- الخطب
- /
- ٠1خطب الجمعة
الخطبة الأولى :
الحمد لله ثمّ الحمد لله ، الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنّا لِنَهْتَدِيَ لولا أن هدانا الله ، وما توفيقي ، ولا اعتصامي ، ولا توكّلي إلا على الله ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقرارًا برُبوبيَّته ، وإرغامًا لمن جحد به وكفر ، وأشهد أنّ سيّدنا محمّدًا صلى الله عليه وسلّم رسول الله سيّد الخلق والبشر ما اتَّصَلَت عين بنظر ، وما سمعت أذنٌ بِخَبر .
اللَّهمّ صلّ وسلّم وبارك على سيّدنا محمّد ، وعلى آله وأصحابه ، وعلى ذريّته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدّين ، اللَّهمّ ارْحمنا فإنّك بنا راحِم ولا تعذّبنا فإنّك علينا قادر ، والْطُف بنا فيما جرَتْ به المقادير ، إنَّك على كلّ شيءٍ قدير .
الهدف من أنفاق أموالنا
أيها الإخوة المؤمنون ؛ وعدْتكم في الأسبوع الماضي أن أتحدَّث في موضوع الإنفاق ، فالنبي عليه الصلاة والسلام كان جواداً ، وكان أجْوَدَ ما يكون في رمضان ، وفي القرآن الكريم آيات كثيرة في موضوع الإنفاق ، وموضوع الصَّدقة ، وموضوع الزكاة جمعتها لكم ، وصنَّفتها وفق موضوعات أساسيّة .
الموضوع الأوَّل ؛ لماذا أمرَنا الله سبحانه وتعالى بالإنفاق ، قال تعالى :
﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾
تطهّرهم وتزكِّيهم ، المال وسيلة من الوسائل الفعّالة لِتَزكيَة النَّفس ، وتطهيرها من أدْرانها ، والله سبحانه وتعالى يقول :
﴿ فَأَنْذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى * لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى﴾
إذًا حينما أمرنا لله سبحانه وتعالى بالصدقة وبالزكاة ، وبالإنفاق بِشَكْلٍ مُوَسَّع ، الهدف الأوْحَد تطهير النفس ، وتزكيتُها ، وسُمُوُّها إلى خالقها سبحانه وتعالى .
يجب أيّها الإخوة المؤمنون ؛ يجِبُ أن تعلموا علْم اليقين أنَّ الله يعلم كلّ نفقةٍ تنفقونها صغيرة كانت أو كبيرة ، ربّنا سبحانه وتعالى يقول :
﴿وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ﴾
قال تعالى :
﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾
وقال تعالى :
﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾
وما ينفقون نفقةً صغيرة ولا كبيرة ، ولا يقطعون وادياً إلا كتب لهم ، يجب أن تعلموا أنّ اللُّقمة إذا أنفقتها في سبيل الله ، أنَّ ليرة الواحدة إذا أنفقتها في سبيل الله فالله يعلمها ، ويجب أن تعلموا أيّها الإخوة المؤمنون ؛ أن توقِنوا يقينًا لا شكَّ فيه أنَّه إذا أنفقتم فإنَّ الله سيُضاعفُ هذا الذي أنفقتموه أضعافًا مضاعفة كثيرة ، الله سبحانه وتعالى يقول :
﴿وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾
وقال تعالى :
﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ﴾
قال تعالى :
﴿مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾
هذا كلام الله ربّ العالمين ، كلام خالق الكون ، كلام الله لا شكّ فيه ، ولا يتيه الباطل يعض كلّ منفق بالإخلاص وبالتعويض ، وبالمضاعفة ، ولكنَّ النيّة تختلف ، يجب أن نُحَرِّرَ النيّة ، يقول الله عز وجل :
﴿وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ﴾
قال تعالى :
﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾
وقال تعالى :
﴿وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾
قال تعالى :
﴿وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ﴾
يجب أن تعلم أنّ الله يعلم ، ويجب أن توقِنَ أنَّ الله يُخلف ، ويجب أن تُحَرِّر نيّتك من الشوائب لأنَّه درهمٌ أنفقَ في إخلاص خير من مئة ألف درهم أنفق في رياء .
يجب أن يكون الأنفاق من كسب الحلال
ولكنَّ هذا الذي تنفقهُ ما نوعهُ ؟ وما مُسْتواه ؟ وما علاقتهُ بِمَالِك ؟ قال تعالى :
﴿ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾
يجب أن تنفق من شيءٍ تحبّه ، من شيءٍ أثير عليك ، من شيءٍ تحْرص عليه ، من شيء هو عندك متألّق ، قال تعالى :
﴿ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾
وقال تعالى :
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ﴾
من الكسْب الحلال ، ومن أطْيَب الكسب الحلال ، وإن أنفقتم شيئًا تكرهونه فالله غنيّ عنكم ، الطَّعام الذي لا تستسيغُه نفسك لا تنفقه للناس ، الله سبحانه وتعالى لن يتقبّله منك ، قال تعالى :
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ ﴾
يجب أن تعلم أنَّ الله يعلم ، ويجب أن تعلم أنَّ الله يُخْلف ، ويجب أن تعلمَ نيَّتَكَ الصادقة ، ويجب أن تعلم أنَّ نوع الصَّدَقة من شيءٍ تحبُّه ، وتحرصُ عليه ، وتضنّ به ، وتقبلهُ إذا قُدِّم إليك .
مقدار النفقة .
أما مِقْدار النفقة فالله سبحانه وتعالى يقول :
﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً﴾
ويقول الله عز وجل :
﴿وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾
لهذه الآية معْنيان دقيقان جدًّا .
المعنى الأوّل : إن لمْ تنْفِق فربّما أهْلك المال ، من بخل بِمَاله ولمْ ينفقْه فهناك ألف طريق وطريق لإتلافه ، ولِضَياعِهِ ، ولأخْذه منك غصبًا ، إما أن تنفق المال طوْعًا ، وإما أن يؤخذ منك المال غصبًا ، فيكون حُرْقَةً في القلب ، قال تعالى :
﴿وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾
إن لم تنفقوا ، أي إن لم تنفقوا فكأنَّما تلقون بأيديكم إلى التهلكة ، إن لم تنفقوا فكأنّ الله سبحانه وتعالى يوشِكُ أن يؤدِّبكم بإتلاف مالكم ، أو بأخْذه غصْبًا .
المعنى الثاني : وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة أيْ لا تنفقوا كلّ أموالكم ، هذا المال جعل الله لكم فيه قِوامًا في حياتكم ، أنْفِقْ منه شيئًا ، وأبْق منه شيئًا ، ويقول الله عز وجل :
﴿وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ﴾
من ضاق رزقه فلْيُنْفِق ، ولكن بِحَسب رزقه ، بِنِسْبة رزقه القليل ، لأنَّه ربّ درهمٍ سبق ألف درهم ، ليرة من إنسان دخلهُ ألف ليرات تساوي مئة ألف ليرة من إنسان دخلهُ في اليوم الملايين ، ربّ درهمٍ سبق ألف درهم .
وكيف ننفق ؟ ومتى ؟ وما الطريقة ؟ قال تعالى :
﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾
إن كان إعلان النّفقة يُسَبِّب حرجًا لِمَن تعطيه فينبغي أن تنفق سِرًّا ، وإن كان إنفاق المال يُسَبِّب تشْجيعًا ، وحماسًا لِمَن يروْنك ، من دون أن تؤذي أحدًا من عباد الله ، فلا بأس عليك من أن تعلِنَ هذا الإنفاق ، قال تعالى :
﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾
وأما المتّقون فهم الذين ينفقون في السراء والضَّراء ، ينفق في حالة الغنى والفقر ، ينفق في إقبال الدنيا ، وفي إدبارها ، ينفق في الضِّيق وفي البحبوحة ، في السراء والضراء ، قال تعالى :
﴿ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾
هل هناك في القرآن الكريم أوامر محدّدة تحدّنا على الإنفاق ؟ قال تعالى :
﴿ لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ﴾
هذا الذي آتاه الله مالاً مأمورٌ بِنَصّ القرآن بالنفقة ، قال تعالى :
﴿ لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ﴾
أحبّ ثلاثًا ، وحبّ لِثَلاثٍ أشدّ : أحبّ الكرماء وحبي للفقير الكريم أشدّ ، وأبغض ثلاثًا ، وبغضي لثلاث أشدّ ، أبغض البخلاء ، وبغضي للغنيّ البخيل أشدّ .
والله سبحانه وتعالى يقول :
﴿ قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ﴾
وفي صيغة الأمر ، قال تعالى :
﴿وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾
قال تعالى :
﴿أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾
باب آخر من أبواب الإنفاق أنَّه إذا وقع الإنسان في مخالفة أو زلّة قدم ، أو سبْق لسان ، فتكلَّم ما لا ينبغي ، أو نظر إلى ما لا ينبغي ، أو فعل ما لا ينبغي فالحسنات يُذْهِبْن السيّئات ، قال تعالى :
﴿أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾
والله سبحانه وتعالى يعْجب كيف لا ينفق هذا الإنسان ؟! قال تعالى :
﴿وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾
أيها الإخوة الأكارم ؛ ما الذي يُبْطل النفقات ؟ قال تعالى :
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾
إن دفعْتَ مبْلغًا من المال فيجب أن تنسى أنَّكَ دفعْته ، قال تعالى :
﴿ كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾
هذا الذي يمُنّ ، ويؤذي الذي أنفق عليه سبب ذلك أنَّه مُرائي ، ينفق ماله رئاء الناس وليس في قلبه إيمان بالله ولا باليوم الآخر ، هذا هو سبب المنّ والأذى ، ويقول الله سبحانه وتعالى في آية خطيرة جدًّا لو عقلْناها لغيَّرْنا مجْرَى حياتنا :
﴿ قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فَاسِقِينَ﴾
هذا العاصي لله تعالى ، ولو أنفق من ماله فلن يُتَقبَّلَ منه ، لأنَّ الله سبحانه وتعالى لا يريد مالك ، إنَّما يريد نفْسكَ التي بين جَنْبيْك ، إن عَتِبَت الأمّ على ابنها فأرسلَ لها مبلغًا من المال يزداد عتبها عليه ، تقول له : لا أريد مالك ، أريدك أنت أن تزورني ، هذا الذي يعصي الله ، ويبتعد عن الله ، وينفق المال ظنًّا منه أنَّ هذه بِتِلك ، فليس هذا هو المطلوب ، المطلوب نفسك التي بين جنبيك ، أن تُقْبل عليه ، وأن تُطَهِّرها من أجله ، قال تعالى :
﴿ قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فَاسِقِينَ﴾
فالفاسق محجوب عن الله عز وجل ، إذا أنفقَ قد يُكافئه الله في الدنيا ، ولكن ماله في الآخرة من خلاق ، قال تعالى :
﴿ وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ﴾
إذًا هناك أشياء ؛ الفسْق ، كراهِيَة الإنفاق المنّ والأذى ، هذا يُبطِلُ الصَّدقة وقيمتها ، وأجرها وثوابها عند الله عز وجل .
أيّها الإخوة المؤمنون ، أما الكفار فكيف ينفقون ؟ قال تعالى :
﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ﴾
ينفقونها لِيصدُّوا عن سبيل الله ، ولإيقاع الأذى بين الناس ، ولِصَدِّهم عن سبيل الله ، ولإبعادهم عن الدِّين ، ولِفِتْنتهم ، قال تعالى :
﴿مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾
قال تعالى :
﴿وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً﴾
نعوذ بالله من هؤلاء ، الذين ينفقون أموالهم ثمّ يكون إنفاق مالهم حسْرةٌ على قلوبهم .
مصارف الزكاة .
أيها الإخوة المؤمنون ؛ ربّنا سبحانه وتعالى حدَّدَ المصارف التي تُصْرف بها الصدقات والزكاة ، فقال تعالى :
﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾
وتعريف الفقير هو الذي لا يجد حاجته ، ومن كان دخْلهُ أقلّ من مصروفه والمساكين ، وإذا اجْتمعَت كلمة الفقراء ، والمساكين افترقتا ، وإذا انفردتا اجْتمعتا ، يعني إذا وردَت كلمة الفقراء في آية فهي تعني الفقراء والمساكين وإن وردَت المساكين في آية فهي تعني الفقراء والمساكين ، وإن وردت كلمة الفقراء والمساكين ، فالفقراء نوع ، والمساكين نوع آخر ، الفقراء لا يسألون الناس إلحافًا ، والفقراء يحسبهم الجاهل أغنياء من التَّعفّف ، الفقراء تعرفهم بسيماهم ، الفقراء لهم نفوس عزيزة ، إذا اجْتمَعت كلمة الفقراء والمساكين في آية فالفقير هو الذي لا يجد حاجته ، قال عليه الصلاة والسلام :
(( ليس الفقير الذي تسدُّه اللقمة واللقمتين إنما الفقير من لا يجد حاجته... ))
أما المسكين فهو العاجز ، من السكون ، والعاملين عليها ، هؤلاء الذين يتفرَّغون لخِدمة الناس يحقُّ لهم من بيت مال المسلمين أجْرٌ يعيشون به ، والمؤلّفة قلوبهم ، وفي الرقاب ، فالمؤلّفة قلوبهم ؛ إن ثبت لك أنَّك أعْطيتَ إنسانًا شيئًا ما لفتَّهُ إليك ، وتاب على يديك ، وكانت هذه النَّفقَة سببًا لِهُداه فهذا من المؤلَّفة قلوبهم ، أي في عتق الرقاب ، والغارمين مَن عليهم دَيْن يعْجزون على أدائه ، وفي سبيل الله ؛ هذه تشمل كلّ عملٍ هدفه إعمال كلمة الله ، وابن السبيل من انقطع في الطريق ولا يجد نفقة العودة ، قال تعالى :
﴿فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾
ومن علامة الإيمان أنّه إذا حيل بينك وبين النّفقة ، إن لم تجد ما تنفق فسوف تبكي شوقًا إلى النفقة ، يقول الله عز وجل :
﴿وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ﴾
حزنًا أن لا يجدوا ما ينفقون ، هذه هي علامة الإيمان .
أيها الإخوة المؤمنون ، حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزِنوا أعمالكم قبل أن توزَنَ عليكم ، واعلموا أنّ ملك الموت قد تخطَّانا إلى غيرنا وسيتخطَّى غيرنا إلينا ، فلْنتَّخِذ حذرنا ، الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتبع نفسه هواها ، وتمنَّى على الله الأماني.
والحمد لله رب العالمين
***
الخطبة الثانية :
الحمد لله رب العالمين ، وأفضل الصلاة وأتمّ التسليم على سيّدنا محمّد الصادق الوعد الأمين ، اللَّهمّ صلّ وسلِّم وبارك على سيّدنا محمد صاحب الخُلق العظيم .
دفع زكاة المال في رمضان
أيها الإخوة المؤمنون ؛ دفْع الزكاة من السنة أن تُدفع في رمضان ، وفي شهر رمضان بالذات لا في آخره ، لأنّ هذا المال ينبغي أن يُدفع في وقت مناسب ، كي يتدبّر هذا الإنسان ما يحتاج من كِسْوَةٍ ، ومن حاجات ، ومن طعامٍ وشرابٍ ، ومُؤْنةٍ لِيَكون في وضْعٍ مقبول في العيد ، والزكاة نوعان زكاة المال ، وزكاة الرأس أي زكاة الفطر ، فزكاة المال هي في الأموال الناميَة ؛ أموال التجارة ، وأموال الزراعة ، المال الذي ينْمو في أموال التجارة ، واحد في الأربعين ، وفي أموال الزراعة العُشْر في أراضي البعل ، والخمس في أراض يالمَرْوِيَّة ، وأما زكاة الرأس فتجب على كلّ مسلمٍ ؛ عبْدٍ كان أم حرّ ، ذكرٍ أو أنثى ، صغيرٍ أو كبير ، فقير أو غنيّ ، يمْلكُ قوت يومه فقط ، جعلها الله عز وجل طُهرة للصائم من اللّغو والرّفَث ، وطُعمة للمساكين ، وإغنائهم في هذا اليوم الجليل ، هذه الصدقة ؛ صيامكم معلّق بين السماء والأرض حتى تُدْفع صدقة الفِطر ، أو صدقة الرأس أو زكاة الرأس أسماءٌ كلّها بِمُسمّى واحد ، والإمام الشافعي يُحَبِّب ، ويُفضِّل أن تُدفع في أوَّل شهر رمضان ، ونحن الآن في منتصفه ، يعني هذا المبلغ يجب أن يُعْطى قبل صلاة العيد ، لكن قبل الصلاة بأيّام كافيَة لاستخدامهِ في قضاء الحاجات ، هذه الصَّدقة طُهْرةٌ للصائم من اللَّغو والرَّفَث ، وطُعْمةٌ للمسكين ، وإغناءْ له ، وتجب على كلّ مسلمٍ صغير أو كبير ، غني أو فقير ، ذكر أو أنثى ، تجب عليك أو على من تمونه أو تلي عليه ، أي من تنفق عليه ، أو من تشرف عليه ، وبعضهم يدفع عن الجنين في بطْن أمّه تفاؤلاً له بالسَّلامة ، وهذه الزكاة الأقربون أولى بالمعروف ، الأقربون نسبًا ، والأقربون فقرًا ، والأقربون إيمانًا ، ويجب أن تُقيم هذه المتراجحات الثلاث ؛ الأقرب للإيمان أولى ، والأقرب للفقْر أولى ، والأقرب نسَبًا أولى ، فقِمْ هذه المقاييس واخْتر ، ومن اجتهد فأخطأ فله أجر ، ومن أجتهد فأصاب فله أجران ، ومن لم يجتهد فأصاب فله أجر ، لأنَّ هذا المال قِوام الحياة ، فإذا أتْلفْتهُ ، أو دفعْتهُ لِمَن لا يستحقّه ، أو دفعته لمن يقيم على معصيَةٍ ، أو يتقوَّى به على معصيَة فقد أعنتهُ على المعصية ، من اجتهد فأخطأ فله أجر ، ومن أجتهد فأصاب فله أجران ، ومن لم يجتهد فأصاب فله أجر.
أيها الإخوة المؤمنون ، هذه الصدقة ، أو الزكاة قيَّمها الفقهاء قديمًا بليرة واحدة ، ومع ارتفاع الأسعار ارتفَعَت قيمتها ، لا أقلّ من خمس ليرات أو عشر إن أمكن ، فالليرة والليرتان لا تفعل شيئًا ، على نفسه ، أو على من يمونه أو يلي عليه .
الدعاء :
اللهمّ اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيْت ، وتولَّنا فيمن تولّيْت ، وبارك اللّهم لنا فيما أعْطيت ، وقنا واصْرف عنَّا شرّ ما قضَيْت فإنَّك تقضي ولا يُقضى عليك ، إنَّه لا يذلّ من واليْت ، ولا يعزّ من عادَيْت ، تباركْت ربّنا وتعاليْت ، ولك الحمد على ما قضيْت نستغفرك اللهمّ ونتوب إليك ، وصلّ اللهمّ وسلم على سيّدنا محمّد النبي الأمي وعلى صحبه وسلّم ، اللهمّ أعطنا ولا تحرمنا ، وأكرمنا ولا تهنّا ، وآثرنا ولا تؤثر علينا ، وأرضنا وارضَ عنَّا ، وأصْلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا ، وأصْلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا ، وأصْلح لنا آخرتنا التي إليها مردُّنا ، واجْعل الحياة زادًا لنا من كلّ خير ، واجعل الموت راحةً لنا من كلّ شرّ ، مولانا ربّ العالمين ، اللهمّ اكفنا بحلالك عن حرامك ، وبطاعتك عن معصيتك ، وبفضلك عمَّن سواك ، اللهمّ لا تؤمنَّا مكرك ، ولا تهتِك عنَّا سترَك ، ولا تنسنا ذكرك ، يا رب العالمين ، اللهمّ إنَّا نعوذ بك من عُضال الداء ومن شماتة العداء ، ومن السَّلْب بعد العطاء ، يا أكرم الأكرمين ، نعوذ بك من الخوف إلا منك ، ومن الذلّ إلا لك ، ومن الفقر إلا إليك ، اللهمّ بارك لنا في شهر رمضان ، وأعنَّا فيه على الصيام والقيام ، وغضّ البصر ، وحفظ اللّسان ، اللهمّ سلِّمنا لرمضان ، وسلِّم رمضان لنا ، وتسلَّمه منَّا مُتَقَبَّلاً يا أرحم الراحمين ، اللهمّ بفضلك ورحمتك أعل كلمة الحقّ والدِّين وانصر الإسلام وأعزّ المسلمين ، وخُذ بيَدِ وُلاتهم إلى ما تحبّ وترضى إنَّه على ما تشاء قدير ، وبالإجابة جدير .