وضع داكن
25-04-2024
Logo
آيات الأحكام - الدرس : 02 - الهدي و أحكامه
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، و الصلاة و السلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا و انفعنا بما علمتنا و زدنا علماً، و أرنا الحق حقاً و ارزقنا اتباعه، و أرنا الباطل باطلاً و ارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، و أدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

وقفة عند ألفاظ الآية التالية :

 أيها الأخوة المؤمنون، مع الدرس الثاني من دروس: "آيات الأحكام"، والآية اليوم هي قوله تعالى:

﴿ وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ ﴾

[ سورة الحج: 36-37 ]

 هذه الآية من سورة الحج هي الآية السابعة والثلاثون، وهي من آيات الأحكام التي تستنبط منها أحكاماً تعبدية.
 أولاً: لو وقفنا وقفةً عند ألفاظ هذه الآية البدن جمع بدنة وهي اسم للواحد من الإبل، ذكر كان أم أنثى، وسميت بذلك لعظم بدنها، ضخامة جثتها، وقد اشتهر إطلاقها في الشرع على البعير يهدى للكعبة تقرباً إلى الله تعالى.
 المرأة التي لا تستطيع أن تطوف طواف الإفاضة لحكم شرعي عليها ذبح بدنة أي ناقة.

﴿ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ ﴾

[ سورة الحج: 36 ]

 صواف جمع صافة وهي التي صفت قوائمها للذبح، والبعير ينحر قائماً، ويوجد قراءة صواف، فالصافن الدابة التي تقوم على ثلاثة أرجل، وكان بعض العرب يربطون إحدى رجليها فتقف على ثلاثة لئلا تنطلق.

﴿ وَجَبَتْ جُنُوبُهَا ﴾

[ سورة الحج: 36 ]

 وجبت أي سقطت، جنوبها جمع جنب وهو الشق، أي إذا سقطت على الأرض، وسمي الجانب الذي يسقط على الأرض جنوباً جمعاً إشارةً إلى أن الدابة إذا ذبحت وقعت، فإذا وقعت وفارقت الحياة الآن يجوز سلخها وأكلها.

القانع هو الذي رضي بقضاء الله وقدره :

﴿ وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ ﴾

[ سورة الحج: 36 ]

 القانع هو الذي رضي بما قسمه الله له، وكما تعلمون أحد أكبر أسباب السعادة أن ترضى عن الله، وأن ترضى بما قسمه الله لك، والإنسان لا يسعد إلا إذا قبل ذاته، قبل جسمه، وقبل إمكاناته، وقبل رزقه، وقبل قدر الله فيه، فإذا أردت أن تسعد فاعلم أن الله سبحانه وتعالى حكيم عليم، لا يقضي إلا بالخير، وأن الإيمان بالقضاء والقدر يذهب الهم والحزن، هذا هو القانع الراضي بما قدمه الله له، إن من عبادي من لا يصلحه إلا الغنى، فإذا أفقرته أفسدت عليه دينه، وإن من عبادي - مقاومته هشة إذا اغتنى عصى- لا يصلح له إلا الفقر، فإذا أغنيته أفسدت عليه دينه، فلذلك القانع هو الذي رضي بقضاء الله وقدره، وهو العفيف المتجمل، والإنسان أيها الأخوة حينما يكون فقيراً أي جعل الفقر مادة امتحانه مع الله تعالى، نجاحه في هذه المادة أن يرضى، وأن يصبر، وأن يتعفف، وأن يتجمل، فإذا نجح اغتنى إلى أبد الآبدين، وقد يكون الغنى مادة ابتلائه مع الله، فإذا تكبر واستعلى وأنفق ماله في معصية الله رسب وسقط فشقي إلى أبد الآبدين، لا عبرة لهذه السنوات المعدودة التي يقضيها الإنسان، إما في فقر امتحن به، أو في غنى امتحن به.
 أيها الأخ الكريم: أنت ممتحن مرتين، ممتحن فيما أعطاك، وممتحن فيما منعك، عطاؤه امتحان ومنعه امتحان.

تعريف المعتر و المحروم و السائل :

 أما المعتر فهو الذي يتعرض للسؤال، هو الذي يسأل، هو الذي يقتحم على الناس، يسألهم العطاء، هذا يذكرنا بقوله تعالى:

﴿ وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ * لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ﴾

[ سورة المعارج: 24-25 ]

 المحروم هو القانع الذي يخجل أن يسأل فيحرم، أما السائل فهو الذي يطلب.
 إذاً كلمة وجبت جنوبها أي سقطت جنوبها، أي وقعت وقد فارقت الحياة، وكلمة القانع هو الذي يرضى بقضاء الله وقدره، فيتعفف ويتجمل ولا يسأل، وأما المعتر فهو الذي يسأل ويطلب، وأما الصواف أي نحرت واقفةً صافةً أرجلها، وأما البدن جمع بدنة وهي النوق ذكراً كانت أم أنثى، وقد غلبت هذه التسمية على الناقة التي تساق لتذبح في الكعبة، أو في المنطقة التي هي حرم تقرباً لله عز وجل.

الله تعالى سخر للإنسان السموات والأرض تسخيرين؛ تسخير تعريف وتسخير تكريم :

 أيها الأخوة الكرام، قال بعض العلماء: سبب نزول هذه الآية أن العرب في الجاهلية كانوا يذبحون الذبائح، ويقطعون لحومها، ويجعلون هذه اللحوم حول الكعبة، ويلطخون الكعبة بدمائها، هذا السلوك الذي كان سائداً في الجاهلية أراد الله سبحانه وتعالى أن يرشد المسلمين إلى فعل آخر هو كما جاء في هذه الآية.
 أولاً: يبين الله عز وجل أنه سخر هذه الأنعام لبني آدم، أيها الأخوة معنى التسخير معنى دقيق جداً ينبغي أن نستوعبه، الكون كله الكون يعني السموات والأرض، الكون مصطلح حديث ما سوى الله، في القرآن ورد السموات والأرض، أي الكون، والكون ما سوى الله، الله جل جلاله سخر لنا السموات والأرض تسخيرين، تسخير تعريف، وتسخير تكريم، أي هذا التسخير مهمته أن نعرف الله، لأن الله لا تدركه الأبصار ولكن الكون كله مظهر لأسمائه الحسنى وصفاته الفضلى، العقول تتعرف إلى الله من خلال صنعته، ومن خلال حكمته، ومن خلال نظامه، ومن خلال تسييره، ومن خلال قدرته، إذاً البدنة مسخرة للإنسان، ومعنى مسخرة أن هذا الحيوان الكبير مذلل، طفل صغير يقوده، إنسان يذبحه، بينما العقرب غير مذللة، والأفعى غير مذللة، والضبع غير مذلل، وهناك عشرات الحيوانات التي لا نستطيع أن ننتفع بها لأنها غير مذللة، فإذا رأيت بقرةً تنقاد لصاحبها يحلبها، وتخدمه، وتقدم له لحمها، وجلدها، وحليبها، فهذا تسخير، لذلك من هو الذي كرمه الله عز وجل؟ الإنسان، عندك حيوان مسخر لإنسان، الإنسان مسخر له، والحيوان مسخر، من هو أعلى مرتبةً عند الله ؟ الإنسان، لأن الكون كله سخر له، أما أن يسخر الإنسان لجهة غير الله فهذا لا يليق بإنسانيته، أي يسخر الإنسان لجهة غير الله.

من سخر علمه وقدرته وماله لله عز وجل فهو ممن وفى ما عاهد عليه الله :

 لذلك الإنسان أحياناً يرضى عن شيء أو يرفضه، في الأعم الأغلب الإنسان حينما يرفض شيئاً يحتقره، قد ترفض بيتاً لا يعجبك، قد ترفض فتاةً لا تعجبك، حينما تخطب، قد ترفض شريكاً لا تعجبك أخلاقه، ترفض والرفض مبني في الأعم الأغلب على الاحتقار، أما إنك إذا رغبت عن هذا الدين فإنك تحتقر نفسك، إن أبيت أن تكون خاضعاً لهذا الدين فقد هانت نفسك عليك، ما عرفت قيمتها، وما عرفت أنها خلقت لتعرف الله عز وجل، جعلتها تابعةً لجهة غير الله، جعلتها مسخرةً لغير الله، جعلتها أحد أخطاء جهةٍ أرضية، فلذلك لا يليق بالإنسان أن يكون لغير الله، لا يليق أن يكون محسوباً على غير الله، سمعت عن عالمٍ رفع الله شأنه كثيراً فسئل مرةً: ما هذا المقام الذي نلته؟ فأجاب إجابةً دقيقةً ورائعة قال: لأنني محسوب على الله، أي أنت لا تكن محسوباً على جهة أرضية، لا تكن محسوباً على إنسان، لا تكن محسوباً على فئة، لا تكن محسوباً على جماعة، كن محسوباً على الله، ومعنى محسوباً على الله ليس معنى هذا أنك متفوق ولكن أنت رباني، قال تعالى:

﴿و لَكن كونُوا ربَّانييَن﴾

[ سورة آل عمران: 79]

 قال تعالى:

﴿ قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾

[ سورة الأنعام: 162]

 أي آية قرآنية الإنسان إذا قرأها اقشعر جلده، يخاطب الله سيدنا موسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام يقول له:

﴿ وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي ﴾

[ سورة طه: 41]

 أنت حينما تسخر علمك، وقدرتك، ومالك، ووقتك، وذكاءك، وطلاقة لسانك، ومكانتك الاجتماعية، حينما تسخرها لله عز وجل فأنت ممن وفى ما عاهد عليه الله.

الاستثناء لتأكيد القاعدة :

 ثم يقول الله عز وجل:

﴿ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ ﴾

[ سورة الحج: 36]

 القرآن مجمل ومفصل في هذه الآية أجمل الخير بكلمة، لكم فيها خير، أما في آيات أخرى فيقول الله عز وجل:

﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ * وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ* وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ ﴾

[ سورة يس: 71-73 ]

 وما جنون البقر عنكم ببعيد، حينما جنت البقر اضطروا إلى إحراق ثلاثة عشر مليوناً من البقر، ثم هذا العدد الكبير ثلاثون مليار جنيه إسترليني لأنه جن، لأنه لم يعد مذللاً، أحياناً أخواننا الكرام الاستثناء لتأكيد القاعدة، القاعدة قد تكون غائبة عن الأذهان، حقيقة صارخة جداً قد تغيب عن الأذهان يأتي الاستثناء ليؤكدها، أو ليلفت النظر إليها، أي كل ثانية أو أقل أو أكثر يولد طفل في العالم، هذا الطفل في قلبه ثقب بين الأذينين، لأن الطفل في رحم الأم لا يتنفس، لذلك الدم لا يذهب إلى الرئتين، التنفس غير وارد، لا يوجد هواء في الرحم، لذلك جعل الله ثقباً بين الأذينين، بدل أن ينتقل الدم من الأذين إلى الرئة إلى البطين ينتقل من الأذين إلى الأذين، حينما يولد الطفل- هكذا قال العلماء - بقدرة قادر تأتي جلطة فتغلق هذا الثقب، لكن ربنا جل جلاله من بين المئة ألف حالة سليمة تكون حالة واحدة غير سليمة، هذا الثقب يبقى مفتوحاً، يصاب هذا الطفل الصغير بمرض اسمه داء الزرق، لأن القلب حينما ينبض الدم يختار الطريق السهل بدل أن يذهب إلى الرئة فيصفى من غاز أكسيد الكربون ويأخذ الأوكسجين فيصبح أحمراً قانياً، ينتقل من أذين إلى أذين، فيبقى الدم أزرقاً، ومعنى أزرقاً أي فيه غاز الفحم، فهذا الدم لا يصلح للتغذية، فترى الطفل الصغير منهكاً، لي صديق له بنت مصابة بهذا المرض، ماتت في العام العاشر تقريباً، لا تقوى على صعود الدرج إطلاقاً، تتعب لأدنى جهد، ولن ينجو من هذا المرض الطفل إلا أن تجرى له عملية يجب أن يشق صدره، وأن يفتح قلبه، وأن تدخل رقعة بين الأذينين، عملية معقدة جداً، العشرون الثلاثون ألف حالة، المئة ألف حالة، النصف مليون ولادة كلها سليمة، لماذا أبقى الله بعض الولادات غير سليمة؟ هذا استثناء من القاعدة، وهذا الاستثناء لتأكيد القاعدة، أو لتلتفت إلى القاعدة، الإنسان أحياناً يغيب عن نعمة، يغيب عن حكمة، يغيب عن شيء ثمين قدره الله له، الاستثناء أحياناً يؤكد القاعدة، قال تعالى:

﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ * وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ ﴾

[ سورة يس: 71-72 ]

 نحن نعجب بالمركبات الفارهة ولكن بحوثاً علمية تقول: إن ركوب الفرس يقي القلب والكبد والكليتين من الأمراض الخطيرة، بل إن ركوب الحصان صحة، أما هذا الرفاه الشديد الذي يحيط بالإنسان حينما يركب مركبةً فربما سبب له بعض الأمراض.

الخير في الآيات التالية جاء مفصلاً :

 على كلٍّ قال تعالى:

﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ * وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ* وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ ﴾

[ سورة يس: 71-73 ]

 إذاً هنا جاء الخير مفصلاً، هناك آية أخرى:

﴿ وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ﴾

[ سورة النحل: 5 ]

 كلمة لكم أي خلقت خصيصاً لكم، فيها دفء أي الصوف الذي نأخذه من ظهور الأنعام شيء لا يقدر بثمن، كل الخيوط التي صنعت تقليداً للصوف لا ترقى إلى مستواه، لذلك الألبسة المصنوعة من صوف صناعي ثمنها أقل بكثير من الألبسة المصنوعة من صوف طبيعي، لأن طول هذه الشعرة مناسب جداً للغزل، وهذه الشعرة كما سمعت مفرغة من الهواء مثقوبة، لذلك الإنسان إذا ارتدى ثياباً صوفيةً أصيلة يشعر بدفء غريب، قال تعالى:

﴿ وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُون* وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ * وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾

[ سورة النحل:5-7 ]

الإنسان يذبح الأنعام ليطعم الجياع ويتقرب بها إلى الله عز وجل :

 الآن الخيل في معظم بلاد العالم شيء ثمين جداً، بل إن بعض هذه المخلوقات التي أكرمنا الله بها يفوق ثمنها ثمن أغلى سيارةٍ موجودة في الأرض.
 أيضاً البدن من شعائر الله، الشعيرة: العلامة، أي علامة من علامات هذا الدين، الإنسان يذبح هذه الأنعام ليطعم الجياع ويتقرب بها إلى الله عز وجل.

﴿ وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ ﴾

[ سورة الحج: 36]

 هذه الإضافة إضافة تشريف، تقول: بيت الله الحرام، كعبة الله، دين الله، شرع الله، رسول الله، إذا أضيف الشيء إلى ذات الله عز وجل نقول هذه الإضافة تشريف.

الحكمة من ذبح الدابة بقطع أوداجها :

﴿فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ﴾

 كأن في هذه الآية إشارة إلى أن الإبل تذبح واقفةً، كلكم يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرنا أن نذبح الأنعام بقطع أوداجها لا بقطع رقبتها، وهذه حقيقة لم يتح للعصور السابقة أن تلقي ضوءاًً على سر هذا التشريع، إلا أنه الآن عرف بفضل التقدم العلمي أن النبي صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، القلب مهمته بعد الذبح إفراغ دم الدابة كله، لأن الدم موطن الجراثيم والأوبئة، والدم كما تعلمون محرم أكله، لأن فيه كل الأمراض والجراثيم والأوبئة وما شاكل ذلك، لذلك لابد من أن تؤكل الذبيحة بلا دم، القلب مهمته بعد الذبح إخراج الدم من الذبيحة، لو قطع رأس الذبيحة لانقطع عن القلب الأمر الاستثنائي، القلب ينبض مرتين بأمر نظامي، ثمانون ضربة في الدقيقة، وأمر استثنائي يأتيه من الدماغ، قد تصل ضربات القلب إلى مئة وثمانين، فإذا قطع الرأس قطع عن القلب الأمر الاستثنائي، وأبقي الأمر النظامي، فهذا النبض الضعيف أو النبض البطيء لا يخرج الدم كله من الذبيحة، لذلك النبي أمر بقطع أوداجها من أجل أن يعمل القلب بسرعةٍ كبيرة جداً فيخرج كل دم الدابة من جسمها، عندئذٍ تصبح الدابة مزكاة، لذلك لابد من أجل أن تأكل من لحم دابةٍ لابد من أن تذبح وفق الشريعة الإسلامية، تسمي الله، تكبر عليها، وتذبحها ذبحاً حتى يخرج الدم كله منها.

بعض الأحكام الشرعية المستنبطة من الآية السابقة :

 بعض الأحكام الشرعية المستنبطة من هذه الآية، اتفق العلماء على أن البدنة اسم للواحد من الإبل ذكراً كان أو أنثى كما قلت قبل قليل، تطلق على الإبل باتفاق، وقد اشتهر في الشرع إطلاقها على البعير الذي يهدى إلى الكعبة، واختلفوا هل تطلق البدنة على البقرة باعتبار أنها تجزئ في الهدي والضحية عن سبعةٍ كالبعير على مذهبين المذهب الحنفي أن البدنة تطلق على البقرة، والبدنة أي البقر و الإبل فكلمة البدنة من المشترك اللفظي.
 فمن نذر بدنةً أجزأته بقرة هذا حكم شرعي، أي كفته بقرة فهي مثلها في اللفظ والحكم:

((عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ قَالَ: نَحَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحُدَيْبِيَّةِ الْبَدَنَةَ عَنْ سَبْعَةٍ وَالْبَقَرَةَ عَنْ سَبْعَةٍ ))

[ مسلم عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ]

 وعن ابن عمر أنه قال:

(( لا نعلم البدن إلا من الإبل والبقر))

[ الدر المنثور عن ابن عمر]

 هذا المذهب الحنفي، أما المذهب الشافعي فلا تطلق البدنة بالحقيقة إلا على الإبل، وإطلاقها على البقر من باب المجاز، فلو نذر بدنةً لا تجزئه بقرة، وبهذا قال مجاهد، وبهذا أخذ الإمام الشافعي ودليلهم قول النبي صلى الله عليه وسلم حينما قال:

((تجزئ البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة))

[مسلم عن جابر بن عبد الله ]

 فهذا يدل على أن البدنة شيء والبقرة شيء آخر.
 ما دمنا أيها الأخوة نشرح آيات الإحكام إذاً لابد من استنباط الأحكام الشرعية من هذه الآية.

 

1 ـ البدنة تطلق على البقرة وتطلق على الناقة سواءً بسواء :

 

 الحكم الأول كما قدمت قبل قليل: البدنة تطلق على البقرة وتطلق على الناقة سواءً بسواء، فمن نذر أن يذبح بدنةً أجزأته بقرة، هذا على المذهب الحنفي، أما عند السادة الشافعية فالبدنة شيء والبقرة شيء آخر، تطلق البدنة على الناقة حقيقةً وعلى البقرة مجازاً.

2 ـ الهدي الذي يقدم في الحج تقرباً لله عز وجل لا يكون إلا من النعم :

 الحكم الثاني: أجمع العلماء على أن الهدي الذي يقدم في الحج تقرباً لله عز وجل لا يكون إلا من النعم، من الإبل والبقر، والغنم والماعز، كلمة الأنعام تعني الإبل والبقر والغنم والماعز، والحاج لا يستطيع أن يقدم هدياً إلا من النعم، أما الذكر والأنثى بالنسبة للأضاحي فهو سواء.
 الآن الأفضلية، اتفق العلماء على أن الأفضل أن تذبح الإبل ثم البقر ثم الغنم على الترتيب، لأن الإبل أنفع للفقراء، والبقر أنفع من الشاة وأقل ما يجزئ عن الواحد شاة، أما البدنة فتجزئ عن سبعة، والبقرة تجزئ عن سبعة، أي أنت كفرد لك أن تقدم سبع بدن أو شاة، نحن في موضوع الزكاة نرجح الأنفع للفقراء، كلكم يعلم أن نصاب الفضة سبعة آلاف ونصاب الذهب أربعون ألفاً فعند دفع الزكاة نرجح نصاب الفضة لماذا؟ لأنه أنفع للفقراء، وفي ذبح الأضاحي والهدي الذي يقدم لله عز وجل من الحاج في الحرم الأفضل الناقة ثم البقرة ثم الشاة، أهدى النبي عليه الصلاة والسلام مئة من الإبل وكان هديه عليه الصلاة والسلام هدي تطوع.

3 ـ الأكل من لحوم الهدي :

 الحكم الثالث: الأكل من لحوم الهدي، أمر الله تعالى الأكل من لحوم الهدي في قوله جل ثنائه:

﴿ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ ﴾

[ سورة الحج: 28]

 كلوا منها وأطعموا وهذا الأمر يتناول بظاهره هدي التمتع وهدي التطوع، هدي التمتع: الإنسان إذا أحرم بعمرة ثم تحلل وبقي متحللاً إلى أن جاء يوم الثامن من ذي الحجة أحرم بحج، لأنه أحرم بعمرة وتمتع ثم أحرم بحج عليه هدي جبر، هذا هدي التمتع.
 أما إذا أحرم بعمرةٍ وبقي محرماً إلى الحج نقول له: قارن هديه هدي شكر، يمكن أن تأكل من لحم الهدي إذا كان تمتعاً أو إذا كان شكراً لله عز وجل.

الهدي الواجب بسبب ارتكاب بعض محظورات الحج :

 أما الهدي الواجب بسبب ارتكاب بعض محظورات الحج، هذا اختلف الفقهاء من الأكل منه، رجل لا يسمح له بالحج فاضطر أن يدخل الحرم غير مرتد ثياب الإحرام، هذا عليه هدي، هدي جزاء، العلماء اختلفوا في هدي الجزاء أيؤكل منه؟ اتفقوا على أن هدي التمتع وهدي الشكر يؤكل منه ويطعم منه الفقراء، أما هدي الجزاء فهناك اختلاف في المذاهب، أبو حنيفة النعمان والإمام أحمد يجيزون الأكل من هدي التمتع وهدي القران وهدي التطوع ولا يجيزون أن نأكل من هدي الجزاء، ممنوع الأكل من هذا الهدي، هدي الجزاء للفقراء كله، وقال مالك رحمه الله: يأكل من هدي التمتع والقران والهدي الذي ساقه لفساد حجه أو لفوات بعض واجبات الحج لا ينبغي أن يأكل منه، وجزاء الصيد أيضاً وما نذره للمساكين هذا كله لا يؤكل منه، نأكل من هدي التطوع، من هدي التمتع، وهدي القران.
 الشافعي أيضاً لا يجيز الأكل من الهدي الواجب مثل دم الجزاء، وجزاء الصيد، وهدي التمتع والقران، وإفساد الحج، وكذلك ما كان نذراً أوجبه على نفسه، الشافعي يقدم كله لله عز وجل أما ما كان تطوعاً فله أن يأكل منه ويهدي ويتصدق، فأباح الأكل من هدي التطوع فقط.
 أيها الأخوة: هذه الأحكام المتعلقة بالأكل، أما نحن غير الحجاج إذا كنا في بلدنا نفذنا الأضحية التي أمرنا الله بها، فقد قال عليه الصلاة والسلام:

(( مَنْ كَانَ لَهُ سَعَةٌ وَلَمْ يُضَحِّ فَلا يَقْرَبَنَّ مُصَلانَا ))

[ أحمد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ]

 هذه الأضحية يمكن أن تأكل منها وأن تطعم منها الأصدقاء وأن تطعم منها الفقراء.

 

4 ـ وقت الذبح ومكانه :

 

 الحكم الرابع: وقت الذبح ومكانه، وقت ذبح الهدي يوم النحر وأيام التشريق الثاني والثالث والرابع من أيام عيد الأضحى لقول النبي صلى الله عليه وسلم:

(( كُلُّ عَرَفَاتٍ مَوْقِفٌ وَارْفَعُوا عَنْ بَطْنِ عُرَنَةَ وَكُلُّ مُزْدَلِفَةَ مَوْقِفٌ وَارْفَعُوا عَنْ مُحَسِّرٍ وَكُلُّ فِجَاجِ مِنًى مَنْحَرٌ وَكُلُّ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ ذَبْحٌ ))

[ أحمد عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ]

 فإن فاته وقت ذبح الهدي الواجب قضاءً فإن فات وقته ذبح الهدي والواجب قضاءً وأثم بالتأخير، مكان الذبح سواء أكان واجباً أو تطوعاً هو الحرم لقوله تعالى:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ ﴾

[ سورة المائدة: 95 ]

 ومحله هو الحرم، فيجوز أن يذبح في مكان من الحرم في مكة ومنى وغيرها من حدود الحرم لقول النبي صلى الله عليه وسلم:

(( كُلُّ عَرَفَةَ مَوْقِفٌ وَكُلُّ مِنًى مَنْحَرٌ وَكُلُّ الْمُزْدَلِفَةِ مَوْقِفٌ وَكُلُّ فِجَاجِ مَكَّةَ طَرِيقٌ وَمَنْحَرٌ ))

[ ابن ماجة و الدرامي عن جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ]

تعظيم الهدي والتقرب به إلى الله من شعائر هذا الدين العظيم :

 أيها الأخوة الكرام، هذه الآيات تشير إلى تعظيم الهدي، والتقرب به إلى الله تعالى، لأنه من شعائر هذا الدين العظيم، والهدي والأضحية لا تكون إلا من الأنعام؛ الإبل والبقر والغنم، والأفضل في الإبل ثم في البقر ثم في الغنم، وفي إراقة دماء الهدي نفع للفقير والحصول على مرتبة التقوى لقول الله عز وجل:

﴿ لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ ﴾

[ سورة الحج: 37 ]

 والنسك بالأضاحي فيه إحياء لذكرى الفداء بإسماعيل مع أبيه الخليل عليهما السلام حينما أمر بذبح ولده في المنام.

الآية التالية إحدى آيات الأحكام المتعلقة بذبح الهدي والأضاحي :

 هذه الآية التي قال الله تعالى فيها:

﴿ وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ ﴾

[ سورة الحج : 36-37]

 هذه إحدى آيات الأحكام المتعلقة بذبح الهدي والأضاحي للحجاج ولغير الحجاج، أرجو الله سبحانه وتعالى أن ينفعنا بما علمنا وأن يلهمنا الخير.

 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور