- الخطب
- /
- ٠1خطب الجمعة
الخطبة الأولى :
الحمد لله ثمّ الحمد لله ، الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنّا لِنَهْتَدِيَ لولا أن هدانا الله ، وما توفيقي ، ولا اعتصامي ، ولا توكّلي إلا على الله ، وأشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقرارًا برُبوبيَّته ، وإرغامًا لمن جحد به وكفر ، وأشهد أنّ سيّدنا محمّدًا صلى الله عليه وسلّم رسول الله سيّد الخلق والبشر ما اتَّصَلَت عين بنظر ، وما سمعت أذنٌ بِخَبر .
اللَّهمّ صلّ وسلّم وبارك على سيّدنا محمّد ، وعلى آله وأصحابه ، وعلى ذريّته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدّين .
اللّهمّ علّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علّمتنا وزدْنا علمًا ، وأرنا الحقّ حقًّا وارزقنا اتّباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممَّن يستمعون القول فيتّبعون أحْسنه ، وأدْخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
علاقة العبد بربه :
أيها الإخوة المؤمنون ؛ من توكّل على غير الله ذلّ ، ومن توكّل على غيره ذلّ ، أما من توكَّل عليك يا ربّ فما ذلّ ، ولا ضلّ ، ولا اخْتلّ .
وإذا قال العبد يا ربّ ، لقد أذْنَبْتُ ، قال الله عز وجل : وأنا قد غفرْت .
وإذا قال العبد يا ربّ قد تُبْت ، قال الله عز وجل : وأنا قد قبلْت .
إنّ الله يبسط يده بالليل لِيَتوب مسيء النهار ، ويبسط يده بالنهار لِيتوب مسيء الليل ، وأشهد أن لا إله إلا الله القائل في كتابه العزيز :
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً ﴾
أيها الإخوة المؤمنون ؛ قال تعالى :
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ﴾
قال تعالى :
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ ﴾
وأشهد أنّ سيّدنا محمَّدًا عبده ورسوله الذي قال : كلّ أمّتي يدخلون الجنّة إلا من أبى ، فقالوا : يا رسول الله ، ومن يأبى ؟ فقال : من أطاعني دخل الجنّة ، ومن عصاني فقد أبى .
مستويات الإيمان :
يا أيها الإخوة المؤمنون ؛ في أواخر سورة يوسف قول الله عز وجل :
﴿ وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ * وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ * وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ * وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ * أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾
أيها الإخوة المؤمنون ؛ الله سبحانه وتعالى الخبير بأعمالنا ، واتّجاهاتنا يقول :
﴿ وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ﴾
فمن كان مع أكثر الناس لم يكن مؤمنًا ، يجبُ أن تكون مع القلّة التي تُعْرف بِصَلاحها ، بدأ الدّين غريبًا ، وسيعود غريبًا كما بدأ ، فطُوبى للغرباء ، يجبُ أن تكون مع القلّة الورِعَة ، مع القلّة المؤمنة الطائعة ، والموحّدة ، والخاشعة ، والداعية ،
﴿ وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ﴾
إيمانهم لا يكفي لقوله تعالى :
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾
وقال تعالى :
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ ﴾
قال تعالى :
﴿ وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ ﴾
فالإيمان مستويات ، بعض مستوياته لا يكفي ، لا ينجّي صاحبه من النار ، بعض مستوياته لا يحجزهُ عن محارم الله تعالى .
من قال لا إله إلا الله بحقّها دخل الجنّة ، قالوا : وما حقّها ؟ قال : أن تحجزه عن محارم الله .
عِظني وأوْجِز ؟ قال : قل آمنتُ بالله ثمّ استقم .
فالإيمان الذي يحملكَ على الاستقامة هو الإيمان المقبول ، قال تعالى :
﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا ﴾
علامة صحّة الإيمان استقامة العمل وصلاحهُ ، فالإيمان الذي لا يحملك على ترك المخالفات ، ولا على فعل الصالحات ؛ هذا الإيمان لا يكفي ، لا يكفي ، قال تعالى :
﴿ وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ﴾
ذلك الإيمان المُجدي والمثمر ، والذي عرّفه النبي عليه الصلاة والسلام :
شيء وقر في القلب ، وأقرّ به اللّسان ، وصدَّقه العمل .
ليس الإيمان بالتمنّي ، ولا بالتحلّي ، أن تقول : ليتنا ندخل الجنّة ، ليس هذا إيمانًا ، ولكن هذا تمنّي ، وعِظام الأمور لا تكون بالتمنّي ، بل بالسَّعْي ، قال تعالى :
﴿ وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً ﴾
لها سعيٌ خاصّ ، لو أنّ الله سبحانه وتعالى قال : ومن أراد الآخرة وسعى لها ، هنا أيّ سعْيٍ يكفي ، لكن وسعى لها سعْيَها ، لها شروط دقيقة ، لن تصلَ إليها إلا إذا توافرَتْ هذه الشروط ، قال تعالى :
﴿ وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ﴾
ليس الإيمان بالتحلّي ، أن تضع آياتٍ في بيتك ، أن تضع آيةً في محلّك التجاري ، أن تعلّق مصحفًا في سيارتك ، ليس الإيمان بالتحلّي ولا بالتمنّي ولا أن يكون في بيتك مكتبةٌ إسلاميّة عامرة ، ولا أن تلبسَ ثيابًا إسلاميّة يوم الجمعة ، ولا أن تقلّد المسلمين في مظاهر حياتهم ، ولكنّ الإيمان ما وقرَ في القلب وأقرّ به اللّسان ، وصدَّقه العمل ، ذاق طعم الإيمان ، فالإيمان يذوقه الإنسان ، ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربًّا وبالإسلام دينًا ، وبمحمّد صلى الله عليه وسلّم نبيًّا ورسولاً ، من علامة الإيمان أن يكره أحدنا أن يعود في الكفر كما يكرهُ أن يُلقى في النار .
الآيات الكونية :
قال تعالى :
﴿ وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ * وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ * وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾
ما أكثر الآيات التي بثّها في السماوات والأرض ، كلَّما تحرَّكْت حركة ، وحيثما وقعَتْ عينُك ، تقع على آيةٍ لله عز وجل دالة على عظمة الله ، وعلى أسمائه الحسنى ، وأنّ بعد الحياة موتا ، وبعد الموت حسابًا ، وبعد الحسب جنّة ونار أبدِيَّتَين ، قال تعالى :
﴿ وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ ﴾
آيةُ النبات هل فكَّرت فيها ؟ بذرةٌ لا تُرى بالعين تصبُح شجرة ! من التراب تأكل ألذّ الثمار ، ومن الحشيش الأخضر تشربُ لبنًا سائغًا ، وتقدّم لك الدجاجة بيضةً كاملة الغذاء ، ومن البحر الأُجاج تشربُ ماءً عذبًا فراتًا من نطفة لا ترى بالعين تصبحُ طفلاً سَوِيًّا ، يتحرّك ويتكلّم ، ويحفظ ، ويهضم الطعام ، أجهزةٌ وعضلات ، وعظامٌ ، وأعصاب ، وشرايين ، وأوردة قال تعالى :
﴿ وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ * وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ ﴾
قال عليه الصلاة والسلام : من علَّق تميمة فقد أشْرك ، هذا الذي يعلّق حافرًا على مركبته ، لئلاّ تُصاب بالعين فقد أشرك ، وهذا الذي يتطيّرُ من ردَّتْهُ الطِّيَرَةُ عن حاجته فقد أشْرك ، تشاءمَ من يوم ، أو تشاءمَ من إنسانٍ أو تشاءمَ من رقم ، من ردَّتْهُ الطِّيَرة عن حاجته فقد أشْرك ، قال تعالى :
﴿ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ ﴾
الشّرك أخفى من دبيب النملة السوداء ، على الصخرة الصمّاء ، في الليلة الظلماء ، شرْكُ موسَّع ، وشرك دقيق ، الإمام الحسن رضي الله عنه قال : الشّرك هو النفاق ، والنفاق هو الشّرك ، فكأنّ هؤلاء غير المؤمنين ، وهؤلاء المشركون ، قال تعالى :
﴿ أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ﴾
الغافل ماذا ينتظرهُ ؟ المعرض ماذا ينتظر ؟ المقطوع عن الله عز وجل ما الذي أمامه ؟ أمامه غاشيةٌ من عذاب الله ، أو الساعة ، أو ساعة الموت إمّا مصيبة قبل الموت ، أو موتٌ مجهز ، لذلك بادروا بالأعمال الصالحة فماذا ينتظر أحدكم من الدنيا ؟ هل تنتظرون إلا فقرًا منسيًا ، أو غنًى مطغِيًا ، أو مرضًا مفسدًا ، أو هرمًا مفنِّدًا ، أو موتًا مجهزًا ، أو الدّجال فشرُّ غائبٍ يُنتظر ، أو الساعة والساعة أدهى وأمرّ ، قال تعالى :
﴿ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾
علامة المُتَّبِع لرسول الله صلى الله عليه وسلّم أنّه يدعوك على بصيرة ، تركْتُكم على بيضاء نقيّة ليلها كنهارها ، لا يزيغُ عنها إلا ضالّ .
أيها الإخوة المؤمنون ؛ هذه الآيات في أواخر السّور نوعٌ من أنواع التلخيص ، سورةٌ طويلة فيها قصص ، وفيها آيات ، وفيها مواعظ ، وفيها مشاهد ، ودعوَةٌ للإيمان ، وتنتهي السورة بآياتٍ تلخّص فحْوى السورة كلها قال تعالى :
﴿ وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ * وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ * وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ * وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ * أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾
ليس في الإسلام طبقةٌ اسمها طبقة رجال الدّين ؟!
أيها الإخوة المؤمنون ؛ مع السنّة المطهّرة ، كلّنا يصلّي ، ولا شكّ في هذا ولكن شتّان بين صلاةٍ وصلاة ، ركعتان لا تعدلان عند الله جناح بعوضة ركعتان تُلفّان كما يُلفّ الثَّوْب الخلق ، ويُضْربُ بهما وجْهُ صاحبهما ، وركعتان تعدلان عند الله ألف ركعة ، ما هما هاتان الركعتان التي أخبرَ عليها النبي عليه الصلاة والسلام ؟ قال عليه الصلاة والسلام : ركعتان من عالم أفضلُ من سبعين ركعة من غير العالم ، لابدّ من أن تكون عالمًا ، وليس في الإسلام طبقةٌ اسمها طبقة رجال الدّين ! كلُّ واحد منكم يجبُ أن يكون عالمًا ، ما اتَّخَذ الله وليًّا جاهلاً ، لو اتّخذه لعلَّمهُ ، وكفى بالمرء علمًا أن يخشى الله تعالى ، إذا خشيت الله فأنت عالم ، بنوع من أنواع العلم .
هذا الذي يقود سيارةً ، ويحرصُ على سلامة محرّكها ، فإذا تألّق ضوءٌ أحمر توقف فجأةً ، وأضاف زيتًا للمحرّك ، هذا على علْم بِخَصائص هذا المحرّك .
أما الذي يأخذ شهادة عليا في ميكانيك السيارات ، ولا ينتبِه لهذا الضّوء ، ويحرق المحرّك ، على علمه النظري هذا جاهل ، وجاهل ، وجاهل .
فهناك تعريف للعلم آخر ، إذا حصَّنْت نفسك من المساوئ وحفظْتَ نفسكَ من المعاصي فهذا نوعٌ من العلم ، وكفى بالمرء علمًا أن يخشى الله تعالى ، ركعتان من عالم أفضل من سبعين ركعةً من غير العالم .
كن عالمًا أو متعلِّمًا أو مستمعًا أو محبًّا ، إنّ الله عالمٌ يحبّ كلّ عالم .
وركعتان من رجل ورعٍ خيرٌ من ألف ركعةٍ من مخلِّط ، والمخلّط هو الذي خلَطَ عملاً صالحًا ، وآخر سيِّئًا .
وركعتان في جوف الليل يكفّران الخطايا .
وركعتا الفجر خيرٌ من الدنيا وما فيها .
وركعتان من المتأهّل خير من اثنتين وثمانين ركعة من غير المتأهّل .
وفي هذا الحديث حظّ من النبي عليه الصلاة والسلام على الزواج ، من تزوَّج فقد ملَكَ نصف دينه ، فليتّق الله في النِّصْف الآخر .
أيها الإخوة المؤمنون ؛ ليْسَتْ كلّ ركعتين ركعتين ، شتّان بين ركعتين وركعتين ، ركعتان من عالم ، وركعتان من رجلٍ ورع ، وركعتان في جوف الليل ، وركعتا الفجر ، وركعتان من متأهّل ؛ هذه الركعات الثنائيّة أفضل عند الله عز وجل من سبعين إلى ألف ، إلى اثنتين وثمانين .
أيها الإخوة المؤمنون ؛ أبو جهلٍ معروفٌ لديكم ، جاء النبي عليه الصلاة والسلام في أوّل عهد الرّسالة ، طرق بيته ففتحَ ابنتهُ فاطمة رضي الله عنها ، وكانت طفلةً صغيرة ، فقال : أين أبوك ؟ قالَتْ : لا أدري ، فلطَمَها على وجْهها !! ودخل أبو سُفيان فرآها تبكي ، قال : يا بنتَ محمّد ، ما يُبكيك ؟ فقالَتْ : أبو جهل لطمني على وجْهي !! فحَمَلَ أبو سفيان فاطمة بنتَ محمّد وكانت صغيرةً جدًّا على كتِفِه ، وتوجَّه إلى بيت أبي جهل ، وقال : أضربْتَ بنتَ محمّد ، اِضْرِبيه كما ضربك ، وفي المساء لقِيَتْ أباها عليه الصلاة والسلام وحدَّثتْهُ بما جرى ، وهنا موطنُ الشاهد ، رفع النبي عليه الصلاة والسلام يديه إلى السّماء ، وقال : يا رب ، لا تضيِّع عمل أبي سفيان ، وفي رواية : يا رب ، لا تنْسَها لأبي سفيان ، هذا العمل البسيط الذي يؤخذ على شكل دُعابة ، لا تنسها لأبي سفيان ! النبي عليه الصلاة والسلام تزوَّج بنتَ أبي سفيان ، ، ولمّا جاء أبو سفيان إلى بيت النبي عليه الصلاة والسلام ، جلسَ على فراش رسول الله عليه الصلاة والسلام ، فقالَتْ له : قمْ يا أبا سفيان عن هذا الفراش ، عجِبَ أشدّ العجَب ، ما الذي حدَث ، فقال : ما حدَثَ يا أمّ حبيبة ؟ أبَخِلْتِ بالفراش عليّ ؟ أم بخلْتِ عنّي بالفراش ؟ قالت : والله لا يجلسُ عدوّ الله على فراش حبيب الله تعالى ، وحينما فُتِحَتْ مكّة أقْبَلَ النبي عليه الصلاة والسلام على أبي سفيان ، وقال له : يا أبا سفيان ، أما آنَ لك أن تشهد أنّه لا إله إلا الله ؟! أيْ إلى متى أنت في المعاصي ؟ تسير مرخى العنان .
أيا غافلاً تبدي الإساءة والجهل متى تذكرُ المولى على كلّ ما أولى ؟
***
عليط أيادي الكرام وأنت لا تراها كأنّ العين عميا أو حــولا
لأنت كمدفون حوى المسك جيْبُه ولكنّه المحروم ما شمّه أصلا
إلى متى يا أبا سفيان ؟ أما آنَ لك أن تشهد أنّه لا إله إلا الله ؟! فنظَرَ أبو سفيان إلى النبي عليه الصلاة والسلام وقال : وابن أخي ما أعْقَلَكَ ، وما أكْرَمَكَ ، وما أحْلمَكَ ، وما أوصَلَك ، علاقةٌ مع النبي دامَتْ قرابة من ثلاثة وعشرين عامًا ملخَّصُها أنْ يا محمّد ما أعقلك ، وما أكْرَمَكَ ، وما أحْلمَكَ ، وما أوصَلَك ، ثمّ قال هذه الكلمة الشهيرة : لو كان معه آلهة أخرى لنصرتْنا عليك ، أشْهَدُ أن لا إله إلا الله تعالى ، ثمّ قال له النبي عليه الصلاة والسلام : أما آنَ لك أن تشهَدَ أنِّي رسول الله ؟ قال : أما هذه ففي النفس منها شيء فقال : تعال غدًا ، في صبيحة الغد ، جاء أبو سفيان وقال : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أنّ محمَّدًا رسول الله .
ابن عباس قال : يا رسول الله ، إنّ أبا سفيان يحبّ الفخر في قومه فاجْعَل له شيئًا ، عندها قال عليه الصلاة والسلام : من دخَلَ البيت الحرام فهو آمن ومن دخل بيته فهو آمن ، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن .
عَوْدٌ على بدء ، هذا الموقف الأخلاقي الذي فعلهُ في الجاهليّة ، حينما رقّ لابنة محمّد وحملها على كتفه ، وأخذها إلى دار أبي جهلٍ ، وعاتبهُ على ضربها ، وقال لها جَبْرًا لِخَاطرها : أُضربه كما ضربَكِ ، وقال النبي عليه الصلاة والسلام : لا تنْسَها يا ربّ لأبي سفيان ، هذه الحادثة تصاعَدَتْ حتى حملتْهُ على الإسلام في آخر حياته ، ولكنّه إسلامٌ ضعيف ، وقفَ ساعات طويلة أمام دار عمر فلَم يُؤْذَن له ، وبلال وصُهَيب يدخلان ويخرجان بلا استئذان ، فلمّا دخل عليه ، قال : سيّد قريش يقف في بابك ساعات ، وبلال وصُهيب يدخلان بلا استئذان ؟ فقال عمر : أأنْت مثلهما ؟ هذا هو جوابُ عمر ، شتّان بينك وبينهما !
أيها الإخوة المؤمنون ، حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزِنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، واعلموا أنّ ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا ، وسيتخطّى غيرنا إلينا فلْنَتَّخِذ حذرنا ، الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتْبعَ نفسه هواها وتمنّى على الله الأماني ، والحمد لله رب العالمين .
* * *
الخطبة الثانية :
الحمد لله رب العالمين ، وأشهد أن لا إله إلا الله وليّ الصالحين ، وأشهد أنّ سيّدنا محمَّدًا عبده ورسوله صاحب الخلق العظيم ، اللهمّ صلّ وسلّم وبارك على سيّدنا محمّد وعلى آله وصحبه أجمعين .
الحوت :
أيها الإخوة المؤمنون ؛ في آيات الله الدالة على عظمته ، هذه الحيتان التي تجوب المحيطات ، الشيء الذي يلفت النّظر ، أنّ من تقدير بعض العلماء لِعَدَدِها ، في بعض الأوقات أنّها تزيدُ عن مئة وخمسين ألف حوت من نوع واحد ، وهو الحوت الأزرق ، وهذا الحوت الذي يزِنُ مئةً وثلاثين طنًّا ، ويبلغُ طولهُ خمسةً وثلاثين مترًا ! فلو ضربْتَ وزْن هذا الحوت بِعَدد الحيتان لكان الرقم مذهلاً ، لو قسّم على أهل الأرض لأصاب كلّ إنسان من ستّة آلاف مليون أربعة كيلو غرامات .
أيها الإخوة المؤمنون ؛ هذا الحوت يولَدُ وِلادةً ، فبينما ترى جنينه في رحمِهِ ، لايزيد عن سنتمترًَا واحدا ، وحين الولادة يصلُ طوله إلى سبعة أمتار ، ويَزِنُ طنَّيْن ، الحوت يستطيع أن يبقى في البحر أكثر من ثلاثين دقيقة ، كيف أنّ الإنسان لا يستطيع أن يبقى من دون تنفّس أكثر من ثلاثة دقائق ، قال : لأنّ طريقة بناء جسم الحوت تجعل هذا الأكسجين الذي اسْتنشقهُ يخزّن في عضلاته ، وفي دمه ، وفي أنسجته ، وعشرةٌ بالمئة يخزّن في رئتَيه ، وكيف يجوب هذا الحوت الكرة الأرضيّة من الشمال إلى الجنوب ، يذهب إلى القطبين ، ويعود إلى خطّ الاستواء ، وتعلمون أنّ هناك فروقًا كبيرة في درجات الحرارة ، قال : إنّ طبقةً من الدُّهْن تقيه من البرْد ، تصل سماكتها إلى متر ، فإذا توجَّه نحو خطّ الاستواء قلَّتْ هذه الكميات الدهنيّة إلى النّصف تقريبًا حيث المياه الدافئة .
والحوت أيّها الإخوة المؤمنون ؛ لا يشبعُ بِوَجبةٍ أقلّ من أربعة طنًّا ، يُسند بها معدته كما يقولون ، هذا الحيوان الكبير ، لو نظرْت إلى أحوال السّمك الصغيرة ، فيها من الأجهزة ما في الحوت ، ولكن على شكلٍ مصغّر ، فتبارك الله الخلاّق لما يشاء ، هذه آيةٌ من آيات الله تعالى ، فالبحر وما فيه من حيوانات ، تزيدُ أنواعه عن المليون نوع من السّمك ، وهذه كلّها خلقَت لنا ، قال تعالى :
﴿ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ ﴾
الله سبحانه وتعالى خلق هذه الآيات لِوَظيفَتَين ؛ الوظيفة الأولى وظيفةٌ دلاليّة ، والثانية دُنيويّة ، نحن جعلناها تذكرةً ، ومتاعًا للمُقوين ، في كلّ شيءٍ خلقه الله عز وجل تذكرة ، ومتاع .
الدعاء :
اللهمّ اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيْت ، وتولَّنا فيمن تولّيْت ، وبارك اللّهم لنا فيما أعْطيت ، وقنا واصْرف عنَّا شرّ ما قضَيْت فإنَّك تقضي ولا يُقضى عليك ، إنَّه لا يذلّ من واليْت ، ولا يعزّ من عادَيْت ، تباركْت ربّنا وتعاليْت ، ولك الحمد على ما قضيْت نستغفرك اللهمّ ونتوب إليك ، اللهمّ هب لنا عملاً صالحًا يقرّبنا إليك ، اللهمّ أعطنا ولا تحرمنا ، وأكرمنا ولا تهنّا ، وآثرنا ولا تؤثر علينا ، وأرضنا وارضَ عنَّا ، وأصْلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا ، وأصْلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا ، وأصْلح لنا آخرتنا التي إليها مردُّنا ، واجْعل الحياة زادًا لنا من كلّ خير ، واجعل الموت راحةً لنا من كلّ شرّ ، مولانا ربّ العالمين ، اللهمّ اكفنا بحلالك عن حرامك ، وبطاعتك عن معصيتك ، وبفضلك عمَّن سواك ، اللهمّ لا تؤمنَّا مكرك ، ولا تهتِك عنَّا سترَك ، ولا تنسنا ذكرك ، يا رب العالمين ، اللهمّ إنَّا نعوذ بك من عُضال الداء ومن شماتة العداء ، ومن السَّلْب بعد العطاء ، يا أكرم الأكرمين ، نعوذ بك من الخوف إلا منك ، ومن الذلّ إلا لك ، ومن الفقر إلا إليك ، اللهمّ بفضلك ورحمتك أعلي كلمة الحقّ والدِّين وانصر الإسلام وأعزّ المسلمين ، وخُذ بيَدِ وُلاتهم إلى ما تحبّ وترضى إنَّه على ما تشاء قدير ، وبالإجابة جدير .