وضع داكن
16-04-2024
Logo
الخطبة : 0432 - ليلة القدر .
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الخطبة الأولى:
 الحمد لله ثم الحمد لله ، الحمد لله الذي هدانا لهذا ، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ؛ وما توفيقي ولا اعتصامي ولا توكُّلي إلا على الله . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ؛ إقراراً بربوبيته وإرغاماً لمن جحد به وكفر . وأشهد أنَّ سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلَّم ؛ رسول الله سيِّد الخلق والبشر ؛ ما اتصلت عينٌ بنظرٍ أو سمعت أذنٌ بخبر . اللهمَّ صل وسلم وبارك على سيدنا محمد ؛ وعلى آله وأصحابه ؛ وعلى ذريَّته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين. اللهم ارحمنا فإنك بنا راحم ؛ ولا تعذبنا فإنك علينا قادر ؛ والطف بنا فيما جرت به المقادير ؛ إنك على كل شيء قدير . اللهم علمنا ما ينفعنا ؛ وانفعنا بما علمتنا ؛ وزدنا علماً ؛ وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ؛ وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ؛ واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ؛ وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .

تفسير كلمة القدر :

 أيها الأخوة الأكارم ؛ نحن في الجُمعة الأخيرة من رمضان ؛ وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أن في العشر الأخير تلتمس ليلة القدر . وفي القرآن الكريم قوله تعالى :

﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ ﴾

[ سورة القدر : 1-5]

 كلمةٌ في هذه السورة هي مركز الثقل فيها ؛ إنها كلمة : " القدر" القدر : الحُرْمَةُ ؛ والوقار ؛ والمنزلة ؛ يقال : له عندي قدرٌ ؛ وجمع قدر أقدار ؛ والقدر العظمة والشَرَف .

﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ﴾

[ سورة القدر : 1]

 ما معنى كلمة : القدر في هذه السورة الجليلة ؟ ربما فهمنا معناها من آيةٍ أخرى ؛ لأن القرآن كما وصف في القرآن بأنه مثاني ؛ أي كل آيةٍ تثني على أختها فتفسِّرها ؛ قال تعالى:

﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ﴾

[ سورة الزمر : 67 ]

 ربما فهمنا من كلمة " القدر" كما وردت في المعاجم ؛ ومن استخدام هذه الكلمة كما وردت في القرآن ؛ أن النبي عليه الصلاة والسلام حينما تعرَّف إلى الله ؛ وحينما توجَّه إليه ؛ وحينما أمضى الليالي ذوات العَدَد وهو في غار حراء ؛ يتفكر في خلق السموات والأرض ؛ ويتطلع إلى عظمة الله عز وجل ؛ حينما قَدَّرَ ربه حق قدره ؛ استحق - وهذا بعلم الله عز وجل لأن الله سبحانه وتعالى يصطفي أنبيائه على علم - أن يُنَزَّلَ عليه القرآن .
 أيها الأخوة الأكارم ؛ أنت مخلوقٌ من أجل أن تعرف الله . .

﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً ﴾

[ سورة الطلاق: 12]

 هذه اللام لام التعليل ؛ أيْ إنَّ علَّة وجودك على وجه الأرض أن تتعرَّف إلى الله عز وجل ؛ لأن الماء من أجل التراب ؛ والتراب من أجل النبات ؛ والنبات من أجل الحيوان ؛ والحيوان من أجل الإنسان ؛ والإنسان لِمَنْ ؟ من أجل مَنْ ؟

 

علة وجود الإنسان على وجه الأرض التعرف على الله :

 أيها الأخوة الأكارم ؛ سخر للإنسان ما في السموات وما في الأرض ؛ الكون كلُّه مسخرٌ للإنسان ؛ والإنسان خُلِقَ ليعبد الله عز وجل ؛ ليتعرف إليه أولاً ؛ وليطيعه ثانياً ؛ وليسعد بقُربه ثالثاً .
 العبادة أيها الأخوة فيها جانبٌ تعرُّفي - جانبٌ إدراكيّ - وفيها جانبٌ سلوكيّ ؛ وفيها جانبٌ جماليّ ؛ فإذا عرفته ؛ والتزمت أمره ؛ وسعدت بقربه ؛ هذا هو الهدف أيها الأخوة .
 يا أيها الأخوة الأكارم ؛ بعيداً . . لو أننا اقتربنا من عموم اللفظ الذي وردت فيه هذه السورة ؛ هناك خصوص السبب ؛ وهناك عموم اللَّفظ ؛ فالإنسان إذا تعرَّف إلى الله عز وجل ؛ والكون بين يديه ؛ في القرآن الكريم آياتٌ كثيرةٌ جداً إلى درجة أنها رُبّما شَغَلت حَيِّزاً كبيراً مِن القرآن الكريم تتحدّث عن الكون ؛ والآيات التي تتحدث عن العقل والتفكر والتذكُّر تقترب مِن ألف آية ؛ كل هذا من أجل أن نعرِف الله عز وجل ؛ فإذا عرفناه أيْ قدَّرنا ربنا ؛ عندئذٍ يمكن أن نُحَقِّقَ وجودنا ؛ يمكن أن نحقق الهدف الذي مِنْ أجله خُلِقنا .
 يا أيها الأخوة الأكارم ؛ إذا عرفت قدر ربك استحققت أن يُعلي الله منزلتك ؛ الإنسان إذا بقي في طعامه وشرابه ؛ وبيته ومتاعه ؛ وعمله ومصالحه بقي في مرتبةٍ دُنيا ؛ أما إذا خرج عن حاجاته الدنيوية ؛ وعن أهدافه القريبة إلى أهدافٍ نبيلةٍ بعيدة ؛ إلى معرفة الله عز وجل ؛ عندئذٍ يُعْلي الله قدر المؤمن ؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام رفع الله له ذِكْرَهُ .

﴿ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ﴾

[ سورة الشرح : 1-4]

نفحات إيمانية تدور حول سورة القدر :

 يا أيها الأخوة الأكارم ؛ لستُ بصدد تفسير سورة القَدْر ؛ ولكن بعض النَفَحات الإيمانية التي تحوم حول هذه السورة ؛ الإنسان حينما قال الله عز وجل :

﴿ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ﴾

[ سورة القدر : 2-3]

 حارَ العلماء في هذه الأشهر الألف ؛ يا ترى الرقم هو المقصود أم المقصود هو التَكْثير ؟ على كل لو قسَّمت ألف شهرٍ على أشهر السنة ؛ لأصبحت هذه الأشهر الألف ما يزيد عن ثمانينَ عاماً ؛ وهذا هو عمر الإنسان ؛ أيْ إنَّ عمر الإنسان كله من أجل ليلة القدر ؛ من أجل أن تعرف الله ؛ إن عمر الإنسان كُلَّه يُلَخَّصُ بليلةٍ واحدة ؛ فإذا قدَّرت الله عز وجل حققت وجودك ؛ وأديت الأمانة ؛ وعرفت الرسالة ؛ أما إذا عاش الإنسان تائهاً وغافلاً ؛ لو عاش مئةً وخمسين عاماً ؛ فعمره تافهٌ لا قيمة له .
 يا أيها الأخوة الأكارم ؛ مثلٌ بسيطٌ أضعه بين أيديكم : لو أن جَرَّاحاً من جرَّاحي القلب المشهورين في العالم ؛ أتى إلى زيارة القُطر ؛ وخَفَّ لاستقباله عددٌ من الاختصاصيين في أمراض القلب ؛ وكان في رُدْهَةَ المطار ما يزيد عن ألف إنسان ؛ من الذين يقدِّرون هذا الاختصاص العالي ؟ من عرفوا قيمة اختصاصه ؛ هناك في صالة المطار عشراتٌ ؛ بل مئاتٌ؛ بل ألوفٌ لهم اختصاصاتٌ شتَّى ؛ ولكن الذين يعرفون قدر هذا الطبيب الجراح الأول هم أطباء القلب أنفسهم ؛ فلذلك متى نُقَدِّر ؟ هذا السؤال : متى نقدر ؟ إذا عرفنا . فالمعرفة سبيلٌ للتقدير؛ لا تقدير من دون معرفة ؛ اعرف تقدر ؛ إذا قدَّرت تطيع ؛ إذا أطعت تسعد ؛ كأنها مُعادلاتٌ رياضية ؛ أيْ لن تسعد بالله إلا إذا اقتربت منه ؛ ولن تقترب منه إلا إذا أطعته ؛ ولن تطيعه إلا إذا قدَّرته حقَّ قدره ؛ ولن تقدره حق قدره إلا إذا عرفته ؛ ولن تعرفه إلا من خلال آثاره . لذلك هذا الكون كله مَظْهَرٌ لأسماء الله الحسنى وصفاته الفُضلى ؛ وفي الأرض آياتٌ للموقنين .
 فيا أيها الأخوة الأكارم ؛ أي شيءٍ خلقه الله عز وجل له هدفان كبيران ؛ هدفٌ أكبر من هدف ؛ الهدف الأول : أن يكون هذا الشيء بدقّة صنعه ؛ وإحكامه ؛ وروعته ؛ ودقته دليلاً إلى الله عز وجل ؛ لقد نظر النبي عليه الصلاة والسلام إلى القمر أو إلى الهلال فقال :

((هِلالٌ خَيْرٍ وَرُشْد))

[ من الأذكار النووية عن قتادة ]

 إنه خيرٌ لي ؛ أعرف به عدد السنين والحساب ؛ لكنه يُرْشِدني إلى رب العالمين ؛ فالهدف الأكبر أن تتخذ من الآيات التي بثَّها الله في الأرض والسماء وسائِلَ لمعرفة الله عز وجل ؛ والهدف الثاني : أن تنتفع به ؛ ولكن الهدف الثاني ينتهي عند الموت ؛ بينما الهدف الأول يستمر معك إلى أبد الآبدين .
 إذاً العُمر كله من أجل أن تعرف الله ؛ العمر كله ملخصٌ بليلةٍ واحدة ليلة القَدر؛ الليلة التي تُقَدِّر الله فيها حقَّ قَدْرِه ؛ فإذا قدرته حق قدره أعلى منزلتك ؛ ورفع شأنك ؛ وعرفت قيمة إنسانيَّتك ؛ وتجاوزت المستوى البَهِيميّ الذي يعيشه من غفلوا عن رب العالمين.

 

ليلة القدر هي هدف الإنسان في الحياة :

 يا أيها الأخوة الأكارم ؛ الذي يعنينا في هذه الخطبة هو أن ليلة القدر هي هدف الإنسان في الحياة ؛ ولكن القَدْرَ الذي ذكره الله عز وجل لن يكون إلا عن طريق المعرفة ؛ فيمكن أن نقول أيها الأخوة إن العلم هو الطريق الوحيدةُ إلى الله ؛ وليس هناك طريقٌ آخر . . " إذا أردت الدنيا فعليك بالعلم ؛ وإذا أردت الآخرة فعليك بالعلم ؛ وإذا أردتهما معاً فعليك بالعلم " . العلم هو الطريق الوحيدة إلى الله ؛ العلم هو الطريق الوحيدة إلى سعادة الدنيا والآخرة . فالجهل أعدى أعداء الإنسان ؛ والجاهل يفعل بنفسه ما لا يفعله عدوّه به . ولكن أي علمٍ هذا ؟ كل إنسانٍ درس اختصاصاً ؛ ونال شهادةً ؛ ووضعها في غرفة الاستقبال ؛ هل يعد عالماً أو يحقق الهدف من هذا العلم ؟ الإمام الغزالي رحمه الله تعالى له في هذا الموضوع رأيٌ حصيف ؛ يرى هذا الإمام الجليل أن العلم أنواعٌ ثلاثة ؛ علمٌ بأمر الله ؛ وعلمٌ بخلق الله ؛ وعلم بالله . فالعلم بخلقه ؛ هذه العلوم المادية التي برع بها الغربُ أيّما برع ؛ علوم الفيزياء والكيمياء ؛ والرياضيات والفلك ؛ والجغرافيا والتاريخ ؛ علوم النفس والاجتماع ؛ علوم الذرة والكيمياء العضوية والكيمياء الفيزيائية ؛ وما إلى ذلك ؛ هذا الكون الذي أبدعه الله عز وجل أبدعه وفق نظامٍ دقيقٍ دقيق ؛ أبدعه وفق مبدأ السببية ؛ والغائية ؛ وعدم التناقض ؛ فالعلماء حينما درسوا الظواهر المادية ؛ كشفوا علاقاتٍ ثابتة هي القوانين ؛ وهذه القوانين من رحمة الله بنا أننا من خلالها نتعامل مع المادة تعاملاً مُريحاً ؛ فكل مادةٍ لها خصائص ؛ وكل مادةٍ مع أختها لها علاقاتٌ ثابتة ؛ العلم بخَلق الله عز وجل ؛ هي العلوم المادية العصرية التي بَرَعَ بها الغرب .

العلم الذي يوصل إلى الله و يحمل الإنسان على طاعته هو العلم بالله :

 ولكن يا أيها الأخوة الأكارم ؛ هل هذا هو العلم الذي أراده الله عز وجل حينما قال الله عز وجل :

﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾

[ سورة فاطر : 28 ]

 هل عنى ربنا جلّ جلاله هؤلاء العلماء الذين برعوا في العلوم المادية العَصرية ؟ كم من عالمٍ له حجمٌ كبيرٌ كبير يشرب الخمر ؟ كم من عالمٍ له حجمٌ كبيرٌ كبير لا يعتقد بالأديان ؟
 فيا أيها الأخوة الأكارم ؛ العلم الذي أشار إليه الإمام الغزالي هو : علمٌ بخلقه ؛ وعلمٌ بأمره . فقد تدرس الشريعة دراسةً دقيقة ؛ والشريعة علومٌ منوَّعة كثيرة ؛ علومٌ دقيقةٌ دقيقة ؛ فيها تفاصيل وجزئيات ؛ تحتاج إلى عمرٍ مديد وإلى جهدٍ كبير ؛ العلم بأمره علمٌ أقرب إلى الله مِن أيّ علمٍ آخر ؛ ولكن هل هذا هو العلم الذي أراده الله عز وجل ؟ إنك لن تُطَبِّق الأمر إلا إذا عرفت الآمر ؛ إنك لن تنصاع إلى أمر الله إلا إذا عرفت الله ؛ لأن الله عز وجل يقول :

﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾

[ سورة فاطر : 28 ]

 و" إنما " أداة حصر وقصر ؛ فالعلماء وحدهم هم الذين يخشون الله عز وجل ؛ لذلك الغزالي رأى أن العلم الذي ورد في القرآن الكريم العلم المُنَجِّي ؛ العلم الذي يرفع قَدْرَ صاحبه ؛ العلم الذي يوصل إلى الله عز وجل ؛ العلم الذي يحملك على طاعة الله ؛ العلم الذي ورد في الحديث الشريف في مواطن كثيرة هو العلم بالله ؛ هو أن تتعرف إلى الله .
 والله سبحانه وتعالى كما ورد في القرآن الكريم لا تدركه الأبصار ؛ فكيف نتعرف إليه ؟ الأقدام تدل على المسير ؛ والماء يدل على الغدير ؛ أفسماءٌ ذات أبراج وأرضٌ ذات فجاج ألا تدلان على الحكيم الخبير ؟
 يا أيها الأخوة الأكارم ؛ الإمام الغزالي أورَد تفصيلات أخرى فقال : العلم بخَلق الله علمٌ يستقرّ في الدماغ أو في الفكر البشري ؛ ولا علاقة له بالنفس ؛ قد تكون النفس متدنيةً في مطامحها ؛ ودماغ صاحبها محشوٌ علماً دقيقاً . والعلم بأمره يستقر في الدماغ ؛ ولا علاقة له بالنفس ؛ وقد يحمل الإنسان أعلى شهادةٍ في أَمْرِ الله عز وجل وليس مسلماً ؛ وربما منح أعلى شهادة في الجامعات الغربية وهو ليس من المسلمين . ولكن العلم الذي يسمو بالنفس ؛ العلم الذي يرقى بالنفس إلى الله عز وجل ؛ العلم الذي يسْري في النفس فيهذّبها ويؤدّبها ؛ العلم الذي يُسعد الإنسان هو العلم بالله . لماذا ؟ لأن العلوم ؛ علوم الخلق ؛ وعلوم الأمر ثمنها المدارسة ؛ يكفي أن تقرأ ؛ وأن تفهم ؛ وأن تحفظ ؛ وأن تؤدّي الامتحان حتى تنال الشهادة ؛ ولكن العلم بالله يقتضي المجاهدة ؛ ليس المدارسة ؛ المجاهدة أن تحمل نفسك على طاعته ؛ أن تجاهد في سبيله نفسك وهواك ؛ أن تضبِط جوارحك ؛ أن تضبط لسانك ؛ أن تضبط عَيْنَك ؛ أن تضبط أذنك ؛ إذا ضبطت الجوارح شعرت أنك قريبٌ من الله عز وجل ؛ إذا ضبطت حركاتك وسكناتك شعرت أن الله يحبك ؛ عندئذٍ يتجلَّى الله عليك بنوعٍ من التجلّي ؛ فيزيدك معرفةً به وقرباً منه .
فيا أيها الأخوة الأكارم ؛ العلم بالله ثمنه المجاهدة ؛ والعلم بخَلقه وبأمره ثمنه المُدارسة ؛ والمدارسة تستقرّ في الدماغ ولكن المجاهدة تنتهي بالإنسان إلى سمو في نفسه ؛ وتهذيبٍ في مشاعره ؛ وانضباطٍ في سلوكه .

 

العلم بالله يسمو بكل تفاصيل حياة الإنسان :

 لذلك يا أيها الأخوة الأكارم ؛ ورد في صحيح البُخاري وصحيح مُسْلِم أن النبي عليه الصلاة والسلام يقول :

(( من يرد الله به خيراً يفقّهه في الدين))

[البخاري عن حميد بن عبد الرحمن]

 أيْ أنَّ الخير كله إذا فقهت في دين الله عز وجل ؛ وربما كلمة الفقه بمعناها المعاصر : معرفة الحكم الشرعي . ولكن معناها الذي ورد في السُنَّة أعمق بكثير من معرفة الحُكم الشرعي ؛ معنى كلمة الفقه في السُنَّة أن تفهم حقيقة الدين ؛ تفهم سرّ التكليف ؛ أن تفهم سرّ وجودك .

(( من يرد الله به خيراً يفقّهه في الدين))

[البخاري عن حميد بن عبد الرحمن]

 إذاً إذا عرفت الله عز وجل ؛ وعرفت سرّ وجودك ؛ وعرفت رسالتك في الدنيا ؛ وعرفت من أين ؟ وإلى أين ؟ ولماذا ؟ إذا عرفت هذه الكُلِّيات الكُبرى كل جزئيات حياتك تنسجم مع هذه الكُليات ؛ كل التفاصيل تخدم هذه الكُليات ؛ الإنسان في حياته كليات وجزئيات ؛ بيته وزواجه ؛ وعمله وكسب رزقه ؛ وإنفاق ماله ؛ وقضاء إجازته ولهوه ؛ وعلاقته بأولاده وأهله وجيرانه ؛ وطريقة كسب رزقه وإنفاق ماله ؛ هذه جُزْيِئَّات ؛ إذا عرفت الكُلِّيات وظَّفت كل هذه الجزئيات لتحقيق الهدف الأمثل من وجودك . فلذلك زواج المؤمن هادفٌ ليس للمتعة ؛ علم المؤمن هادفٌ لنفع المسلمين ليس لكسب المال فقط ؛ كان السَلف الصالح إذا فتحوا حوانيتهم دعوا ربهم وقالوا : نوينا خدمة المسلمين . فالمؤمن يختار عمله وزوجته ونشاطاته وحركاته وسكناته وفق الهدف الكبير الذي خُلِقَ من أجله . الإنسان إذا ذهب إلى بلدةٍ أيها الأخوة ؛ واستيقظ في صبيحة اليوم الأول ؛ هناك سؤالٌ كبيرٌ كبير : لماذا أنا هنا في هذه البلدة ؟ لو أنه جاءها طالب علمٍ ؛ سيتحرك ؛ وسيتوجه ؛ وستكون تفاصيل إقامته في هذه البلدة نحو المعاهد والجامعات ؛ ولو جاءها ليتاجر ؛ جزئيات حركاته وسكناته ؛ ونشاطاته واتصالاته نحو المعامل والمؤسسات ؛ ولو جاء سائحاً ؛ لكانت حركته نحو المقاصف والمتنزّهات ؛ متى تصحُّ الحركة ؟ إذا عُرف الهدف .
 فيا أيها الأخوة الأكارم ؛ العلم بالله يسمو بكل تفاصيل حياتك ؛ يسمو ببيتك ؛ يسمو بتجارتك ؛ يسمو بوظيفتك ؛ يسمو باختصاصك ؛ طالبان في الجامعة ؛ طالبٌ عرف الله يدرس الطب ؛ وطالبٌ ما عرف الله يدرس الطب ؛ شتانَ بينهما ؛ الأول يدرس ليحقق رسالته في الحياة ؛ ليكون في خدمة خَلْق الله عز وجل ؛ ليتقرَّب إلى الله بخدمة خلقه لا ليبتز أموالهم ؛ ولا ليستغل ثقتهم بعلمه فيأخذ من أموالهم ما لا حق له ؛ مسافةٌ كبيرةٌ جداً ؛ أي مهنةٍ ؛ أية حرفةٍ؛ أية تجارة أساسها إذا عرفت الله عز وجل ؛ انسجمت كل التفاصيل مع هذه الأهداف الكبيرة .

 

التّعلم الطريق الوحيد للوصول إلى العلم :

 لذلك :

(( من يرد الله به خيراً يفقّهه في الدين))

[البخاري عن حميد بن عبد الرحمن]

 وفي روايةٍ أخرى :

 

((إذا أراد الله بعبدٍ خيراً فقَّهه في الدين وألهمه رشده))

 

[الدر المنثور عن ابن مسعود]

 وفي زيادةٍ لمسلم :

(( إنما العلم بالتعلم ))

[البخاري و الطبراني عن معاوية ]

 العلم بالتعلُّم أيْ الطريق الوحيد للوصول إلى العلم التعلُّم ؛ إنما الفقه بالتفقُّه ؛ إنما الحلم بالتحلُّم ؛ إنما الكرم بالتكَرُّم ؛ أيْ إنك إذا حاولت أن تكون حليماً ؛ ولو تصنَّعت الحلم ؛ جاهدت نفسك ؛ عندئذٍ يتجلَّى الله عليك باسم الحليم ؛ فتغدو حليماً أصيلاً ؛ كنت حليماً متكلِّفاً فصرت حليماً أصيلاً ؛ تكرَّمت ؛ بذلت المال وفي نفسك أن يبقى عندك ؛ جاهدت نفسك وهواك؛ حينما يرى الله منك هذه المجاهدة يتجلى عليك باسم الكريم ؛ فتغدو كريماً أصالةً لا تكلّفاً ؛ طلبت العلم ؛ تعلَّمت العلم ؛ جلست على ركبتيك ؛ قصدت بيوت الله عز وجل ؛ تأدبت مع مَنْ تتعلَّم مِنه ؛ حينما يرى الله منك هذا الصدق يُعَلِّمَكَ ما لم تكن تعلم . .

((من عمل بما علم أورثه الله علم مالم يعمل))

[ورد في الأثر]

 إذا كان هناك ما يُسَمَّى بعلمٍ لَدُنِّيّ ؛ أو بيقينٍ إشراقيِ ؛ أو بكشفٍ كما يقول بعض العلماء ؛ إذا كان في الدين ما يشبه هذا ؛ فهو بعد أن تطلب العلم ؛ وبعد أن تطبِّق العلم ؛ حتى تستحق شيئاً زائداً عن جُهدك الذي بذلته .

 

فضل العِلم خيرٌ من فضل العبادة :

 أيها الأخوة الأكارم ؛ وعن ابن عمر رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام يقول :

(( أفضل العبادة الفقهُ ؛ وأفضل الدين الورع ))

[الفقيه والمتفقه للخطيب عن ابن عمر]

 النبي عليه الصلاة والسلام كلكم يعلم حينما رأى رجلاً يصلي في رابعة النهار ؛ سأله عليه الصلاة والسلام : من يطعمك ؟ فقال : أخي . قال : أخوك أعبد منك .
 ولكن حينما شكا شريكٌ لرسول الله شريكه الذي يقصِّر في عمله ؛ ماذا قال له النبي عليه الصلاة والسلام ؟ كان شريكه طالب عِلْم فقال عليه الصلاة والسلام :

(( لعلك ترزق به ))

[ من الجامع الصغير عن أنس ]

 لماذا وقف النبي موقفين متباينين ؟ لماذا قال للأول : أخوك أعبد منك ؛ وطمأن الثاني أنه : لعل الله يرزقك بصبرك على أخيك طالب العلم ؟ لأن طالب العلم يتعلَّم لغيره ؛ بينما العابد يعبد لنفسه ؛ فإذا عبد لنفسه وقصَّر في حقوق الخلق ؛ صار مُلاماً عند الله عز وجل . وعن حذيفة بن اليمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :

(( فضل العِلم خيرٌ من فضل العبادة ))

[ المعجم الأوسط عن حذيفة]

 ولا تنسوا قول الإمام عليّ كرم الله وجهه حينما قال : "يا كميل العلم خير من المال ؛ لأن العلم يحرسك وأنت تحرس المال ؛ والمال تنقصه النفقة والعلم يزكو على الإنفاق ؛ يا كميل مات خُزَّان المال وهم أحياء ؛ والعلماء باقون ما بقي الدهر ؛ أعيانهم مفقودة وأمثالهم في القلوب موجودة ".
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :

((قليل العلم خيرٌ من كثير العبادة ؛ وكفى بالمَرء فقهاً إذا عبد الله ؛ وكفى بالمرء جهلاً إذا أعجب برأيه ))

[الطبراني عن عبد الله بن عمرو]

 أيْ إذا رأيتم إنساناً مستقيماً على أمر الله ؛ فاحكموا عليه بأنه على نوعٍ من العِلْمِ العَمَلِيّ ؛ حينما استقام على أمره انطلق من علمٍ ثمينٍ جداً :

(( كفى بالمرء علماً إذا عبد الله وكفى به جهلاً إذا أعجب برأيه))

[الطبراني عن عبد الله بن عمرو]

 أي رأي هذا ؟ لو أنه أعجب برأي موافقٍ للشريعة فلا مانع ؛ لكنه أعجب برأيه المخالف للشريعة إذاً هو جاهل .
 حينما تعتقد شيئاً خلاف القرآن الكريم ؛ حينما تحكم على شيء بخلاف ما حَكَم الله عليه ؛ حينما ترجو شيئاً صَغَّره الله عز وجل ؛ وحينما تزهد بشيءٍ عظَّمه الله عز وجل فأنت لا تعرف شيئاً ؛ ربما عرفت في اختصاصك ؛ أنت ذكيٌ فيما أنت فيه ؛ ولكنك لست عارفاً في الحقيقة الكبرى التي وردت في القرآن الكريم . فلذلك كل إنسان مهما ارتقى في اختصاصه إن لم يعرف الله عز وجل مدموغٌ بالغباء ؛ مدموغٌ بالجهل ؛ لأن الحقيقة الكبرى التي ينبغي أن تعرفها غَفَلْتَ عنها ؛ ودققت في أمور جزئية هذه ربما لا ترقى بك إلى السعادة الأبدية .

 

الطرقات إلى المساجد هي الطرقات إلى الجنة :

 وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :

(( من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة ))

[ابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه]

 الإنسان أحياناً يخرج من بيته ليعقد صفقةً ؛ ليزور ؛ ليخطِب ؛ ليلتقي مع صديقه؛ ليقيم دعوى على زَيد أو عُبيد .

﴿ وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى * وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى * إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى ﴾

[ سورة الليل : 1-4]

 أما حينما تخرج من بيتك لطلب العلم ؛ لا يحدوك إلا طلب العلم ؛ لا ترجو صفقةً ؛ ولا كسباً ؛ ولا مادةً ؛ ولا نفعاً ؛ ولا شيء من هذا القبيل ؛ لا تأتي إلى بيت الله إلا ابتغاء مرضاة الله ؛ لا تأتي إلى بيت الله إلا لتزداد علماً بالله عز وجل ؛ فمن سلك طريقاً ؛ وقد يكون الطريق طويلاً ؛ والمواصلات صعبة أو سهلة ؛ والنفقات ؛ والوقت .

(( من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة ))

[ابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه]

 طرقاتكم إلى المساجد هي طرقاتكم إلى الجنة ؛ طرقاتكم إلى بيوت الله هي طرقاتكم إلى الجنة ؛ طرقاتكم لطلب العلم طرقاتكم إلى الجنة ؛ طرقاتكم لمعرفة السُنَّة النبوية الشريفة طرقاتكم إلى الجنة ؛ بل إنّ من الاعتكاف الذي قرره الفقهاء أنك إذا دخلت بيتاً من بيوت الله وجلست تنتظر الصلاة فأنت معتكف ؛ إن صلَّيت فأنت معتكف ؛ إن تلوت القرآن فأنت معتكف ؛ إن استمعت إلى درس علم فأنت معتكف ؛ إن قرأت كتاب تفسيرٍ فأنت معتكف؛ إن قرأت كتاب حديثٍ فأنت معتكف ؛ إن قرأت باباً في الفقه فأنت معتكف ؛ الدخول إلى المسجد دخولٌ إلى بيتٍ من بيوت الله .

(( إن بيوتي في الأرض المساجد ، وإنه من توضأ فأحسن وضوءه ؛ ثم زارني في بيتي أكرمته ؛ وحقٌ على المزور كرامة الزائر ))

[ من مختصر تفسير ابن كثير عن قتادة ]

 فأنت معتكف في المسجد ما دُمْتَ فيه ؛ تنتظر الصلاة أو تصلي ؛ تستمع إلى مجلس علم أو تقرأ كتاب علمٍ ؛ أيُّ نشاطٍ متصلٍ بمعرفة الله في المسجد هذا اعتكافٌ ؛ وأنت منفذٌ لهذه السنة التي فعلها النبي ؛ في رمضان وفي غير رمضان .

(( من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة ))

[ابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه]

 تتمة هذا الحديث :

(( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم ؛ إلا نزلت عليهم السكينة ؛ وغشيتهم الرحمة ؛ وحفتهم الملائكة ؛ وذكرهم الله فيمن عنده ))

[ابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه]

 هل تريد أكثر تشجيعاً أو أكثر نجاحاً من أن تكون في عِداد هؤلاء ؟ أن تكون في بيتٍ من بيوت الله ؛ تتلو كتاب الله ؛ أو تدرسه عندئذٍ تحف الملائكة هؤلاء جميعاً ؛ تنزل عليهم السكينة ؛ تتغشاهم الرحمة ؛ يذكرهم الله فيمن عنده .

 

من عبد الله سعد بقربه في الدنيا و الآخرة :

 أيها الأخوة الأكارم ؛ أردت من هذه الخطبة حقيقةً واحدة أن كل حياتك التي لو بلغت ثمانين عاماً لها عِلَّةٌ واحدة ؛ لها سببٌ واحد ؛ هذا السبب هو أن تعرف الله ؛ هو أن تقدِّره حقَّ قدره ؛ لأنك إذا قدرته عبدته ؛ وإذا عبدته سعدت بقربه في الدنيا والآخرة .

﴿إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ﴾

[ سورة هود : 119 ]

 خلقهم ليرحمهم .

﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ﴾

[ سورة آل عمران : 106 ]

سعادة الدنيا وسعادة الآخرة هي رحمة الله :

 ثم يقول الله عز وجل :

﴿وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾

[ سورة آل عمران : 107 ]

 رحمة الله أيْ الجنة ؛ رحمة الله في الدنيا الحفظ ؛ والسعادة ؛ والتوفيق ؛ والتسديد؛ والنَصر ؛ والتأييد ؛ والسلامة ؛ رحمة الله في الدنيا شعورك بأن الله يحبك ؛ رحمة الله في الدنيا التوازن النفسي ، السكينة ، الوقار ، على كل سعادة الدنيا وسعادة الآخرة هي رحمة الله ؛ رحمة الله قريبةٌ من المُحسنين ؛ رحمة الله أساسها تقوى الله . .

﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾

[ سورة الحجرات : 10]

 إن اتقيتكم أن تعصوا ربكم حققتم أحد موجِبات الرحمة .

﴿وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾

[ سورة آل عمران : 56 ]

 إذا نفَّذت منهج القرآن الكريم ؛ ومنهج السُنَّة التي بيَّنت القرآن الكريم عرَّضت نفسك للرحمة .

﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾

[ سورة النور : 56]

﴿وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾

[ سورة الأعراف : 204]

﴿إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ﴾

[ سورة الأعراف : 56]

 أيْ ترك المعاصي ، وفعل الطاعات ، وإقام الصلوات ، وتلاوة القرآن ، وفعل الخيرات هذه موجبات الرحمة ؛ وكان عليه الصلاة والسلام يدعو ويقول :

(( اللَّهُمَّ إني أسألُكَ مُوجِباتِ رَحْمَتِكَ ؛ وَعَزَائِمَ مَغْفِرَتِكَ ؛ وَالسَّلامَةَ مِنْ كُلِّ إثْمٍ؛ وَالفَوْزَ بالجَنَّةِ ؛ وَالنَّجاةَ مِنَ النَّار ))

[الأذكار النووية عن أم سلمة ]

 فليلة القدر أيها الأخوة هي الليلة التي تتعرَّف فيها إلى الله ؛ إن حصلت حصل كل شيء ؛ نِلْتَ كل شيء ؛ " ابن آدم اطلبني تجدني ؛ قإذا وجدتني وجدت كل شيء ؛ وإن فتك فاتك كل شيء " ما حصَّلت شيئاً لأن الموت ينهي الدنيا بأكملها ولو كنت في أعلى درجاتها ؛ الموت نهاية كل حي .

كل مخلوقٍ يموت ولا يبقى  إلا ذو الـعـزة والـجبروت
* * *
اللـيل مـهما طال فـلابد من طلوع الفجر  والعمر مهما طال فلابد مـن نزول القبر
* * *

 فالعطاء في الدنيا لا يسمّى عطاءً لأنه ينتهي بالموت ؛ الكريم لا يعطي عطاءً ينتهي بالموت ؛ فإذا رضي الإنسان بالدنيا فقد ضيَّع عليه الشيء الكثير . .

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ ﴾

[ سورة التوبة: 38]

﴿قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً ﴾

[ سورة النساء : 77]

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكم ﴾

[ سورة الأنفال: 24 ]

طاعة الله مرهونة بمعرفته ومعرفته مرهونة بتقديره حقَّ قَدْرِهِ :

 أيها الأخوة الأكارم ؛ سعادة الآخرة ، وسعادة الدنيا بطاعة الله ؛ وطاعته مرهونةٌ بمعرفته ، ومعرفته مرهونةٌ بتقديره حقَّ قَدْرِهِ ؛ بخشيته . .

﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾

[ سورة فاطر : 28 ]

 العلماء وحدهم وليس أحد سواهم يخشون الله ؛ العلم لا يعطيك بعضه إلا إذا أعطيته كُلَّكَ ؛ فإذا أعطيته بعضك لم يعطك شيئاً .
 أيها الأخوة الكرام ؛ حينما يقول أحدهم : لست متفرغاً لمجالس العلم . يخطر في بالي المثل ؛ أنت متفرغٌ لماذا إذاً ؟ ما الشيء الذي يعلو على طلب العلم ؟ ما الشيء الذي ينفعك أكثر من طلب العلم ؟ ما الشيء الذي يقرّبك أكثر من طلب العلم ؟ طلب العلم هو الطريق الوحيدة إلى سعادة الدنيا والآخرة ؛ لأن العلم طريقُ الجنة .
 أيها الأخوة الأكارم ؛ حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ؛ وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ؛ واعلموا أن مَلَكَ الموت قد تخطَّانا إلى غيرنا وسيتخطَّى غيرنا إلينا فلنتخذ حذرنا ؛ الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ؛ والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنّى على الله الأمانيّ .

* * *

الخطبة الثانية :
 أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين ، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله ، صاحب الخلق العظيم ، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

ما نفعله في ليلة القدر :

 أيها الأخوة الأكارم ؛ بفضل الله تعالى أقيمت في هذا المسجد صلاة التراويح على مدى هذا الشهر الكريم ؛ وتكرم الله علينا وأعاننا على أن نقرأ كل يومٍ جزءاً من كتاب الله .
 وفي هذا اليوم الذي يقع في ليلة القدر كما وردت في الأحاديث الصحيحة ننهي ختمة القرآن الكريمة ؛ ونحيي بعض الليل ؛ بتلاوةٍ ؛ وصلاة تهجدٍ ؛ وقيام ليلٍ ؛ وذكرٍ إن شاء الله ؛ فمن أراد أن يحيي هذه الليلة فليكن بيننا ؛ فلعل الله سبحانه وتعالى يتجلَّى علينا في هذه الليلة فنقدِّر الله حق قَدْرِهِ ونتعرَّف عليه .
 شيءٌ آخر أيها الأخوة . . . قد جرت العادة في كل عام أن نلتقي في هذا المسجد في ثاني يومٍ من أيام العيد ؛ لأن زيارات الأخوة الأكارم المؤمنين فيما بينهم تستهلك جل وقتهم .

تحميل النص

إخفاء الصور