وضع داكن
29-03-2024
Logo
موضوعات إسلامية - متفرقة : 010 - الهجرة - 5 - تنظيم المجتمع الإسلامي في المدينة
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، و الصلاة و السلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علِّمنا ما ينفعنا و انفعنا بما علَّمتنا و زدنا علماً، و أرنا الحق حقًّا و ارزقنا اتِّباعه، و أرنا الباطل باطلاً و ارزقنا اجتنابه، و اجعلنا ممن يستمعون القول فيتَّبعون أحسنه، و أدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

خطوات تنظيم المجتمع الإسلامي في المدينة :

1 ـ بناء المسجد النبوي الشريف :

 أيها الأخوة الأكارم ؛ لا زلنا في السيرة النبوية الشريفة، و لا زلنا في موضوع الهجرة، و ما تلا هذا الموضوع من حوادث و من عبر تُستنبط من هذه الحوادث.
 الآن وصل النبيُّ عليه الصلاة و السلام إلى المدينة المنورة، و يُعدُّ وصولُه إليها إشعارا بظهور أول كيان للمسلمين، سماها الفقهاءُ دار الإسلام، ظهر أولُ كيان للمسلمين، ماذا فعل النبيُّ عليه الصلاة و السلام في تنظيم هذا المجتمع؟ دقِّقوا فيما فعله النبيُّ، أو في العمل الذي بدأ به النبيُّ عليه الصلاة و السلام في تنظيم هذا المجتمع.
 أولُ شيء فعله بنى المسجد النبويَّ الشريف، إذًا يُعدُّ المسجد الأساس الأول للمجتمع الإسلامي، السؤال لماذا؟ لماذا يُعدُّ المسجد الأساس الأول للمجتمع الإسلامي؟ لأن الإسلام عقيدة، والإسلام نظام، والإسلام آداب، في أيِّ مكان تُبثُّ هذه العقيدة؟ و في أيِّ مكان يُعلّم هذا النظام؟ و في أيِّ مكان تُرسَّخ هذه الآداب غير المسجد؟ إذًا لا مجتمع إسلامي إلا بمسجد، ما الطريقة التي يمكن أن نصل بها إلى المسلمين؟ كيف نخاطب المسلمين؟ كيف نرسِّخ فيهم العقيدة الصحيحة؟ إذًا حينما بدأ النبيُّ عليه الصلاة و السلام بإنشاء مسجد في المدينة هو المسجد النبوي الشريف، كان هذا العملُ إشعاراً لنا أن المسجد ركيزة أولى و أساسية للمجتمع المسلم، قد يفهم أحدُكم أن المسجد كي نؤدِّي فيه الصلاة، أؤكِّد لكم أن أقلَّ وظيفة من وظائف المسجد إقامة الصلاة، كما أنه ليس هناك تجارة بلا متجَر، ليس هناك استيراد بلا مكتب، ليس هناك تحضير بلا مقر، ليس هناك جامعة بلا بناء، جامعة في الهواء؟؟ لها بناء، لها قاعات تدريس، ليس هناك أمة بلا وطن، أي الوطن أساسه الأمة، و الجامعة أساسها البناء، و القاعات و المكتبات و التجارة أساسها المتجر، و المجتمع الإسلامي أساسه المسجد، لذلك من علامة الإيمان أن يتعلَّق قلبُك بالمساجد، من علامة النفاق أن تنفر من المساجد، إذًا النبيُّ عليه الصلاة و السلام حينما باشر تنظيمه للمجتمع الإسلامي، النبيُّ عليه الصلاة و السلام حينما بدأ أولَ تنظيم للمجتمع الإسلامي بدأ بإقامة المسجد، في المسجد تُعلَّم العقيدة، في المسجد يُعلَّم نظامُ الإسلام، في المسجد تُعلَّم آدابه الرشيدة، إذًا إنشاء أول مسجد علامةٌ على أن المسجد هو أساس المجتمع الإسلامي.

صفات المجتمع الإسلامي :

الصفة الأولى هي الأخوة و المحبة :

 الشيء الآخر الحقيقة المجتمع؛ كلمة مجتمع أي أفراد بينهم علاقات متينة، هذه العلاقات المتينة القائمة على الأخوة و المحبة أساسها اللقاءُ، مثلاً الموضوع الذي يوضِّح هذه الفكرة موضوع صلة الرحم، لماذا أمرنا النبيُّ عليه الصلاة و السلام بصلة الرحم، ماذا يحدث لو ذهبتَ إلى أختك و زرتها في العيد؟ ماذا يحدث لو ذهبت إلى عمَّتك أو إلى خالتك أو إلى عمِّك أو إلى أقربائك؟ الحقيقة من السذاجة أن نظن أن صلة الرحم أن تزورهم في العيد، هذه الزيارة بداية التعرف على مشكلاتهم، لولا هذه الزيارة لما عرفتَ أحوالهم، ماذا يحتاجون؟ ماذا يشكون؟ و ما الذي يعانون؟ إذًا ليس القصدُ أن تزورهم، و أن يقدِّموا لك الضيافة، و أن تهنئهم بالعيد و السلام عليكم، و انتهى الأمرُ، لا، القصد أن تتعرف على أحوالهم وممَ يعانون؟ وماذا ينقصهم؟ وما يفرحهم و يؤلمهم؟ وإلام يشكون؟ إذًا ليس القصد الصلة، القصد المعرفة، و المعرفة ليست في حدِّ ذاتها هدفاً، الهدف أن تبادر إلى المساعدة، كأن الله عز وجل يريد من هذا المجتمع المسلم أن يكون متكاتفاً متعاوناً متعاضداً، إذًا الصلة وسيلة، والمعرفة وسيلة، و الهدف أن يتعاون المسلمون فيما بينهم، هذه حكمة العلاقة بين الأقرباء، أي هذه الأسرة أن تكون متماسكة، متعاونة، غنيُّها يعين فقيرها، قويُّها يعين ضعيفها، صحيحها يعين مريضها، أولو الخبرة فيها يعينون ضعيفي الخبرة فيها، فكذلك المسجد، المجتمع الإسلامي أساسه المحبة و التآخي، هذه المحبة و التآخي أين تكون؟ في اللقاء، كيف تعرف أخاك؟ من خلال المسجد، تتعرف إليه في المسجد، و تتعرف على أحواله، ومعاناته، وتفوُّقه، و ضعفه، وحاجاته، الحقيقة ليس القصدُ أن تلتقيَ بأخيك في المسجد، القصد أن تعرف أحواله، القصد أن يتعاون المؤمنون فيما بينهم، مثلاً أخٌ له حِرفة، له مهنة في هذا المسجد، أو أيِّ مسجد آخر، نحن يجب أن نشجِّعه، يجب أن نبادر إلى التعاون معه، لأنه هو المؤمن الصادق الذي لا يغشُّ و لا يكذب، لا يطعنك في الظهر مثلاً، فطبعاً هذا الذي يثق المؤمنون به وهو يستغلُّ هذه الثقة ليـأخذ منهم فوق ما يجب، أو هذا الذي يستغلُّ ثقة المؤمنين به ليطلب من إخوانه فوق ما يستطيعون، هذا خانهم، حينما يأتيك أخٌ إلى دكانك، أو إلى متجرك، أو إلى مكتبك، وهو مملوء ثقة بأنك مسلم و أنك مؤمن و أنك لن تغشَّه، فإذا أنت استغليت هذه النقطة، و رفعتَ عليه السعرَ فقد خُنته، لذلك الموضوع هو أن هذا المجتمع المسلم يتميَّز بعقيدة، و نظام، و أخلاق، العقيدة و النظام و الأخلاق لا تُبثُّ و لا تُلقى إلا في بيوت الله، و حينما تأتي إلى بيت الله تأتي لتتزوَّد بالعقيدة الصحيحة، و لتعرف نظام الإسلام، لتعرف آداب الإسلام، أنت بين عقيدة و بين عبادات و بين معاملات و بين أخلاق، فالعقيدة في دروس العقيدة، و العبادات في دروس الفقه، و المعاملات في دروس الفقه، و الآداب في دروس التزكية، إذًا المسجد الذي بناه النبيُّ عليه الصلاة و السلام كأوَّل عمل فعله هو ركيزة المجتمع الإسلامي، و السبعة الذين يظلُّهم الله تحت ظله يوم لا ظلَّ إلا ظلُّه من هؤلاء السبعة: و شاب قلبه معلَّق بالمساجد، و علامة المؤمن أنه في المسجد كالسمك في الماء، لأنه بيتٌ من بيوت الله.

الصفة الثانية هي المساواة :

 الشيء الثاني: من صفات المجتمع الإسلامي المساواة، أما المساواة فلا تكون إلا في المسجد، يجوز في عالَم التجارة المدير العام له مكتب فخم جدًّا، و الموظَّف الصغير له غرفة صغيرة جدًّا، هناك فارق كبير بين مكتب المدير العام و مكتب الموظَّف الصغير، لكن كل الفروق الدنيوية التي أساسها المالُ أو العلم، أو العلم الدنيوي، أو القوة، كل هذه الفروق تتلاشى في المسجد، أقلُّ المسلمين شأناً مع أعظمهم شأناً، أقل المسلمين مالاً مع أكثرهم مالاً، أقل المسلمين نباهةً يجلسون جنباً إلى جنب في بيت من بيوت الله، هذا الجلوس الموحَّد، و هذه الصلاة الموحَّدة، وهذا الذكر الموحَّد، وهذه المظاهر الصارخة التي توحِّد المسلمين أيضاً علامة من علامات الأخوة الصادقة بينهم، في المسجد تتعلَّم العقيدة، و تتعلَّم العبادات و المعاملات و الأخلاق، في المسجد نلتقي مع بعضنا بعضاً، نتعرَّف إلى أحوال بعضنا بعضاً، ونتعاون على صلاح الدنيا و الآخرة، في المسجد نلتقي على شكل متساو، ونحن في المسجد سواسية كأسنان المشط، هذا مما يرسِّخ العلاقة الطيِّبة بين المؤمنين.

العناية بالمساجد لجذب الناس إليها :

 الحقيقة الذي يعتني بالمسجد بناءً كنتُ ذكرت لكم أن أحد أصحاب رسول الله كان في الشام اشترى قناديل، و اشترى ما تُعلَّق به، و اشترى الفتيلَ، و حينما جاء المدينة المنورة أمر غلامَه أن يعلِّق القناديل، وأن يسرج هذه القناديل، فلما دخل النبيُّ عليه الصلاة و السلام رأى المسجد في صلاة العشاء و قد ابتهج و قد نوَّرته هذه القناديل، قال: من فعل هذا؟ قالوا: تميم الداري، فطلبه و أثنى عليه و قال: " نوَّر اللهُ قلبَك كما نوَّرت المسجد، لو عندي فتاة لزوَجتكها" .
 من شدَّة سروره عليه الصلاة و السلام، أي إذا جاء أخ إلى المسجد ووجد المسجد مريحاً، نظيفاً، وجده مريحاً في التهوية و في التدفئة مثلاً، هناك ماء بارد و هناك ماء ساخن في الشتاء، و الجلسة مُريحة، والمرافق جيِّدة، هذا كلُّه يجذب الناسَ إلى المسجد، هناك أشخاص يتحسَّسون من التقصير في نظافة المسجد، يتحسَّسون من الجوِّ الحار أحياناً، يتحسَّسون من ضعف الصوت، فكلُّ من يسهم في توفير راحة رواد المسجد، راحة المصلِّين، راحة طلبة العلم، فهذا له عند الله أجرٌ كبير، لأنه يحبِّب الناسَ بالمسجد، يجذبهم إلى المسجد.
 الحقيقة أن هناك علماء رأوا أن الأموالَ يجب أن تُنفق في بناء المساجد لا في المبالغة في زخرفة المساجد، المبالغة في زخرفة المساجد ربَّما صار عليها إشكالٌ و خلافٌ بين العلماء، على كلٍّ الحكم الفقهي لا يجوز صرفُ أموال الوقف على زخرفة المساجد، لكن يجوز أن ينفق الإنسانُ بطواعية منه و مبادرة منه مالاً على تزيين المسجد، لكن يبقى التزيينُ المعتدِل مقبولاً و التزيين المبالغ به مكروهاً، كراهة تنزيهية عند عامَّة الفقهاء، لأن الإنسان إذا دخل إلى بيت الله و شُغِل بهذه الزخرفة و هذه التُحف و هذه الخطوط و تلك الثُّريات، رُبَّما انشغل عن صلاته بتأمُّل هذه الزخرفة، لكن ربُّنا عز وجل قال:

﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ ﴾

[سورة النور: 36]

 و معنى ترفع، فيها معنى زيادة على تُبنى، رفعُ البناء أن يكون بمظهر يجذب النفسَ إليه.

 

2 ـ تأسيس دار الإسلام :

 العمل الثاني الذي فعله النبيُّ عليه الصلاة و السلام، أول عمل بناء المسجد، بناء المسجد هو ركيزة المجتمع الإسلامي، لا مجتمع إسلامي بلا مسجد، مركز إشعاع، مركز تعليم، مركز عبادة، مركز ذكر، مركز تعاون، بل إن دور المسجد في العصور الإسلامية كان خطيراً جدًّا، أي في كلِّية التربية درسنا في التربية الإسلامية دور المسجد، المسجد كان جامعة، و المسجد كان دارَ قضاء، و المسجد كان دار فتوى، و المسجد كان دار تعليم، و المسجد كان دار حلِّ مشكلات المسلمين، مكان لقاء، من المسجد تُجيَّش الجيوش، من المسجد يُعلَن السِّلم و الحرب، كان المقرَّ الأساس للمجتمع الإسلامي.
 الآن البند الثاني؛ البند الثاني الذي فعله النبيُّ صلى الله عليه و سلم بعد أن دخل المدينة و استقرَّ فيها، و بعد أن ظهر أول كيان للمسلمين مستقلٍّ عن كيان قريش أصبح هناك ما يُسمَّى في الفقه دار إسلام، نحن الآن عندنا دار إسلام، و عندنا دار أمان، و عندنا دار حرب، الأرض كلُّها لا تعدو عن أن تكون أحدَ هذه الدور، دار الإسلام أي البلاد التي يقطن بها المسلمون و يحكمها المسلمون، و دار الأمان البلاد التي بينها و بين المسلمين معاهدات، أي وجود سفارة لدولة أجنبية في بلادنا، ووجود سفارة لبلادنا في بلاد أجنبية، هذه الدولة الأجنبية أصبحت دار أمان، و الدار الثالثة الدار التي تُعقَد بينها و بين المسلمين أو فيها حالة حرب، فبلاد اليهود دار حرب، الدول الصديقة دار أمان، البلاد التي يقطن بها المسلمون و يحكمها المسلمون، أي يطبَّق فيها حكمُ الله عز وجل دار إسلام، فأول دار إسلام في التاريخ الإسلامي أسسها النبيُّ عليه الصلاة و السلام بعدما انتقل إلى المدينة و أسَّس المجتمع الإسلامي.
 الآن ماذا فعل في البند الثاني؟ البند الثاني، النبيُّ عليه الصلاة و السلام رسَّخ الأخوة بين المؤمنين، أوَّلاً أمر المؤمنين ليتآخوا اثنين اثنين، مهاجر و أنصاري، هذه الأخوة الإنسان في الحياة الدنيا، و الحياة فيها متاعب، و فيها هموم، و فيها قسوة، أعظم ما في الحياة أن يكون لك أخٌ مؤمن، صادق، وفيٌّ، محبٌّ، مخلص، فممَّا يخفِّف قسوةَ الحياة، و ممَّا يخفِّف المعاناة التي يعانيها الناس وجود الأخوة في الإسلام.
 الحقيقة أنه حينما تقطن في بلد متقدِّم جدًّا تجد مظاهر صارخة للمدنية، لكن في هذه المدينة الصاخبة وحشةٌ ما بعدها وحشة، قيمة الإنسان بما يملك، ليس هناك شيء اسمه رحمة، أو عطف، أو تعاون، هناك علاقات أساسها المادة، مرة قرأتُ مقالاً أن هناك جهة في فرنسا أحبَّت أن تعرف مقدار الدافع الإنساني في المجتمع الفرنسي، فاختارت أكثر طريق فيه كثافة، ( لِيُون – باريس) طريف كثيف جدًّا، و جاءت بسيارة أُصيبت بحادث، وُضِعت على طرف الطريق، ووُضِع أمامها إنسانٌ يشبه أن يكون مجروحاً، أي أمامه سائلٌ أحمر كأنه مجروح، و انتظروا فوجدوا أن ست ساعات مضتْ دون أن تقف أيَّة سيارة لإسعاف هذا المصاب، ست ساعات، الحقيقة المجتمع الغربي مجتمع متقدَم جدًّا ماديًّا، لكن متخلِّف جدًّا اجتماعياً، هناك قسوة، قيمة الإنسان رصيدُه في المصرف، قيمة الإنسان قوته، أما المعاني الإنسانية فينبغي أن تسود المجتمع، هذه لا تكون إلا من خلال معرفة الإنسان لله عز وجل، و إذا مارس الإنسانُ الغربي العلاقات الاجتماعية الذكية، هذه ممارسة تجارية هدفُه منها أن يكسب مزيداً من الزبائن، فتجد كلَّ القيم الانضباطية في المجتمعات الغربية أساسها المكسب المادي، فإذا انقطعت المصلحةُ بينهم و بين من يتعاملون انقلبوا إلى وحوش كاسرة.

3 ـ المؤاخاة بين المؤمنين :

 إذًا النبيُّ عليه الصلاة و السلام بعد الهجرة، و بعد تأسيس المسجد، اتَّجه إلى المؤاخاة بين المؤمنين، شيء لا يُصدَّق، النبيُّ عليه الصلاة و السلام جعل المسلم يرث أخاه في الله، جعل التوارث أساساً للعلاقة بين المسلمين، طبعاً بعد حين، بعد معركة بدرٍ نُسِخت آيةُ التوارث بين المؤمنين و حلَّت مكانَها القرابة، لأسباب دقيقة جدًّا، لأن المجتمع المسلم مجتمع جديد، مقبِل على إنشاء كيان جديد، و له أعداء كُثُر، لذلك النبيُّ عليه الصلاة و السلام آخى بين المؤمنين اثنين اثنين، جعل واحداً أنصارياً و الثاني مهاجراً، هذه المؤاخاة من أجل ضمان استمرارها، و من أجل أن يكون لها ثمرة طيِّبة، جعل النبيُّ بين هذين الأخوين توارثاً أي أن أحدهما يرث الآخر، لأن الأسر مفككَّة بعضها في مكة و بعضها في المدينة، و الإسلام فرزَ الناسَ فرزاً دقيقا، فلذلك جعل النبيُّ عليه الصلاة و السلام الأخوة في الدين أساس التوارث، إلى أن وقعت موقعةُ بدر، عندئذٍ اجتمع شملُ الأمة، و صار التوارثُ أساسه القرابة.
 الشيء الثاني الحقيقة أنه عندنا أخ نسبي، و عندنا أخ في الإيمان، و الأخ النسبي ليس لك اختيار في وجوده، هذا من أمِّك و أبيك، له عليك واجبات كثيرة، لكن قد يكون الأخُ النسبي في وادٍ، و أنت في وادٍ، قد يكون الأخ النسبي بعيداً عن اتِّجاهك الديني، لكن من هو أقرب الناس إليك؟ أخوك في الإيمان، لأن القضية قضية علمية، الإنسان له مئة صفة فرضاً، الأخ في الإيمان تسعون صفة مشتركة بينكما من المئة أما الأخوة النسبية فقد تلتقيان بعشر صفات، بعشرين صفة، فكلما زادت الصفاتُ المشتركة بين الشخصين زادت العلاقةُ و المحبَّة، فلذلك من باب أولى أن تنشأ الأخوة الصادقة بين المؤمنين، إذًا المؤاخاة وأنا أدعوكم تقليداً للنبيِّ عليه الصلاة و السلام أن أحدكم يؤاخي أخًا، أي أخ مسؤول عنه في غيابه، و في حالاته، وفي أزماته، و في حاجاته، و الثاني كذلك، فدائماً لك أخٌ معين، أخ يتفقَّد أحوالك، أخ يمدُّ لك يد المعاونة، و الشيء الدقيق جدًّا أن الأخوة مع الفوارق مستحيلة، نحن نريد أن نعمل علاقة بين الناس تجمع الناس جميعاً، قد يكون الإنسان لا يؤمن بالله أصلاً، فكيف ألتقي معه؟ أن تقيم علاقات مفتعلة بين أناس متباعدين في العقيدة، و في السلوك، و في القيم، و في المبادئ، هذا كلام يشبه الحلم، و الحقيقة أن أساس العلاقة بين المؤمنين أساسها العقيدة الواحدة، و القيم الواحدة، و الآداب الواحدة، و السلوك المنتظم الواحد، و المبادئ، و الأنظمة التي تحكم كل المسلمين، فنحن في مجتمع لا بدَّ من مؤاخاة بين المؤمنين.

العدل أساس تماسك المجتمع :

 و الحقيقة الثانية أن المجتمع لا يتماسك إلا بالعدل، فإذا فشا الظلمُ بين أفراد المجتمع انقلبت الحياةُ إلى جحيم لا يُطاق، أي المجتمع المسلم أساسه العدل، فالمسلم الذي عليه يؤدِّيه، و الذي له يطالب به، من دون أن يزيد، أو أن ينقص، أو أن يجحف في حقِّ أخيه المؤمن، و المجتمع الذي فيه الظلم مجتمع مفكَّك، متداع، واهٍ، ضعيف، فنحن إذا أردنا أن نقيم الإسلام فيما بيننا، و لو كان مجتمعنا صغيراً جدًّا نرى أن المجتمع المسلم أساسه العدل، و أساسه المحبَّة، وأساسه المساواة، وأساسه الإخاء، وأساسه المعاونة، وأساسه البذل، وأساسه التضحية، فالنبيُّ عليه الصلاة و السلام آخى بين أصحابه و جعل العلاقة المتينة بين أصحابه أساس المجتمع الإسلامي، لذلك المظاهر التي تُرى بين المسلمين من التباعد و التحاسد و التباغض و التَّخلّي أحياناً، هذه مما تفتَّت وحدتهم، و تضعف كيانهم، قال تعالى:

﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾

[ سورة الأنفال: 46 ]

 معنى تفشلوا تضعفوا، و معنى تذهب ريحكم أي هذه السمعة الطَّيِّبة العطرة تتلاشى بين المؤمنين، فكل واحد منا بقدر وسعه و إمكانه عليه أن يقدِّم يدَ العون لإخوانه المؤمنين، مثلاً مع تدابر الناس في دمشق وحدها ما يزيد عن سبعمئة شقَّة جاهزة للسكن، و لكن مغلقة، لكن لماذا مغلقة؟ لانعدام الثقة فقط، لا يوجد عهد، تعطي هذا البيت لفلان فيصبح له نهائياً، لا يوجد خوف، فعلماء الاجتماع يقولون: ليس هناك أزمة سكن هناك أزمة ثقة، الأزمة أزمة ثقة بين المسلمين، أما لو كان المسلم عند عهده و عند وعده فانتهى الأمرُ، طبعا ليس القصدُ أن ندرس تاريخاً، القصد أن هذا السلوك الذي فعله النبيُّ عليه الصلاة و السلام في المؤاخاة بين المؤمنين يجب أن يسود بيننا، لأن التعليم شيء، و التربية شيء آخر، التعليم أن تلقيَ على الناس حقائق معلومات و أدلة و براهين و أفكاراً وعلاقات، أن تلقيها عليهم واضحة مع أدلتها و انتهى الأمرُ لكن التربية أن تجعل من هؤلاء الذين تتعاون معهم مؤمنين حقًّا، في كل صفات المؤمنين، إذًا لا نصبح كما يرضى الله عنا إلا إذا كنا متحابِّين، و أساس المحبة العدل، خذ ما لك و أعطِ ما عليك، أساس المحبة المساواة، و أساس المحبة التضحية و الإيثار، لذلك الله عز وجل أثنى على الأنصار ثناءً طيِّباً حينما قال:

﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ﴾

[سورة الحشر: 9]

المؤاخاة بين المؤمنين أساسها التشابه في القيم :

 الآن بعد أن أسَّس النبيُّ عليه الصلاة و السلام أوَّل مسجد لأنه الركيزة الأولى في بناء المجتمع الإسلامي، و بعد أن آخى بين المؤمنين، و طبعاً المؤاخاة أساسها التشابه، تشابه القيم، أنت مثلاً تنفر من إنسان مزحُه غير لائق، تنفر من إنسان كذَّاب، أنت صادق، لكن قلبك يهفو للصادق، لو أنك سألتَ نفسك سؤالاً دقيقاً علمياً، لماذا أحبُّ فلاناً؟ لأن فلاناً صادق، لأنه أمين و أنت أمين، لأنه عفيف و أنت عفيف، لأنه أخلاقي و أنت أخلاقي، لأنه يحبُّ الخيرَ و أنت تحبُّ الخيرَ، فكلما نمت الصفاتُ المشتركة بين إنسانين نمت معها المحبَّةُ و الأُلفة و المودَّة و التماسك، إذًا أنت كلما ازددتَ إيماناً ازددتَ حبًّا للمؤمنين، و كلما قلَّ إيمانُك ازددتَ بغضاً لهم، كلما ابتعدتَ عنهم في الصفات الأخلاقية ابتعدت عنهم في المحبَّة، كلما اقتربت منهم في أخلاقك اقتربت منهم في المحبَّة، إذًا إذا تآخى أخوان في الله من الذي يبتعد عن الآخر؟ أٌقلُّهم مرتبةً و أقلُّهم انضباطاً وأقلهم استقامةً، استقامتك جيِّدة، محبتُك جيدة، عملك الصالح جيِّد، محبَّتك جيِّدة، إذًا نحن يهمُّنا كما فعل النبيُّ عليه الصلاة و السلام، العلاقة بين المؤمنين أساسها المؤاخاة.

تنظيم العلاقة بين المؤمنين و غير المؤمنين بوثيقة تاريخية تتضمن :

1 ـ المسلمون من قريش و يثرب و من تبعهم أمة واحدة :

 هناك عندنا علاقة بين المؤمنين و بين غير المؤمنين، المدينة فيها يهود، و فيها مشركون، و فيها قبائل محيطة بها، فالنبي نظَّم العلاقة بين المؤمنين و بين غير المؤمنين، بوثيقة تاريخية لا مجال لقراءتها كلها في هذا المجلس، نقرأ بعضَ بنودها، و نشرح بعض بنودها الآخر.
 أول بند أو بعض هذه البنود ؛ المسلمون من قريش و يثرب و من تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم أمة واحدة من دون الناس، و أول مرة ترِد كلم أمة في هذه الوثيقة، قبل كانت قبيلة، بطن، عشيرة، فخذ، أي فرع، أما أول كلمة ترد على لسان النبيِّ فتبيِّن أن هذه الكتلة البشرية المؤمنة بالله عز وجل هي أمة في هذه الوثيقة، هؤلاء المسلمون جميعاً المسلمون من قريش و من تبعهم فلحق بهم و جاهد معهم أمة واحدة من دون الناس، المهاجرون من قريش، من في يثرب أنصار، و من تبعهم من أي قبيلة أخرى فلحق بهم أقام معهم و جاهد معهم، إذًا ذاب فيهم صار واحداً منهم، وليس على أساس إقليمي، على أساس إيماني، على أساس انتماء، على أساس عقيدة، على أساس بذل، المسلمون من قريش و يثرب و من تبعهم فلحق بهم و جاهد معهم أمة واحدة من دون الناس، هذا أول مفهوم.

2 ـ التضامن و التكافل بين المسلمين :

 هؤلاء المسلمون جميعاً، من قريش و يثرب ومن تبعهم و جاهد معهم، المسلمون جميعاً على اختلاف قبائلهم يتعاقلون بينهم، و يفدون عانيهم بالمعروف و القسط بين المسلمين، أي أقام النبيُّ عليه الصلاة و السلام هذا المجتمع على أساس التكافل و التضامن، ما معنى يتعاقلون؟ أي إذا الواحد قتل أخاه خطأً، فعليه الدية، هذه الدية قد لا يستطيعها وحده، فوق طاقته، مئة جمل مثلاً، ليس عنده، فهذه في عرف الإسلام أو في عرف الشرع على قومه جميعاً وهذا نوع من أنواع المشاركة، أقول القتل الخطأ، الآن إذا صار هناك حادث دهس و ضربك، ليس فيها أيَّة نية قتل، لكن خطأ، فالقتل الخطأ، هذا الذي قُتِل له دية كبيرة جدًّا، كان قيِّمَ أولاده، فهذه الدية قد لا يستطيع دفعها من تسبَّب في الحادث، من علائم التكافل و التضامن أن أسرته كلَها مكفَّلة بدفع هذه الدية، فهذا معنى قول النبي: هؤلاء المسلمون جميعاً على اختلاف قبائلهم يتعاقلون بينهم، أي متضامنون متكاتفون متعاونون، يفدون عانيهم- العاني الفقير الأسير - بالمعروف و القسط بين المسلمين.

3 ـ أن يكون المسلمون يداً واحدة على من ظلم أو بغى أو أفسد :

 إن المؤمنين المتقين على من بغى منهم، أو ابتغى دسيسةً، أو ظلماً، أو إثماً، أو عدواناً، أو إفساداً بين المؤمنين، أي المسلمون جميعاً يجب أن يكونوا يداً واحدة و صفًّا واحداً ضدَّ من بغى منهم، أو ابتغى دسيسة، أو ظلماً، أو إثماً، أو عدواناً، أو فساداً بين المؤمنين، كلمة " لا دخل لي " هذه ليست ورادة في العلاقات بين المؤمنين، أنت أخ في أسرة، هناك أخ ظلم، أنا لا علاقة لي و الثاني لا علاقة له، و هذا متزوج و جالس لوحده، ظلم أخاه الصغير، إذا صار هناك انسحاب و تخلِّ فهذا الأخ القوي يكيد الظلم و العدوان لأخيه الصغير، و إخوته الباقون منسحبون من هذه المشكلة، أما إذا تدخَّلوا جميعاً و أوقفوا الكبير عند حدِّه، و نصروا الصغير، هذا مما يرضي الله عز وجل، فأنت مؤمن، و كلُّ مؤمن يعنيك، فهذا بندٌ دقيق جدًّا، أن المؤمنين المتقين جميعاً على من بغى منهم، أي من اعتدى، أو ابتغى دسيسة، أو ظلماً، أو إثماً، أو عدواناً، أو إفساداً بين المؤمنين، و أن أيديهم عليه جميعاً، و لو كان ولدَ أحدهم، هذه من ملامح المجتمع المسلم التي رسمها النبيُّ عليه الصلاة و السلام، أول بند المسلمون من قريش و يثرب و من تبعهم فلحق بهم و جاهد معهم أمة واحدة من دون الناس، البند الثاني هؤلاء المسلمون جميعاً على اختلاف قبائلهم يتعاقلون بينهم، و يفدون عانيهم بالمعروف و القسط بين المسلمين، أول بند من هم المسلمون؟ ثاني بند التضامن و التكافل، ثالث بند أن يكونوا جميعاً يداً واحدة على من ظلم أو بغى أو أفسد أو أثم أو دسَّ أو فعل المنكر.

4 ـ ذمة الله واحدة يجير عليهم أدناهم و المؤمنون بعضهم موالي بعض :

 ذمةُ الله واحدة يجير عليهم أدناهم، و المؤمنون بعضهم موالي بعض دون الناس، معنى الإجارة ؛ أجاره، هذا تقليد كان شائعاً في الحياة التي سبقت بعثة النبيِّ عليه الصلاة و السلام، أي إذا إنسان مظلوم و هناك إنسان يظلمه، وهذا استجار بإنسان آخر، فهذا المجير لا يستطيع أحدٌ أن ينال هذا الذي أجاره بأمان، أي طريقة من طرق الحماية للضعيف، و تقليد رائع جدًّا، و الضعيف أحياناً يلجأ إلى رجل من أولي الشأن، هذا الرجل يحميه من ظلم من ظلمه، فالظالم حينما يستجير فلانٌ بفلان إذا اعتدى على فلان كأنه اعتدى على صاحب الشأن الكبير، لذلك النبيُّ عليه الصلاة و السلام حينما ذهب إلى الطائف، و حينما لقيَ من أهل الطائف العنت و السخرية و التكذيب و الكفرَ عاد إلى مكة و قد هُدِر دمُه عليه الصلاة و السلام، خرج منها يظن أن أهل الطائف يستجيبون له فردّوه أسوأ ردٍّ، دخل مكةَ المكرمة بعد أن عاد من الطائف في حماية المطعِم بن عديٍّ، هذا أجاره و حماه و عندئذٍ ما جرأ أحدٌ من كفار قريش أن ينال النبيَّ عليه الصلاة و السلام بالأذى، لذلك النبيُّ عليه الصلاة و السلام لم ينسَ له هذا الموقف الأخلاقي، في كل معركة قادمة أمر أصحابه أن يكفُّوا عن المطعم بن عديّ، و عن أولاده من بعده حفاظاً على الموقف الأخلاقي الذي وقفه، فذمة الله واحدة يجير عليهم أدناهم فالإجارة كانت سابقاً للوجهاء، النبيُّ ماذا فعل؟ جعل هذه الإجارة لأيِّ مسلم، أي أقلُّ المسلمين شأنا إذا أجار أحداً لا يستطيع أقوى المسلمين أن يناله بأذى، المقصد من ذلك أن المسلمين عند النبيِّ عليه الصلاة و السلام و من خلال توجيهاته لهم رتبة واحدة، فأقلُّ المؤمنين يجير أكبرهم، و لا يستطيع أقواهم أن ينال منه، هذا معنى قول النبيِّ: ذمتهم واحدة يجير عليهم أدناهم، و المؤمنون بعضهم موالي بعض دون الناس.

5 ـ سلم المؤمنين واحدة :

 أما أخطر شيء في هذه الوثيقة فأن النبيّ عليه الصلاة و السلام قال:

(( سلمُ المؤمنين واحدة ))

[وثيقة المدينة المنورة البيهقي في السنن الكبرى عن عثمان بن محمد بن خنيس]

 أي المؤمنون لهم أعداء، ليس له حق أن ينفرد الإنسانُ بالصلح مع هؤلاء أو بالعداء مع هؤلاء، يجب أن يكونوا يدًا واحدة و على قلب واحد ورأي واحد، فسلم المؤمنين واحدة، لا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل الله إلا على سواء و عدل بينهم، حتى يكون المسلمون أقوياء يجب أن يكون لهم موقفٌ واحد، في سلمهم و في حربهم، أما أن يتفتَّتوا، كل إنسان يأخذ موقفاً، هذا التَّفتُّت يضعفهم جميعاً، و يجعل عدوًّهم يطمع فيهم، عدوُّهم يتمنى أن يتفرَّقوا حتى ينال منهم واحداً واحداً، فالنبيُّ عليه الصلاة و السلام في الوثيقة قال:

(( سلم المؤمنين واحدة ،لا يسالم مؤمن دون مؤمن في سبيل الله إلا على سواء و عدل بينهم))

[وثيقة المدينة المنورة البيهقي في السنن الكبرى عن عثمان بن محمد بن خنيس]

 هذه كيف نطبِّقها؟ نحن على مستوى مجتمع صغير، مستوى أسرة، إذا هناك إنسان فاسق فاجر مثلاً، يؤذي هذه الأسرة، هل لأحد أفرادها حقٌّ أن يصادقه على حساب الباقين؟ ليس له حق، هل لأحد أفراد الأسرة أن يقيم معه علاقات طيِّبة وهو يكيل الصاعَ لبقية أفراد الأسرة؟ هذا لا يجوز، سلم المؤمنين واحدة، لا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل الله إلا على سواء و عدل بينهم.

6 ـ من خرج من المدينة فهو آمن و من قعد فهو آمن إلا من ظلم أو أثم :

 بندٌ آخر من بنود هذه المعاهدة أو هذه الوثيقة الدستورية: من خرج من المدينة فهو آمن، و من قعد فهو آمن إلا من ظلم أو أثم، هناك حرية في الحركة، أردتَ أن تقيم في المدينة فأنت آمن، أردت أن تخرج فأنت آمن، إلا إذا ظلم الإنسان أو أثم.

7 ـ كلُّ ما كان بين أهل هذه الصحيفة مردّه إلى الله و رسوله :

 آخر بند: كلُّ ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو استجار يُخاف فسادُه فإن مردَّه إلى الله عز و جل، و إلى محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، معنى هذا البند، أي طبيعة المجتمع الإنساني قد يكون هناك مشكلات، أو شجار، أو منازعات، أو خصومات، هذه لا بدَّ واقعة في طبيعة النفس الإنسانية، في المجتمع المسلم هذه المشكلات و هذا الشجار و هذه المنازعة و هذه الخصومة يجب أن تُحلَّ وفق كتاب الله و سنة رسوله، و لا يُعقل أن يكون المجتمع مسلماً و يبحث عن حلٍّ آخر في غير كتاب الله و سنة رسوله، لذلك قال تعالى:

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ﴾

[سورة النساء: 59]

 من هم أولو الأمر؟ العلماء و الأمراء، العلماء الذين يعرفون الأمر الإلهي، و الأمراء الذين ينفَّذونه، الأمير له صفة تنفيذية، و العلم له صفة نقلية تشريعية، ليس العالِم مشرَعاً لكنه ناقل، ينقل لك بأمانة أمر الله و أمر رسوله، فالآية الكريمة:

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ﴾

[سورة النساء: 59]

 حصلت منازعة و خصومة و خلاف.

﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ﴾

[سورة النساء: 59]

 في أي شيء.

﴿فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ﴾

[سورة النساء: 59]

 ما معنى إلى الله؟ أي إلى كتابه، و ما معنى لرسوله؟ أي سنته، في حياته إليه بالذات، هكذا فعلنا، عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:

(( بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَرِيَّةً فَاسْتَعْمَلَ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ وَأَمَرَهُمْ أَنْ يُطِيعُوهُ فَغَضِبَ فَقَالَ: أَلَيْسَ أَمَرَكُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُطِيعُونِي؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: فَاجْمَعُوا لِي حَطَبًا فَجَمَعُوا فَقَالَ أَوْقِدُوا نَارًا فَأَوْقَدُوهَا فَقَالَ: ادْخُلُوهَا فَهَمُّوا وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يُمْسِكُ بَعْضًا وَيَقُولُونَ فَرَرْنَا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ النَّارِ فَمَا زَالُوا حَتَّى خَمَدَتْ النَّارُ فَسَكَنَ غَضَبُهُ فَبَلَغَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: لَوْ دَخَلُوهَا مَا خَرَجُوا مِنْهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ ))

[ البخاري عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ]

 الإنسان ليس له أبداً أن يلغيَ عقلَه إطلاقاً، لا يستطيع أن يلغي عقله أمام أحد إلا أمام إنسانٍ واحدٍ هو رسول الله، لأنه هو معصوم أولاً، و يُوحى إليه، و معه معجزة هي القرآن، و مع ذلك النبيُّ عليه الصلاة و السلام ما قال شيئاً رفضه العقلُ، و لا نهى عن شيء قبله العقلُ، لأن العقل هو مقياس أودعه اللهُ في الإنسان، و التشريع الإسلامي هو نظام إلهي، فالذي خلق العقلَ هو الذي أنزل هذا الدين، فلا بدَّ من موافقة تامة بين العقل و النقل، لذلك آخر بند مهمٌّ جدًّا، خلاف بين المؤمنين، خلاف بين الشركاء، خلاف بين أمٍّ و ابنها، أحياناً الأم لا ترضى إلا إذا عصى الابن اللهَ عز وجل، إلا إذا كان هناك اختلاط و علاقات حميمة بين نساء و رجال لا يحللن لهؤلاء الرجال، حتى الأم لا تغضب مَن الحكَم؟ كتاب الله، أيُّ خلاف في الأسرة، أيُّ خلاف بين الشركاء، أي خلاف بين الجيران، الحكم كلام الله و سنة رسوله، لا ضرر و لا ضرار، و لو كان القانون معك، هذا فيه إضرار لجارك، فلا يُسمَّى المجتمع مسلماً إلا إذا طبَّق أوامر الله، و أوامر النبيِّ عليه الصلاة و السلام، بل لا يُعدُّ المجتمع مسلماً إلا إذا احتكم إلى الله و رسوله، أما إذا احتكمت إلى جهة لا تعرف الله عز وجل، انظُر لأيِّ مسلم يحتكم لجهة لا تعرف اللهَ ليس مسلماً، كلُّ مسلم يورِّط أخاه المسلم مع جهة لا تعرف اللهَ هذا ليس مسلماً، أريد أن آخذ حقِّي، حقُّك لا تأخذه بهذه الطريقة الظالمة، يجب أن ترجع إلى كتاب الله و إلى سنة رسوله، كلام دقيق جدًّا، لا أعتقد أن هناك إنساناً مسلماً له مع الآخر دين و يعرف إنساناً آخر يكفيه المبلغ و ضعفه ويسلمه إياه، لا يجوز أن تفعل هكذا، هذا سلوك غير إسلامي، لا تستطيع أن تأخذ حقَّك إلا بالطرق المشروعة إذا سلَّمته لجهة لا تعرف اللهَ، يمكن أن يأخذوا عشرة أضعاف حقك، أليس كذلك؟ إذًا إذا كان هناك مشكلة و خصومة و منازعة، و هناك قضية و حدث بين مسلمين و بين جوار و بين أسرة و بين شركاء، هذا الموضوع لا يُحلُّ إلا في ضوء الكتاب و السنة إذا كنتَ مسلماً، فإذا رفضتَ كلام الله فلست مسلماً، قال تعالى:

﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ﴾

[ سورة الأحزاب: 36]

 هذا حكم الله، هذا البيت ليس لك، تقول: أنا موقفي أقوى و موقفي قانوني، كمسلم تحتكم إلى الشرع فيما لك و فيما عليك.

تلخيص لما سبق :

 أردتُ من هذا الدرس و إن كان متعتُه أقلَّ من متعة القصة و السيرة لكن هذا أول عمل فعله النبيُّ حينما هاجر، و حينما أسَّس مجتمعاً مسلماً.
 أولاً: بنى المسجد، لأن هذا المقرُّ مقر الدعوة، مقر بثِّ العقيدة، و مقر تعليم العبادات، و مقر تعليم المعاملات، ومقر تعليم الآداب، ومقر اللقاء، و اللقاء فيه معرفة، و المعرفة فيها تعاون، مقر المساواة، هنا المساواة، مقر التعاون والتكاتف، فأساس المجتمع المسلم المسجد.
 ثانياً: الأخوة بين المؤمنين، يتآخى كلُّ إنسان مع أخ، قل له: أنت أخي في الله، و أنت أخوه في الله، نتعاون ونتناصر و نتناصح، و نتفقَد بعضنا، نتزاور و نتباذل، و اللهِ أنا أتمنى على كل واحد منكم أحب إذا قلتُ له من أخوك في الله؟ يقول لي: فلان أخي في الله، أعرف أن فلاناً مرض، يبلغني أنه مرض، هناك مشكلة يبلِّغني إياها فنتعاون على حلِّها، ليس موضوع أنه سمعنا محاضرة و مشينا، هذه قضية جامعة و ليس جامعاً، إلقاء المحاضرة و الاستماع إليها، و انتهى الأمرُ هذه جامعة، في أيِّ مكان موجودة الجامعات، أما الجامع فتعاون ومحبَّة و تكاتف و تناصر و تناصح و تباذل، وهذا يريد أخوة في الله، فكل أخ يختار أخاً، هكذا النبيُّ قال: تآخيا اثنين اثنين، أعرف الأستاذ فلاناً نريد أن نزوره، فلان عنده مشكلة نحلُّها له، هذا الذي يشدُّ الناسَ إلى الدين، لست وحدك في الحياة، أنت تعيش بين أخوة مؤمنين صادقين هذه رقم اثنين .
 رقم ثلاثة من هذه الوثيقة الدستورية فعلاً هناك أشياء، مرة أخيرة أسمِّعكم: المسلمون من قريش و يثرب و من تبعهم فلحق بهم و جاهد معهم أمة واحدة من دون الناس، أنت منتمٍ إلى أسرة، منتمٍ إلى جماعة مؤمنة، هؤلاء المسلمون جميعاً على اختلاف قبائلهم يتعاقلون بينهم، التضامن و التكافل بين المؤمنين، الثالثة: المؤمنون جميعاً على من بغى، أو اعتدى، أو ظلم، أو أفسد، رابعاً: ذمة الله واحدة- مساواة تامة بينهم- خامساً: سلم المؤمنين واحدة، لا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل الله، إلا على سواء و عدل بينهم، من خرج من المدينة فهو آمن، و من قعد فهو آمن، إلا من ظلم أو أثم، كل ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو استجار يُخاف فسادُه فإن مردَّه إلى الله و إلى محمد صلى الله عليه و سلم. إذا أنت مسلم حقيقة اختلفت مع زوجتك، من الحكَم؟ كتاب الله، القرآن فيما لها و فيما عليها، فإذا الإنسان رفض ما لها وما عليها أو هي رفضت ما عليها فهي آثمة، مع شريكك، و مع جارك، مع صاحبك، مع زميلك، مع أي إنسان، كل ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو استجار يُخاف فسادُه فإن مردَّه إلى الله عز وجل و إلى محمد رسوله
 الوثيقة تزيد عن تسعين بنداً، نحن تكلمنا سبعة بنود فقط، تسعون بنداً هذه الوثيقة نظَّم فيها النبيُّ عليه الصلاة و السلام المجتمع الإسلامي.

الغرض من تنظيم العلاقات :

 و الحقيقة آخر فكرة لماذا تنظيم العلاقات؟ حتى الإنسان يتفرَّغ للعبادات، إذا اشترى بيتاً و البيتُ ذهب من يده، يبقى مشوَّشاً عشر سنوات، يدخل في المحاكم اثنتي عشرة سنة، كل إنسان يهمل الشرعَ إهماله للشرع يرجعه إلى القضاء، و إذا الإنسان علق بالقضاء، يتمزَّق، فتطبيق الشرع من أجل التفرُّغ لمعرفة الله و لطاعته، إنسان ساهم في شركة و لم يعمل عقداً، الشريك الثاني شعر أنه لا يوجد عقدٌ و شريكه ضعيف فاستأثر بالشركة وحده، صار هناك منازعات و خصومات، إذا هناك قرابة، القرابة تفسَّخت، صار هناك عداء و طلاق و محاكم، هذا المجتمع المسلم تفتَّت، لأنه عندما بدأت الشراكةُ لم يكن هناك عقدٌ، و لا حقوق وواجبات و حدود، إذًا أنت عندما تطبَّق الشرع ليس من أجل أن تتقيَّد، من أجل أن يتفرَّغ قلبُك لمعرفة الله، لو تعمل وصلاً، نسي الرجلُ أنه أخذ منك مبلغاً، طالبته فلم يتذكَّر، كيف لا تتذكر؟؟ أنت اكتب وصلاً أفضل لك، قال تعالى:

﴿وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلَى أَجَلِهِ﴾

[سورة البقرة: 282]

 دخلنا في شركة، أخذت مبلغاً و اشتريت بيتاً، استحا أخوك، أخذت مبلغاً و زوَّجت أولادك، إذاً كم هي المسحوبات غير المسجَّلة؟ بعد مضي عشرين سنة صار هناك خصومة، أنت عندك بناء، و عندك بيت، و عندك حائط، و أنالم أعمل هذا الشيء، سجِّل المسحوبات كلها، فالإنسان عندما يترك الشرع، و يترك النظام، ويترك أحكام الشرع في التعامل يقع في خصومات و متاهات ما لا نهاية، و تعود عليه سلباً في علاقته مع الله عز وجل، هكذا المؤمنون؟ هكذا المسلمون؟ دخل في متاهات معه، أما إذا طبَّقنا الشرع تفرَّغ قلبنا لمعرفة الله عز وجل، و أساس الشرع أن يكون قلبُك فارغاً لمعرفته و لطاعته و للتقرُّب منه.
 إذًا هذه الملامح نحن نطبّقها في مجتمعنا الصغير، بخلافاتنا مردُّنا إلى كتاب الله و سنة رسوله، بتعاوننا و بمؤاثرتنا و بمحبَّتنا و مؤاخاتنا أرجو الله عز وجل أن تنقلب هذه الموضوعات التاريخية إلى ممارسات عملية نعيشها، ما قيمتها لو تعرّفنا إليها؟ قضية من ألف و أربعمئة سنة وقعت، إنشاء المسجد، و المؤاخاة بين المؤمنين، و الوثيقة الدستورية هذه قديمة جداً، فالمعلومات ليس لها قيمة، مضت و انتهت، أما كمسلك و كنظام وكمبادئ و كقيم نعيشها، فكلُّ ما أتمناه عليكم أن تنقلب هذه المعلومات و التفصيلات إلى سلوك نعيشه و إلى قيم نتمثَّل بها.

 

تحميل النص

إخفاء الصور