء بين يديه

المؤمن مؤنته خفيفة، متوكل على الله، إذا أردت أن تكون أقوى الناس, فتوكل على الله، إذا أردت أن تكون أغنى الناس, فكن بما في يدي الله, أوثق منك بما في يديك، إذا أردت أن تكون أكرم الناس, فاتقِ الله، فإذا كسبت رزقاً بمشقة بالغة، خير لك ألف مرة, من أن تسأل الناس أعطوك أو منعوك.

الحقيقة: أن تقف على باب إنسان فتسأله، موقف حرج لك، فإذا ردك, فالموقف أشد حرجاً، فإذا سألته مراراً، فالموقف بالنسبة إليه أيضاً حرج، يعني تكف عن إحراجه، وتكف عن إحراج نفسك، وتكف عن رده السيء, إذا كان سيء الخلق، فلذلك: النبي عليه الصلاة والسلام هكذا يأمرنا.

هذا الحديث, رواه الإمام البخاري رحمه الله تعالى، وصحيح البخاري كما يقول علماء السنة: أصح كتاب بعد كتاب الله عز وجل.

 

توجيهات نبوية :


أيها الإخوة؛ ولكن عندنا حالة أخرى لهذا الحديث، في حديث آخر يتممه، عن ابن مسعود رضي الله عنه، النبي عليه الصلاة والسلام يعمل توجيهات للأطراف جميعاً، من خلال كل هذه التوجيهات, تغدو الحياة متوازنة.  

فمثلاً توجه إلى الأزواج:

قال:

(( أكرموا النساء, فو الله ما أكرمهن إلا كريم، وما أهانهن إلا لئيم، يغلبن كل كريم، ويغلبهن لئيم، وأنا أحب أن أكون كريماً مغلوباً, من أكون لئيماً غالباً ))

[ حديث ضعيف ]  

 وتوجه إلى المرأة:

قال:

(( انصرِفي أيَّتُها المرأةُ وأعلِمي من وراءكِ من النِّساءِ أن حُسنَ تَبعُّلِ إحداكنَّ لزوجِها وطلبَها مَرضاتَهُ واتِّباعَها موافقتهُ يعدِلُ ذلِكَ كلَّهِ ))

[ حديث ضعيف ]

أي الجهاد في سبيل الله.

 الآن توجه إلى المؤمنين: 

(( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ, أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ, لَأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ, فَيَحْتَطِبَ عَلَى ظَهْرِهِ, خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَأْتِيَ رَجُلًا فَيَسْأَلَهُ, أَعْطَاهُ أَوْ مَنَعَهُ ))  

توجه إلى الأغنياء:

ولكن من جهة أخرى, توجه النبي عليه الصلاة والسلام إلى أصحاب الأموال، إلى الأغنياء، الأغنياء أوصياء الله عز وجل، في الحديث القدسي:

(( الأغنياء أوصيائي، والفقراء عيالي، فمن منع مالي عيالي, أذقته عذابي ولا أبالي ))

[ ورد بالأثر ]

توجه النبي عليه الصلاة والسلام إلى الصنف الميسور، وحضَّهم على الإنفاق، تمنى على هؤلاء الفقراء أن يكونوا أعفَّة، تمنى على هؤلاء الفقراء أن يصبروا، تمنى على هؤلاء الفقراء ألا يبذلوا ماء وجههم، تمنى عليهم ألا يتضعضعوا أمام غني، وفي الوقت نفسه أمر الغني أن يعطي، الحديث القدسي:

(( أحب ثلاثاً, وحبي لثلاث أشد؛ أحب الطائعين وحبي للشاب الطائع أشد، أحب المتواضعين وحبي للغني المتواضع أشد، أحب الكرماء وحبي للفقير الكريم أشد, وأبغض ثلاثاً, وبغضي لثلاثٍ أشد؛ أبغض العصاة وبغضي للشيخ العاصي أشد، أبغض البخلاء وبغضي للغني البخيل أشد، أبغض المتكبرين وبغضي للفقير المتكبر أشد ))

[ ورد بالأثر ]

الآن: من أجل تحقيق التوازن في المجتمع, توجه النبي عليه الصلاة والسلام إلى الأغنياء, وإلى العلماء. 


الحديث الثاني: 

 

(( عن عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا حَسَدَ إلا في اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتاهُ اللَّهُ الْحِكْمَةَ، فهو يَقضِي بها ويُعَلِّمُها، ورجلٌ آتَاهُ اللَّهُ مالا, فَسَلَّطَهُ على هَلكَتهِ في الحقَّ ))

[ أخرجه البخاري ومسلم  ]

طبعاً: قصد النبي عند شُرَّاح الحديث الحسد هنا: الغبطة، الحسد كخلق ذميم فيه معان: تمني زوال النعمة عن أخيك:

قل لمن بات علي حاسداً       أتدري على من أسأت الأدب؟

أسأت على الله في فعله           إذ لم ترض لي ما وهــب

ملك المـلوك إذا وهب                لا تسألــــن عن السبب

الله يعــطي من يشاء                فقف علــــى حد الأدب

هكذا بيت الشعر، أما لو أجرينا على هذا البيت تعديلا طفيفًا :

ملك الملوك إذا وهب              قم فسألن عن السبب

الله يعطي من يشاء                 فقف على حد الأدب

فالحسد المذموم: أن تتمنى زوال النعمة عن أخيك، ولكن الحسد هنا, في هذا الحديث الشريف, المقصود: الغبطة، يعني إذا أنعم الله على أخيك بنعمة, أنت تتمنى أن تكون هذه النعمة لك، الحسود يتمنى أن تزول عن أخيه، (( قال عليه الصلاة والسلام: لا حَسَدَ إلا في اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتاهُ اللَّهُ الْحِكْمَةَ، فهو يَقضِي بها ويُعَلِّمُها، ورجلٌ آتَاهُ اللَّهُ مالا, فَسَلَّطَهُ على هَلكَتهِ في الحقَّ)) المال قوة. 

(( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ ))

[ أخرجه مسلم ]

القوة وحدها خطرة، القوة وحدها بيد الجاهل شيء خطير، ولكن القوة إذا أضيفت للإيمان كانت قوة بنَّاءة، كانت قوة دافعة، فالمال قوة، والعلم قوة ((يقول عليه الصلاة والسلام: لا حَسَدَ إلا في اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتاهُ اللَّهُ الْحِكْمَةَ، فهو يَقضِي بها ويُعَلِّمُها، ورجلٌ آتَاهُ اللَّهُ مالا, فَسَلَّطَهُ على هَلكَتهِ في الحقَّ)) أي أنفقه في طاعة الله، ماذا قال سيدنا أبو ذر قال: ((حبذا المال أصون به عرضي, وأتقرب به إلى ربي)) ليس الفقير الصابر بأعظم أجراً من الغني الشاكر، الغني يعطي ماله لكل محتاج ومسكين، وفي الحديث القدسي: يوم القيامة يقف عبدان أمام الله عز وجل, يقول الله عز وجل لأحدهما: عبدي أعطيتك مالاً, فماذا صنعت فيه؟ فيقول: يا رب, لم أنفق منه شيئاً على أحد, مخافة الفقر على أولادي من بعدي, فيقول الله عز وجل: ألم تعلم بأني أنا الرزاق ذو القوة المتين؟ إن الذي خشيته على أولادك من بعدك, قد أنزلته بهم -جعلتهم فقراء, ويقف العبد الآخر يقول-: عبدي أعطيتك مالاً, فماذا صنعت فيه؟ يقول: يا رب, أنفقته على كل محتاج ومسكين, لثقتي بأنك خير حافظاً, وأنت أرحم الراحمين، يقول الله عز وجل: أنا الحافظ لأولادك من بعدك.

(( عن بلال رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنفق بلالُ ولا تخش من ذي العرش إقلالاً ))

[ رواه الطبراني في الكبير ]

عبدي أَنفق أُنفق عليك

(( عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قال الله: أَنْفِق يا ابن آدم أُنْفِق عليك))

[ رواه البخاري ومسلم  ]

(( عن أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما نَقَصَ مال من صدقة ))

[ أخرجه مسلم والترمذي ومالك ]

قال تعالى:

﴿ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (270)﴾

[ سورة البقرة  ]

﴿ قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39)﴾

[ سورة سبأ ]

إذاً: ((رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا, فَسُلِّطَ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ)) 

سيدنا عبد الرحمن بن عوف, حينما جاء المدينة، دققوا في أخلاق الصحابة، الأنصار رضوان الله عليهم, بذلوا كل ما في وسعهم لإخوانهم المسلمين، فالصحابي الجليل الذي النبي أخاه مع سيدنا عبد الرحمن بن عوف قال له: ((دونك نصف مالي، ماذا قال له عبد الرحمن بن عوف: بارك الله لك في مالك, ولكن دلني على السوق)) الأول بذل، والثاني تعفف: ((بارك الله لك في مالك، ولكن دلني على السوق)) وسيدنا عبد الرحمن بن عوف, جاءت قافلة إلى المدينة, تعد سبعمائة راحلة, كلها محملة بأنفس البضائع، وقدمها كلها لفقراء المسلمين.

سيدنا عمر, كان إذا اضطرب بطنه, خاطبه وقال: ((قرقر أيها البطن أو لا تقرقر, فو الله لن تذوق اللحم حتى يشبع منه صبية المسلمين))

السيدة عائشة قالت: ((أخشى)) عن سيدنا عبد الرحمن بن عوف ((أن يدخل الجنة حبواً، فقال رضي الله عنه: والله لأدخلنها حبباً، وما ذنبي إذا كنت أنفق مئة في الصباح, فيؤتيني الله ألفاً في المساء!؟)) هؤلاء التجار المؤمنون، كما وصفهم النبي عليه الصلاة والسلام:

(( إنَّ أطيبَ الكَسْبِ كَسْبُ التُّجَّارِ؛ الَّذِينَ إذا حَدَّثُوا لَمْ يَكذِبُوا ، وإذا ائْتُمِنوا لَمْ يَخونُوا ، وإذا وعَدُوا لَمْ يُخْلِفُوا ، وإذا اشْتَرَوا لَمْ يَذُمُّوا ، وإذا باعُوا لَمْ يَمْدَحُوا ، وإذا كان عليهم لَمْ يَمْطُلُوا ، وإذا كان لَهُمْ لَمْ يُعَسِّرُوا ))

[ حديث ضعيف ]

أيها الإخوة الأكارم؛ ((لا حَسَدَ إلا في اثْنَتَيْنِ)) كما قال عليه السلام (( رَجُلٌ آتاهُ اللَّهُ الْحِكْمَةَ)) أي علماً، وفي بعض شرح هذا الحديث علَّمه القرآن الكريم ((فهو يَقضِي بها ويُعَلِّمُها، ورجلٌ آتَاهُ اللَّهُ مالا, فَسَلَّطَهُ على هَلكَتهِ في الحقَّ)) وتعلمون الحديث الشريف.

(( عَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ ))

[ أخرجه البخاري في الصحيح وأبو داود والترمذي ]

 لذلك هذان الحديثان يتكاملان، دعوة إلى أهل اليسار بإنفاق مالهم، ودعوة إلى الفقراء بالتعفف, وبذل الجهد, والكسب المشروع، فهو خير لهم ألف مرة, من أن يقفوا باب غيرهم.

 

الحديث الثالث: 

الحقيقة الآن: عندنا حديث ثالث يكمل هذين الحديثين. 

(( فعن سالم بن عبد الله بن عمر، عن أبيه عبد الله بن عمر، هذا ابن الصحابي الجليل, عبد الله بن عمر, الذي قال عليه الصلاة والسلام: ابن عمر دِينك دينك، إنه لحمك ودمك، خذ عن الذين استقاموا، ولا تأخذ عن الذين مالوا ))

[ حديث ضعيف ]

هذا ابن سيدنا عمر، عن سالم بن عبد الله بن عمر، عن أبيه عبد الله بن عمر، عن عمر رضي الله عنهم قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم. 

الآن الحديث لمن؟ لسيدنا عمر، فإذا قال هذا الكلام سيدنا عمر, فهل هو من السنة؟ نعم.

فالسنة في التعريف الدقيق: ما أثر عن النبي عليه الصلاة والسلام من قول، أو فعل، أو إقرار، أو صفةٍ، أما أصحابه إذا قالوا قولاً, رفعوه إلى النبي بقرينة أو بأخرى, فهو من السنة.

((فيقول سيدنا عمر: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيني العطاء, فأقول: أعطه من هو أفقر مني))

هذا التعفف.

((فقال عليه الصلاة والسلام: خذه إذا جاءك من هذا المال شيء))

أحياناً: يكون إنسان على درجة عالية من التعفف، وعلى درجة عالية من الفقر، فهو عاجز عن الكسب، ومع ذلك يتأبَّى، فإذا تأبى أن يأخذ شيئاً, وهو في أمس الحاجة إليه, كأنه يؤذي المعطي، وهذه حالة نادرة.

((يقول سيدنا عمر: خذه إذا جاءك من هذا المال شيء, وأنت غير مشرف, ولا سائل))

مشرف بمعنى متطلع، ترمق هذا الشيء, تتمنى أن تأخذه.

((فخذه فتموله))

اجعله مالاً لك.

((فإن شئت كله, وإن شئت تصدق به وما لا)) 

أي ما لم تأخذه.

((فلا تتبعه نفسك))

لا تندم على فواته، قال سالم، هذا الموقف الرائع: ((فكان عبد الله لا يسأل أحداً شيئاً, ولا يرد شيئاً أعطيه)) أيضاً النبي عليه السلام قال: ((تهادوا تحابوا)) من صيغ تهادوا، فيها صيغة المشاركة، قدم لك هدية, رد على هذه الهدية بهدية أخرى وهكذا.

 

قصة عمير بن سعد مع عمه الجلاس.


والآن إلى قصة قصيرة، نحن درسنا في رمضان: قصة قصيرة عن عمير بن سعد, وعمه الجلاس.

تجرع الغلام عمير بن سعد الأنصاري، كأس اليتم والفاقة منذ نعومة أظفاره، فقد مضى أبوه إلى ربه, دون أن يترك له مالاً أو معيلاً، ولكن أمه ما لبثت أن تزوجت من ثري من أثرياء الأوس، يدعى الجلاس بن سويد، فكفل ابنها عميراً وضمه إليه.

طفل صغير توفي أبوه، أمه تزوجت من ثري من بني الأوس، هذا الثري ضم هذا اليتيم إليه، ولقد لقي عمير من بر الجلاس, وحسن رعايته, وجميل عطفه, ما جعله ينسى أنه يتيم، فأحب عمير الجلاس حب الابن لأبيه، كما أولع الجلاس بعمير ولع الوالد بولده، كلما نما عمير وشب, يزداد الجلاس له حباً, وبه إعجاباً، لما كان يرى من أمارات الفطنة والنجابة.

الآن عندنا مشكلة: الجلاس أكرم هذا اليتيم إكراماً ما بعده إكرام، هذا اليتيم أحب زوج أمه حباً جماً.

يا داود ذكر عبادي بإحساني إليهم، فإن النفوس جبلت على حب من أحسن إليها، نشأت مودة بالغة بين هذا الطفل الكريم, وبين هذا العم الكريم، هذا الطفل اليتيم أسلم وهو صغير, لا يتجاوز العاشرة من عمره، فالإيمان وجد إلى قلبه الغض طريقاً، ورأى فيه مكاناً خالياً, فتمكن هذا الطفل الصغير, كان لا يتأخَّر عن صلاة خلف رسول الله، وكانت أمه معجبةً به أشد الإعجاب, كلما رأته ذاهباً إلى المسجد، أو آيباً منه ، لذلك الدعاء القرآني:

﴿ وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً (74)﴾

[ سورة الفرقان ]

سارت هذه الحياة هكذا، إلى أن وقع شيءٌ محيِّر، في السنة التاسعة للهجرة، أعلن النبي عليه الصلاة والسلام عن عزمه على غزو الروم في تبوك، وأمر المسلمين بأن يستعدوا ويتجهزوا بذلك، وكان عليه الصلاة والسلام إذا أراد غزواً, لم يصرح به إلا هذه الغزوة، لبعد الشِّقة، ولبعد المسافة، ولشدة التعب والعطش، بيَّن لأصحابه الكرام أن الوجه تبوك.

طبعاً: الوقت كان وقت صعب، وقت نضج الفاكهة، وقت أن يلوذ الإنسان بالظل الظليل، أن يقبع في بستان فيه ماء نمير، أن يدخل إلى بيت حيث الراحة والأمن، أما أن يذهب إلى غزوة في حر الصيف اللاهب، ولا يعرف حر الحجاز إلا من كان في الحجاز، أو إلا من حج أو اعتمر, يعرف معنى حر الحجاز.

قال: إن طائفة من المنافقين, أخذوا يثبطون العزائم، ويوهِّنون الهمم، ويثيرون الشكوك، ويغمزون النبي عليه الصلاة والسلام، ويطلقون في مجالسهم الخاصة من الكلمات, ما يدمغهم بالكفر دمغاً.

الآن بدأت العقدة.

قال: وفي يوم من هذه الأيام التي سبقت رحيل الجيش، عاد الغلام عمير بن سعد إلى بيته, بعد أداء الصلاة في المسجد، وقد امتلأت نفسه بطائفةٍ مشرقةٍ من صور بذل المسلمين، نساء المهاجرين نزعن الحلي, وقدمنها للنبي عليه الصلاة والسلام، عثمان بن عفان جاء بجراب فيه ألف دينار ذهباً، عبد الرحمن بن عوف قدم مائتي أوقية من الذهب، أخذ عمير يستعيد هذه الصورة الفذّة، ويعجب من تباطؤ الجلاس عن الاستعداد للرحيل ، ثم دعا عمه، أنه آن الأوان أن تبذل وأن تستعد، كأنما أراد عمير أن يستثير همة عمه الجلاس، فأخذ يقص عليه أخبار ما سمع من هذا البذل وهذه التضحية، لكن الجلاس قال كلمة نزلت على هذا الغلام كأنها صاعقة، قال الجلاس: إن كان محمداً صادقاً فيما يدعيه من النبوة، انظر إن كان صادقاً، إذا تفيد تحقق الوقوع، أما إن تفيد احتمال الوقوع:

﴿ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1)﴾

[ سورة النصر ]

لا بد من أن يأتي، أما إن:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6)﴾

[ سورة الحجرات ]

فإن تفيد احتمال الوقوع، قال: إن كان محمد صادقاً فيما يدعيه من النبوة، فنحن شر من الحمير.

يفهم من هذا الكلام: أنه ليس مصدقاً نبوة النبي. 

لقد شده عمير مما سمع، فما كان يظن أن رجلاً له عقل، وسنه بهذه السن، ينطق بهذه الكلمات، اضطرب اضطراب شديد، كاد يصعق، عمه المحسن الكريم, الذي أحبه كأبيه, يقول هذا الكلام, لكنه رأى وهو طفل صغير في السكوت عن الجلاس والتستر عليه, خيانة لله ولرسوله، وإضراراً بالإسلام الذي يكيد له المنافقون، وأن في إذاعة ما سمعه عقوقاً بالرجل الذي ينزل من نفسه منزلة الوالد، وقع بصراع إن نطق بما قال عمه فضحه، وكأن في هذا النطق بهذا الكلام إنكاراً للجميل، وإن سكت فهي خيانة للنبي عليه الصلاة والسلام وصحبه الكرام.

أنا لا أصدق، أن يقف غلامٌ صغير هذا الموقف، ماذا قال الغلام؟!. 

التفت إلى عمه وقال: والله يا عم, ما كان على ظهر الأرض أحد, بعد محمد بن عبد الله, أحب إلي منك، فأنت آثر الناس عندي, وأجلهم يداً علي، ولقد قلت مقالةً؛ إن ذكرتها فضحتك، وإن أخفيتها خنت أمانتي، وأهلكت نفسي وديني، وقد عزمت على أن أمضي إلى النبي عليه الصلاة والسلام وأخبره بما قلت، فكن على بيَّنة من أمرك.

يعني ما أراد أن يفعل شيئاً وراء ظهر عمه، فأنا أقر لك بالفضل، وأنت من أعز الناس, ومن أكرمهم, بعد النبي عليه الصلاة والسلام، ولكن هذا الأمر لا يحتمل.

مضى عمير بن سعد إلى المسجد، وأخبر النبي عليه السلام بما سمع من الجلاس بن سويد، فاستبقاه النبي صلوات الله عليه عنده، وأرسل أحد أصحابه ليدعو له الجلاس، وما هو إلا قليل, حتى جاء الجلاس, فحيا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجلس بين يديه، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ما مقالة سمعها منك عمير بن سعد؟ وذكر النبي له ما قاله, فقال: كذب علي يا رسول الله، وافترى بما تفوهت، ما تفوهت بشيء من هذا إطلاقاً.

أخذ الصحابة ينقلون أبصارهم بين الجلاس وفتاه عمير، كأنهم يريدون أن يقرؤوا على صحفتي وجهيهما, ما يكنه صدرهما، وجعلوا يتهامسون، فقال واحد من الذين في قلوبهم مرض: فتى عاق, أبى إلا أن يسيء إلى من أحسن إليه, وقال آخرون: بل إنه غلام, نشأ في طاعة الله، وإن قسمات وجهه لتنطق بصدقه.

والتفت النبي عليه السلام إلى عمير، فرأى وجهه قد احتقن بالدم، والدموع تتحدر مدراراً من عينيه، فتتساقط على خديه وصدره، وهو يقول هذا الغلام الصغير: اللهم أنزل على نبيك, بيان ما تكلمت به.

فانبرى الجلاس وقال: إن ما ذكرته لك يا رسول الله هو الحق، وإن شئت تحالفنا بين يديك، وإني أحلف بالله, أني ما قلت شيئاً, مما نقله لك عمير.

فما انتهى من حلفه، وأخذت عيون الناس, تنتقل عنه إلى عمير بن سعد، حتى إذا جاء الفرج، حتى غشيت رسول الله صلوات الله عليه وسلامه السكينة، فعرف الصحابة أنه الوحي, فلزموا أماكنهم، وسكنت جوارحهم، ولاذوا بالصمت، وتعلقت أبصارهم بالنبي عليه السلام، وهنا ظهر الخوف والوجل على الجلاس، وبدأ التلهف والتشوّف على عمير، وظل الجميع كذلك، حتى سُرِّي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ يعني انتهى الوحي، فتلا قوله تعالى، اسمعوا الآية:

﴿ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (74)﴾

[ سورة التوبة ]

هذه الكلمة التي قالها الجلاس, كلمة كفر، بل إن العلماء يقولون: من أمسك المصحف، وألقاه هكذا, ليهينه, فقد كفر، أن تقول: لو كان محمد صادقاً فيما يزعم, فمعنى ذلك أنك لست متأكداً, قال تعالى:

﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15)﴾

[ سورة الحجرات ]

أنت مشكك, قال تعالى: (يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَاباً أَلِيماً) يعني يعلم السر وأخفى, قال تعالى:

﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً (12)﴾

[ سورة الطلاق  ]

إذا علمت أن الله يعلم, استقمت على أمره, قال تعالى:

﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً (1)﴾

[ سورة النساء ]

فارتعد الجلاس من هول ما سمع، وكاد ينعقد لسانه من الجزع، ثم التفت إلى النبي عليه الصلاة والسلام, وقال: ما تتوقعون أن يقول قبل قليل؟ قال: كذب وأتحالف أنني لم أقل هذا، قال: بل أتوب يا رسول الله، صدق عمير يا رسول الله، وكنت من الكاذبين، اسأل الله أن يقبل توبتي، جعلت فداك يا رسول الله، لذلك:

﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53)﴾

[ سورة الزمر ]

(( لله أفرح بتوبة عبده من الضال الواجد، والعقيم الوالد، والظمآن الوارد ))

[ رواه ابن عساكر في أماليه ]

وهنا توجه النبي عليه الصلاة والسلام إلى الفتى عمير بن سعد, فإذا دموع الفرح تبلل وجهه المشرق بنور الإيمان، فمدَّ النبي عليه الصلاة والسلام يده الشريفة إلى أذنه, وأمسكها برفق, وقال: وفَّت أذنك يا غلام ما سمعت، وصدقك ربك.

السيدة عائشة رضي الله عنها في حديث الإفك، كان أقصى مناها: أن يرى النبي رؤيا تبرئها، فإذا وحيٌ ينزل يبرئها.

فهذا طفل صغير, وحي ينزل على النبي, يبرئه من الكذب، عاد الجلاس إلى حظيرة الإسلام، وحسن إسلامه، وقد عرف الصحابة صلاح حاله, مما كان يغدقه على عمير.

قد تتوقعون من الجلاس أنه قد جرح من ابن زوجته جرحاً بليغاً، لا, فبعد أن تاب إلى الله عز وجل, رأى أن هذا الغلام سبب توبته، وسبب رجعته إلى الله عز وجل، يعني:

إذا رجع العبد العاصي إلى الله, نادى مناد في السموات والأرض, أن هنئوا فلاناً فقد اصطلح مع الله

وقد عرف الصحابة صلاح حاله, مما كان يغدقه على عمير من بر، وقد كان يقول كلما ذكر عمير: جزاه الله عني خيراً, فقد أنقذني من الكفر, وأعتق رقبتي من النار.

هذا طفل صغير في العاشرة من عمره، رد إحسان عمه إحساناً مثله, عن طريق أنه حمله على التوبة.

 و الحمد لله رب العالمين

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور