- الخطب
- /
- ٠1خطب الجمعة
الخطبة الأولى:
الحمد لله ثم الحمد لله ، الحمد لله الذي هدانا لهذا ، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ، وما توفيقي ولا اعتصامي ولا توكلي إلا على الله . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقراراً بربوبيته وإرغاماً لمن جحد به وكفر . وأشهد أنَّ سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلَّم ، رسول الله سيِّد الخلق والبشر ، ما اتصلت عينٌ بنظرٍ أو سمعت أذنٌ بخبر . اللهمَّ صل وسلم وبارك على سيّدنا محمد ، وعلى آله وأصحابه ، وعلى ذريَّته ومَن والاه ومَن تبعه إلى يوم الدين. اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
القرآن الكريم منهج الإنسان و تعليمات الصانع :
أيها الأخوة المؤمنون ؛ لا شكَّ أن الموضوع المُناسب لهذا اليوم هو القرآن الكريم، لأن النبي عليه الصلاة والسلام كان يُكْثِر مِن تلاوة القرآن الكريم في رمضان .
القرآن الكريم يا أيها الأخوة الأكارم منهج الإنسان ، تعليمات الصانع ، أنت آلةٌ معقدة ؛ لك عقلٌ ، ولك نفسٌ ، ولك جسدٌ ، فيك نوازع ، فيك شهوات ، فيك طموحات ، فيك صراعات ، تتأثَّر ببيئتك ، تتأثر بالعادات ، بالتقاليد ، بثقافتك ، هناك ضغوط ، هناك مغريات ، حياة الإنسان فيها تأثيراتٌ كثيرة ، كيف يهتدي في هذا الخِضَم ؟ مع مَن ضد مَن ؟ مع شهوته أمن مع عقله ؟ مع دنياه أم مع آخرته ؟ مع ما يرضيه أم مع ما يسخطه ؟ مع ما يسعد به أم مع ما يشقى به ؟ ما الذي يهدي الإنسان في هذه الحياة ؟ الله سبحانه وتعالى يقول :
﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾
السموات والأرض هي الكون . .
﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ﴾
كأن الكون كله في كَفَّة والكتاب في كفَّة ، السموات والأرض خَلْقُهُ ، والقرآن نوره ، الله سبحانه وتعالى في بعض آيات القرآن الكريم سمَّى كتابه :
﴿نُوراً مُبِيناً ﴾
هؤلاء الكُفَّار يخرجهم الطاغوت من النور إلى الظلمات ، والمؤمن بتلاوته لكتاب الله ، وتدبره له ، يخرج به من الظلمات إلى النور . .
﴿أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾
شتَّان بين من يطبِّق تعليمات الصانع ، فيضمن لآلته السلامة ، ويضمن لآلته أعلى مستويات المَرْدود ، وبين من يطبق التعليمات التي تأتيه من زيدٍ أو عُبيد فإذا الآلة معطَّلة أو مردودها قليل .
ما ورد في السنة الشريفة عن القرآن الكريم :
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ ماذا ورد في السنَّة النبوية المطهَّرة عن القرآن الكريم ؟ يقول عليه الصلاة والسلام فيما رواه الإمام البخاري في صحيحه ، عن عثمان بن عفان رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : خيركم . . . . على الإطلاق، و خير مِن أسماء التفضيل ، الخيرية في الدنيا والآخرة ، في كل شيء . .
(( خيركم من تعلم القرآن ...))
تعلم المنهج ، قرأ تعليمات الصانع ، قرأ ما ينبغي وما لا ينبغي ، ما يجوز وما لا يجوز ، ما يمكن وما لا يمكن ، عرف الحق من الباطل ، عرف الخير من الشر ، عرف الحلال من الحرام ، عرف الصحيح من الخطأ ، عرف الحقيقة من زَيْفِها . .
((خيركم من تعلم القرآن وعلَّمه ))
إذا تعلَّمته ، كأن هذا الوعاء الذي هو نفسك قد امتلأ علماً ، فإذا فاض الوعاء فاض على الآخرين ، مِن لوازم امتلاء الوعاء أن يفيض على الآخرين ، فمن تعلَّم القرآن لابدَّ من أن يعلمه ، يشعر المؤمن بدافعٍ قوي إلى تعليم الناس القرآن ، لأن سعادتهم في ثَنِيَّات آياته، لأن سعادتهم في الدنيا في تطبيق أحكامه ، لأن نجاحَهم في الحياة في التزام أوامره ، لأن سلامتهم في الدنيا في اجتناب نواهيه ، لأن مصيرهم الأبدي في معرفة سرّ وجودهم ، هذا كله في القرآن الكريم .
((خيركم من تعلم القرآن وعلَّمه ))
هذا الحديث الشريف يجب أن يكون نُصْبَ أعين كل إنسان ، أنا آلةٌ معقدة ، أين تعليمات الصانع ؟ إذا فعلت هذا فأنت مُفْرِطٌ في محبة ذاتك ، إذا أحببت ذاتك ، إذا لم تحب أحداً عليك بتطبيق تعليمات الصانع ، من أجل أن تضمن لهذا الكائن الإنساني سلامةً في الدنيا والآخرة ، وسعادةً ، واستمراراً .
كنت أقول لكم دائماً : إن الإنسان مفطورٌ على حبّ وجوده ، وعلى سلامة وجوده ، وعلى كمال وجوده ، وعلى استمرار وجوده ، وجوده ، وسلامة وجوده ، وكمال وجوده ، واستمرار وجوده ، هذا كله يضمنه القرآن الكريم . أنت كائن ، ألا ينبغي أن تعرف لماذا أنت هنا في الدنيا ؟ ما حقيقة الدنيا ؟ ما حقيقة الحياة ؟ ما حقيقة الإنسان ؟ أية حركةٍ أيها الأخوة تسبق العلم حركة عشوائية ، حركة غير هادفة ، حركة غير صائبة ، حركة غير نافعة ، أما إذا جاء العلم قبلها ، فالحركة منضبطة ، والحركة مجدية ، والحركة نافعة ، والحركة تسعد الإنسان إذا سبق هذه الحركة علمٌ بالله عزَّ وجل ، فـ :
((خيركم من تعلم القرآن وعلَّمه ))
على الإطلاق .
الرفعة عند الله تعالى تكون بقراءة القرآن و تدبره :
فيا أيها الأخ الكريم ؛ مرةً ثانية ، وثالثة ، ورابعة : أن تقطتع من وقتك وقتاً لتعلم القرآن ؛ لمعرفة لفظه ، لمعرفة أحكامه ، لمعرفة وَعْدِهِ ، لمعرفة وَعيده ، لمعرفة آياته ، هذا عملٌ لا يعلو عليه عمل ، ليس في الأرض عملٌ أهمُّ من هذا العمل ، قد تقول : ليس عندي وقت . هذا كلامٌ كأن يقول الطالب وهو في الجامعة ، وهو في كلية الطب ، ويعلِّق آمالاً عريضةً على نجاحه يقول : ليس عندي وقت للدراسة . إذا لم يكن عند طالب الطب وقتٌ لدراسة الطب ، وهو يرى أن نجاحه في هذه الشهادة سبب سعادته في الدنيا ، فعنده وقت لأي شيء؟!! إذا لم يكن لديك وقتٌ لدراسة القرآن ، ولتلاوته ، ولفهمه ، ولمعرفة أحكامه ، فعندك وقتٌ لماذا ؟ أي شيءٍ غير القرآن تافه ، قال تعالى :
﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ﴾
قال بعض العلماء : اللغو ما سوى الله .
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ هذا حديثٌ صحيح رواه الإمام البخاري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والراوي من الصحابة عثمان بن عفان :
((خيركم من تعلم القرآن وعلَّمه ))
وقد روى الإمام مسلم في صحيحه ، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلَّم قال :
(( إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين ))
قد يرتفع الإنسان بالمال ، ولكن هذه الرفعة مؤقتة ، قد يأتي بعدها انحدارٌ شديد، لأن كل مَن عليها فان ، كل مَن عليها فان ، قد يرتفع الإنسان لظرفٍ طارئ ، ولكن الرفعة التي لا نزول بعدها ، الرفعة التي لا تنتهي ، الرفعة التي تستمر بعد الموت هي رفعة القرآن الكريم ..
(( إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين ))
لذلك قال عليه الصلاة والسلام :
(( من أوتي القرآن فرأى أن أحداً أوتي خيراً منه فقد حقَّر ما عظَّمه الله تعالى ))
أنت تقرأ كلام الله ، وفضل كلام الله على كلام خلقه كفضل الله على خلقه ، كلامٌ مُحْكَم ، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، قطعيّ الثبوت ، دلالاته مُسْعِدَة ، معانيه تسمو بالنفس ، منهجه يوصل إلى الله عزَّ وجل ، كيف عند الإنسان وقتٌ ليقرأ شيئاً تافهاً ، وليس عنده وقتٌ ليقرأ القرآن الكريم ؟! .
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ الحديث الثاني الذي رواه الإمام مسلم :
(( إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين ))
إذا أردت الرفعة عند الله عزَّ وجل ، فكن ماهراً بهذا القرآن ؛ كن ماهراً بتلاوته ، كن ماهراً بفهمه ، كن ماهراً بتدبُّره ، كن ماهراً بتطبيقه ، بل إن أرقى مستويات التعامل مع هذا الكتاب ، أرقى مستوى أن تعيشه ، لذلك وصف بعضهم النبي عليهم الصلاة والسلام بأنه "قرآنٌ يمشي " والسيدة عائشة رضي الله عنها حينما سُئِلت عن خلق النبي عليه الصلاة والسلام قالت: " كان خُلُقُه القرآن " .
الفوز و النجاح لمن تطابق مقياسه مع مقياس القرآن الكريم :
يا أيها الأخوة الأكارم . . . نقطةٌ دقيقةٌ جداً في كتاب الله ، أنت إذا قرأت قوله تعالى :
﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً ﴾
هذه الآية لا تحتاج أنت في تفسيرها لا إلى تفسير الجلالين ، ولا إلى القرطبي ، ولا لابن عباس ، ولا إلى الرازي ، ولا إلى أي تفسير ، إنها واضحةٌ وضوح الشمس ، هذه الآية من الآيات المُحْكَمَات لو قرأها الصغير لفهمها ، ولكن شتان بين أن تفهم الآية وبين أن تعيشها، هنا المشكلة ، أن تفهمها ؛ كل مَن ينطق بالعربية إذا قرأ هذه الآية :
﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً ﴾
يفهمها . ولكن هل تعيش هذه الآية ؟ هل تَغَلْغَلَت هذه الآية في كيانك ؟ هل تغلغلت في مشاعرك ؟ هل تغلغت في إحساسك ؟ هل إذا رأيت إنساناً أمده الله بالقوة والمال وحرمك منهما ، وأنت مستقيمٌ على أمره ، وأنت تطيع الله عزَّ وجل ، وتعرفه ، وتعرف ما بعد الموت ، هل تشعر وقد حرمت من هذا المال وهذه القوة أنك دون ذلك الإنسان ؟ إذا شعرت بالحرمان ، أو شعرت أنك دونه ، فأنت لم تعش هذه الآية ، الله سبحانه وتعالى يقول :
﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً ﴾
وأنت لا ترى أنك فائز بطاعة الله عزَّ وجل ، هل ترى الفوز بالمال فقط ؟ هل ترى الفوز بالقوة فقط ؟ هل ترى الفوز بالمُتَع فقط ؟ هذا الذي لا تنطبق رؤيته مع مَنْطوق القرآن الكريم ، قد يؤمن به ولكن ليس في المستوى المطلوب ، المستوى المطلوب أن يكون هواك تبعاً للقرآن الكريم ، الله سبحانه وتعالى يقرر . .
﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ﴾
الفلاح ، والنجاح ، والفَوْز ، والتفوُّق ، والتميُّز في الإيمان وحده ، فإذا قرأت قوله تعالى :
﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ﴾
ورأيت أن زيداً أو عُبيداً نال من المال ما نال ، ونال من الجاه ما نال ، ونال من القوَّة ما نال ، وقد تفوَّق عليك ، وقد فاز فوزاً عظيما ، فأنت عندئذٍ لست في مستوى القرآن الكريم ، حينما خرج قارون على قومه . . .
﴿قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ﴾
هذا كلام أهل الدنيا الذين ما قرؤوا القرآن الكريم ، أما إذا كنت في مستوى القرآن. .
﴿وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً﴾
فلذلك ، اجهد أيها الأخ الكريم لا إلى فهم كتاب الله فحسب ، بل إلى أن تعيش آياته ، أن تكون في مستواها ، إذا قال الله عزَّ وجل :
﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا﴾
إذا كنت تُجْهِد نفسك في تزكية نفسك ؛ تطهيرها من الأدران ، من الغِل ، من الحقد ، من الحسد ، من الأَثَرَة ، من الأنانية ، من الاستعلاء ، من العلو ، من الإسراف ، من التبذير ، إذا جهدت في تطهير نفسك من هذه الأدران ، وقرأت قوله تعالى :
﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى ﴾
يجب أن تشعر بالفلاح ، يجب أن تشعر بالفَوْز ، يجب أن تشعر بالنجاح ، يجب أن تشعر بالتفوُّق . دائماً أنت لك مقياس وللقرآن مقياس ، لن تكون مهتدياً إلا إذا تطابق مقياسك مع مقياس القرآن الكريم .
العلم هو القيمة الوحيدة التي تصلح للترجيح بين العباد :
كتاب الله عزَّ وجل يقول :
﴿هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾
ما أَقَرَّ كتاب الله عزَّ وجل إلا قيمةً واحدة ، تصلح أساساً للترجيح بين العباد ، إنها العلم ، فهل ترى أن العلم بالله شيءٌ لا قيمة له وأن المال هو كل شيء ؟ أنت إذاً لست مهتدياً ، هذا هو الضلال المبين ، هل ترى أن المال هو كل شيء أو أن الصحة هي كل شيء أو أن الرفعة هي كل شيء ؟ الله سبحانه وتعالى يقول :
﴿هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾
القضية أعقد من فهم آية ، القضية تتناول أن تكون في مستوى هذه الآية ، أي إذا جاءك خاطبٌ لابنتك ، وهو على ما هو عليه من الرفعة ، والغنى ، و ، و ، والله سبحانه وتعالى يقول لك :
﴿وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ﴾
هل ترى أن هذا الكلام كلام الله ؟ وأنه هو الصحيح ؟ وأنه هو المقياس ؟ إذا رأيت أن الخاطب المؤمن ، المتواضع في ماله ، أو في مسكنه ، تؤثره على الخاطب الغني غير المؤمن ، فأنت تعيش هذه الآيات ، أما إذا كنت أنت في واد والقرآن في واد .
أنت إذا قرأت القرآن الكريم ، ماذا تقول عندما تنتهي ؟ تقول : صدق الله العظيم . فربنا سبحانه وتعالى يقول لك :
﴿وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ﴾
فإذا آثرت رِقَّة الدين مع الغنى ، على قوَّة الدين مع الفقر ، أو مع الكفاف ، فأنت كأن لسان حالك لا يقول : صدق الله العظيم . لا يقول هذا ، لك قِيَمٌ أخرى ، لك مقياس آخر أنت .
لذلك يا أيها الأخوة الأكارم ؛ الهدى يعني أن يكون مقياسك الواقعي ، مقياسك اليومي ، مقياس التعامل كل يوم مُنْطَبقاً مع مقياس القرآن الكريم .
لذلك حينما سئلت السيدة عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت :
(( كان خلقه القرآن ))
هكذا .
من طبق كلام الله عز وجل فالطريق أمامه واضح :
الله سبحانه وتعالى يقول :
﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ﴾
هذا توجيهٌ إلهي ، خالق الكون يأمر المؤمنين بغض أبصارهم ، فإن لم تكن أنت في هذا المستوى ففي أيِّ مستوى ؟ في مستوى المعصية ؟ في مستوى المُخالفة ؟ أي إما أنك لست قانعاً بهذا القرآن فابحث عن أدلَّته التي تقنعك أنه كلام الله ، فإذا اقتنعت أنه كلام الله ، فكيف تخالفه ؟ فهذه النشرة ، إذا لم تقنع أنها من عند المصنع الذي صنع هذه الآلة ، فهذا بحث آخر ، أما إذا قنعت أنها من المصنع ، وهذه الآلة غاليةٌ عليك ، وثمينةٌ جداً ، وخطيرةٌ جداً ، وذات نفعٍ كبير ، وهذه النشرة قطعاً بالدليل الواقعي ، والمنطقي ، والنقلي ، من عند المصنع الذي صنع هذه الآلة ، كيف تخالف هذه التعليمات ؟ يختلُّ عندئذٍ التوازن .
فالإنسان يا أيها الأخوة الأكارم يجب أن يكون واضحاً مع نفسه ، اسأل نفسك هذا السؤال : ليس عاراً أن تقول : هكذا . هذا القرآن ، إما أنك قانعٌ أنه كلام الله عزَّ وجل ، أو لست قانعاً ، إن كنت لست قانعاً بأنه كلام الله ، فالطريق أمامك واضح ، ابحث عن دليلٍ قطعيٍ نقليٍ وعقليٍ وواقعيٍ يؤكد أن هذا الكلام كلام الله ، فإذا أيقنت أنه كلام الله كيف تتوازن وأنت تعصيه ؟! كيف تشعر بالطمأنينة وأنت تخالف توجيهات الله عزَّ وجل ؟ عندئذٍ هناك خللٌ في العقل ، إذا آمنت أنه كلام الله عزَّ وجل ، وَحِدَّتَ عن توجيهاته وأوامره ، فهناك خللٌ في العقل .
القرآن ينقل الإنسان من حال إلى حال و من طور إلى طور :
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛
(( إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين ))
ومن أحاديث متفقٍ عليها ، ومعنى متفقٍ عليها أن الإمام البخاري والإمام مسلم في صحيحهما اتفقا على هذه الأحاديث ، وهذه أعلى درجة من صحة الأحاديث .
(( إن الذي يقرأ القرآن وهو ماهرٌ به مع السَفَرَة الكرام البررة ))
(( وأن المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأترجَّة ، ريحها طيب وطعمها طيب ))
(( وأنه لا حسد إلا في اثنتين ؛ رجلٍ آتاه الله القرآن فهو يقوم آناء الليل وآناء النهار ، ورجلٍ آتاه الله مالاً فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار ))
الحسد هنا ليس معناه كما ورد في بعض الأحاديث ، الحسد في هذا الحديث يعني الغِبْطَة ، يعني أنت لا تغبط أخاً إلا في إحدى حالتين ، إذا كان قد آتاه الله القرآن ، فهو يعلمه للناس ، أو أن الله آتاه مالاً ، فهو ينفقه على كل محتاجٍ ومسكين .
أيها الأخوة الأكارم ؛ في رمضان مناسبةٌ لسماع القرآن ، نحن في هذا المسجد- والفضل لله عزَّ وجل- نقرأ في التراويح القرآن كله ، كل يومٍ نقرأ جزءاً ، فإذا أردت أن تستمع إلى كتاب الله ، إذا أردت أن تعي كتاب الله ، الإمام الغزالي يقول : " إن أعلى درجة من الفضل لقارئ القرآن أن يقرأه في الصلاة ، واقفاً ، في مسجدٍ ، مع جماعةً " . أربعة شروط ، أن يقرأه واقفاً ، في مسجدٍ ، وفي صلاةٍ ، وفي صلاةٍ جامعة . لذلك رمضان شهر القرآن ، لعل الله سبحانه وتعالى يهديك إليه بآيةٍ واحدة ، مَن يدري ؟ قد تقرأ جزءاً من كتاب الله ، عند آيةٍ واحدة تكون هذه الآية قد أصابت الجُرْح ، قد أصابت الهدف ، قد ينحرف الإنسان مئةً وثمانين درجة ، قد ينتقل من حالٍ إلى حال ، من طَوْرٍ إلى طور ، من وضعٍ إلى وضع ، من خندقٍ إلى خندق، إذا قرأ آيةً من كتاب الله ، ألا يكفيك قوله تعالى :
﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا﴾
هل في الحياة نعمةٌ أعظم من أن تكون في منجاةٍ من الخوف والحزن والخوف والحزن أكلا قلوب الناس ؟ أحد المؤلفين من علماء النفس ألّف كتاباً سماه : دع القلق وابدأ الحياة ، بيع من هذا الكتاب خمسة ملايين نسخة في الطبعة الأولى ، ماذا يؤشِّر هذا ؟ على ماذا يدلُّ هذا ؟ على أن القلق قد أكل القلوب ، ألا تحب أن تكون مطمئناً ؟
﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾
﴿فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ﴾
ألا تحب أن تَنْعُم بنعمة الأمن ؟ إنها للمؤمنين خالصةً من دون الناس ، ألا تحب أن تنعم بشعور أن الله سبحانه وتعالى يحبك ؟ هذا شعور لا يوصف ، ألا تحب أن تكون ممَّن اهتدى عقله وسعدت نفسه؟ . .
﴿فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى﴾
ألا تحب أن تنعم بحياةٍ طيبة ؟
﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾
ألا تحب أن تنْعُم بميزة أن الله يدافع عنك ؟
﴿إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا﴾
ألا تحب أن تكون في هذا المستوى ؟ إذاً اقرأ القرآن ، اقرأه ، وافهمه ، وتدبَّره، وطبِّقه . إذاً :
(( إن الذي يقرأ القرآن وهو ماهرٌ به ، مع السَفَرَة الكرام البررة ))
(( وأن المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأترجَّة ، ريحها طيب وطعمها طيب ))
(( وأنه لا حسد إلا في اثنتين ؛ رجلٍ آتاه الله القرآن فهو يقوم آناء الليل وآناء النهار ، ورجلٍ آتاه الله مالاً فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار ))
المؤمن تنتهي حريته حينما يعرف الله عزَّ وجل :
حديثٌ رابع ، هذا الحديث الرابع وجَّهه النبي إلى سيدنا معاذ بن جبل ، قال عليه الصلاة والسلام :
(( يا معاذ إن المؤمن لدى الحقِّ أسير . . . ))
هذا الذي يفعل ما يشاء ليس مؤمناً ، هذا الذي يتحرَّك كما يشتهي ، يأخذ ما يحب ، يدع ما لا يحب ، يجلس مع مَن يحب ، مع مَن لا يحب ، هذا الذي يشعر بحرية مطلقة في الحياة ، هذا متفلِّت من منهج الله ، هذا خارج الحساب ، هذا خارج العناية المُشَدَّدة . أما المؤمن لدى الحق فأسير ، تنتهي حريتك حينما تعرف الله عزَّ وجل ، مَن أنت ؟ أنت عبد ، الله سبحانه وتعالى يأمرك بكذا ، وينهاك عن كذا ، أنت كعبدٍ لله عزَّ وجل ليس لك أن تفعل ما تشاء ، إن كنت حراً فافعل ما تشاء ، وإن كنت عبداً فما هكذا تصنع العبيد .
(( يا معاذ إن المؤمن لدى الحقِّ أسير . . . ))
مِن صفات سيدنا عمر رضي الله عنه أنه كان وَقَّافاً عند كتاب الله . وقافاً ، الآن تقول له : هذا الموضوع يخالف الشرع ، يقول لك : دونك المحاكم ، أنا أريد القانون ، فلا يعبأ بكتاب الله عزَّ وجل .
(( يا معاذ إن المؤمن لدى الحقِّ أسير . . . ))
﴿وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً﴾
انتهى الأمر ، فليس هناك غيبة ، أما الذي يطلق لسانه ، والله ينهى عن الغيبة ، فأين هو من مَنْهَج الله عزَّ وجل ؟
﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ﴾
الذي ينظر يكون قد تفلت مِن منهج الله عزَّ وجل . وأنا أقول لكم : إن الناس رجلان ؛ متصلٌ بالله عزَّ وجل ، منضبطٌ بشرعه ، محسنٌ إلى خلقه ، منقطعٌ عن الله ، متفلتٌ من شرعه، مسيءٌ إلى خلقه . ولن تجد في الناس رجلاً ثالثاً ، إما أنه متصل ، منضبط ، محسن ، أو منقطع ، متفلت ، مسيء .
المؤمن قيَّده القرآن عن كثيرٍ من هوى نفسه :
(( يا معاذ إن المؤمن لدى الحق أسير ، يعلم أن عليه رقيباً على سمعه ، وعلى بصره ، وعلى لسانه ، وعلى يده ))
هذه العين أمانةٌ عندك ، إياك أن تستخدمها في معصية الله ، إياك أن تنظر بها إلى عورات المسلمين ، من لوازم الصيام صوم العين . هذه الأذن أمانةٌ لديك ، إياك أن تستخدمها في معصية ، إياك أن تستمع بها إلى ما لا يرضي الله عزَّ وجل . هذا اللسان أمانةٌ بين يديك ، اجعله ناطقاً بالحق ، ولا تجعله ينطق بالباطل .
(( يا معاذ إن المؤمن لدى الحق أسير ، يعلم أن عليه رقيباً على سمعه ، وبصره ، ولسانه ، ويده ، وإن المؤمن قيَّده القرآن عن كثيرٍ من هوى نفسه ))
ما الذي يزعج الناس ؟ تفلُّت الناس ، تطاولهم على بعضهم . لو أنهم قرؤوا كتاب الله لعرف كل مؤمنٍ حدّه فوقف عنده ولم يتعدَّ طوره ، حينما تكون في المستوى المطلوب فأنت منضبط .
(( يا معاذ إن المؤمن لدى الحق أسير ، يعلم أن عليه رقيباً على سمعه ، وبصره ، ولسانه ، ويده ، وإن المؤمن قيَّده القرآن عن كثيرٍ من هوى نفسه ))
إن اتباع الهوى هوانُ . . . . .
إلى متى أنت في المعاصي تسير مرخى لك العـنانُ ؟
عندي لك الصلح وهو بري وعندك السـيف و الســنانُ
ترضى بأن تنقضي الليالي وما انقضت حربك العــوان
فاسـتحِّ من كتاب كـريم يحصي به العقل و اللســـــــان
واســتح من شيبةٍ تراها في النار مســجونــــــــــةً تهـان
* * *
فالمؤمن . .
﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ﴾
الإنسان ماذا ينتظر ؟ لو أراد هوى نفسه ، لو أراد الدنيا ، لو أراد شهوات الدنيا ، لو أراد أن يدير ظهره للقرآن ، ماذا ينتظر من الدنيا ؟
(( هل ينتظر إلا غنىً مطغياً - ما هو الغنى المطغي ؟ الغنى الذي يحملك على معصية الله - أو فقراً منسياً ، أو مرضاً مفسداً ، أو هرماً مفنداً ، أو موتاً مجهزاً ، أو الدجال فشر غائبٍ ينتظر ، أو الساعة والساعة أدهى وأمر ))
رمضان شهر القرب و الصلح مع الله عز وجل :
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ هذا الشهر شهر التوبة ، شهر الصلح مع الله ، والله الذي لا إله إلا هو يشعر الرجل أو المرء إذا عَقَدَ مع الله صلحاً أنه أسعد خلق الله ، يشعر أن جبالاً قد أزيحت عن كاهله ، يشعر أنه خفيف ، يشعر أنه يَنْعُم في سعادةٍ يفتقر لها أولو الحول والطول ، يفتقر لها الأغنياء ، الأقوياء . . " إن الله يعطي الصحة ، والذكاء ، والجمال ، والمال للكثيرين من خلقه ، ولكنه يعطي السكينة بقدرٍ لأصفيائه المؤمنين" الصلح مع الله ونحن في رمضان ، اكتب على دفترك : ما الأشياء التي لا ترضى عنها ؟ ما الأشياء التي تخالف الشرع؟ ما الأشياء التي لا يرضى الله عنها ؟ سَجِّلها بقائمة ، وحاول التخلُّص منها واحدةً واحدة ، اشتغل بنفسك يا أخي ، كيف ترتِّب غرفتك ؟ أليس ترتيب الغرفة سلوكاً طبيعياً ؟ إذاً فرتِّب نفسك، تعاهد قلبك ، ما المخالفات ؟ ما التقصيرات ؟ ما المعاصي ؟ ما الآثام ؟ ما التجاوزات في أمور الشرع ؟ سجِّلها واستعن بالله على التخلُّص منها ، ولقد قال عليه الصلاة والسلام :
(( استعن بالله ولا تعجز ))
لا تعجز ، إذا أردت أن تكون مع الله فالله معك ، كن مع الله فالله معك ، كلام صاحب هذا المقام :
كن مع الله تر الله مــعــك واترك الكـلَّ وحاذر طمعــــــك
وإذا أعـطاك مَن يمـنعه ؟ ثم مَن يعطي إذا ما منعـك؟
إنما أنت له عبدٌ فـكـــــــــن جاعلاً في القرب منه ولعـك
* * *
أيها الأخوة الأكارم ؛ هذا رمضان موسم القرب ، موسم الاتصال بالله عزَّ وجل، موسم الصُلح مع الله ، موسم الإقبال على الله ، موسم فعل الخيرات ، موسم ترك المنكرات ، موسم حب المساكين ، موسم الإنفاق ، موسم أن تكون مع الله دائماً .
أيها الأخوة الأكارم ؛
((… وإن المؤمن قيَّده القرآن عن كثيرٍ من هوى نفسه وشهواته ، وحال بينه وبين أن يهلك فيما يهوى ))
الحياة الطيبة لمن قرأ القرآن و آمن بأحكامه :
شيءٌ آخر : حديثٌ خامس يتعلق بالقرآن الكريم ، يقول عليه الصلاة والسلام - وهذا الحديث والله الذي لا إله إلا هو لو لم يكن في السنة النبوية المطهرة عن القرآن إلا هذا الحديث لكفى-:
(( لا يحزن قارئ القرآن ))
ما الذي يأكل الناس ؟ ما الذي يسحقهم ؟ الحزن ، الندم ، الضيق ، القلق .
(( لا يحزن قارئ القرآن ))
لماذا ؟ لأن الله يقول لك :
﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾
وعدٌ من خالق الكون بالحياة الطيِّبة ، فعلامَ الحزن إذاً ؟ لأن الله سبحانه وتعالى يقول :
﴿إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا﴾
إذا قرأت القرآن ، وآمنت بأحكامه ، واتَّبعت أوامره ، وانتهيت عما عنه نهى ، اسْتَحْقَقت أن تكون ممن يدافع الله عنهم ، وإذا دافع الله عنك مَن يستطيع أن يطولك ؟ إذا كان الله معك فمَن عليك ؟ إذا دافع الله عنك مَن يستطيع أن يطولك ؟ هل تشعر بأنك في حرزٍ حريز أقوى من هذا الحرز ؟ هل تشعر بحصنٍ أقوى من هذا الحصن ؟ ماذا قال سيدنا هود ؟
﴿فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾
ألا يكفي هذا الشعور أن كل المخلوقات الوديعة والمخيفة إنما هي بقبضة الله عزَّ وجل وأنت معه ؟ إذاً هو الذي يدافع عنك .
(( لا يحزن قارئ القرآن ))
كل شيءٍ وقع أراده الله ، وكل شيءٍ أراده الله وقع ، وإرادة الله متعلقةٌ بالحكمة المُطْلَقة ، وحكمته متعلقةٌ بالخير المطلق ، كل شيءٍ وقع فهو خير و إن بدا لك أنه شر ، هذا ما يبدو لك ، كما يبدو للطفل الصغير عندما يمنع والده عنه الطعام والشراب أن هذا شر ، كما يبدو للطفل وأبوه يفتح بطنه بمشرطه ، وأبوه طبيب جراح ليستأصل الزائدة الدودية ، يبدو للطفل الصغير أن أباه يذبحه ، بينما أباه يرحمه . الشر نسبي ؛ تراه أنت شراً .
كل ما يصيب الإنسان هو محض خير :
لذلك الآية الكريمة تكفينا :
﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾
ألا تكفينا هذه الآية في كتاب الله أن كل شيءٍ أصابك هو محض خير ؟ محض حكمة ؟
يا أيها الأخوة المؤمنون :
(( لا يحزن قارئ القرآن ))
لماذا الحزن ؟ والله بيده كل شيء ؛ غنيٌ ، قديرٌ ، سميعٌ ، بصيرٌ ، عليمٌ ، عدلٌ، صمدٌ ، يعز ، ويغني ، ويرفع ، ويعلي ، وكلُّه بيده ، فإذا أصابك ما تكره ، فهناك معالجة.
(( لو أن أولكم وآخركم ، وإنسكم وجنكم وقفوا على صعيدٍ واحد وسألني كل واحدٍ منكم مسألته ما نقص ذلك في ملكي إلا كما ينقص المخيط إذا غمس في مياه البحر ، ذلك لأن عطائي كلام - كن فيكون - وأخذي كلام - زل فيزول - فمن وجد خيراً فليحمد الله ، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه ))
((ما من عثرةٍ ، ولا اختلاج عرقٍ ، ولا خدش عودٍ إلا بما قدمت أيديكم وما يعفو الله أكثر ))
(( لا يحزن قارئ القرآن ))
إذا قرأت القرآن وقرأت بشارة الله لك . .
﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ﴾
من شيء كلمة شيء نكرة . .
﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ * أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ﴾
خالق الأكوان يعدك بالجنان ، خالق الأكوان يعدك بجنةٍ عرضها السموات والأرض ، فيها ما لا عينٌ رأت ، ولا أذنٌ سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، والثمن أن تكون معه في هذه السنوات المعدودة ، أن تكون معه ، أن تكون عند أمره ونهيه ، أن تكون مُحِبَّاً له ، أن تكون محسناً لعباده ، هذا هو الثمن .
باب الله مفتوح لكل إنسان يشعر بالضيق أو الحزن :
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ لا تنسوا هذا الحديث :
(( لا يحزن قارئ القرآن ))
إذا شعرت بالضيق ، إذا شعرت بالهم ، إذا شعرت بالحزن ، إذا شعرت أن الدنيا ضدَّك ، إذا شعرت أن الأمور مُعَسَّرة ، إذا شعرت أن الطُرُق مسدودة ، إذا شعرت أن الخلائق تنكَّرت لك ، فدونك باب الله عزَّ وجل ، اقرأ القرآن ، إذا قرأت القرآن فكأنَّ الله يحدثك ، يقول لك:
﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾
تطمئن نفسك . يقول لك الله سبحانه وتعالى :
﴿وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى﴾
﴿مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ﴾
﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾
يطمئنك الله عزَّ وجل . .
﴿يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ﴾
إذا أردت أن تنفرج أساريرك ، وأن تنطلق نفسك ، وأن تسعد بربك ، فاجعل القرآن حديثاً بينك وبين الله عزَّ وجل .
(( لا يحزن قارئ القرآن ))
وحينما يجلس المؤمن ، ليقرأ القرآن ، فكأنه يطلب من الله عزَّ وجل أن يفرِّج عنه، لذلك يهديه الله إلى آياتٍ تفرج عنه .
من جمع القرآن متعه الله بعقله حتى يموت :
أيها الأخوة المؤمنون ؛
(( ولا يعذب الله قلباً وعى القرآن ))
(( ومن جمع القرآن - هذه أكبر ضمانة - متعه الله بعقله حتى يموت ))
فليس هناك خرف ، لا يمكن أن يخرف مؤمن لأنه يقرأ القرآن .
(( ومن جمع القرآن متعه الله بعقله حتى يموت ))
ويقول عليه الصلاة والسلام :
(( اقرأ القرآن ما نهاك ، فإن لم ينهك فلست تقرؤه ))
أنت إذاً لا تقرأ كلام الله ، إذا كنت أنت في واد والقرآن في واد فأنت لا تقرأ هذا القرآن . . و :
(( ما آمن بالقرآن ما استحلَّ محارمه ))
و . .
(( ربَّ تالٍ للقرآن والقرآن يلعنه ))
هذا الذي يتلوه وعمله في وادٍ آخر كأن القرآن يلعنه .
أيها الأخوة المؤمنون ؛ حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، واعلموا أن مَلَكَ الموت قد تخطَّانا إلى غيرنا ، وسيتخطَّى غيرنا إلينا فلنتخذ حذرنا، الكيس مَن دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز مـَن أتبع نفسه هواها ، وتمنَّى على الله الأماني .
* * *
الخطبة الثانية :
أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين ، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله ، صاحب الخلق العظيم ، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
شهر رمضان شهر الإنفاق :
أيها الأخوة المؤمنون ؛ معذرة لقد أطلت عليكم ، وبقي عندنا موضوعٌ قصيرٌ جداً وهو أن هذا الشهر الكريم شهر الإنفاق أيضاً . وقد حضر إلى مسجدنا أربع جمعيات ؛ جمعية الصالحية ، وجمعية القنوات الخيرية ، وجميعة الشيخ محي الدين ، وجمعية الرعاية الخيرية لدار الأيتام ، هذه الجمعيّات كما هي العادة كل عام تأتي إلى هذا المسجد ولها أملٌ كبير أن يكون العطاء سخياً ، والله سبحانه وتعالى يقول في الحديث القدسي :
(( أَنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْكَ ))
و . .
(( أنفق بلال ، ولا تخشَ من ذي العرش إقلالا ))
فلعل الله سبحانه وتعالى يلهمكم أن تدفعوا شيئاً من زكاة أموالكم ، إلى هذه الجمعيات التي تعنى بالفقراء ، والمحرومين ، والمساكين ، واليتامى ، والأرامل ، هذا أصبح اختصاصاً ، إن الله سبحانه وتعالى لا يضيع أجر مَن أحسن عملاً ، والقول المعروف : " ما عبد الله بأفضل من جبر الخواطر " وهذا شهر فضيل ، شهر الإكرام ، شهر الإحسان ، شهر البذل ، شهر العطاء ، أربع جمعياتٍ تنتظر أعطياتكم ، لعل الله سبحانه وتعالى يحفظ أولادكم ، وأهلكم ، وصحتكم ، وأموالكم من كل مكروه .
الدعاء :
اللهم اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولَنا فيمن تولَيت ، وبارك اللهم لنا فيما أعطيت ، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت ، فإنك تقضي ولا يقضى عليك ، اللهم أعطنا ولا تحرمنا ، أكرمنا ولا تهنا ، آثرنا ولا تؤثر علينا ، أرضنا وارض عنا ، اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك ، ومن طاعتك ما تبلغنا بها جنتك ، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا ، ومتعنا اللهم بأسماعنا ، وأبصارنا ، وقوتنا ما أحييتنا ، واجعله الوارث منا ، واجعل ثأرنا على من ظلمنا ، وانصرنا على من عادانا ، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا ، ولا تسلط علينا من لا يخافك ولا يرحمنا ، مولانا رب العالمين ، اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك ، وبطاعتك عن معصيتك ، وبفضلك عمن سواك ، اللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا ، وآمنا في أوطاننا ، واجعل هذا البلد آمناً سخياً رخياً وسائر بلاد المسلمين ، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين ، ولا تهلكنا بالسنين ، ولا تعاملنا بفعل المسيئين يا رب العالمين ، اللهم بفضلك ورحمتك أعلِ كلمة الحق والدين ، وانصر الإسلام وأعز المسلمين ، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى ، إنك على ما تشاء قدير ، وبالإجابة جدير .