- الخطب
- /
- ٠1خطب الجمعة
الخطبة الأولى:
الحمد لله ثم الحمد لله ، الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، وما توفيقي ولا اعتصامي ولا توكُّلي إلا على الله . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقراراً بربوبيته وإرغاماً لمن جحد به وكفر . وأشهد أنَّ سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلَّم ، رسول الله سيِّد الخلق والبشر ، ما اتصلت عينٌ بنظرٍ أو سمعت أذنٌ بخبر . اللهمَّ صل وسلم وبارك على سيدنا محمد ، وعلى آله وأصحابه ، وعلى ذريَّته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين. اللهم ارحمنا فإنك بنا راحم ، ولا تعذبنا فإنك علينا قادر ، والطف بنا فيما جرت به المقادير ، إنك على كل شيء قدير . اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أوصاف القرآن من خلال القرآن :
أيها الأخوة المؤمنون ؛ جرت العادة على أن تكون خُطب رمضان في الموضوعات التالية : خطبةٌ في فضل الصيام ، وقد أُلقيت في الأسبوع الماضي ، وخطبةٌ في فضل القرآن ، وهي موضوع خطبة اليوم ، وإن شاء الله تعالى خطبةٌ ثالثة في الإنفاق ، وخطبةٌ رابعة في موقعة بدر ، وخطبةٌ خامسة في ليلة القدر . هذه خُطَبُ رمضان . أَلِفَ الخُطباء منذ أمدٍ طويل أن يجعلوا موضوعات الخطب في هذا الشهر الكريم حوْلها .
خطبة اليوم عن القرآن الكريم . ماذا تكلَّم القرآن عن القرآن ؟ ما الآيات التي وردَت في القرآن عن القرآن ؟ القرآن في القرآن هدىً ، والقرآن بيان ، والقرآن موْعظة ، والقرآن بُرهان ، والقرآن نور ، والقرآن شفاء ، والقرآن ذِكر ، والقرآن بلاغ ، والقرآن وَعْد ، والقرآن وعيد ، والقرآن بُشرى ، والقرآن نذير يهدي إلى الحق ، يهدي إلى الرُشد ، يهدي إلى طريقٍ مستقيم ، يُخرج الناس من الظلمات إلى النور ، يحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه ، فيه تبيانٌ لكل شيء ، شفاءٌ لما في الصدور .
هذه أوصاف القرآن من خلال القرآن ؛ هدى وبيان ، موعظةٌ وبرهان ، نورٌ وشفاء، ذكرٌ وبلاغ ، وعدٌ ووعيد ، بُشرى ونذير ، يهدي إلى الحق ، يهدي إلى الرشد ، يهدي إلى طريقٍ مستقيم ، يُخرج الناس من الظلمات إلى النور ، يحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه ، تبيانٌ لكل شيء ، شفاءٌ لما في الصدور . هو كتاب العُمُر ، هو الكتاب المقرَّر .
ما قولكم أيها الأخوة بطالبٍ عنده مكتبةٌ واسعةٌ جداً ، متنوعةٌ جداً ، وبعد أسبوعٍ عنده فحصٍ في كتابٍ من هذه الكُتُب ، أيعقل أن يقرأ كتاباً آخر والامتحان والمنهج والسبيل في هذا الكتاب ؟ فهو كتابنا المقرر ، غنى عن كل شيء ، ولا يغني عنه شيء .
ما ورد في السنة الشريفة عن القرآن الكريم :
هذا ما ورد في القرآن الكريم عن القرآن الكريم . فماذا ورد في السُنة ؟ قال عليه الصلاة والسلام :
(( فيه نبأ ما قبلكم ))
يمكن أن تلقي نظرةً صحيحةً موضوعيةً على تاريخ البشرية لا من خلال المُستحاثات ، بل من خلال خالق الأرض والسموات .
((فيه نبأ ما قبلكم ، وخبر ما بعدكم ، وحكم ما بينكم))
مقياسٌ دقيق :
((من ابتغى الهدى في غيره أضلَّه الهخ ))
ولو دام ضلاله سبعين عاماً ثم ينهار هذا الضلال :
(( وهو حبل الله المَتين ، والذكر الحكيم ، لا يُشبع منه العلماء ، لا يخلق على كثرة الرد))
كلَّما زدته نظراً زادك معنى ، كلما زدته تلاوةً زادك سعادةً ، كلَّما زدته فهماً زادك هدىً :
((لا تنقضي عجائبه ))
معجزةٌ خالدة إلى يوم القيامة ، كلَّما تقدَّم العلم وكشف شيئاً جديداً أكَّد ما في القرآن الكريم ، معجزاته متجددة مع تطورات العلم :
((لا تنقضي عجائبه ، من قال به صدق ))
من اعتقد شيئاً من خلال آيةٍ قرآنيَّة فقد صدق ، من حَكَم حُكْماً من خلال آيةٍ قرآنية فقد عَدَل :
((من قال به صدق ، ومن حكم به عدل ، ومن عمل به أُجِر ))
مرَّةً ثانية ؛ يقول عليه الصلاة والسلام عن القرآن الكريم :
(( فيه نبأ ما قبلكم ، وخبر ما بعدكم ، وحُكم ما بينكم ، من ابتغى الهدى في غيره أضلَّه الله ، وهو حبل الله المتين ، والذكر الحكيم ، لا يُشبع منه العلماء ، ولا يخلق على كثرة الرد ، لا تنقضي عجائبه ، من قال به صدق ، ومن حكم به عدل ، ومن عمل به أُجِر ))
القرآن مصدرٌ رئيسٌ لمعرفة الله عزَّ وجل :
أيها الأخوة الأكارم ؛ القرآن مصدرٌ رئيسٌ لمعرفة الله عزَّ وجل ، فالقرآن كلامه -كلام الله - ومن خلال كلامه نتعرَّف إلى الله عن طريق التدبُّر . .
﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ﴾
والسموات والأرض خَلْقُهُ ، ومن خلال خَلْقِهِ نتعرَّف إلى الله عن طريق التفكُّر..
﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾
والحوادث أفعالُه ، ومن خلال أفعالِه نتعرَّف إلى الله عن طريق النظَر والتأمُّل..
﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ﴾
إذاً القرآن كلامه ، والكَوْن خَلْقُه ، والحوادث أفعاله ، فهو مصدرٌ أساسيٌ رئيسٌ لمعرفة الله عزَّ وجل .
القرآن الكريم كتاب فيه مبادئ سلامة الإنسان و سعادته :
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ في الإنسان جسدٌ يُعَدُّ أعقد آلةٍ في الكَوْن ، جسد الإنسان يُعَدُّ أعقد آلةٍ في الكون ، فمن خلال خلاياه ونُسُجه ، ومن خلال أعضائه وأجهزته ، ومن خلال بُنْيَتِهِ وعمل أعضائه فيها من التعقيد والدقة والإتقان ما يعجز عن فهم بُنيتها ، وطريقة عملها أعلم العلماء . وفي الإنسان نفسٌ فيها من المشاعر والعواطف ، والشهوات والقيَم، والحاجات والمبادئ ما يعجز عن تحليلها أعلم علماء النفس . وفي الإنسان عقلٌ فيه من المُسَلَّمات ، والبديهيَّات ، والمبادئ ، والقِوى الإدراكية ، والتحليلية ، والتركيبيَّة ، والإبداعيَّة ما يعجز عن فهم هذا العقل أعلم العلماء ، لذا كان الإنسان سيِّد المخلوقات .
هذا الإنسان المؤلَّف من جسمٍ بالغ الدقَّة ، ومن نفسٍ بالِغة التعقيد ، ومن عقلٍ بالغ الكفاية ، ألا يحتاج هذا الإنسان إلى منهجٍ يسير عليه ؟ ألا يحتاج هذا المخلوق الأول والمُكَرَّم إلى كتابٍ يبيِّن له سرَّ وجوده ؟ حقيقة الكون ؟ سرَّ الحياة ؟ مهمَّته في الدنيا ؟ إن الشيء الذي يَعْجَز عن إدراكه عقل البشر أخبره به خالق البشر .
هذا الإنسان الأول والمكرَّم ألا يحتاج إلى منهجٍ يسير عليه ؟ يضبط ويصحِّح حركاته وسكناته ونشاطه مِنْ أنْ تصاب بالخلل والعطب والعبث والخَطَل ؟ هذا الإنسان الأول والمكرَّم ألا يحتاج إلى مبادئ سلامته في الدنيا ؟ سلامة جسمه من العِلَل والأمراض ، سلامة نفسه من الانهيارات والتعقيدات ، سلامة عقله من التزييف والتزوير ، ألا يحتاج هذا المخلوق الأول والمكرَّم إلى مبادئ سعادته في الدنيا والآخرة فرداً ومجتمعاً ؟ يحتاج إلى كتابٍ يُبَيِّن سر الوجود ، حقيقة الحياة الدنيا ، مهمة الإنسان فيها . يحتاج الإنسان إلى كتابٍ يبيِّن المنهج الذي ينبغي أن يسير عليه كي يُصَحِّح مساره ، وكي يعود إلى الطريق كلما زَلِقَت قدمه ، وانحرف عنه ، يحتاج إلى كتابٍ فيه مبادئ سلامته وسعادته ، إنه القرآن الكريم . .
بالكون نعرف الله و بالقرآن نعبده :
أيها الأخوة الأكارم ؛ ما قولكم من خلال هاتين الآيتين يقول الله عزَّ وجل :
﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾
الكون كلُّه ، كلمة (السموات والأرض) تعبيرٌ قرآنيٌّ عن الكون . .
﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾
وهناك آيةٍ تُشْبِهها :
﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً﴾
فكأنَّ الكون في كفَّة والقرآن في كفَّة ، لأنك بالكون تعرف الله وبالقرآن تعبُده ، خَلَقَ الكون ونَوَّره بالكتاب ، شُقَّ الطريق ووضِعَت عليه الشاخصات ؛ انتبه أيها السائق هنا منعطفٌ خطر ، وهنا منحدر زَلِق ، وهنا تقاطعٌ مُميت ، شُقَّ الطريق ووضِعَت عليه الشاخِصات، خُلِقَ الكون ونوِّر بالقرآن . لذلك يا أيها الأخوة لا يعقل ، والله سبحانه وتعالى خالق الكون ، الرحمن الرحيم ، الربّ الرحيم أن يدع خلقه بلا تبيين ، بلا توجيه ، بلا تشريع ، بلا تقنين ، بلا سُنَن ، بلا إرشادات إنها القرآن الكريم .
أخطر أنواع التكذيب التكذيبُ العملي :
أيها الأخوة الأكارم ؛ قد يسأل سائل : لماذا أنت حينما تقرأ خبراً في صحيفةٍ يومية ، تشعر أن أسعارَ بعض الحاجات قد هَبَطَت ، إذا أُشيع ، أو إذا قرأت خبراً مفاده : أنه سيُسْمَحُ باستيراد هذه السلعة ، لماذا تهبط أسعارها فوراً ؟ لأن هذا القارئ ، أو هذا البائع ، أو ذاك التاجر صدَّق هذا الكلام ، أنت إذا صدَّقت إنساناً تنعطف في حياتك انعطافاً خطيراً ، إنك إن صدَّقت إنساناً تحرَّكت وفق هذا التصريح ، فكيف إذا كان القرآن بياناً من خالق السموات والأرض ؟! الذي لا يتفاعل مع القرآن الكريم ، الذي لا يتحرك من خلال آيات القرآن الكريم ، الذي لا يأخذ موقفاً بِنَاءً على ما في القرآن الكريم ، الذي لا يسعى لدرء الخطر من خلال آية ، والذي لا يسعى لكسب الخير من خلال آية ، هو إنسانٌ كأنه يكذِّب القرآن الكريم ، لا تكذيباً لفظياُ ولكن تكذيباً عملياً ، وأخطر أنواع التكذيب التكذيبُ العملي .
قد تشكر الطبيب ، وتثني على علمه ، وتصافحه بحرارةٍ بالغة ، وتدفع له الأجرة، وحينما لا تشتري الأدوية التي وصفها لك فإنك شَكَكْتَ في عِلمه ، ولم ترفعه إلى المستوى الذي تُصَدِّقُهُ فيه ، هذا التكذيب العَملي أخطر من التكذيب القَوْلي ، حينما يقول الله عزَّ وجل :
﴿وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ﴾
أنت إذا تلوتَ القرآن الكريم ، وكلَّما تلوته قلت : صدق الله العظيم . وقبَّلته من وجوهه السِتَّة ، ومسحت وجهك بيديك ، وفضَّلت الشاب الغني على الشاب المؤمن ، فأنت لم تصدِّقْ ما في القرآن الكريم . إن قرأت القرآن الكريم وقال الله لك :
﴿يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ﴾
ولم تأتمر بهذا الأمر ، أنت لو قرأت القرآن ، ولو قبَّلته من وجوهه الستة ، ومسحت وجهك بعد قراءته ، إن أكلت الربا ، أو أطعمت الربا ، فأنت لم تصدِّق ما جاء في القرآن الكريم .
بطولة الإنسان أن يكون عمله وفق القرآن الكريم :
يا أيها الأخوة الأكارم ؛ هذا حديثٌ له ما بعده ، حاسب نفسك حساباً عسيراّ كي يكون حسابك يوم القيامة يسيراً ، كن واضحاً من هذا الكتاب ، هل أنت متأكدٌ أنه كلام الله عزَّ وجل ؟ إن كنت متأكداً أنه كلام الله فما الدليل ؟ وإن جئت بالدليل فما الذي يمنعك أن تقف الموقف الصحيح ؟ حينما يقول الله عزَّ وجل :
﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ﴾
كيف تسمح لنفسك أن تتخطَّى هذه الآية ؟
أيها الأخوة الأكارم ؛ هذا حديثٌ مصيري ، وازن بين حياتك وبين آيات القرآن الكريم ، هل أنت مُطَبِّقٌ لها ؟ أما مظاهر التعظيم الفارغة ، أن تضع القرآن في مركبتك ، أن تضعه في مكانٍ بارزٍ في بيتك ، أن تزين به جدران البيت ، هذا شيءٌ طيِّب ، وشيءٌ يدل على تديُّنك ، ولكن البطولة أن تكون في عملك وفق القرآن الكريم ، أن يكون بيعك وشراؤك وفق القرآن الكريم ، أن يكون بيتك وفق القرآن الكريم ، أن تكون علاقاتك وفق القرآن الكريم ، أن تأتمر بما أمر ، وأن تنتهي عما عنه نهى .
تطابق فعل الله عز وجل مع كلامه :
يا أيها الأخوة الأكارم ؛ من هذا الموضوع ما الذي يؤكِّد أن هذا القرآن كلام الله ؟ الله جلَّ جلاله في عليائه يشهد للإنسان أن هذا القرآن كلامه ، كيف ؟ قال تعالى :
﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ﴾
فالإنسان المؤمن إذا آمن بالله حَقَّ الإيمان ، واستقام على أمره حق الاستقامة ، وأخلص له حق الإخلاص ، قَدَّر الله له بفعله جلَّ جلاله حياةٍ طيبة ، هذه الحياة الطيّبة التي قدَّرها له تحقيقاً لوَعْدِهِ تؤكِّد له من خلال تلازمها مع ما ورد في القرآن الكريم أن هذا القرآن كلام الله ، لأن فعل الله تَطابق مع كلامه ، إذاً هذا الكلام كلام الله ، فكلَّما طبَّقت أمراً وقطفت ثماره كأن الله يشهد لك أن هذا القرآن كلامه ، وكلَّما حِدَّت عن أمرٍ ودفعت ثمناً ، الله يشهد لك أن هذا القرآن كلامه ، من أعرض عن ذكر الله - والقرآن ذكر الله - من جعل القرآن وراء ظهره ، من هَجَر القرآن ؛ لم يعبأ بأمره ولا بنهيه ، ولا بوعده ولا وعيده ، ولا بُشْراه ولا إنذاره ، ولم يعبأ بحلاله ولا بحرامه ، وفعل ما يحلو له ، فكلَّما جاءته مُصيبة ، وكلَّما وقع في مطبٍ كبير ، وكلَّما سُحِقَت نفسه ، وكلَّما ضاقت به حياته وهو يتلو القرآن الكريم . .
﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ﴾
إن المعيشة الضنك ؛ الشقاء ، الصراع ، التردّي ، الكآبة ، اليأس ، السَأَم ، الضَجَر ، التَعْسير ، الطُرق كلها مسدودة ، الأعمال كلها مُخْفقة ، إن هذه الحياة الضَنْك التي قدَّرها الله عليه إنها ثمرة وعيد الله عزَّ وجل ، تطابق حياته الضَنك مع الآية الكريمة يؤكِّد للإنسان أن هذا القرآن كلام الله ، فالله يشهد من خلال أفعاله أن هذا القرآن كلامُه .
أيْ لو وجد الطلاب على السبورة كلمةً أنه : غداً المذاكرة ، ومن لم يقدم هذه المذاكرة ينال علامة الصفر . الطلاَّب اختلفوا هل هذا خط الأستاذ أم ليس خطه ؟ في اليوم التالي جاء المدرِّس وقال : حضّروا الأوراق البيضاء لإجراء المذاكرة ، معنى هذا أنه خطه ، معنى هذا أن العبارة التي كُتِبَت على السبورة البارحة هي من كلام المدرِّس ومن خطه ، والدليل أنه قد أجرى المذاكرة . فحينما يأتي الفعل مطابقاً للقول فالقول من طرف الفاعل وهو الله عزَّ وجل .
ضرورة التمتع بنور إلهي يهدي العقل إلى الدليل :
يا أيها الأخوة الأكارم ؛ القرآن شيءٌ آخر ، الإنسان أوتي عقلاً ، والعقل جهازٌ إدراكي عالي المستوى - دعونا من العقل مبدئياً- العين ؛ لو أن إنساناً يتمتّع بأعلى درجةٍ في الرؤية ، لو ذهب إلى طبيب العيون ورأى السطر الأخير الأسفل ، فأعطاه درجة اثنتي عشرة على عشرة ، لو تمتع الإنسان بعينينِ كهاتين العينين ، ولم يكن هناك نورٌ ، هذا النور وسيط بينك وبين الأشياء ، هل تنتفع بعينيك ؟ لا . لابدَّ من وسيط ؛ إنه نور الشمس ، أو نور الكهرباء ، إذاً كما أن العين مهما دقَّت لا تنتفع بها إلا بنورٍ مادي كذلك العقل ، مهما كان راجحاً ، ومهما كانت تلافيفه معقدةً ، ومهما كان وزنه كبيراً ، ومهما كان صاحبه عبقرياً ، ومهما كان صاحبه ألْمَعياً إن لم يستنر هذا العقل بنور الله فقد يضل . .
﴿ إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ * سَأُصْلِيهِ سَقَرَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ * لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ ﴾
هؤلاء الأجانب أليسوا أذكياء ؟ ألم يعيشوا حياة الجحيم في علاقاتهم الاجتماعية؟ أليس عندهم انحرافٌ خطير في أخلاقهم ؟ في زواجهم ؟ في علاقاتهم ؟ لماذا يعيشون حياةً شقية وهم يتمتعون بعقولٍ راجحة ؟ لقد جعلوا حضارَتَهم مبنيةً على العقل وحده ، فالعقل هداهُم إلى انحرافٍ خُلُقي ، قادهم إلى مرضٍ وبيل هو الإيدز ، الذي يَئِنُّ منه العالَم ، إذاً لا يكفي أن تكون ذكياً ، لا يكفي أن تكون عاقلاً ، لابدَّ من أن يكون هناك نورٌ إلهي يهدي عقلك إلى الدليل، قال تعالى :
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ ﴾
دقِّقوا في هذه الآية . .
﴿قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً ﴾
هذا النور المُبين هو القرآن الكريم . .
﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾
سمَّاه الله فرقاناً ، لأنك بالقرآن تفرِّق بين الحق والباطل .
الدنيا لعبٌ ولهوٌ وزينةٌ وتفاخر :
أيها الأخوة الأكارم ؛ يكفينا في القرآن الكريم آية هي قوله تعالى :
﴿فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى ﴾
لا يضل عقله ولا تشقى نفسه . كيف يضلّ عقل قارئ القرآن والقرآن يقدِّم له تفسيراً صحيحاً وعميقاً ودقيقاً لحقيقة الكَوْن ؟ الكون مسخرٌ للإنسان بأكمله . .
﴿وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ ﴾
والله سبحانه وتعالى خَلَق السموات والأرض بالحق ، ومعنى بالحق ، أيْ خلقها وفق مبادئ ثابتة ولهدفٍ كبير ، لم يخْلقها باطلاً ، والباطل هو الشيء الزائل ، ولم يخلقها لَعِباً وعبثاً ، واللعب هو الشيء العابِث ، بل خلقها بالحق ، فكيف يضل عقلك والقرآن يبيِّن لك أن خلق السموات والأرض بالحق وقد سخَّر الله لك ما في الكون من أجلك ؟ وكيف يضل عقلك وقد بين لك القرآن الكريم أن هذه الحياة التي تعيشها هي حياةٌ دُنْيا ؟ انتبه إلى لفظها " دنيا " ، حقيرة ، جيفةٌ ، طلابها كلابها ، هي دار من لا دار له ، ولها يسعى من لا عقل له ، فلينظر ناظرٌ بعقله أن الله أكرم محمداً أم أهانه حين زوى عنه الدنيا ؟ فإن قال : أهانه . فقد كذب ، وإن قال : أكرمه . فلقد أهان غيره حيث أعطاه الدنيا . دار تعبٍ ومشقَّة . .
(( إن هذه الدنيا دار التواء لا دار استواء ، ودار ترح لا دار فرح ، فمن عرفها لم يفرح لرخاء ، ولم يحزن لشدة ، ألا وإن الله تعالى خلق الدنيا دار بلوى ، والآخرة دار عقبى، فجعل بلوى الدنيا لثواب الآخرة ، وثواب الآخرة من بلوى الدنيا عوضاً ، فيأخذ ليعطي ويبتلي ليجزي ))
كيف يضل عقل قارئ القرآن وهو يعلم حقيقة الدنيا ؟ وكما قال الإمام علي : "يا دنيا طلَّقتكِ بالثلاث ، غرِّي غيري يا دنيا ، شأنك حقير وأمدك قصير" .
ما هذه الدنيا ؟ ما إن يستقر الإنسان سنواتٌ معدودات حتى يأتيه مَلَكُ الموت ، يخسر في ثانيةٍ واحدة ما جمعه في كل عمره ، بمجرَّد أن يقف القلب ساعته التي بيده ليسَت له، وهناك من يقلع سنه الذهبي ، يقول لك : الحي أولى من الميت . لم يبقَ لك شيء ، ما هذه الدنيا ؟ فكيف يضل عقل قارئ القرآن والقرآن يبيِّن له الدنيا ؟ إنما الدنيا لعبٌ ، ولهوٌ ، وزينةٌ ، وتفاخرٌ ، وتكاثرٌ في الأموال والأولاد ، متاعٌ قليل . .
﴿قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ﴾
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ ﴾
الإنسان هو المخلوق الأول و المكرم :
هناك آية أخرى :
﴿قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً ﴾
﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾
كيف يضل عقل قارئ القرآن والقرآن يبين للإنسان أن الإنسان لم يُخْلَق عبثاً ؟!.
﴿أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى ﴾
لم يُخْلَق سدىً . .
﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً﴾
﴿الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ ﴾
الإنسان هو المخلوق الأول . .
﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ﴾
الإنسان هو المخلوق المكرَّم . .
﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً ﴾
﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى ﴾
القرآن يبيّن لك أيها الإنسان من أنت ؟ وما خصائصك ؟ وما صفاتك ؟ وأين كنت ؟ وماذا بعد الموت ؟ وما مهمتك ؟ فكيف يضل عقل قارئ القرآن وهو يرى حقيقة الإنسان؟
الشرك الخفيّ يمزِّق حياة الإنسان :
شيءٌ آخر : ما الذي يمزِّق حياة الإنسان ؟ الشرك الخفيّ ، يبين لك القرآن الكريم أنه لا إله إلا الله . .
﴿وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ﴾
﴿لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ﴾
﴿خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ﴾
﴿وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ﴾
كيف يضل عقل قارئ القرآن ؟ كيف تشقى نفسُه وقد بيَّن له . .
﴿مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا ﴾
هذه الدابة التي تخافُها بيد الله . .
﴿مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾
متدبِّر القرآن كالكوكب الدريّ :
هذا أيها الأخوة ما ورد في القرآن عن القرآن . فماذا عن سُنَّة النبيّ العَدْنان ؟ يقول عليه الصلاة والسلام فيما رواه الإمام البخاري في صحيحه عن عثمان بن عفَّان ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
(( خيرُكمْ من تعلّمَ القُرآنَ وعَلَّمَهُ ))
كلام النبي . .
﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ﴾
(( خيرُكمْ من تعلّمَ القُرآنَ وعَلَّمَهُ ))
فالويل لمن لمْ يقرأ القرآن ، لم يتدبَّر القرآن ، لم يفهم القرآن ، لم يطبِّق القرآن فضلاً عن أن لم يعلِّمه ، طبعاً سيدنا عمر يروي عن رسول الله عليه الصلاة والسلام والحديث رواه الإمام مسلمٌ في صحيحه ، قال عليه الصلاة والسلام :
(( إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين ))
انظر إلى قارئ القرآن ، انظر إلى حافظ القرآن ، انظر إلى فاهم القرآن ، انظر إلى متدبِّر القرآن ؛ تراه كالكوكب الدريّ ، يرفعه الناس ، معظمٌ ، مُبَجَّلٌ ، مكرَّمٌ ، ما هذا ؟ بفضل القرآن . . إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين .
من جمع القرآن متَّعه الله بعقله حتى يموت :
هناك أحاديث متفقٍ عليها وهي أعلى درجات الصحَّة - طبعاً بشكل متسلسل - أن :
(( الذي يقرأ القرآن وهو ماهرٌ به مع السفرة الكرام البررة ))
و أن . .
(( المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأترجَّة ريحها طيب وطعمها طيّب ))
وأنه . .
(( لا حَسَدَ إِلاّ في اثْنَتَيْنِ : رَجلٌ آتَاهُ الله مَالاً فَهُوَ يُنْفِقُ منهُ آنَاءَ اللّيْلِ وآنَاءَ النّهَارِ، وَرَجُلٌ آتَاهُ الله القُرْآنَ فَهُوَ يَقُومُ بِهِ آنَاءَ اللّيْلِ وَآنَاءَ النّهَار ))
ومن حديثٍ موجهٍ إلى سيدنا معاذ :
((يا معاذ إن المؤمن لدى الحق أسير ، يعلم أن عليه رقيباً على سمعه وبصره ولسانه ويده ، وإن المؤمن قيَّده القرآن عن كثيرٍ من هوى نفسه وشهواته ، وحال بينه وبين أن يهلك فيما يهوى ))
قال عليه الصلاة والسلام :
(( لا يحزن قارئ القرآن ))
و :
(( لا يعذب الله قلباً وعى القرآن ))
و :
(( من جمع القرآن متَّعه الله بعقله حتى يموت ))
ما من شيءٍ أصعب في شيخوخة الإنسان من الخَرَف ، ومن أن يُردَّ إلى أرذل العمر ، تدفعه زوجته أحياناً ، يصيحُ به طفلٌ صغير ، يتلقَّى من الإهانات ما لا تعد ولا تُحْصى، لكنَّ الذي يقرأ القرآن في شبابه يمتّعه الله بعقله حتى يموت . .
(( لا يعذب الله قلباً جمع القرآن ))
و .
(( من جمع القرآن متَّعه الله بعقله حتى يموت ))
اقرأ القرآن ما نهاك فإن لم ينهك فلست تقرؤه ، أيْ إذا أطلقت بصرك في الطريق إلى ما حرَّم الله عليك ، لو قرأت كل يومٍ جُزئين أنت لا تقرأ القرآن ، لا تعدُّ قارئاً للقرآن إلا إذا ائتمرت بما أمر ، وانتهيت عما عنه نهى وزجر . و .
(( ما آمن بالقرآن من استحلَّ محارمه ))
و .
(( ربَّ تالٍ للقرآن والقرآن يلعنه ))
أيها الأخوة الأكارم ؛ حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، واعلموا أن مَلَك الموت قد تخطَّانا إلى غيرنا وسيتخطَّى غيرنا إلينا فلنتخذ حذرنا ، الكيّس من دان نفسه ، وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني .
* * *
الخطبة الثانية :
أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين ، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله ، صاحب الخلق العظيم ، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
الأحنف بن قيس :
أيها الأخوة الأكارم ؛ نحن في رمضان ، ورمضان شهر القرآن ، إذا قرأت القرآن ينبغي أن تسأل نفسك هذا السؤال : أين أنت من الذي تقرؤه ؟ هذه الحال وردت في كُتُب التاريخ، فقد ذكر الحافظ محمد بن نصرٍ المَرْوِزِيّ في جزء قيام الليل عن الأحنف بن قيس ، أنه كان يوماً جالساً فعرضت له هذه الآية :
﴿ لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾
الأحنف بن قَيْس انتبه ، قال : فانتبه ، فقال : عليَّ بالمصحف لألتمس ذِكري اليوم حتى أعلم مَن أنا ؟ ومَن أشبه ؟ أيْ أنه لمَّا علم أن القرآن قد ذكر جميع صفات البشر ، وبيَّن طبقاتهم ، ومراتبهم أراد أن يبحث عن نفسه في أيِّ الطبقات وفي أيّ المراتب هو . فنشر المصحف وقرأه ، فمرَّ بقومٍ . .
﴿كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ﴾
ومَرَّ بقومٍ . .
﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾
ومَرَّ بقومٍ :
﴿يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً ﴾
ومَرَّ بقومٍ :
﴿يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾
ومَرَّ بقومٍ :
﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ﴾
فوقف الأحنف ثم قال : اللهمَّ لست أعرف نفسي ها هنا . كان متواضعاً ، لست أعرف نفسي ها هنا ، أيْ لمْ يجد هذه الصفات في نفسه حتى يَعُدَّ نفسه من هؤلاء ، ثم أخذ الأحنف السبيل الآخر فمرَّ بالمصحف بقومٍ :
﴿إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ ﴾
ومَرَّ بقوم يُقال لهم :
﴿مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ ﴾
مع التيار العام .
﴿وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ ﴾
فوقف الأحنف وقال : " اللهمَّ إني أبرأ إليك من هؤلاء " . هو ليس من هؤلاء طبعاً. فمازال الأحنف يقلِّب ورق المُصحف ، ويلتمس في أي الطبقات هو ، حتى وقع على هذه الآية ، قال :
﴿وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾
فقال : أنا من هؤلاء . ولعلَّه قالها تواضعاً . فإذا قرأ أحدنا القرآن فلينظر موضع نفسه من كتاب الله ، وهذا من التَدَبُّر ، أيْ أين أنا من هذه الآية ؟ الله عزَّ وجل يقول :
﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ﴾
أين أنت منها ؟ هل أنت غاضٌ للبصر ؟ إذا قرأت قوله تعالى :
﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ﴾
هل أنت كاظمٌ للغيظ ؟ كلما قرأت صفةً من صفات المؤمنين قِف وقل : أين أنا من هذه الصفة ؟ فالإنسان يقول : أول مرحلةٍ في حَل المُشكلة أن تعرف أنها مشكلة ، أول مرحلةٍ في حلّ المشكلة أن تعرف حدودها ، فإذا عرفت من أنت ؟ الآن يكون التحرك صحيحاً .
الدعاء :
يا حيُّ يا قيوم اجعل القرآن ربيع قلوبنا ، ونور أبصارنا ، وجلاء حُزْنِنا ، وذهاب همنا وغمنا . اللهمَّ ارحمنا بالقرآن ، واجعله لنا إماماً ونوراً ، وهدىً ورحمة . اللهمَّ ذكرنا منه ما نسينا ، وعلمنا منه ما جهلنا ، وارزقنا تلاوته آناء الليل وأطراف النهار ، واجعله حجةً لنا لا علينا يا رب العالمين . اللهمَّ زيِّنا بزينة القرآن ، وأكرمنا بكرامة القرآن ، وشرِّفنا بشرف القرآن . اللهمَّ اجعل القرآن لنا في الدنيا قريناً ، وفي القبر مؤنساً ، وفي القيامة شفيعاً ، وعلى الصراط نوراً ، وفي الجنة رفيقاً ، ومن النار ستراً . اللهمَّ ارزقنا أن نتلوه حق تلاوته كما تحب وترضى ، وأن نعمل به كما ينبغي وتريد ، وأن نتعلَّمه وأن نعلِّمه كما أمرنا نبيك الحبيب . اللهمَّ اغفر وارحم لكل من يعلِّم تلاوته وتفسيره ، وحِكَمَهُ وأحكامه ، ونظمه وبيانه ، وإعجازه وإحْكامه ، وزدنا من فضلك العظيم فإنك ذو الفضل والإكرام . اللهمَّ أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا ، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا ، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردّنا ، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير ، واجعل الموت راحةً لنا من كل شر مولانا رب العالمين . اللهمَّ اكفنا بحلالك عن حرامك وبطاعتك عن معصيتك ، وبفضلك عمن سواك يا رب العالمين . اللهمَّ بفضلك ورحمتك أعل كلمة الحق والدين ، وانصر الإسلام وأعز المسلمين ، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى، إنك على ما تشاء قدير ، وبالإجابة جدير .