وضع داكن
28-03-2024
Logo
الخطبة : 0772 - الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر - دروس من الإسراء و المعراج .
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الخطبة الأولى:

 الحمد لله نحمده ، ونستعين به ونسترشده ، ونعوذ به من شرور أنفسنـا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقراراً بربوبيته ، وإرغامـاً لمن جحد به وكفر . وأشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله سيد الخلق والبشر ، ما اتصلت عين بنظر ، أو سمعت أذن بخبر ، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وعلى ذريته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين .
 اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً ، وأرنا الحــق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

الثوابت والمتغيرات في الإسلام :

 أيها الأخوة الكرام : ما من يوم يحتاج فيه المؤمنون أمسَّ الحاجة إلى الوحدة والائتلاف والتعاون والتضامن كهذه الأيام . وفي الإسلام ثوابت ومتغيرات ؛ الثوابت لا خلاف فيها ، وتغطيها النصوص القطعية ، قطعية الدلالة ، وإجماع الأمة ، والمتغيرات مواطن الاجتهاد ، والاجتهاد في أصله ظني ، لذلك الله جلّ جلاله أقام الحجة البينة على خلقه في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ، وهذه الحجج القاطعة - النصوص القطعية - في الكتاب والسنة ، ومواضع الإجماع لا مجال فيها لتطوير ، ولا لاجتهاد ، ولا يحل الخلاف لها وفيها إلا لمن علمها . الإمام الشافعي يقول : " كل ما أقام الله به الحجة في كتابه ، أو على لسان نبيه منصوصاً بيناً لم يحلَّ الاختلاف فيه لمن علمه ".
 هذا هو الشرع المنزل .. أما المتغيرات فيُقصد بها مواضع الاجتهاد ، وكل ما لم يقم عليه دليل قاطع من نص صحيح ، أو إجماع صريح ، وهذا هو الشرع المُؤول .

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر القطب الأعظم في الإسلام :

 أيها الأخوة الكرام هذه مقدمة ، الموضوع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أجلّ الفرائض في الإسلام ، بل هو الفريضة السادسة ؛ صوم وصلاة وحج وزكاة وشهادة أن لا إله إلا الله ، وفرضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
 أيها الأخوة الكرام: ما الثوابت في موضوع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة ، وفي هذه الفريضة ثوابت ومتغيرات ، فما هي الثوابت القطعية في موضوع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؟
 الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو القطب الأعظم ، وهو أهم ما في مهمات الأنبياء والمرسلين أجمعين .
 بإقامة الأمر بالمعروف على وجهه كما أمر الله عز وجل ، استحقت هذه الأمة أن تكون خير أمة أخرجت للناس ، هي خير أمة أخرجت للناس لعلة - أي لسبب - هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، قال تعالى :

﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾

[ سورة آل عمران : 110]

 والأمة التي استحقت اللعن والهلاك ، سبب هذا اللعن والهلاك أنهم كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه ، قال تعالى :

﴿كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ﴾

[ سورة المائدة : 79]

 دقق بين الآيتين ، أمة أمرت بالمعروف ونهت عن المنكر ، فاستحقت أن تكون خير أمة أخرجت للناس ، وأمة لا يتناهى أفرادها عن المنكر استحقت لعنةَ الله وغضبه إلى يوم القيامة .

﴿كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ﴾

[ سورة المائدة : 79]

 أيها الأخوة الكرام ، المفروض على كل مسلم يقوم بهذه الشريعة أن يأمر بالمعروف وأن ينهى عن المنكر ، هذا محور الخطبة اليوم ، لكن الشيء الذي يدعو للألم هو أن هذه الفريضة السادسة قد ضُيعت في واقعنا المعاصر ، ما بين ناء عنها بشبهات أو شهوات ، وبين مستخدم لها بلا فقه ولا بصيرة ولا نظر فيما يصلح وما لا يصلح ، فالذي حصل أن الذي نتج عن استخدام هذه الفريضة من دون نظر ولا حكمة ولا فقه ولا تبصرٍ أسخط الله عز وجل أكثر من المنكرات التي أُنكرت بغير حكمة وبغير مسؤولية .

 

الثوابت القطعية في موضوع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر :

1 ـ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض كفاية :

 من الثوابت في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؛ الشيء الأول هو أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض كفاية ، وقد يصبح فرضَ عين في بعض الحالات ، لقول الله عز وجل :

﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾

[ سورة آل عمران : 104 ]

 لم يقل كونوا جميعاً آمرين بالمعروف ، فإذا قام به أحد ، أو جماعة مما تحصل به الكفاية ، سقط الحرج عن الآخرين ، واختص الفلاح بالقائمين به ، وإن تقاعس الخلق أجمعون عمّ الحرج على القادرين عليه كافة لا محالة ، وعندئذ يصبح فرض عين على القادر الذي لم يقمْ به غيره .
 الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض كفاية إذا قام به أحد ، أو قام به مجموع سقط الحرج عن الآخرين ، وأصبح هؤلاء الذين فعلوه من الفالحين ، فإذا تقاعس كل الناس عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقعت الأمة كلها في حرج شديد ، وأصبح الأمر بالمعروف فرضَ عين على القادر إذا لم يقم غيرك به .
 هذا هو الثابت الأول ، وهذه هي الحقيقة الأولى في الفريضة السادسة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .

 

2 ـ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على كلّ المسلمين :

 الحقيقة الثانية : لعموم قول النبي عليه الصلاة والسلام :

(( مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ ))

[متفق عليه عن أَبُي سَعِيدٍ الخُدريّ]

 وفي قول آخر :

((فَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِيَدِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ ، وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِلِسَانِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ ، وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِقَلْبِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ ، وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ الْإِيمَانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ ))

[ مسلم عن عبد الله بن مسعود]

 أي إذا لم تنكر بقلبك وهذا أضعف الإيمان ليس في هذا القلب حبة خردل من إيمان.
 أيها الأخوة الكرام : البند الثاني والحقيقة الثانية أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على كل المسلمين جماعات وآحاداً . يقول الإمام النووي رحمه الله تعالى : " لا يختص الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بأصحاب الولايات بل ذلك جائز لآحاد المسلمين" .
 ويقول الإمام القرطبي رحمه الله تعالى : " إن المنكر واجب تغييره على كل من قدر عليه ، وإنه إذا لم يلحقه بتغييره إلا اللوم الذي لا يتعدى إلى الأذى ، فإن ذلك لا يجب أن يمنعه من تغييره ." لو أن الناس لاموك ، لو أن فتاةً متبذلة ، أليس لها أبٌ ؟ أليس لها خالٌ؟
 لو أن أباها أو عمها أو خالها أمرها ولامه الآخرون على أمره ينبغي أن يأمرها بالتستر والتعفف والاحتشام .
 أيها الأخوة الكرام :يقول الإمام الغزالي رحمه الله تعالى : " كل من رأى منكراً فسكت عنه وهو قادر على أن ينكره فقد عصى الله " أن ينكره بطريقة أو بأخرى .
 إذاً الحقيقة الأولى هي أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض كفاية ، ويصبح فرض عين إذا تقاعس عنه الآخرون .
 والحقيقة الثانية هي أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على كل المسلمين ، جماعات وآحاداً .

 

3 ـ عدم الإنكار في مواضع الاجتهاد :

 والحقيقة الثالثة هي أنه لا إنكار في مواضع الاجتهاد ، القضية الاجتهادية ، والقضية الاحتمالية ، القضية التي لها وجوه بين علماء الأمة الكبار المعتمدين الورعين المتحققين ، هذه قضية اجتهادية لا مجال فيها لإنكار المنكر ، لأن الله سبحانه وتعالى تعبدنا باجتهاد الأئمة .
 مسائل الاجتهاد من عمل فيها بقول بعض العلماء لم يُنكر عليه ، ولم يهجر ، ومن عمل بأحد القولين لم يُنكر عليه ، فإن ظهر للإنسان رجحان أحد القولين عمل به ، وإلا قلد بعض العلماء الذين يُعتمد عليهم في بيان أرجح القولين .
 الاختلاف في الأحكام الاجتهادية أكثر من أن يُضبط ولو كان كلما اختلف مسلمان في شيء تهاجرا لم يبق بين المسلمين عصمة ولا أخوة .
 والإمام الغزالي رحمه الله تعالى يقول : " لا يُنكر إلا المنكر الظاهر بلا تجسس ، والمعلوم يقيناً بغير اجتهاد ، هذا الذي ينكر " هذه الحقيقة الثالثة في موضوع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ضرورة إقامة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الوجه الذي أراده الله :

 أيها الأخوة الكرام : لو أن هذه الفريضة السادسة أُقيمت على الوجه الذي أراده الله عز وجل لكنا في حال غير هذا الحال ، ماذا يحصل عندئذ ؟
 تضيق دوائر المنكر وتتسع دوائر المعروف ، يضيق الباطل ويتسع الحق ، ينتشر الحق ويمحق الضلال ، أما إذا سكت المسلم عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر اتسعت دوائر الباطل ، وضاقت دوائر الحق ، بل إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أجل بقاء الحق لا من أجل توسيعه ، بل إن أحد أركان النجاة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لقوله تعالى:

﴿ وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴾

[ سورة العصر: 1-3]

 هذه فريضة من أجل الفرائض .. أيها الأخوة الكرام :

(( بلغوا عني ولو آية ))

[البخاري عن ابن عمرو ]

(( ..فَرُبَّ مُبَلَّغ أوْعَى من سامع ))

[أبو داود وصححه الترمذي وابن حبان ولفظه رحم الله امرأً عن ابن مسعود]

﴿ إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴾

[ سورة العصر: 1-3]

 لو أن كل إنسان ضبط بيته ، لو أن كل إنسان نصح إخوته ، وأخواته ، وجيرانه ، وأصدقائه ، ومن يعمل معه ، بالموعظة الحسنة ، والدليل الناصع ، والبيان المشرق ، والتلطف الكثير ، والرقة البالغة ، لكنا في حال غير هذا الحال . ما الذي دعا أمةً أن تستحق سخط الله وغضبه ، ولعنته ..

﴿كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ﴾

[ سورة المائدة : 79]

 والأمة الإسلامية ، حينما لا يتناهى أفرادها عن المنكرات تستحق غضب الله ولعنته.

 

4 ـ حسم المنكر بما ينحسم به :

 الحقيقة الرابعة في موضوع الأمر بالمعرف والنهي عن المنكر ؛ يجب أن يُحسم المنكر بما ينحسم به ، لا بأكثر من ذلك ، فإذا كان هذا المنكر يحسم بكلمة لطيفة ، لا ينبغي أن تستخدم الكلمة الخشنة ، إذا كان هذا المنكر يحسم بقطيعة هادفة ، لا ينبغي أن يُستخدم أكثر من هذه القطيعة ، إذا كان هذا المنكر يحسم بالتعنيف لا ينبغي أن تحسمه بالضرب ، المنكر يجب أن يُحسم لا بالوسيلة الأقوى والأقسى ، بل بما ينحسم به ، وهذه حقيقة ثابتة في قضايا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، القول اللين أولاً ، فإن لم يجد فالقول الخشن ، فإن لم يجد كان التغيير باليد ، هذا فيما تملك من أسرتك ، وفيما تملك من عملك .

5 ـ الاقتصار في التغيير على قدر الحاجة :

 أيها الأخوة الكرام: والحقيقة الخامسة في موضوع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن تقتصر في التغيير على قدر الحاجة ، فالمقصود إزالة المنكر لا العقوبة عليه ، ليس آحاد المسلمين مكلفاً أن يعاقب عن المنكر ، مكلفٌ أن يزيله فقط ، فالمقصود إزالته وليست العقوبة عليه .
 هناك دفع وهناك زجر وهناك عقوبة ، فالعقوبة على الماضي ، والزجر على المستقبل ، والدفع على الحاضر ، العقوبة والردع من مهمات أولياء الأمور أما آحاد المسلمين فمهمتهم الدفع فقط ، أن تزيل المنكر لا أن تعاقب عليه ، وهذا فيما تستطيع ، والقاعدة الأساسية أنه إذا نتج عن إنكار المنكر منكر أسخط لله تعالى من المنكر الذي أنكرته عندئذ لا ينبغي أن تنكر هذا المنكر لا بلسانك ولا بيدك ، يُكتفى أن تنكره بقلبك ، وهذا أضعف الإيمان .

درجات الإنكار :


 أيها الأخوة الكرام : درجات الإنكار كما قال بعض العلماء : التعريف و التبيين ؛ هذا منكر ، هذه مخالفة شرعية ، هذا عمل لا يرضي الله ، هذه الآية ، وهذا الحديث ، وهذا التوجيه ، وهذه سنة النبي ، وهذا رأي الفقهاء ، وهذا رأي الأئمة الأعلام ، بيّن .. التبيين أولاً ، ثم النهي بالنصح والموعظة الحسنة ثانياً ، ثم القول الخشن لمن تقدر على توجيهه ثالثاً ، ثم الإنكار باليد ، ثم التخويف ، ربنا جلّ جلاله كيف يوجه عباده ؟ بالدعوة البيانية ، قال تعالى :

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ﴾

[سورة الأنفال: 24]

 فإن لم يستجيبوا فالله جل جلاله ماذا يفعل ؟ التأديب التربوي :

﴿وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾

[سورة السجدة: 21]

 ثم بالإكرام الاستدراجي ، ثم بالقصم ، لابد من التدرج ، يجب أن توضح ، وأن تبين، وأن تنصح برقة بالغة ، ثم أن تزجر ، ثم أن تقاطع ، ثم أن تخوف ، ينبغي أن تنتقل من درجة إلى درجة ، لأن النبي عليه الصلاة والسلام يقول :

(( من أمر بمعروف فليكن أمره بمعروف ))

[البيهقي عن ابن عمرو ]

 رجل دخل على أمير وقال : سأنصحك وسأغلظ عليك ، فكان هذا الأمير أفقه من الواعظ ، قال : ولمَ الغلظة يا أخي لقد أرسل الله من هو خير منك إلى من هو شر مني أرسل موسى إلى فرعون ؟ لستَ أنت كموسى ولستُ أنا كفرعون ، فقال له :

﴿فَقُولَا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ﴾

[ سورة طه: 44]

 قال له : ولمَ الغلظة يا أخي ؟ من أمر بمعروف فليكن أمره بمعروف .

 

6 ـ إنكار القلب يجب أن يكون كاملاً وجازماً :

 البند السادس والحقيقة السادسة في هذا الموضوع موضوع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هي أن إنكار القلب يجب أن يكون كاملاً وجازماً ، في جميع الأحوال ، لأن حب القلب وبغضه لا سلطان لأحد عليه ، ولا ترد على القلب عوارض الإكراه إطلاقاً ، لذلك يجب أن يبقى كاملاً وجازماً ، لأن أي نقص في إنكار القلب هو نقص في الإيمان ، لأن القلب لا سلطان لأحد عليه ، ولا يجري عليه الإكراه ولا الضغط ، فاللذي لا يُنكر بقلبه ليس فيه حبة خردل من إيمان لقول النبي عليه الصلاة والسلام :

((....وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِقَلْبِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ الْإِيمَانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ ))

[ مسلم عن عبد الله بن مسعود]

معرفة المعروف والمنكر فرض عين لا يسقط عن أحد :


 أيها الأخوة الكرام ، مرة ثانية ، لو أمرنا بالمعروف ، ونهينا عن المنكر ، وفق منهج الله عز وجل ، لكنا في حال غير هذا الحال ، لو أمرنا بالمعروف ونهينا عن المنكر لتوسعت دوائر الحق ولضاقت دوائر الباطل ، لو أن كل إنسان تعهد أن يقيم الإسلام في بيته ، إقامة باليد ، وأن ينصح من حوله من أخوة ، من أخوات ، من جيران ، من أصدقاء ، هؤلاء جميعاً لو تعاونوا على البر والتقوى لكان المسلمين في أحسن حال . ابن مسعود رضي الله عنه ، سمع رجلاً يقول : هلك من لم يأمر بالمعروف ولم ينه عن المنكر ، فقال ابن مسعود :"هلك من لم يعرف المعروف والمنكر" لأن معرفة المعروف والمنكر فرض عين لا يسقط عن أحد ، فمن لم يعرفه هلك، أما الإنكار باللسان واليد فإنما يجب بحسب الاستطاعة. هذا قول ابن مسعود رضي الله عنه.
 ذكرت لكم في خطبة سابقة ، أن الذي يهبط بالمظلة ، قد يجهل شكل المظلة ، أمستطيلة هي أم مربعة أم دائرة ؟ ونوع قماشها ، ولون قماشها ، وأطوال حبالها ، وعدد حبالها ، وألوان حبالها ، وعن الخيوط التي صُنعت منها حبالها ، لو جهل كل هذه الحقائق ينزل إلى الأرض سالماً ، أما إذا جهل طريقة فتحها نزل ميتاً ، فمعرفة طريقة فتح المظلة فرض عين على كل مظلي ، وفي الإسلام حقائق هي فرض عين على كل مسلم أن يعرفها ، ولا يُعذر في جهلها أحد لأنها مهلكة ، لذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وسيلة إلى تعريف الناس بهذا الذي ينبغي أن يعرفوه بالضرورة ، وسيلة إلى تعريف الناس بهذا الذي ينبغي أن يعرفوه ، يجب أن يعرفوه .

 

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة كبقية الفرائض :

 أيها الأخوة الكرام ،: من أجمع الآيات التي توضح هذه الحقيقة قوله تعالى :

﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾

[سورة المائدة: 2]

 نتعاون على البر ؛ صلاح الدنيا ، والتقوى صلاح الآخرة ، يجب أن تنطق بالحق، الساكت عن الحق شيطان أخرس ، ولكن هناك ضوابط كثيرة سوف أعددها إن شاء الله في خطبة قادمة .
 يجب أن نعتقد أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة كفريضة الصلاة ، كيف نصلي ؟ الصلاة فريضة ، لماذا نصوم ؟ لأن الصوم فريضة ، لماذا نحج إن كنا مستطيعين ؟ لأن الحج فريضة ، لماذا نؤدي الزكاة إذا ملكنا النصاب ؟ لأن الزكاة فريضة ، لماذا نأمر بالمعروف ؟ لأنه فريضة .

﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾

[ سورة آل عمران : 104 ]

 فإذا ترك المسلمون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليسوا خير أمة أخرجت للناس عندئذ ، كما قال بعض العلماء صاروا أمة التبليغ لا أمة التشريف ، بلغوا ولم يشرفوا بهذه المهمة . وهذا الأمر أيها الأخوة يجب أن نفهمه فهماً دقيقاً ، الأب ينبغي أن يأمر من حوله ، ويأمر أقرباءه ، ومن له سلطان أدبي عليهم ، إن فعل هذا ضاقت دوائر الباطل واتسعت دوائر الحق ، وكنا في حال غير هذا الحال ، وإلا الأمة التي لا يتناهى أفرادها عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تستحق لعنة الله وغضبه إلى يوم القيامة .
 أيها الأخوة الكرام حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا ، وتخطى غيرنا إلينا فلنتخذ حذرنا ، الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتبع نفسه هواها ، وتمنى على الله الأماني .

* * *

الخطبة الثانية :
 أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، صاحب الخلق العظيم، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

بركات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر :

 أيها الأخوة الكرام :مثل تطبيقي ، ذكرت أكثر من مرة في هذه الخطبة أن الإنسان مُكلف أن يأمر بالمعروف وأن ينهى عن المنكر بلسانه ويده فيما ملكه الله قطعاً ، في بيتك ، وفي عملك ، ولو أن كل مسلم - وأقول هذا آلاف المرات- أقام في بيته الإسلام وفي عمله لوجدتم بعد حين أن المجتمع كله بخير ، وهذه من بركات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
 لو أن أحد محارمك جاء إلى بيتك ، ابنة أخيك مثلاً ، ورأيتها في ثياب لا ترضي الله ، فنصحتها ، المرة الثانية قبل أن تأتي إلى البيت ترتدي الثياب التي ترضى بها عنها ، وهكذا فكلما اتسعت دوائر الأمر بالمعروف رأيت الناس ينضبطون ، بعد حين قد تكتشف أن الثياب المحشومة أكمل لها ، فبهذه الكلمة التي ما كلفت العم إلا دقائق أزال منكراً وأقام معروفاً ، أما إذا سكت وأجرى كامل المودة وهي على ما هي عليه من التفلت لكان سكوته إقراراً ، وهذه مشكلة ، الصغير إذا رأى الكبير ساكتاً على انحرافاته يظن أن الكبير يقره على انحرافاته، فالإنسان هناك دائرة حوله من أقربائه من محارمه إذا بقي ساكتاً كان سكوته إقراراً .

دروس من الإسراء و المعراج :

 أيها الأخوة الكرام : مرت قبل أيام مناسبة الإسراء والمعراج ، ولا أريد أن أطيل عليكم إنه يعلمنا أن الدنيا دار التواء لا دار استواء ، ومنزل ترح لا منزل فرح ، فمن عرفها لم يفرح لرخاء ، ولم يحزن لشقاء ، وأن الله قد جعلها دار بلوى ، وجعل الآخرة دار عقبى ، فجعل بلاء الدنيا لعطاء الآخرة سبباً ، وجعل عطاء الآخرة من بلوى الدنيا عوضاً ، فيأخذ ليعطي ويبتلي ليجزي .
 إنه يعلمنا أن للمحن والمصائب حكماً جليلة منها أنها تسوق أصحابها إلى باب الله تعالى ، وتلبسهم رداء العبودية ، وتلجئهم إلى طلب العون من الله .
 إنه يعلمنا أنه لا ينبغي أن تصدنا المحن والعقبات عن متابعة السير في استقامة وثبات .
 إنه يعلمنا أنه ما دام الله هو الآمر فلا شك أنه هو الضامن والحافظ والناصر .
 إنه يعلمنا أنه لولا الجهاد والصبر ما عبد الله في الأرض ، ولا انتشر الإسلام في الخافقين ، ولما قمنا في هذا المكان نوحد الله ونسبحه وندعو إليه .
 إنه يعلمنا أن اليسر مع العسر ، وأن النصر مع الصبر ، وان الفرج مع الكرب .
 إن من أجلّ دروس الإسراء والمعراج أن الله تعالى كرم النبي محمداً صلى الله عليه وسلم بالعروج إليه لينال أعلى درجات القربات ، وكرَّم أمته بأن فرض عليهم الصلوات لتكون معراجاً لهم إلى رب الأرض والسموات .
 أيها الأخوة الكرام هذه المناسبات الدينية ينبغي أن نستخلص منها الحقائق والعبر كي تكون هذه الحقائق والعبر نبراساً لنا في طريق الإيمان ، وفي طريق السير إلى الدار الآخرة .

الدعاء :

 اللهم اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولنا فيمن توليت ، وبارك لنا فيما أعطيت ، وقنا واصرف عنا شرّ ما قضيت ، فإنك تقضي بالحق ولا يُقضى عليك ، إنه لا يذل من واليت ، ولا يعز من عاديت ، تباركت ربنا وتعاليت ، لك الحمد على ما قضيت ، نستغفرك ونتوب إليك ، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا ، ودنيانا التي فيها معاشنا ، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردنا ، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير ، واجعل الموت راحة لنا من كل شر ، مولانا رب العالمين .
 اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك ، وبطاعتك عن معصيتك ، وبفضلك عمن سواك . اللهم لا تؤمنا مكرك ، ولا تهتك عنا سترك ، ولا تنسنا ذكرك يا رب العالمين .
 اللهم استر عوراتنا ، وآمن روعاتنا ، وآمنا في أوطاننا ، واجعل هذا البلد آمناً سخياً رخياً ، وسائر بلاد المسلمين . اللهم صن وجوهنا باليسار ، ولا تبذلها بالإقتار ، فنسأل شر خلقك ونبتلى بحمد من أعطى ، وذم من منع ، وأنت من فوقهم ولي العطاء ، وبيدك وحدك خزائن الأرض والسماء . اللهم كما أقررت أعين أهل الدنيا بدنياهم فأقرر أعيننا من رضوانك يا رب العالمين . اللهم ما رزقتنا مما نحب فاجعله عوناً لنا فيما تحب ، وما زويت عنا ما نحب فاجعله فراغاً لنا فيما تحب .
 اللهم بفضلك وبرحمتك أعل كلمة الحق والدين ، وانصر الإسلام والمسلمين ، وأعز المسلمين ، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى إنك على ما تشاء قدير وبالإجابة جدير.

 

تحميل النص

إخفاء الصور