- الخطب
- /
- ٠1خطب الجمعة
الخطبة الأولى:
الحمد لله ثمّ الحمد لله ، الحمد لله الذي هدانا لهذا ، وما كنّا لِنَهْتَدِيَ لولا أن هدانا الله ، وما توفيقي ولا اعتصامي ولا توكّلي إلا على الله ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقرارًا لرُبوبيَّته ، وإرغامًا لمن جحد به وكفر ، وأشهد أنّ سيّدنا محمّدًا صلى الله عليه وسلّم رسول الله ، سيّد الخلق والبشر ما اتَّصَلَت عين بنظر ، أو سمعت أذنٌ بِخَبر . اللَّهمّ صلّ وسلّم وبارك على سيّدنا محمّد ، وعلى آله وأصحابه ، وعلى ذريّته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدّين، اللَّهمّ ارْحمنا فإنّك بنا راحِم ، ولا تعذّبنا فإنّك علينا قادر ، والْطُف بنا فيما جرَتْ به المقادير ، إنَّك على كلّ شيءٍ قدير ، اللّهمّ علّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علّمتنا وزدْنا علمًا ، وأرنا الحقّ حقًّا وارزقنا اتّباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممَّن يستمعون القول فيتّبعون أحْسنه ، وأدْخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
الإيمان الصحيح هو أساسُ الفضائل وقِوامُ الضّمائر :
أيها الأخوة المؤمنون ؛ الإيمان الصحيح هو أساسُ الفضائل ، ولِجامُ الرذائل ، وقِوامُ الضّمائر ، وسنَدُ العزائِمِ في الشدائد ، وبَلْسَمُ الصَّبْر عند المصائب ، وعماد الرضا والقناعة ، ونورُ الأمَل في الصّدور ، وسَكَنُ النّفس إذا أوْحَشَتها الحياة ، الإيمان عزاءُ القلوب إذا نزَلَ الموت أو اقْتَرَبَت أيّامُهُ .
أيها الأخوة المؤمنون ؛ يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز :
﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ﴾
الفلاحُ والنجاحُ والتّفوُّق والفوز في أن تكون مؤمنًا .
يا أيها الأخوة الأكارم ؛ سأُؤخِّرُ موضوع الزكاة إلى الأسبوع القادم لِيَعُمّ خيرُه إن شاء الله تعالى ، وننتقلُ في هذه الخُطبة إلى موضوعٍ يتناسبُ مع الذِّكْرى العزيزة على كلّ مُسلم، ذِكْرى غزوَة بدرٍ الكبرى ، ننطلقُ من هذا الموضوع إلى موضوع القوّة ، إلى موضوع إن تنصروا الله ينصركم ، إلى موضوع إن ينصركم الله فلا غالبَ لكم .
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ الله سبحانه وتعالى يقول :
﴿ وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ ﴾
أي أنتم في حالةٍ من العبوديّة ، أنتم في حالة افتقار ، أنتم في حالة التِجاءٍ إلى الله عز وجل ، أنتم في حالة خوفٍ من عدوِّكم ، كنتم مفتقرين فَنَصَرَكُم الله عز وجل ، ننتقلُ إلى صورةٍ معاكسة ، قال تعالى :
﴿وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ﴾
ماذا نستنبطُ من هاتين السورَتَين المتناقضَتَين ؟ وماذا يَعنينَا نحن كَمُؤمنين نعيشُ في هذا الزّمان على مستوى فردي وعلى مستوى جماعي ؟ على مستوى فردي ، أنت أيّها الأخ المؤمن ما دُمْتَ شاعِرًا بِعُبودِيَّتِكَ ، ما دُمْتَ شاعِرًا بافْتِقارك ، ما دُمْتَ شاعرًا بأنّك محتاجٌ إلى الله عز وجل ، ما دُمْتَ شاعِرًا بأنّ الله كلّ شيء ، وأنت لا شيء ، إذًا أنت قويّ ، إذا أردْت أن تكون أقوى الناس فتوكَّل على الله تعالى ، وفي اللّحظة التي تحسّ فيها أنّك قويّ ، وأنَّك بِذَكائك واحْتِيالك حصَّلْت ما حصَّلْتَ ، عندئذٍ يتخلى الله عنك ، من اتَّكَل على الله كفاهُ الله كلّ مؤنةٍ ، ومن اتَّكَل على نفسه وكلَهُ الله إياها .
الشعور بعبوديتنا لله عز وجل كي يكون الله معنا :
هاتان السورتان بادئ ذي بدء ، قال تعالى :
﴿ وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ ﴾
أنت أذِلَّة جملةٌ حاليّة ، أي حالتكم في حالة افتقار وضَعف ، في حالة الْتجاءٍ واسْتِعاذة ، في حالة خوف ، أنتم في حالة العبوديّة ، في حجمكم الحقيقيّ ، أما يوم فأعْجبتكم كثرتكم وقلتم : لن نغلبَ من قوّة ؛ نحن عشْرة آلاف سيْفٍ ، ولم يجتمع في الجزيرة مثل هذا العدد ، قال تعالى :
﴿وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ﴾
يا أيها الأخ الكريم ؛ في عملكَ إن كنتَ موظّفًا ، إن كنتَ تاجرًا ، إن كنتَ صِناعيًا ، إن كنت طبيبًا ، إن كنت محاميًا ، إن كنت مهندسًا ، إن كنت في أيّ مصلحةٍ ، وفي أيّ عملٍ ، وفي أيّ حِرفةٍ ، وفي أيّ نشاط ، وقبل أيّة مقابلةٍ ، وقبل أيّ مواجهةٍ ، إذا اسْتَعَذْتَ بالله عز وجل كان الله معك ، لذلك الدعاء الذي كان يدعوه النبي عليه الصلاة والسلام قبل كلّ شيءٍ ذي بال : : اللهمّ إنِّي تبرّأْتُ من حَولي وقوّتي وعلمي ، والْتَجَأْتُ إلى حولك وقوّتك يا ذا القوّة المتين " هذه النقطة الأولى ، أي السيرة يجبُ أن ندرسها بأهدافها البعيدة ، ماذا يَعنينَا من هذه المعركة وقد انْقضَتْ ؟ كُتِبَ فيها للمسلمين النَّصْر ، وللكفار الخِذلان ، وانْقضَتْ ، ماذا تعنينا نحن ؟ يعنينا من هذه الموقعة أن نشْعرَ دائمًا بعُبوديَّتِنا كي نسْتحقّ أن يكون الله معنا ، وإذا كان الله معنا فمَن علينا ؟ وإذا كان علينا فمَن معنا ؟
الحياة مواقف يشقى بها الإنسان أو يسعد إلى أبد الآبدين :
النقطة الثانية أيّها الأخوة الأكارم ؛ الحياةُ كلّها مواقف ، تمْضي الحياة وتبقى المواقف ، المواقف إما أن يشْقى بها الإنسان إلى أبد الآبدين ، وإما أن يسْعَدَ بها إلى أبد الآبدين، فالنبي عليه الصلاة والسلام عانى من كفّار قريش ما عانى ، أخرجوه ، ائْتمروا على قتله ، آذَوْهُ وعذَّبوا أصحابه ، فعلوا كلّ ما في وُسْعِهِم كي يُطفئوا نور الله ، وماذا كانت النتيجة ؟ أن كان هؤلاء الزعماء الكبار صناديد الكُفْر ، كانوا في ساحة المعركة قد أُلْقوا في قليبٍ واتَّجَه النبي عليه الصلاة والسلام مخاطبًا إيّاهم فردًا فردًا ، قال : يا عُتبة بن ربيعة ، ويا شيْبة بن ربيعة ، يا أُميّة بن خلَف ، يا أبا جهل بن هِشام ، بأسمائِهِم واحدًا واحِدًا ، الصحابة دُهِشوا ! يُخاطبُ مَن ؟ وكيف يُخاطبهم ؟ هل وجَدْتم ما وعد ربّكم حقًّا ؟ أنتم في حالة اليقين الآن ، لِقَول الله عز وجل :
﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ﴾
اليقين هو الموت ، ولماذا سمّاه الله عز وجل يقينًا ؟ لأنّ في الموت تتكشَّفُ الحقائق ، كلّ شيءٍ كنتَ في شكٍّ منه في الدنيا يُصبحُ يقينًا ، كلّ فِكرة جاء بها القرآن ، أو جاء بها النبي العدنان ، قد تقبلها ، وقد لا تقبلها ، قد تقول : ما البرهان عليها ؟ لعلّ هذا غير صحيح ، هل هذا الحُكْم يناسب هذه الحياة ؟ هذه الشُّكوك والتردُّدات والمواقف الضبابيّة ، كلّها تصبحُ عند الموت يقينًا ، قال تعالى :
﴿لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ﴾
هل وجدتم ما وعدَ ربّكم حقًا فإنِّي وجدْتُ ما وعدني ربّي حقًّا ؟ لقد كذَّبْتُموني وصدَّقني الناس ، الذين كذَّبوه ماتوا ، والذين صدّقوه ماتوا ، هؤلاء في جهنّم ، وهؤلاء في الجنّة ، وأخرجتموني وآواني الناس ، الذين أخرجوه ماتوا ، وهم في القليب ، والذين آوَوْهُ ونصروه ماتوا ، هؤلاء سُعداء في مواقفهم ، وهؤلاء أشقياء بِمَواقفهم ، فالقضيّة قضيّة موقف وينتهي كلّ شيء ، ويأتي الموت فيُنهي كلّ شيءٍ ، تبقى المواقف ، وقاتلْتُموني ونصرني الناس ، الذين قاتلوه ماتوا، والذين نصروه ماتوا ، وبقيَتْ المواقف ، وبالمواقف يسْعدُ الإنسان إلى أبد الآبدين ، فقال المسلمون : يا رسول الله أَتُخاطبُ قومًا جيَّفُوا ؟- هؤلاء جِيَف - فقال عليه الصلاة والسلام : نعم ، ما أنتم بأسْمَعَ لما أقول منهم ، ولكنّهم لا يستطيعون أن يجيبوني ، هذا هو الفرْق بينكم وبينهم .
دليل من السيرة على افتقار النبي لله و صدق التجائه إليه :
أيها الأخوة الأكارم ؛ دليلٌ من السيرة منتزعٌ على افْتِقار النبي صلى الله عليه وسلّم ، وعلى صِدْق الْتِجائِهِ ، وعلى صِدْق دعائِهِ ، النبي عليه الصلاة والسلام حينما ناجى ربّهُ قُبَيْل المعركة ، قال : اللهمّ إن تهْلك هذه الفئة فلن تُعْبدَ بعد اليوم في الأرض ، وجعل يرفعُ يديه إلى السماء ، ويدعو بِلَهْفةٍ ورجاء ، حتى سقطَ الرّداء عن مَنْكِبَيه الشريفين ، فقَدِمَ أبو بكرٍ رضي الله عنه يُسوِّي عليه رِداءَهُ ، ويقول : بعد مناشدتِكَ ربّك يا رسول الله فإنه سينجز لك وعدك .
الاستنباط من هذا الموقف ، الاستنباط الآخر أنّ الدعاء مخّ العبادة ، وأنّك إذا دَعَوْتَ فأنت تخاطبُ خالق الكون ، والله سبحانه وتعالى :
﴿ وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ﴾
ما أمرَكَ إلا ليُجيبَكَ ، ما أمرك بالدعاء لِتَدْعو ولا يستجاب لك ، حينما أمركَ أن تدعو أراد أن يُجيبَكَ ، فكيف يغفلُ الناس عن الدّعاء ؟ كيف يغفلون عن هذا السّلاح الخطير ؟ أنت كَمُؤمن خالق السموات والأرض إذا دَعَوْتهُ يُجيبك ، لم لا تدعوه ؟ أتسْتكبرُ أن تدْعُوَهُ ؟ أأنْتَ في غِنًى عنه ؟ أنت في قبضته ، كلّ ما عندك في قبضتِهِ ، النبي عليه الصلاة والسلام دعا ربّهُ دعاءً حارًّا ، دعاءً صادقًا ، ودعاءً مخلصًا .
فيا أيها الأخوة الأكارم ؛ يجبُ أن نستنبط من دعاء النبي أنّ المؤمن كلّما واجَهَتْهُ مشكلة ، بربِّكُم هل من مشكلةٍ مهما كانت كبيرةً ، مهما كانت عظيمةً ، مهما كانت جسيمةً ، هل من مشكلةٍ أخطرُ من أن تكون في ظلام الليل ؟ وفي ظلام البحر ؟ وفي ظلام بطن الحوت ؟ إذا دخل إنسان إلى بطن الحوت ، والحوت طولهُ أكثر من ثلاثين أو أربعين متراً، والحوت وزنُه مئة وثمانون طنًّا ، أي الإنسان مهما تكون جثّتهُ ضَخمةً لُقَيْمة مِن لُقيْماتِهِ ، في ظلمة الليل ، وفي ظلمة البحر ، وفي ظلمة بطن الحوت ؛ سيّدنا يونس ، قال تعالى :
﴿فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ ﴾
وانْتَهَتْ القصّة ، ولكن جاء التعقيب لِيَجعل من هذه القصّة قانونًا ، قال تعالى :
﴿وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾
لمَ لا ندْعوه ؟ قال تعالى :
﴿ وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ﴾
قال تعالى :
﴿أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ﴾
على المؤمن أن يكون محسناً منضبطاً و عفيفاً :
أيها الأخوة الأكارم ؛ موقفٌ ثالث ، هذا المقاتِل الذي قاتَلَ مع رسول الله أعدَّهُ النبي عليه الصلاة والسلام إعدادًا نفْسيًّا وروحِيًّا كافيًا كي يُضحِّي بالغالي والرخيص ، والنَّفْس والنفيس مِن أجل الحقّ ، لقْطةٌ من لقطات معركة بدْر ، نموذج ، النبي عليه الصلاة والسلام حينما هاجَرَ إلى المدينة وآواهُ الأنصار ، آوَوْهُ على أنْ يمْنعوهُ من عَدُوِّه ، ولكن لمْ يجر اتِّفاقٌ بين النبي والأنصار على أن يخرجَ بهم خارج المدينة لِيَلقى عدوّ المسلمين ، لذلك النبي عليه الصلاة والسلام وهو في أعلى درجةٍ من الرّقّة قال : أجيبوني أيّها الناس ، وتوجَّه إلى سعْد بن معاذ سيِّد الأنصار ، سيّدنا سعْد قال له : يا رسول الله ، لعلّك تَعنينَا ؟ قال : أجَل ، هذا موقفٌ ثان ، وهذا موقف الجندي ، قال : يا رسول الله ، قد آمنَّا بك وصدَّقناك ، وشَهِدنا أنَّ ما جئْت به هو الحقّ ، وأعطيْناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السّمع والطاعة ، فامْضِ يا رسول الله لما أردْت فنحن معك ، لا كما قال بنو إسرائيل قال تعالى :
﴿قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَداً مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ﴾
مفارقةٌ حادّة ، فنحن معك ، فو الذي بعثَكَ بالحقّ ، لو اسْتعرضْتَ بنا البحر فخُضْتَهُ لخُضْناهُ معك ، ما تخلّف مِنَّا رجلٌ واحد ، وما نكرهُ أن تلقى بنا عدوّنا غدًا ، إنا لَصُبُرٌ في الحقّ ، صُدُقٌ عند اللّقاء ، فَصِلْ حِبال من شئْت ، واقْطَع حِبالَ مَن شئْتَ ، وخُذْ مِن أموالنا ما شئْت ، ودَعْ ما شئْت ، فو الذي بعثَكَ بالحقّ للذي تأخذهُ من أموالنا أحبّ إلينا من الذي تدعهُ ، فَسِرْ على بركة الله تعالى ، فلعلّ الله يُريكَ مِنَّا ما تقرّ به عَينُك ، المؤمن ماذا قدَّمَ من دينه ؟ هل قدَّمَ جزءاً من ماله ؟ هل قدَّم جزءاً من خِبرتِهِ ؟ هل قدّم جزءاً من وقتِهِ ؟ هل قدّم جزءاً من شيءٍ أعطاهُ الله إيّاه ؟ ماذا قدَّمْت لهذا الدِّين العظيم ؟ هؤلاء أصحابُ النبي قدَّموا أثْمَنَ ما يُقدِّمُ إنسان ، قدَّموا أرواحهم ، أنت قدِّم مالكَ ، قدِّم جزءاً من وقتِكَ ، جزءاً من خِبراتِك ، تعهَّدْ هذا القرآن ، اُدْرُس هذا القرآن ، تعلّم هذا القرآن ، علِّم هذا القرآن ، مُرْ بالمعروف وانْه عن المنكر ، أحْسِن إلى جيرانك ، ماذا قدَّمْت ؟ كُنْ قدْوَةً ، النبي عليه الصلاة والسلام يُخاطبُ المؤمن أنت على ثغرةٍ من ثغر الإسلام فلا يؤتينَّ مِن قبلِكَ ، يكفي أن تكون مستقيمًا ، ويكفي أن تكون محسنًا ، ويكفي أن تكون منضبطًا ، ويكفي أن تكون عفيفًا ، ويكفي أن تكون سموحًا، ويكفي أن تكون خيِّرًا ، إنَّك بهذا تقدّم نموذجًا صالحًا للمسلمين ، إذا كنت محْسنًا أحبّ الناسُ إسلامَكَ ، إذا كنْتَ منضبِطًا أحبَّ الناسُ إسلامَكَ فأسْلموا معك .
قوة المجتمع تكمن في معاملة الإنسان من هم دونه كما يعامل نفسه :
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ لقْطةٌ ثالثة من لقطات غزوة بدر ، تحدَّثنا عن الجندي، وها نحن نتحدَّث عن القائد ، النبي عليه الصلاة والسلام قائدُ هذا الجيش ، ماذا فعَلَ ؟ عن عبد الله بن مسعود قال : لما كان يوم بدر كان كل ثلاثة على بعير ، وكان علي بن أبي طالب وأبو لبابة زميلي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : فكان إذا كانت عقبة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا : نحن نمشي عنك ، فقال :
((ما أنتما بأقوى مني ولا أنا أغنى عن الأجر منكما ))
هذه لقطة رابعة ، أي هكذا يجبُ أن يعاملَ الكبير الصغير ، وأن يعامل القويّ الضعيف ، وإذا استنبطْت أنت من هذه القصّة أنّك يجبُ أن تعامِلَ الذين هم دونَكَ كما تعاملُ نفسك ، إذا فعلْت هذا أصبحَ المجتمعُ كالبنيان المرصوص ، يشدّه بعضهُ بعضًا ، سوِّ نفسك مع أصحابك ، سوِّ نفسكَ مع أقرانك ، سوّ نفسك مع من هم دونك ، سوّ نفسك مع عُمّالِكَ ، سوّ نفسك مع موظّفيك ، سوّ نفسك مع الذين معك ، لأنّ النبي عليه الصلاة والسلام في نزهةٍ مع أصحابه ، قال أحدهم : عليّ ذبْحُ الشاة ، وقال آخر : وعليّ سلخها ، وقال ثالث : وعليّ طبخها ، فقال عليه الصلاة والسلام : وعليّ جمْعُ الحَطَب ، فقال أصحابُه : نكفيك ذلك يا رسول الله ، قال : " لا ، إنّ الله يكرهُ أن يرى أحدًا من عباده متميِّزًا على أقرانِهِ "
وهذا استنباطٌ رابع . معركةُ بدرٍ وقعَت وانتَهَت ، ولكنّ البطولة أن تستنبطَ منها أشياء .
من نصر دين الله أحبه الله و نصره :
أيها الأخوة الأكارم ؛ شيءٌ آخر أحبّ أن أضعهُ بين أيديكم ، الله سبحانه وتعالى يقول :
﴿إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ ﴾
قد يسأل سائلٌ : كيف ينصر عبد خالق الكون ؟ أنا أنصرُه !! ما هذا الكلام ؟ وما تأويل هذه الآية ؟ الإنسان العبد الفقير الضعيف ، الذي لا يملكُ شيئًا هو ينصرُ خالق الكون ؟ ألَمْ يقل الله عز وجل :
((يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وجنكم وإنسكم وصغيركم وكبيركم وذكركم وأنثاكم - قال عبد الصمد : وعسيكم وبينكم - على قلب أتقاكم رجلاً واحداً لم تزيدوا في ملكي شيئاً ، ولو أن أولكم وآخركم وجنكم وإنسكم وصغيركم وكبيركم وذكركم وأنثاكم على قلب أكفركم رجلاً لم تنقصوا من ملكي شيئا إلا كما ينقص رأس المخيط من البحر ))
ماذا يَعْني ربّنا أن يهتدِيَ جميعُ الناس أو أن يبقوا كفارًا ؟ وقال الله عز وجل في كتابه العزيز :
﴿إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ﴾
فكيف ننْصرُ ربّنا ؟ هذا هو السؤال .
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ إجابةُ هذا السؤال كما يلي : في الحياةٌ خيرٌ وشرّ ، دعوةٌ إلى الله ، ودعوةٌ إلى الشيطان ، عملٌ فيه إحسانٌ للخلق ، وعملٌ فيه إيذاءٌ للخلق ، عملٌ يحبّه الله عز وجل ، وعملٌ يمْقتُهُ ، ملكٌ يُلهم ، وشيطانٌ يُوَسْوِس ، داعيةٌ يدعو ، ومُبطلٌ يدعو، وأنت بين أن تكون مع العقل أو مع الشّهوة ، وبين أن تكون مع المبدأ أو مع المصلحة ، بين أن تكون مع العاجلة أو مع الآجلة ، فإذا اختَرْتَ أن تكون مع الله ، إذا اخْترْت أن تكون مستقيمًا ، إذا اخترْت أن تكون محسنًا ، إذا اخترْت أن تستجيب لأمر الله ، إذا اخترْت أن تستجيب لِنِداء الفِطرة ، إذا اخترْت أن تستجيب للحق ، واختارَ أُناسٌ آخرون هذا الاختيار ، كلّما اِتَّسَعَتْ قاعدة المؤمنين حُجِّمَ الباطل ، وصار بهذا نصْرًا لهذا الدِّين ، أي إذا كنتم في نزهةٍ وقام الجميع ليُصلُّوا ، الذي لا يُصلّي يستحي ويقوم ، فإذا قام واحدٌ للصلاة والأكثريّة لا يُصلّون ، هؤلاء الذين لمْ يُصلّوا خذَلوا دين الله تعالى ، هؤلاء الذين صلُّوا نصروا دين الله تعالى ، إذا كنتم تُجارًا وامتَنَعْتم عن أكل المال الحرام ، عن أكْل الربا ، يصبحُ آكلُ الربا غريبًا ، يُصبحُ شاذًّا ، تُسلَّط عليه الأضواء ، أما إذا أكل كلّ التّجار الربا ، وامْتَنَع أحدهم فيصبحُ ضعيفًا ، يصبحُ مثارًا للسُّخْرية ، فكلّما اتَّسَعَت دائرة المؤمنين قوِي دين الله عز وجل ، وكلّما انْكمشَت هذه القاعدة ، وقويَ الكُفْر والانحراف والمعصيَة ، فالله سبحانه وتعالى غنيّ عن أن تنصرهُ ، ولكن إن تنصر دينهُ تُشَجِّعُ الآخرين أن يكونوا مِثلك ، فالله سبحانه وتعالى يحبّك أن تنصرَ دينه ، قال تعالى :
﴿إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ ﴾
لذلك المشكلة قبل أن تقول : يا رب ، انْصُرنا على أعدائنا ، يجبُ أن تنتصِر لله أوَّلاً ، يجبُ أن ننتصِرَ لِدِين الله حتى نسْتحقّ أن ينصرنا على عدوّنا .
الحق واحد لا يتجزأ :
شيءٌ آخر ، قال تعالى :
﴿إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ﴾
قال تعالى :
﴿وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ ﴾
أي لا يمكن أن يتصارعَ حقّان لأنّ الحقّ في الأرض واحِد ، معركةٌ بين حقَّيْن مستحيلة ، لأنّ الحقّ واحِد ، قال تعالى :
﴿ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ﴾
النّقطة الثانيَة ؛ قال تعالى :
﴿فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ﴾
إما أن تكون على الحقّ ، وإن لم تكن على الحقّ فلا سمَحَ الله ولا قدَّر فأنت حتمًا على الباطل ، لأنّ الحقّ واحِد ، الحقّ لا يتعدَّد ، الحق لا يتكرّر ، الحقّ واحد ، أي بشَكل هندسي ، بين نقطتين لا يمرّ إلا مستقيمٌ واحد ، وأنّ صراط الله هو الصّراط المستقيم ، لو رسمْت مليون خطّ مستقيم من نقطتين تأتي كلّها فوق بعضها ، تصبحُ خطًّا واحدًا ، ولكن قد يكون الصّراع بين الحقّ والباطل ، وإذا كان كذلك فهذا صراعٌ قصيرٌ أمدُه لأنّ الله مع الحقّ ، أما إذا كان بين باطِلَين فقد يمْتدّ ، أي الله عز وجل في آيةٍ من آيات القرآن الكريم جعَلَ للنَّصْر معادلة رياضيّة ، قال تعالى :
﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ * الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾
إذا انْعَدَم الإيمان الحَسْمُ للقوّة ، إذا كان هناك إيمان فالحَسْمُ للإيمان ، أما إذا انْعَدَمَ الإيمان فالحَسْم للقوّة ، هذه أيضًا معادلة ، وحقيقة جاءَت في كتاب الله ، وفي سورة الأنفال بالذات ، ويجبُ أن تكون بين أيدينَا دائمًا .
نموذجٌ من نماذج المقاتلين في غزوة بدر :
أيها الأخوة الأكارم ؛ نموذجٌ ثالث من نماذج المقاتلين في غزوة بدر ، ربّنا سبحانه وتعالى يقول :
﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً ﴾
هذا ضَعفٌ خَلقي أراده الله عز وجل لِيَفْتقرَ في هذا الضّعف إلى الله ، فإذا افْتقرَ في ضَعفِهِ سَعِدَ بافتقاره ، ولو كان قويًّا لاستغنى بقوّته ولشَقِيَ بِاستغنائِهِ ، فإنّ الإنسان كما قال الله تعالى :
﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً * إِلَّا الْمُصَلِّينَ* الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ﴾
سيّدنا خُبيب بن عديّ وقعَ أسيرًا في يدي الكفار ، فساوَمُوهُ على إيمانِهِ ولوَّحوا له بالنجاة إذا هو كَفَرَ بِمُحمّد صلى الله عليه وسلّم ، وكان إيمان خُبَيب كالشمس قوّة ، وبُعدًا ، ونارًا ، ونورًا ، وما محاولاتهم في ردّه عن إيمانه إلا كمن يحاوِل أن يقتنصَ الشّمس بِرَمية نبل ، شيء مستحيل ، فلمّا يئِسُوا ممّا يرجون قادوا خُبيبًا البطل إلى مصيره المحتوم ، وخرجوا به إلى ما كان يسمّى التنعيم خارج مكّة ، واستأذنهم أن يصلِّيَ لله ركعتين ، وما إن صلّى ركعَتَين حتى عرضوا عليه العرْض التالي ، قال أبو سفيان : أتُحِبّ أن يكون محمَّدٌ مكانك وأنت سليمٌ معافًى في أهلك ؟ فصاحَ فيهم : والله لا أحبّ أن أكون في أهلي وولدي ، وعندي عافيَةُ الدنيا ونعيمها ويُصابُ رسول الله بِشَوكة ، عندئذٍ قال أبو سفيان وهو يضربُ كفًا بِكَفّ : ما رأيتُ أحدًا يحبّ أحدًا كَحُبّ أصحاب محمَّدٍ محمَّدًا .
تطبيق سنة النبي الكريم في حياتنا :
هل نحبّ نحن بعضنا بعضًا هذه المحبّة ؟ أهكذا يحبّ الله عز وجل أن نكون يدًا واحدةً ؟ أن نكون متكاتفين ؟ أن نكون متعاونين ؟ أن نكون متباذلين ؟ أن نكون متزاورين ؟ أن نكون متسامحين ؟ أن يخْدِمَ بعضنا بعضًا ؟ أن يكون أحدنا في خِدمة إخوانه المؤمنين ؟ أن يكون أحد دِرْعًا للمسلمين ؟
(( المسلم أخو المسلم لا يظلمه ، ولا يخذلهُ ، ولا يسْلمهُ ، لا يحقرهُ ، وكلّ المسلم على المسلم حرامٌ ؛ ماله ودمُه وعرضهُ ))
هكذا توجيهات النبي عليه الصلاة والسلام ، لن يرضى الله عنَّا إلا إذا طبّقنا سنّة النبي ، لأنّ الله تعالى يقول :
﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾
وسنّة النبي عليه الصلاة والسلام بين أظهرنا ، بين أيدينا .
الإسلام بناء أخلاقي :
الله سبحانه وتعالى يقول :
﴿فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً ﴾
ليس معنى إضاعة الصلاة ترْك الصلاة ، ولكن أن تُصلِّيها صلاةً جوفاء لا روحانية فيها ، لا إقبال على الله فيها ، لا اتِّصالاً محكمًا مع الله فيها ، ليس فيها خُشوع ، ولا تنهى عن الفحشاء والمنكر ، هذه ليْسَت صلاةً إنّ الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ، إنّ الصلاة قُرْب ، إنّ الصلاة مناجاة ، إنّ الصلاة دُعاء ، إنّ الصلاة ذِكْر ، إنّ الصلاة طُهر ، إنّ الصّلاة حبور ، إنّ الصلاة نور ، هكذا الصلاة ، فلذلك ما الذي ضيَّع المسلمون ؟ النبي عليه الصلاة والسلام يقول :
(( بُنِيَ الإسلام على خمس ))
فهذه الأشياء الخمسة ليْسَت هي الإسلام ، بل هي دعائم الإسلام ، بنيَ الإسلام على خمس ، الإسلام شيء ، وهذه دعائمُه ، فإذا ظَنَنّا أنّ الإسلام هذه الدعائم الخمس أدّينا الصلاة أداءً شكليًا ، دفعنا زكاة المال ونحن كارهون ، ذهبنا إلى الحج ولسْنا في مستوى الحجّ، وفعلنا ما فعلنا ، الإسلام بناء أخلاقي ، الإسلام صِدق ، الإسلام أمانة ، الإسلام إحسان، الإسلام إنصاف ، وركعتان من ورِع خيرٌ من ألف ركعة من مخلّط ، من لم يكن لهُ ورعٌ يصدّه عن معصيَة الله إذا خلا لمْ يعبأ الله بِشَيءٍ من عمله ، ما قيمة العمل ؟ قال تعالى:
﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا ﴾
ماذا فعلت من أجل الله ؟ ماذا أعْطَيْت ؟ ماذا بذَلْت ؟ ما الموقف الذي وقفْتهُ ؟ كلامٌ بِكَلام ، أي إذا آمنْت بالله ماذا فعلْت ؟ إذا قلت : هذه شمس ، هي شمسٌ قلتَ هذا أم لم تقل ، اعْترَفْتَ بهذا أم لم تعترف ، ماذا فعلْت إذا آمنْت بالله وقعَدْت ولم تفعل شيئًا ؟ إذا لم يكن الإسلام في سُلوكك اليومي ، وفي عملك ، وفي بيتك ، وفي بيعِك ، وفي جوارك ، وفي كلّ علاقاتك ، أن يبقى الإسلام ثقافةً وفِكرةً نترنَّم بها ، ونتلوها على الناس ، ونفتخرُ بها ، هذا هو الإسلام الذي لا يريدُه الله عز وجل ، سيّدنا عمر حينما امْتَحَن راعيًا ، وقال له : بِعني هذه الشاة ، راعي غنم ليس عنده أي كتاب ، قال : خُذْ ثمنها ، فقال : ليْسَت لي ، قال : قلْ لصاحبها إنّها ماتَتْ ، أو أكلها الذّئب ، فقال : ليْسَت لي ، قال له : خُذْ ثمنها ، فقال الراعي: والله إنّني لفي أشدّ الحاجة إلى ثمنها ، ولو قلت لِصاحِبِها ماتَتْ أو أكلها الذّئْب لصدّقني فإنِّي عندهُ صادقٌ أمين ، ولكن أين الله ؟ عشرون ألف دعوَةٍ بِقَصْر العَدل ، لو عرف الإنسان حقّه فوقفَ عندهُ ، لو عرفَ ما لهُ ، وما عليه ، لاستراح الناس ، واستراح القاضي ، الإسلام معاملة ، الإسلام انضباط ، الإسلام وقوف عند الحدود ، سيّدنا عمر كان وقّافًا عند كتاب الله ، لو قال لك إنسانٌ : شكَوْتُك إلى الله ينبغي ألا تنام الليل ، وكنت تعرف من الله عز وجل ؟ كيف يأخذُ الحقوق ، يجبُ ألا تنام الليل .
فيا أيها الأخوة الأكارم ؛ لسْنا بحاجةٍ إلى مزيد من الكلام ، لكنّنا بحاجةٍ إلى عمل ، وإلى إسلامٍ مطبّق ، بحاجةٍ إلى مسلمٍ حركتهُ وأقوالهُ وأفعالهُ تؤكّد إسلامه ، لا لسانهُ .
حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزِنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، واعلموا أنّ ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا ، وسيتخطّى غيرنا إلينا فلْنَتَّخِذ حذرنا ، الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتْبعَ نفسه هواها وتمنّى على الله الأماني ، والحمد لله رب العالمين .
* * *
الخطبة الثانية :
أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين ، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله ، صاحب الخلق العظيم ، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
زكاة الفطر :
أيها الأخوة المؤمنون ؛ الخطبة القادمة إن شاء الله تعالى عن الزكاة ، ولكن زكاة الفِطر لها أحكامٌ خاصّة ، ويبدو أنّ هذا الوقت أنْسَبُ الأوقات لِدَفعها ، فالإمام الشافعي يرى أنْ تُدْفعَ في أوّل رمضان كي يستفيد منها المسلم في شراء حاجيّاته قبل حُلول العيد .
أيها الأخوة الأكارم ؛ زكاة الفِطر - وقلتُ هذا كثيرًا - هدفها الأكبرُ أن يذوقَ كلّ مسلمٍ طَعمَ الإنفاق ، وللإنفاق طعمٌ لا يعرفُه إلا مَن ذاقَهُ ، مِقياسٌ بيننا أي إذا أردْت أن تعرفَ من أنت ، ما الذي يُسعِدُك أن تعطي أم أن تأخذ ؟ إن كنت من أهل الآخرة يُسعدُك أن تعطي ، وإن كنت من أهل الدنيا يُسعِدُك أن تأخذ ، وهذا مِقياس ، فإذا سعِدْت بالأخْذ والعطاء فهذا حلّ لا بأس به ، لكن المؤمن يسعدُ في الإعطاء ، فزكاة الفِطر من أجل أن تذوق طعم العطاء ، قال تعالى :
﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾
لا أشكّ أبدًا في أنّ مسلمًا ما إذا أدَّى زكاة ماله ، أو زكاة فِطره ، أداءً مخلصًا من كلّ شائبة إلا وتجلّى الله على قلبه ، وشعر أنّ الذي أعطاهُ الله من هذه السكينة والسعادة يفوق أضعافًا مضاعفة عمّا بدا له من الآخرين ، فمِن أجل أن تذوق ولو مرّةً واحدة ، قد يتأبّى الطّفل أن يأكل بعض الفاكهة تُحاوِلُ أُمّه لِمَرَّةٍ واحدة أن تُذيقهُ طعمها ، فإذا أحبّ طعْم الفاكهة أحبَّها وتعلَّقَ بها ، كأنّ الله سبحانه وتعالى في زكاة الفِطْر أراد أن يُذيقنا طعم الإنفاق ، فإذا شعرْت بهذه السعادة ، وهذه السكينة ، وهذه الطهارة ، وهذه التزكيَة أنت مِمَّن استفاد من زكاة الفِطر ، لذلك تجبُ على كلّ مسلم صغيرٍ أو كبير ، غني أو فقير ، حرّ أو عبد ، ذكرٍ أو أنثى، بل إنّها تجبُ على من لا يجبُ عليه الصيام ، تجبُ على الصغير ، وعلى المعذور ، وعلى من أفطر لعُذر ، تجبُ على من أفطَرَ ولا يملكُ ما ينفقُ كفِديةٍ لإفطاره ، وتجبُ على من أفطر لغير عُذر ، تجبُ على تارك الصلاة ، تجبُ على كلّ من ينتمي إلى هذا الدِّين ، تجبُ على كلّ مسلم ، مِقدارها نصفُ صاعٍ من برّ - من دقيق - أو من زبيب - البِرّ الإحسان ، والبُرّ الدقيق ، والبَرّ اليابسة ، وهذه كلمة مثلّثة ، فمِقدارها بِحَسب المعايير اليوميّة – البر اثنان كيلو من القمح ، وعلى قدر السّعر المتداول بين الناس ، أو صاعٌ من تمر أو شعير ، الصاع أربعة كيلو ، نصف صاع من برّ ، أو صاع من شعير أو من تمر ، العلماء ولا سيما السادة الأحناف قالوا : دَفعُ القيمة أفضل لأنّ المال فيه مُرونة ، فهذا الفقير يحتاجُ إلى ألبسة له ولأولاده، وإلى حاجات معيّنة ، دفعُ القيمة أفضل ، ودفْعُ زكاة الفِطر للأرحام والأقارب أفضل ، ولكن لا تجوزُ أن تُعطى زكاة الفطر لا إلى الأصول مهما علوا ، ولا إلى الفروع مهما دَنوا ، الآباء والأجداد وأجداد الأجداد ، ولا إلى الأولاد وأولاد الأولاد ، وأولاد البنات ، ولا إلى الزوجة ، وتنفردُ صدقة الفطر عن الزكاة بأنّه لا يجوز أن تعطي الزوجة لزوجها ، بين الزوجين ممنوع ، وبين الآباء والأولاد ممنوع ، وما سوى ذلك مقبول ، بل الأفضل أن تُعطى للأرحام والأقارب .
شيءٌ آخر ، أنت أولى الناس بأقاربك ، لذلك لا تقبلُ صدقة الفطر من إنسان في أقربائه محاويج ، إذا كان لك قريب بِطَرف المدينة ، لا تقل : أنا أدفعها هنا وأستريح ؛ لا ، هذا القريب لا يعرفهُ أحد إلا أنت ، توجَّه إلى بيته ولو كان بعيدًا ، ولو كلَّفَكَ وقتًا ومشقَّةً حتى تصل إليه ، لا تُقْبلُ صدقةُ الفِطر من إنسان وفي أقاربه محاويج ، بعد الأقرباء الجيران ، وبعد الجيران أهل المحلّة ، وفقراء البلد نفسه .
صدقة الفطر لا تسقط بِهَلاك المال ، لأنّها ليْسَت على المال ، الزكاة إذا هلك المال تسقط ، أما صدقة الفطر فعلى الرأس لا تسقط بِهَلاك المال ، وزكاة الفِطر يمكن أن تعطى لفقير واحدٍ ، أو أن تُعطى مجموعة زكوات لفقير واحد ، أو أن تعطى زكاة لعدّة فقراء ، طبعًا نحن قلنا عن الحدّ الأدنى ، ولم نقل عن الحدّ الأعلى ، الحدّ الأدنى أربعون ليرة أو ثلاثون أو خمسون ، على اختلاف في أسعار القمح ، أما الحدّ الأعلى فقد يدفعُ الميسور على كلّ فردٍ ألف ليرة ، وهي تجبُ على من تموله وتلي عليه ، وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلّم هذه الصدقة بأنّها طُهرةٌ للصائم وطُعمةٌ للمساكين .
الدعاء :
اللهم اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولَنا فيمن تولَيت ، وبارك اللهم لنا فيما أعطيت ، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت ، فإنك تقضي ولا يقضى عليك ، اللهم أعطنا ولا تحرمنا ، أكرمنا ولا تهنا ، آثرنا ولا تؤثر علينا ، أرضنا وارض عنا ، اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك ، ومن طاعتك ما تبلغنا بها جنتك ، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا ، ومتعنا اللهم بأسماعنا ، وأبصارنا ، وقوتنا ما أحييتنا ، واجعله الوارث منا ، واجعل ثأرنا على من ظلمنا ، وانصرنا على من عادانا ، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا ، ولا تسلط علينا من لا يخافك ولا يرحمنا ، مولانا رب العالمين ، اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك ، وبطاعتك عن معصيتك ، وبفضلك عمن سواك ، اللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا ، وآمنا في أوطاننا ، واجعل هذا البلد آمناً سخياً رخياً وسائر بلاد المسلمين ، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين ، ولا تهلكنا بالسنين ، ولا تعاملنا بفعل المسيئين يا رب العالمين ، اللهم بفضلك ورحمتك أعلِ كلمة الحق والدين ، وانصر الإسلام وأعز المسلمين ، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى ، إنك على ما تشاء قدير ، وبالإجابة جدير .