- الخطب
- /
- ٠1خطب الجمعة
الخطبة الأولى:
الحمد لله ثم الحمد لله ، الحمد لله الذي هدانا لهذا ، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ، وما توفيقي ولا اعتصامي ولا توكّلي إلا على الله . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقراراً بربوبيته وإرغاماً لمن جحد به وكفر . وأشهد أنَّ سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلَّم ، رسول الله سيِّد الخلق والبشر ، ما اتصلت عينٌ بنظرٍ أو سمعت أذنٌ بخبر . اللهمَّ صل وسلم وبارك على سيدنا محمد ، وعلى آله وأصحابه ، وعلى ذريَّته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين. اللهم ارحمنا فإنك بنا راحم ، ولا تعذبنا فإنك علينا قادر ، والطف بنا فيما جرت به المقادير ، إنك على كل شيءٍ قدير .
الإسلام دين اجتماعي :
أيها الأخوة المؤمنون ؛ موضوع الخطبة اليوم : الإسلام دينٌ اجتماعي ، فالإسلام يسعى إلى إصلاح الفرد ، وفي الوقت نفسه يسعى إلى إصلاح المجتمع ، لأنه لا صلاح للفرد إلا بصلاح المجتمع ، ولا صلاح للمجتمع إلا بصلاح الفرد ، هناك علاقةٌ ترابطيةٌ بين صلاح الفرد وبين صلاح المجتمع . لذلك وجه الإسلام عنايةً فائقة إلى صلاح المجتمع ، لأن الإنسان لا يظهر معدنه الثمين ولا معدنه الخسيس إلا في جماعة ، فمن خلال الجماعة يظهر كرمه ، تظهر عفَّته ، يظهر إنصافه ، تظهر عدالته ، يظهر بُخله ، تظهر فرديَّته ، تظهر أنانيته ، تظهر غيريَّته ، تظهر أثرته ، إن خصائص الإنسان الخُلقية لا تبدو إلا في الجماعة .
لذلك كما أن الإسلام اتجه إلى إصلاح الفرد اتجه بالقدر نفسه وبالعناية نفسها إلى إصلاح المجتمع ، ولا أدل على ذلك من أن العبادات التي هي محض اتصالٍ بين العبد وربه جعلها جماعية ؛ فالصلاة في المسجد تعدل سبعة وعشرين ضِعفاً عن صلاة المسلم في بيته ، عناية الإسلام بالجماعة من دلائلها أن الله سبحانه وتعالى فرض علينا صلاة الجمعة ، وهي صلاةٌ اجتماعية لابد من أن تأتي إلى المسجد ، ولابد من أن تستمع إلى الخطبة ، ولابد من أن تلتقي بأخيك ، ولابد من أن يكون المسلمون سواسيةً في بيت الله ، لا فرق بين غنيهم وفقيرهم ، ولا بين قويِّهم وضعيفهم ، ولا بين من هو لامعٌ ولا من هو خافت ، إنهم جميعاً على بساطٍ واحد وفي مرتبةٍ واحدة .
العبادات نوع من أنواع التضامن الاجتماعي :
أيها الأخوة المؤمنون ؛ صلاة الجماعة في المسجد تؤكِّد حرص الإسلام على أن تلتقي بأخيك ، لعلك تأخذ منه بعض الفضائل ، ولعلك تعطيه بعض الفضائل ، إما أن تأخذ منه وإما أن تعطيه ، لعلك تجتمع بأخيك فتعينه على أمر دنياه ، لعلك تجتمع بأخيك فتعينه على أمر آخرته ، كأن الله سبحانه وتعالى يريدنا أن نكون مجتمعين ، يريدنا أن نكون كالبُنيان الواحد، يريدنا أن نكون كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمَّى ، يريدنا أن نكون كالبنيان المَرصوص يشد بعضه بعضاً .
أيها الأخوة المؤمنون ؛ وحتى لو صلَّيت وحدك في البيت تخاطب ربك بما علَّمك من قراءة الفاتحة فتقول :
﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾
تخاطبه بضمير الجَمْع . .
﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾
أيها الأخوة المؤمنون ؛ عبادةٌ قائمةٌ بذاتها أساسها المجتمع ؛ ألا وهي الزكاة ، تؤخذ من فقرائهم وتؤدَّى إلى أغنيائهم ، وهذا نوعٌ من أنواع التضامن الاجتماعي .
الصلاة في المسجد تعدل سبعة وعشرين ضعفاً عنها في البيت ، الزكاة عبادةٌ اجتماعية تعني أن يعين بعضنا بعضاً على متاعب الحياة .
تضامن المؤمنين و اتحادهم سبب محبة الله لهم :
شيءٌ آخر . . القرآن الكريم يخاطب المؤمنين ، فيقول :
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾
لماذا يخاطبهم مجتمعين ؟ من أجل أن يشعرهم أنهم متضامنون على إقامة أمر الله ، أيْ يجب أن نأمر بالمعروف ، وأن ننهى عن المُنْكَر ، ما دام الله عز وجل يخاطبنا مجتمعين ، إذاً يجب أن نحض بعضنا بعضاً على إقامة شعائر الله عز وجل ، على اتباع أمره، على ترك نهيه .
أيها الأخوة المؤمنون ؛ النبي عليه الصلاة والسلام يقول :
(( يد الله مع الجماعة ))
معهم كما يقول الله عز وجل في أحاديث أخرى :
(( أنا ثالث الشريكين ما لم يخن أحدهما صاحبه ))
أيْ أنَّ ربنا سبحانه وتعالى يحبنا أن نكون متحدين ، يحبنا أن نكون متحابين ، يقول الله عز وجل في الحديث القدسي :
(( وجبت محبتي للمتحابين فيَّ ، والمتباذلين في – للمتحابين ، للمتجالسين ، للمتباذلين ، للمتزاورين - والمتحابون في جلالي على منابر من نور يغبطهم عليهم النبيون يوم القيامة ))
من لم يتفقَّد أمور المسلمين فليس منهم :
أما أن ينسحب الإنسان من المجتمع ، أما أن ينسلِخ مِنه ، فيقول عليه الصلاة والسلام :
(( والله ما آمن ، والله ما آمن ، والله ما آمن ))
فأصحابه الكرام قالوا : خاب وخسر من هذا يا رسول الله ؟ من هذا الذي ما آمن ثلاث ؟
((والله ما آمن ، والله ما آمن ، والله ما آمن من بات شبعان وجاره إلى جانبه جائعٌ وهو يعلم ))
وقد يقول أحدنا : أنا لا أعلم . يجيبه النبي عليه الصلاة والسلام في حديثٍ آخر:
(( من لم يتفقَّد أمور المسلمين فليس منهم ))
ليس في الإسلام انزواء ، ليس في الإسلام انسلاخ ، ليس في الإسلام هروب ، ليس في الإسلام أثرَة ، ليس في الإسلام أنانية ، ليس في الإسلام أن تقول : لا يعنيني أمر الناس ، هؤلاء لا يعرفون الله . عرِّفهم بالله ، هؤلاء مقصرون . دلهم على طاعة الله ، هؤلاء منحرفون . دلهم على طريق الاستقامة .
النبي عليه الصلاة والسلام من خلال سيرته كان مع قومه ، كان معهم قبل النبوة في أفراحهم ، وفي أتراحهم ، في مشكلاتهم ، بنى معهم الكعبة ، حَلَّ خلافاً كاد يودي بهم إلى حربٍ ضروس ، حينما اختلف زعماء القبائل على من يحمل الحجر الأسود . حَكَّموه ، فكان نِعْمَ الحَكَم ، اشترك معهم في حلف الفضول وهو حلفٌ يدعو إلى نصرة المظلوم ، النبي عليه الصلاة والسلام كان مع قومه ، كان معهم ليحل مشكلاتهم ، ليتفهَّمهم ، وابتعد عن مباذلهم ، ابتعد عن وحولهم .
يد الله مع الجماعة :
أيها الأخوة المؤمنون ؛ يقول عليه الصلاة والسلام :
(( يد الله مع الجماعة ))
وفي حديث آخر :
(( يد الله على الجماعة . . . ))
مع الجماعة هو معهم ، وعلى الجماعة في إشرافه عليهم . .
(( . . . ومن شذّ شذ في النار ))
(( وإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية ))
أشياء طريفة في العبادات . . النبي عليه الصلاة والسلام رأى رجلاً يصلي في المسجد خلف الصفوف منفرداً ، فأمره أن يعيد الصلاة لماذا ؟ أن تقف وحدك في صف ، أن تقف وحدك وراء الصفوف ، هذا المظهر الإفرادي يوحي أنك منفصلٌ عن الجماعة ، لذلك عليه الصلاة والسلام أمره أن يعيد صلاته . لذلك الحُكْمُ الفقهي : أن هذا الذي يأتي ليصلي وقد استكمل الصفوف عددها الكامل ، يربت على كتف أحد المصلين ، فيرجع معه ليصلي معه في صفٍ جديد ، هذا ليشعرنا أن الله عز وجل يحبنا أن نكون مجتمعين .
إصلاح ذات البين تفضل نوافل العبادات :
أيها الأخوة المؤمنون ؛ إصلاح ذات البين تفضل نوافل العبادات ، لأن الله سبحانه وتعالى يقول :
﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ﴾
أيْ إصلاح الخصومات بين الناس ، الإصلاح بين شريكين ، بين أخوين ، بين زوجين ، بين أمٍ وابنها ، بين جارين ، إن هذا العمل عظيم ، وفيه أمرٌ جليل ، وقد عدَّه العلماء عملاً يفوقُ نوافل العبادات ، أيْ أن تصلح بين اثنين خيرٌ لك من أن تصلي ركعتين نافلتين ، أن تصلح بين اثنين خيرٌ لك من صيام النَفْل ، لأن النبي عليه الصلاة والسلام يقول :
(( إياكم وفساد ذات البين فإنها الحالقة ، حالقة الدين لا حالقة الشعر ))
أيْ إذا تفتت المجتمع ، إذا عادى بعضنا بعضاً ، إذا خاصم بعضنا بعضاً ، إذا تفرَّقنا ، إذا تباعدنا ، إذا تخاصَمنا ، إذا كال بعضنا لبعضٍ الصاع صاعَيْن ، إذًا هذا المجتمع المسلم مفتت ، الله سبحانه وتعالى وصف مجتمع الكفار فقال :
﴿تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ﴾
لكن المؤمنين مجتمعون على قلبٍ واحد ، وعلى عملٍ واحد .
عبادات كثيرة أساسها العلاقات الاجتماعية :
شيءٌ آخر . . عبادات كثيرة أساسها العلاقات الاجتماعية ، أن تميط الأذى عن الطريق هو لك صدقة ، أن تُفْرِغَ دلوك في دلو المستسقي هو لك صدقة ، أن تلقى أخاك بوجهٍ طلق هو لك صدقة ، أن تُرشد الضال في أرض الضلال هو لك صدقة ، أن تأخذ بيد الكفيف إلى مكانٍ أمين هو لك صدقة ، بل إن النبي عليه الصلاة والسلام قال :
(( ترك السلام على الضرير خيانة ))
إذا التقيت بإنسانٍ ضرير ؛ هو لا يراك ولكنك رأيته ، فإذا تركت السلام عليه فهذا خيانةٌ له ، هو أخوك في الله ، يجب أن تسلم عليه .
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ إماطة الأذى عن الطريق ، إفراغك من دلوك في دلو المستسقي ، أن تلقى أخاك بوجه طلق ، أو ترشد الضال إلى مكان يطلبه ، كل هذا عدّه النبي عليه الصلاة والسلام صدقة ، بل إن الله سبحانه وتعالى جعل إطعام الطعام وعيادة المريض بطريقةٍ تدفعك إليه اندفاعاً عجيباً يقول الله عز وجل :
(( يا بنَ آدمَ مَرِضْتُ فلم تَعُدْني ، قال : يا رب كَيْفَ أعُودُكَ وأنتَ ربُّ العالمين ؟ قال : أمَا علمتَ أنَّ عبدي فلاناً مَرِضَ فلم تَعُدْهُ ؟ أما علمتَ أنَّكَ لو عُدْتَهُ لوجَدتني عنده ))
ما هذا الحديث الذي يدفعنا إلى أن نعين بعضنا بعضاً ؟!
(( أتدرون ما حق الجار ؟ إذا استعان بك أعنته ، وإذا استنصرك نصرته ، وإن استقرضك أقرضته ، وإن مرض عدته ، وإن مات شيعته ، وإن أصابه خيرٌ هنأته ، وإن أصابته مصيبةٌ عزيته ، ولا تستطل عليه بالبناء فتحجب عنه الريح إلا بإذنه ، وإذا اشتريت فاكهةً فأهدِ له منها فإن لم تفعل فادخلها سراً ، ولا يخرج بها ولدك ليغيظ ولده ، ولا تؤذه بقتار قدرك إلا أن تغرف له منها ))
أيها الأخوة المؤمنون ؛ الإسلام دينٌ اجتماعي ، عدل ساعةٍ خيرٌ من عبادة ستين عاماً ، عدل ساعة ، أن تعدل بين اثنين ، أن تكون منصفاً ، أحكام الإسلام في عباداته ، وفي معاملاته ، وفي أخلاقه كلها تدور على أساسٍ اجتماعي ، أما الفردية ، والانزواء ، والانسلاخ ، والتقوْقُع ، والهروب فهذه كلها حالاتٌ مرضية ليست من الإسلام في شيء .
العناية بالأسرة من مظاهر عِناية الإسلام بالحياة الاجتماعية :
أيها الأخوة المؤمنون ؛ من مظاهر عِناية الإسلام بالحياة الاجتماعية أنه اعتنى بالأسرة ، فجعل الزواج من سُنَّته ، فقال عليه الصلاة والسلام :
(( ... إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ ، وَأَتْقَاكُمْ لَهُ ، لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي ))
وبين أنه من مشى بتزويج رجلٍ بامرأةٍ ، كان له بكل كلمةٍ قالها وبكل خطوةٍ خطاها عبادة سنةٍ قام ليلها وصام نهارها . وبيّن النبي عليه الصلاة والسلام أن أفضل شفاعةٍ أن تشفع بين اثنين في نكاح . اعتنى الإسلام بالمرأة ، اعتنى بها بنتاً ، فقال :
(( من جاءه بنتان فأحسن تربيتهما فأنا كفيله في الجنة ))
وفي روايةٍ أخرى :
(( حتى يزوجهما أو يموت عنهما فأنا كفيله في الجنة ))
اعتنى بالمرأة زوجةً فقال :
(( أكرموا النساء فوالله ما أكرمهن إلا كريم ولا أهانهن إلا لئيم ، يغلبن كل كريم ويغلبهن لئيم ، وأنا أحب أن أكون كريماً مغلوباً من أن أكون لئيماً غالباً ))
اعتنى بالمرأة زوجةً فحضَّها على أن تكون زوجةً مثالية ، فقال عليه الصلاة والسلام :
((انصرفي أيتها المرأة وأعلمي من خلفك من النساء أن حسن تبعل إحداكن لزوجها ، وطلبها مرضاته ، واتباعها موافقته يعدل ذلك كله - أي الجهاد في سبيل الله -))
اعتنى بالمرأة أماً ؛ فجعل العناية بها كالجهاد في سبيل الله ، فيهما فجاهد ، أمر النبي عليه الصلاة والسلام رجلاً يريد أن يذهب معه إلى الجهاد ، فحينما علم النبي أن له أبوان يبكيان لفراقه قال :
(( الزمهما وفيهما فجاهد ))
النبي عليه الصلاة والسلام رفع مكانة المرأة ؛ بنتاً ، وزوجةً ، وأماً من أجل أن يقوم المجتمع على خليةٍ صالحة ، إن هذه الخلية هي الأسرة .
عناية الإسلام بالشباب :
أيها الأخوة المؤمنون ؛ والإسلام اعتنى بالشباب فقال عليه الصلاة والسلام :
(( ريح الجنة في الشباب ))
والله سبحانه وتعالى أثنى عليهم فقال :
﴿إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى﴾
أيْ حضنا على الزواج ، حضنا على تأسيس أسرةٍ مسلمة ، حضنا على الرحمة بالزوجة ، والرحمة بالبِنت ، والرحمة بالأم ، والرحمة بالأخت ، هذا كلُّه من مظاهر أن الإسلام دينٌ اجتماعي ، الخَلق كلهم عيال الله ، وأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله ، الخلق كلهم من دون أن تنظر إلى أصلهم ولا إلى دينهم ، الخَلْقُ كلُّهم عيال الله ، وأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله . وقد حضنا النبي عليه الصلاة والسلام أن نصنع المعروف مع أهله ومع غير أهله ، فقال عليه الصلاة والسلام :
(( اصنع المعروف مع أهله ومع غير أهله ، فإن أصبت أهله أصبت أهله ، وإن لم تصب أهله فأنت أهله ))
العمل الصالح أساسه العلاقات الاجتماعية :
تلاحظون أيها الأخوة الأكارم ؛ أن هذه الآيات وتلك الأحاديث كلها تتمحور حول محورٍ واحد ؛ يجب أن تكون عضواً صالحاً في المجتمع ، يجب أن تكون مع الناس من أجل أن تنفعهم ، من أجل أن ترشدهم ، من أجل أن تأخذ بيدهم ، من أجل أن تقيل عثراتهم ، يجب أن تكون معهم كي ترحمهم ، ويجب ألا تكون معهم في سقطاتهم ، وفي انحرافاتهم ، وفي معاصيهم ، وفي هبوطهم .
أيها الأخوة المؤمنون ؛ العمل الصالح الذي ورد في القرآن في مئات الآيات ؛ لا يكون إلا في العلاقات الاجتماعية ، كيف يكون لك عمل وأنت قطعت علاقتك بالناس ؟ العمل الصالح أساسه العلاقات الاجتماعية . . لذلك :
﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾
هذه الآية وردت مئات المرات ، كيف تعمل صالحاً إن لم تكن عضواً في جماعة؟ إن لم تحس أنك تنتمي إليها ؟
أيها الأخوة الأكارم ؛ حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، واعلموا أن مَلَك الموت قد تخطَّانا إلى غيرنا وسيتخطَّى غيرنا إلينا فلنتخذ حذرنا ، الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز مـن أتبع نفسه هواها ، وتمنَّى على الله الأماني .
* * *
الخطبة الثانية :
أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين ، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله ، صاحب الخلق العظيم ، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
الحض على فعل الخيرات :
أيها الأخوة المؤمنون ؛ روى البخاري ومسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :
(( ما من مسلمٍ يغرس غرساً أو يزرع زرعاً ، فيأكل منه طيرٌ أو إنسانٌ أو بهيمةٌ ، إلا كان له به صدقة ))
غرست غرساً ، أكل من هذا الغَرْس إنسان ، أو أكل منه طَيْر ، أو أكلت منه بهيمة ، إن كل شيءٍ أكل من هذه الغرسة سجل في صحيفتك صدقة . لذلك النبي عليه الصلاة والسلام يقول :
(( إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها ))
وفي رواية :
(( واستطاع أن يغرسها فليغرسها ))
هذا يدل على أنك يجب أن تزرع ليأكل غيرك ، كما أن الأجداد والأسلاف زرعوا فأكلت .
ابن ماجه وابن خزيمة يرويا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :
(( إن مما يلحق المؤمن من حسناته بعد موته ؛ علماً نشره ، أو ولداً صالحاً تركه ، أو مصحفاً ورَّثه ، أو مسجداً بناه ، أو بيتاً لابن السبيل بناه ، أو نهراً أجراه ، أو صدقةً أخرجها من ماله في صحَّته تلحقه بعد موته ))
من حديثٍ يَحُضُّ على فِعل الخيرات ، وأن تقدم للمجتمع كل شيء كهذا الحديث.
وروى أبو نعيمٍ والبزار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :
(( سبعٌ يجري للعبد أجرها بعد موته وهو في قبره ؛ من علَّم علماً ، أو أجرى نهراً ، أو حفر بئراً ، أو غرس نخلاً ، أو بنى مسجداً ، أو ورَّث مصحفاً ، أو ترك ولداً صالحاً يستغفر له بعد موته ))
هذه الأشياء السبعة يجري أجرها والمسلم في قبره . وأبو الدرداء كان شيخاً متقدماً في السن رضي الله عنه ، رآه رجلٌ يغرس غرسةً ، فتعجب هذا الرجل ، ويبدو أن هذه الغرسة غرسة زيتون ، والزيتون يعطي العطاء بعد أمدٍ طويل ، فأبو الدرداء كان يغرس غرس زيتون ، رآه رجل فقال : أتغرس هذه وأنت شيخٌ كبير وهي لا تثمر إلا في كذا وكذا عاماً ؟ فقال أبو الدرداء رضي الله عنه :" ما علي أن يكون لي أجرها ويأكل منها غيري" .
هذا الموضوع متممٌ للموضوع الأول ، أيْ يجب أن تنفع الناس ، يجب أن تكون في خدمتهم ، لأن المجتمع الإسلامي مجتمعٌ متكاتف ، مجتمعٌ متضامن ، مجتمعٌ يأمر بعضه بعضاً بالخير وينهى عن الشر ، يأمرون بالمعروف ، وينهون عن المنكر ، مجتمعٌ يؤْثِر أخاه ، الفرد فيهم يؤْثِر أخاه ، كما قال الله عز وجل :
﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾
أيها الأخوة المؤمنون ؛ هذه هي بعض ملامح الاتجاه الاجتماعي في الدين الإسلامي .
الدعاء :
اللهم اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولَنا فيمن تولَيت ، وبارك اللهم لنا فيما أعطيت ، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت ، فإنك تقضي ولا يقضى عليك ، اللهم أعطنا ولا تحرمنا ، أكرمنا ولا تهنا ، آثرنا ولا تؤثر علينا ، أرضنا وارض عنا ، اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك ، ومن طاعتك ما تبلغنا بها جنتك ، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا ، ومتعنا اللهم بأسماعنا ، وأبصارنا ، وقوتنا ما أحييتنا ، واجعله الوارث منا ، واجعل ثأرنا على من ظلمنا ، وانصرنا على من عادانا ، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا ، ولا تسلط علينا من لا يخافك ولا يرحمنا ، مولانا رب العالمين ، اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك ، وبطاعتك عن معصيتك ، وبفضلك عمن سواك ، اللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا ، وآمنا في أوطاننا ، واجعل هذا البلد آمناً سخياً رخياً وسائر بلاد المسلمين ، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين ، ولا تهلكنا بالسنين ، ولا تعاملنا بفعل المسيئين يا رب العالمين ، اللهم بفضلك ورحمتك أعلِ كلمة الحق والدين ، وانصر الإسلام وأعز المسلمين ، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى ، إنك على ما تشاء قدير ، وبالإجابة جدير .