وضع داكن
18-04-2024
Logo
موضوعات فقهية متفرقة - الدرس : 43 - النفقة 1 - وجوب النفقة على المولود.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .

تشريع الأحكام لانتهاء الخصومات :

 أيها الأخوة الأكارم . . . أبحث في كل أسبوع عن موضوعٍ نحن في أَمَسِّ الحاجة إليه قد قلت لكم من قبل أن نوع الأسئلة التي يطرحها الأخوة الكرام تحدد لي أحياناً الموضوعات التي نحن في أمسِّ الحاجة إليها .
 تحدَّثنا في دروسٍ سابقة عن موضوع الطلاق ، وبيَّنت حكم الله عزَّ وجل في الطلاق السنّي ، والطلاق البدعي ، والطلاق المعلَّق ، والطلاق المُنْجَز ، وبعض الأحكام المتعلِّقة فيه ، واليوم ننتقل إلى موضوعٍ حسَّاس وهو موضوعٍ يتصل بالنزعة المادية في الإنسان ألا وهو الإنفاق .
 خصوماتٌ كثيرة بين الأولاد حول على من تجب النفقة . . نفقة الأم والأب على من تجب ؟ يا ترى بالتساوي ؟ يا ترى الأكبر ينفق ؟ يا ترى من هي عنده ؟ . . أو خصوماتٌ كثيرة حول من يجب عليه الإنفاق على الأولاد ؟ هذه الموضوعات يعيشها الناس ويعيش فيها خصوماتٍ كثيرة ، ولكن المؤمن يؤمن أن الله سبحانه وتعالى سنَّ له قانوناً ، وأنزل على نبيّه كتاباً ، وشَرَعَ له شرعاً ، ونهج له نهجاً ، فلماذا شرَّع الله الأحكام ؟ هذا سؤال .
 الحقيقة أن الله سبحانه وتعالى شرَّع الأحكام لتنتهي الخصومات ، وإذا انتهت الخصومات تفرَّغنا جميعاً لمعرفة الله وعبادته ، تصوَّر إنساناً لا توجد في حياته مشكلة ، لم يدخل مرَّة قصر العدل ، ما أُقيمت عليه دعوى إطلاقاً ، لم يضطر لأن يوكِّل محامياً ، كم وفَّر أعصابه ؟؟
 أيها الأخوة . . . ما من مشكلةٍ . . هذه كلمة أعيدها كثيراً . . ما من مشكلةٍ تقع على وجه الأرض إلا بسبب مخالفةٍ لمنهج الله ، ما من مخالفةٍ لمنهج الله إلا بسبب الجهل ، إذاً العدو الأول للإنسان هو الجهل ، يفعل الجاهل بنفسه ما لا يفعله عدوُّه به ، لو قال الجاهل لعدوِّه : افعل بي ما تشاء ، العدو لا يستطيع أن يفعل بهذا العدو كما لو أن العدو كان جاهلاً ، أنا أضرب مثلاً من واقع : مزارع زرع خضرة معيَّنة واشترى لها سماداً ، وهناك تعليمات دقيقة ، هذه التعليمات تنص على أن ذوِّب اثنين كيلو في البرميل ورشَّه ، وهذا المزارع جاهل ، طبعاً المحصول ثمنه أكثر من ثلاثمئة ألف ، وبعد أشهر سيقطفها وسيقبض ثمنها ، فضاعف الكمّيَّة ظنَّاً منه أنه كلَّما ازدادت الكميَّة نما الزرع ، فأحرقها كلَّها ، فلو جاء عدوّه وقطف له بعض الثمار لقاضاه ، ولكن هو بنفسه أتلف هذا المحصول ، هذه قاعدة : الجاهل يفعل بنفسه ما لا يستطيع عدوُّه أن يفعله به ، يا أخوة الإيمان . . . هل في الأرض كلِّها إنسان لا يبحث عن السلامة والسعادة ؟ من يشتهي المرض ؟ من يشتهي الفقر ؟ من يشتهي أن يفقد حرِّيته ؟ من يشتهي أن تُلطَّخ سمعته ؟ من يشتهي أن يكون ذليلاً ؟ من يشتهي أن يكون في مؤخِّرة الرَكْب ؟ والله لا أحد يشتهي ذلك ، ولكن لماذا يقع الناس في شرِّ أعمالهم ؟ من معاصيهم ، لماذا يعصون ؟ لأنهم جاهلون ، لماذا هم جاهلون ؟ لأنهم لم يتعلَّموا ، لذلك طلب الفقه حتمٌ واجبٌ على كل مسلِم .
 هل يجب على قائد المركبة أن يتعلَّم كيف يقودها ؟ طبعاً ، لأنه إذا لم يتعلَّم أهلك نفسه ، مهما كان نوع قائد المركبة ؛ سواء أكان متعلِّماً ، أمّياً ، مثقَّفاً ثقافة عالية ، ملكاً ، أجيراً، لابدَّ من أن يعرف كيف يقودها ، وكيف يتقي المزالق ، وكيف يتقي الحوادث ، وكيف يطبِّق قواعد السير وإلا أهلك نفسه ، فالعلم حتمٌ واجب للسلامة وإلا لابدَّ من أن يهلك الإنسان ، هذه الحقيقة ثابتة . أسمع أحياناً من إخواننا المحامين أنه في المحكمة الفلانية - محكمة النقض - ثمانية ألاف دعوى في أحد فروعها متراكمة من عشر سنوات . . ما من محكمةٍ في القصر العدلي إلا وهي مثقلةٌ بالدعاوى ، لماذا ؟ خصومات ، لماذا الخصومات ؟ لأن أحد الأطراف أراد أن يأخذ فوق حقِّه ، أو أن يأخذ ما ليس له ، أليس هناك قواعد ؟ أليس هناك شرائع ؟ أليس هناك منهج ؟ أليس هناك دستور ؟ نأتي نحن إلى بيت الله عزَّ وجل كي نتعلَّم هذا المنهج ، كي نتعلَّم هذا الدستور ، كي نتعلَّم حكم الله في هذا الموضوع ، لأن المؤمن الحقيقي . .

﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ﴾

[ سورة الأحزاب : 36]

 أحياناً أب ثري يمتنع عن تزويج أولاده ، يقول له : يا بني أنا نشأت عصامياً وأنت عليك أن تكون عصامياً ، هذا الأب لا يعرف منهج الله عزَّ وجل ، فهناك أحكام . . أحكام الإنفاق على الأولاد . . أحياناً تنشأ مشكلة بين الزوج وزوجته ، أو بين الأب وأولاده ، أو بين الأولاد وأبيهم ، أو بين الجَد و أولاد أولاده ، أو بين الأب وأحفاده ، هذه المشكلات أساسها جهلنا بحقيقة الشرع .

الإنفاق :

 لذلك وجدت أن من الموضوعات المهمَّة جداً إضافةً إلى موضوع الطلاق في دروسه الثلاث ، إضافةً إلى موضوع العورة في دروسه الخمس ، إضافةً إلى موضوع الكفالة ، إلى موضوع النذر ، إلى موضوع الوكالة ، هذه الموضوعات الحسَّاسة نحن مسلمون ولنا منهجٌ حكيم من عند خالق الأكوان ، من عند ربِّ العالمين ، والقرآن الكريم فيه كل شيء ، لكن يحتاج فهم القرآن إلى مجتهدٍ يستنبط ، فالفقهاء رضي الله عنهم ورحمهم الله عزَّ وجل سَهِروا الليالي ليستنبطوا الأحكام التفصيلية من الآيات الكليّة . فموضوع النفقة موضوع واسع جداً لا يتسع له درس ولا عشرة دروس ، ولكن وجدت أن من أهم هذه الموضوعات موضوعات نفقة الآباء على أولادهم ، ونفقة الأولاد على آبائهم ، أقرب شيء نفقة الآباء على أبنائهم ، ونفقة الأبناء على آبائهم .
 قال : أولاً : تجب نفقة الأولاد ، الأبوَّة مسؤولية ، كلمة تجب أي فرض ، كيف أنك تصلي يجب أن تنفق على أولادك ، ليس لك خيار ، يا بني أنا أعفكم ، ويسلخهم بكلمات قاسية، لماذا أنجبتهم إذاً ؟ هذا كلامٌ فارغ ، أحياناً الإنسان يبخل بواجبه ، هذا واجب ، الأب حينما اتخذ قراراً بالزواج يجب أن يعلم أن الإنفاق على الأولاد واجب . . والله أعرف رجلاً له زوجة وولدان تركهما وهرب إلى بلدٍ بعيد ، ولا يعرف أبوه عنه شيئاً . . وربنا عزَّ وجل عقابه أليم ، وحسابه عسير ، وبطشه شديد ، انظر إلى كلمة تجب ، النفقة واجبة ، الإنسان ليس له حق أن يبخل بما هو واجبٌ عليه ، دائماً القاعدة أدِّ الذي عليك واطلب من الله الذي لك ، فتجب نفقة الأولاد لقوله تعالى :

﴿وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾

[ سورة البقرة : 233 ]

 وكل أسرة لها مستوى ، مشكلاتنا هي أن أسرة من مستوى معيّن تريد أن ترتفع إلى مستوى أعلى ، لكن دخلها ليس بمستوى هذه الأسرة ، من هنا تأتي المشكلات ، الزوجة العاقلة حينما ترضى بنصيها من ربها ، هذا زوجها ، هذا نصيبها ، هذا هديَّة الله لها ، والزوج هذه زوجته ، هذه نصيبه ، هذه هديَّة الله له ، فإذا رضيت الزوجة أن هذا الزوج هو الزوج الذي اختاره الله لها ، دخله محدود ، لابأس ، الكلمة الشهيرة لسيدنا عيسى : " ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان " طبعاً بلا خبز لا يحيا ، لكن ليس يحيا بالخبز وحده أيضاً ، توجد علاقات ، هناك مودَّة ، وهناك وفاء ، وهناك سعادة زوجية ، هذه أساسها ليس الطعام والشراب فقط إذاً :

﴿وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾

[ سورة البقرة : 233 ]

 دائماً الصحابيّات الجليلات رضي الله عنهن كنَّ يطلبن من أزواجهن : " أننا نصبر على الجوع ولا نصبر على الحرام " ، أي أية امرأةٍ تضغط على زوجها ذي الدخل المحدود لتحمله على شيءٍ لا طاقة له به ، شدَّة الضغط قد تؤدي به إلى أن يأكل مالاً حراماً . . فأنا أعرف شاباً في ريعان الشباب عمِلَ في شركة ، هذه الشركة أحبَّته ، وأكرمته ، واعتنت به ، وأعطته دخلاً يفوق دخل أمثاله ، لكن له زوجة ضغطت عليه ، فهي تريد هذا الثوب وثمنه ثلاثة آلاف وثمانمئة ، ألحَّت عليه ، تريد هذا الثوب ، تريد هذا الثوب ، فصار كل بيعة يضعها في جيبته ، شعر صاحب الشركة أن هناك خللاً في البضاعة ، طبعاً استخدم أسلوباً ذكياً ، أرسل زبوناً وهمياً – خلَّبياً - من طرفه ، قبل أن يأتي واشترى كمية بثمانمئة ليرة ، الساعة الحادية عشرة حضر صاحب الشركة ، ألقى السلام فسلَّموا عليه ، كيف حالك ؟ قال له : الحمد لله ، هل جاء أحد وسأل عني ؟ قال له : لا والله ، هل اشترى أحد شيء ؟ قال له : أبداً ، خير إن شاء الله جلس إلى نهاية الدوام ، وبعد الظهر طبعاً كلَّف هذا المشتري الوهمي أن يأتي بعد الظهر ، فجاء بعد الظهر ليرجع البضاعة ، فلمَّا دخل وقال : أريد أن أُرجِع هذه البضاعة ، قال لي : إن هذا الموظَّف كأنه شمعةٌ تذوب ، فلمَّا أيقن من خيانته صرفه ، وبقي بلا عمل . . هذه الزوجة في حق زوجها مجرمة لأنها لطَّخت سمعته بالوحل ، وحملته على أكل المال الحرام ، وكانت سبباً في طرده من العمل ، لذلك قال عليه الصلاة والسلام :

(( أَعْظَمُ النِّسَاءِ بَرَكَةً أَيْسَرُهُنَّ مَئُونَةً ))

[ أحمد عن عائشة]

 طلباتها متواضعة ، أعظم النساء بركةً أقلَّهنَّ مهراً .

وجوب النفقة على المولود :

 يا أخوة الإيمان . . . أنتم لكم بنات فربُّوهن على الاكتفاء باليسير ، ربوهن على أن لا يحملن أزواجهن فوق طاقتهم ، الحياة صعبة الآن ، وكما قيل : المرأة والولد الصغير يحسبان الرجل على كل شيءٍ قدير ، كسب المال صعب ، لا تجد في المئة إلا أربعة أو خمسة المال سهل بين أيديهم والباقي صعب جداً ، فالإنسان إذا أطعم امرأته مما يأكل ، وألبسها مما يلبس فقد قام بواجبه ، أما أن يأكل شيئاً ويطعمها شيئاً فهذا ظلم شديد .
 إذاً : تجب النفقة على المولود ، أي أن على الأب المولود له ، انظر إلى الدقة في الآية :

﴿وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ ﴾

[ سورة البقرة : 233 ]

 هو الذي أنجب هذا الولد ، هو الذي طلب هذا الولد ، هذا الولد مولودٌ للأب ، نفقة أولاده بسبب الولادة ، كما تجب عليه نفقة الزوجة بسبب الولد أيضاً ، ولقول النبي عليه الصلاة والسلام لهند :

(( خذي ما يكفيكِ وولدك بالمعروف ))

[أبو الفضل الزهري عن أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ ]

 الأولاد الذين تجب نفقتهم في رأي جمهور العلماء هم الأولاد مباشرةً ، كلمة تجب أي فرض ، هم الأولاد مباشرةً وأولاد الأولاد أي الفروع وإن نزلوا قال : فعلى الجد نفقة أحفاده من أية جهةٍ كانوا ، أولاد بناته ، أو أولاد أولاده لأن الولد يشمل الولد مباشرةً وما تفرَّع منه وهو الصحيح ، فهذه النفقة تجب بالجزئية دون الإرث ، إذاً كلمة :

﴿وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ ﴾

[ سورة البقرة : 233 ]

 دخل فيها الأولاد وأولاد الأولاد ، لكن هناك فروقاً دقيقة . أولاً : متى تجب على الأب أو الجد ؟ كلمة تجب أي إن لم يدفع ناله الشرع بالعقاب ، القاضي يحبسه ، الآن المحاكم الشرعية تقول : أوجب القاضي على فلان نفقةً قدرها كذا كل شهر ليس له خيار فيها .
 بالمناسبة : العدل قسري أما الإحسان فطوعي . .

﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ﴾

[ سورة النحل : 90 ]

 العدل قسري لكن الإحسان طوعي ، قال : أول شرط أن يكون الأصل قادراً على الإنفاق بيسار ، ما معنى قادر ؟ أي معه ؛ أبٌ مليء ، أبٌ مقتدر مالياً ، أبٌ ذو يسار ، أبٌ يملك أموالاً طائلة ، فما دام الأب قادراً على أن ينفق على أولاده فنفقته عليهم واجبةٌ شرعاً ، فإذا رُفِع الأمر إلى القاضي عُوقِبْ .

الحاجات الفطرية قلَّما تأتي النصوص لتُلِحَّ عليها :

 لكن سبحان الله هناك شيء يلفت النظر في الإسلام ، أن الشيء الذي رُكِّب في طبع الإنسان قلَّما تأتي النصوص لتُلِحَّ عليه ، كل شيء ركِّب بالطبع . . الآن موضوع دقيق وهو ضمن قوسين . . طبع الإنسان يأكل ، لا يوجد أمر أنه إذا لم تأكل تدخل جهنَّم ، لا تخاف كلهم سيأكلون ما دام الأكل حاجة فطريَّة ، الحاجة إلى الطعام مركَّبة في بُنية الإنسان ، وكما يقول العوام : الجوع كافر ، والإنسان حينما يجوع لا يرى شيئاً ، يختلّ توازنه ، لا يوجد أمر إلهي ، ولا توجد أحاديث تجبر على الطعام ، فإن لم تأكل انتظر عقاباً أليماً ، ولعنةً من الله ، فلا حاجة لذلك سيأكل لوحده . . مرَّة قلت لإنسان : أنا أنصحك نصيحة : لا تقل لأحد يحبك ، قال لي : لماذا ؟ قلت له : لأن المحبَّة عفويَّة ، المحبَّة كماءٍ وضعته في منحدر بحكم الجاذبية سوف ينحدر ، فإن قلت للماء انحدر هو سينحدر لوحده ، هذا كلام ليس له معنى واسمه تحصيل حاصل ، وإن قلت له لا تنحدر ، سوف ينحدر ، لا الأمر بأن ينحدر سوف ينحدر ، وإن أمرته ألا ينحدر سوف ينحدر ، فكلمة انحدر أو لا تنحدر كلام ليس له معنى ، يُقاس على هذا الكلام لا تقل لأحد : أحبَّني لأنك إن كنت كاملاً سيحبك ، وإن كنت ناقصاً لو قال لك : أحبك ألف مرَّة فهو لا يحبَّك من قلبه ، فالحب أساسه الكمال ، كن كاملاً يحبُّك الذين معك ، أي أن الدعوة المتكلِّفة إلى الحب والإلحاح على الحب كلام ليس له معنى ، تحصيل حاصل ، أنت اجعل نفسك محبوباً يحبُّك الناس ، قال له : " يا داود ذكِّر عبادي بإحساني إليهم فإن النفوس جُبِلَتْ على حبِّ من أحسَنَ إليها " .
 إذاً كل شيء مركَّب بطبيعة الإنسان ، الأوامر الإلهية قليلة في هذا الموضوع ، أما كل شيء خلاف الطبع ففيه تكليف .

الطبع و التكليف :

 كنت أقول لكم سابقاً : إن الله عزَّ وجل بنى الإنسان بُنْيَة خاصَّة ، والإنسان يحب الراحة لذلك يوجد أمر بالصلاة :

﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ﴾

[ سورة هود : 114 ]

 الإنسان يميل إلى النوم ولاسيما وقت الفجر فالذي يستيقظ هو مؤمنٌ ورب الكعبة .

(( لَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الْعَتَمَةِ وَالصُّبْحِ لأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا ))

[ أحمد عن أبي هريرة]

 لأنه يخالف هوى نفسه ، يعاكس طبعه ، الاستيقاظ خلاف الطبع ، وأن تبقى في الفراش الوثير الدافئ في أيام الشتاء المطيرة المثلجة ، أن تبقى نائماً هذا وفق الطبع ، لكن التكليف ذو كلفة ، الإنسان . .

﴿وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً ﴾

[ سورة الفجر : 20]

 يحب أخذ المال ، يحب القبض ، وما رأيت في حياتي إنساناً وهو يعد النقود يغفل إنه صاح ، فإذا كان يقوم بعد أوراق ذات الخمسمئة فلا يغفل ، بل تجده شديد الانتباه ، يبحلق فيها ، ويبل أصابعه ويضعها على ريقه ، فالإنسان عند عدّ المال لا ينام أبداً لقوله تعالى :

﴿وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً ﴾

[ سورة الفجر : 20]

 لا تصدِّق إنساناً لا يحب المال ، المؤمن يحب المال ولكن وفق القواعد الشرعية، يحبه من حلال ، يحبه من طريق مشروع ، لا يحب أن يكسب مالاً ويغدر بالناس ، يغشَّهم أو يكذب عليهم ، لا يحب ، يطلب المال الحلال ، لكن إذا إنسان ادَّعى أنه لا يحب المال هو كاذبٌ في دعواه لأن الله عزَّ وجل قال :

﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾

[ سورة آل عمران : 14 ]

 ولولا أن الله سبحانه وتعالى أودع حبَّ المال فينا ما ارتقينا إلى الله ، لأن إنفاق المال أنت تخالف طبعك ، الطبع هو القبض ، والتكليف هو الدفع ، القبض طبع ، الدفع تكليف هذه قاعدة . يا أخواننا الكرام . . . لا نرقى إلى الله إلا إذا خالفنا طبعنا ، بالطبع الإنسان يحب الشيء العاجل ، يقول لك : أريد شيئاً على المقلاية ، منصب رفيع بيومين صار فلاناً الفلاني تحت يده أشخاص كثيرون ، كله يقول له : سيدي ، كلهم يقولون : تأمر ، لم نجد مثل هذا الرأي يا سيدي ، كله نفاق ، فالشيء السريع يذهب ، لكن لكي تدخل الجنة بعد الموت فهذا شيء طويل ، فإذا الإنسان طلب الجنَّة ، طلب الآخرة خالف طبعه لأن طبعه يريد الشيء العاجل . .

﴿تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ * وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ ﴾

[ سورة القيامة : 20-21]

﴿إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً ﴾

[ سورة الإنسان : 27]

 إذاً الطبع تقبض ، التكليف تدفع ، الطبع تنام والتكليف تصلي ، الطبع إذا انذكر إنسان تنهش بعرضه ، يتسلون بقصص غريبة جداً ، إنه عمل هكذا ، وعمل هكذا ، أما التكليف فأن تضبط لسانك في سبيل الله ، فأنت لا ترقى إلا إذا خالفت طبعك ، ما دام الإنسان يمشي مع طبعه يتكلَّم ، لا يوجد قيد على لسانه ، ولا يوجد قيد على بصره كلَّما رأى منظراً ينظر إليه ، يملأ عينيه من الحرام ، وكلَّما جلس مجلساً يتكلَّم ما يعرف حقَّاً كان أو باطلاً لكي يسلِّيهم ويضحكهم ، هذه :

((إِنَّ عَمَلَ النَّارِ سَهْلٌ بِسَهْوَةٍ ))

[ أحمد عن عبَّاس ]

 عملية استرخاء .

برُّ الأبناء للآباء تكليف وليست طبعاً :

 لذلك انتقلنا من أنه قَلَّما نجد في الشرع أوامر مركَّبة في بنية الإنسان ، لكن برُّ الأبناء للآباء تكليف ، هذا الابن شاب في ريعان الشباب وله زوجة شابَّة ، وأمه كبيرة في السن أي إنها صارت عبئاً عليه ، عقلها من غير عقله ، لها مداخلات وملاحظات ومسيطرة فأصبحت عبئاً عليه ، فزوجته مصدر متعة أما أمه فعبء ، لذلك جاءت الأوامر :

﴿إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً﴾

[ سورة الإسراء : 23-24]

 إذاً نحن نرقى متى ؟ نرقى حينما نخالف طباعنا ، لكن مخالفة الطباع تتفق مع فطرتنا ، عندما تخالف طبعك وتطيع ربك تطمئن نفسك وترتاح فطرتك ، إذاً أوامر الشرع تتناقض مع الطبع وتتوافق مع الفطرة ، الفطرة مصمَّمة على الإيمان بالله ، مصمَّمة على طاعته، مصمَّمة على التوكُّل عليه ، مصمَّمة على الإقبال عليه ، مصمَّمة على الاحتماء بحماه، هذه هي الفطرة ، فأنت بالشرع تخالف طبعك كي تشعر أنك قدَّمت شيئاً ثميناً ، فمثلاً : لو أن شاباً ليس في نفسه حبٌّ للفتيات ، ما قيمة غضِّ بصره ؟ يمكن غض بصر الشاب مضروب عند الله بمليون ضعف لأن هذا سن الشهوة ، سن الحيوية ، سن الانطلاق ، سن البحث عن كل شيء جميل ، فلمَّا يغض بصره : " إن الله ليباهي الملائكة بالشاب المؤمن يقول: انظروا عبدي ترك شهوته من أجلي "، عجب الله من شابٍ ليست له صبوه ، أي شاب من مسجد إلى مسجد ، من درس إلى درس ، قرآنه بين جوانحه ، يحفظ القرآن ، يعلِّم القرآن ، يقيم شرع الله ، يؤثر مجالس العلم ، فتوجد مجالس علم ليس فيها مقاعد وثيرة ، ولا توجد ضيافة، ولا توجد مناظر جميلة ، بيت ولكن فيه روحانية وطهر ، فيه وجهة إلى الله عزَّ وجل ، فالشاب هذا الذي ترك بيته ، جالس مع أهله ، الغرفة دافئة فترك بيته وركب الباصات في المطر ، لماذا جاء ؟ قال :

(( مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ ))

[ الترمذي عن أبي هريرة ]

 هذا طريق الجنَّة . .

((إِنَّ الْمَلائِكَةَ تَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ))

[ الترمذي عن زر بن حبيش]

وجوب النفقة على الأب إذا كان قادراً على الإنفاق :

 إذاً الأب لا تجب عليه النفقة إلا إذا كان قادراً على الإنفاق أي إنه غني ، أو قادر على الكسب ، بيده صنعة ، فلمَ لا يشتغل ؟ القاضي يعاقبه ، إما أن تكون قادراً ، وإما أن تكون مكتسباً ، لذلك النبي الكريم قال :

(( لا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ وَلا لِذِي مِرَّةٍ سَوِيٍّ ))

[ النسائي عن أبي هريرة ]

 شاب في ريعان الشباب يتسوَّل ؟ أعوذ بالله ، سألوا متسوِّلاً فقالوا له : أنت حالتك الماديَّة جيدة جداً فلماذا تتسوَّل ؟ قال له : قضية مبدأ ، الرجل صاحب مبدأ . فيجب أن يكون غنياً وقادراً على الكسب قال : عندئذٍ وجبت عليه نفقة أولاده فينفق عليهم من ماله ، أحياناً يوجد آباء إذا أولاده أكلوا يتضايق ، فوراً انتهت الأكلات ، طوِّل بالك هم في سن النمو ، الآباء الكاملون يفرحون إذا أكل أولادهم الطعام ، يوجد آباء يشعر كأنه هو أكل الطعام ، عندما رأى النبي امرأة تأخذ شقِّ تمرةٍ تضعها في فم ابنتها النبي بشَّرها بالجنَّة ، فالأبوة عطاء ، الأبوة تضحية ، والله توجد أمهات يحرمن أنفسهن الطعام من أجل أولادهن ، هذا الإنسان الكامل .
 إنسان ذهب إلى فرنسا في دورة تدريبية فقال لي : أنا لغتي الفرنسية ضعيفة ، فأردت أن أتدرب ، فوقفت على نهر السِين فرأى شاباً مهموماً ويفكر ، فقال لنفسه سوف أتكلَّم معه لأستفيد ، فقال له : لماذا أنت هكذا ؟ قال لي : إنه تنهَّد تنهيدة تنم عن حرقة القلب ، وقال له : آه ، لا أتمنى إلا أن أقتل أبي ، قال له : لماذا ؟ قال له : لأنني أحبُّ فتاةً فأخذها مني . هذا هو المجتمع ، انظر إلى مجتمع المسلمين تجد الأب طول وقته يفكِّر في تزويج أولاده ، يؤمن لهم بيتاً ، والله هناك آباء مقدَّسة همه الأول أن يزوج أولاده ، يؤمن لهم بيتاً ، لا تقرّ عينه إلا إذا تزوَّج أولاده واستقرّوا في بيت ، واستقاموا ، هذا الأب المثالي ، فنحن الحمد لله في نعم كُبرى .

بطولة الإنسان أن يكون له عمل مشروع ليكون مثلاً أعلى :

 قال : إن لم يكن لديه مال وكان قادراً على الكسب وجب عليه الاكتساب ، أي ليس له اختيار ، بيده مصلحة ، بيده حرفة ، يوجد أناس يقولون عنه : الملح بشغله ، كسول يميل إلى الراحة . . علو الهمَّة من الإيمان . . مرَّة مسك النبي الكريم يد بعض الصحابة وهو سيدنا ابن مسعود فرآها خشنة ، توجد أيد ناعمة ، يوجد مجتمع مخملي من كثرة الرفاه ، فالنبي الكريم أمسكها ورفعها وقال : " إن هذه اليد يحبُّها الله ورسوله " ، سيدنا عمر يقول : " إني أرى الرجل ليس له عمل فيسقط من عيني" . سيدنا أبو حنيفة كان له عمل ، سيدنا الشافعي كان له عمل ، سيدنا ابن حنبل كان له عمل ، سيدنا الصديق كان بزَّازاً أي بائع أقمشة ، سيدنا أبو عبيدة كان قصَّاباً ، فالبطولة أن يكون لك عمل لتكون مثلاً أعلى .
 والله مرَّة شخص قال لي عن حاله ، يبدو أن عمله غير مشروع ، له عمل مبني على إيذاء الناس ، ومع أنه يعيش في حياة وبحبوحة فوق حدّ الخيال ، قال لي : أنا عملي قذر، وبعد هذا تفلسف فقال لي : أنا عملي اسمه "ديرتي ورك " أي العمل القذر ، في اليوم الثاني زرت أخاً يصلِّح سيارات فرأيته منبطحاً تحت السيارة والدنيا مطر ووحل ، لابس أفرول كان لونه أزرق ، صنعته متقنة وأجره معتدل ، والله صدر مني كلمة فقلت : هذا العمل نظيف جداً ، هذا العمل من الداخل ألماس ، أن يقدِّم خدمات جيدة ومتقنة بأجر معقول ، إنه يخدم المسلمين وهذا يلقى الله بهذا العمل .
 يا أخوان . . . كلمة دقيقة : كل واحد منَّا يستطيع أن يدخل الجنَّة بعمله المهني فقط ، فقط بعملك المهني إذا أتقنته ، وأخلصت فيه ، وخدمت به المسلمين ، وكان مشروعاً في الأصل ، ومارسته بطريقة مشروعة ، ولم يشغلك عن مجلس علم ، ولا عن فرض صلاة ، ولا عن واجب ديني ، هذا العمل برمَّته ، بتفاصيله ، بحساباته ، بمتاعبه ، بشحن البضاعة ، باستقبال البضاعة ، بتحصيل الذمم ، هذا العمل بإجماله صار عبادة ، لأنك نويت خدمة المسلمين ، لا أحد يعمل بلا أجر .
 حرفتك ، طبيب على العين والرأس ، مهندس ، محام ، مدرِّس ، تاجر ، صاحب معمل ، صانع ، موظَّف ، أي حرفة ، بهذه الحرفة بإمكانك أن تلقى الله بها لأنك تخدم المسلمين ، كان السلف الصالح عندما يفتح المحل التجاري ، وهو يفتح بالمفتاح ويرفع الغلق يقول : نويت خدمة المسلمين . . يا عيني . . كل هذا النهار صار عملاً صالحاً ، لا يوجد إنسان منكم ليس لديه حرفة ، بإمكانه أن يرقى عند الله إلى أعلى المراتب من خلال حرفته فقط إذا نصح الأمَّة ، نصح المسلمين ، ما كذب ، ما غش ، مرَّة إنسان باع طقم كنبات لإنسان آخر فهذا الذي اشتراه فرح به كثيراً ، وضعه وعزم أصدقاءه ، أول ما جلس عليه واحد منهم خفس ، ذهب إلى البائع فقال : ما هذا ؟ فقال له : هل جلستم عليه ؟ والله حدَّثني أخ اشترى غرفة نوم رأى عِرْقاً أخضر ظهر منها ، نبتة ، لأن الخشب غير صحيح به ماء وغير مجفف فرأى عِرْقاً أخضر ظهر منها ، فلذلك يمكن أن ترقى إلى الله بحرفتك .
 معلِّم ، هؤلاء الأولاد أمانة عندك ، طبيب هذا المريض ، تنظر إلى الطبيب تجده مسروراً لأن هذه المهنة راقية ، تستطيع أن تأخذه وتحضره مئة مرَّة وكل مرَّة بمئتي ليرة ، لا يعرف ، تقول له : يجب أن تراجعني ، تستطيع أن تقول له : يلزمك تخطيط ، ولا يوجد حاجة للتخطيط ، التخطيط بخمسمئة ، ساعة يلزمك إيكو ، وساعة تخطيط ، تستطيع لأن المريض لا يعرف ، هو مستسلم لك ، ولكن من الذي يراك ؟ الله عزَّ وجل ، وهو الذي يعرف ، هذا لا يلزمه تخطيط فلماذا جعلته يدفع خمسمئة ؟ ألم تر حاله وعمله موظَّف لا يكفيه معاشه !! الإنسان لا يرقى عند الله بالصلاة والصوم بل إنه يرقى عند الله بالمعاملة الطيبة ، عندما ينظر إلى الناس على أنهم كلهم عباد الله ، كلهم الله يحبهم فأنا أتقرَّب إلى الله بخدمتهم فقط ، هذا جوهر الدين ، إذا الإنسان فعل هذا وضع يده على جوهر الدين ، كل هؤلاء الناس عباد لله . .

(( الخلق كلهم عيال الله وأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله ))

[البيهقي عن عبد الله ]

 مرَّة أخ محام من أخواننا الكرام شكا لي ، جاءه شخص فقال له : أريد القضية الفلانية ، قال له : هذه فيها قانون عفو إنك تحتاج لكتابة طلب استدعاء فقط وطابع وتنتهي، القانون يشملك حكماً ، يبدو أنه سأل محامياً فقال له : إيَّاك ، سيجعلونك تدفع عشرين ألفاً ، أخافه حتى ابتزَّ منه أموالاً طائلة واتهم زميله أنه لا يفهم ، غشيم ، كان روَّحك ، الحمد لله أن الله هداك لعندي . حياتنا مبنية على الكذب ، إذا كنا لم نكذب وصدقنا ما كانت كلمتنا هي السفلى ، لو كنَّا نحب بعضنا لكانت كلمتنا هي العُليا ، الله لا يحبنا نغش بعضنا بل يحبنا نكون صادقين .
 إذاً الأب تجب عليه النفقة إذا كان غنياً أو إذا كان قادراً على الكسب ، لذلك الكسب واجب بحق الآباء ، يجب أن تفتح محلاً وتتاجر ، تعمل ورشة وتشتغل ، تتوظَّف ، لا يجوز أن تجلس وأنت عندك أولاد ، وهذا حق أولادك ، قال : إلا إذا كان معسراً بحيث تجب نفقته على غيره ، وكان عاجزاً عن الكسب ، فقير وعاجز عندئذٍ فلا نفقة عليه ، أبٌ فقيرٌ عاجزٌ عن الكسب لا نفقة عليه .

الابن الفقير العاجز عن الكسب تجب له النفقة :

 الآن الشرط الثاني : أن يكون الولد فقيراً معسراً لا مال له ، ولا قدرة له على الاكتساب ، أي بالعكس ، الأب القادر على الإنفاق وعلى الاكتساب تجب عليه النفقة ، والابن الفقير العاجز عن الكسب وعن القدرة المالية تجب له النفقة ، أما إذا كان للابن مال يكفيه وجبت نفقته في ماله ، أحياناً ابن له دخل ويخبِّئه ، الأب ليس ميسوراً زيادة ، لا ينتبه إلى هذه الناحية ، أنت ما دام صار لك دخل إذا يجب أن تساهم بالمصروف ، هذه النقطة دقيقة ، إذا الأب ليس غنياً وأنت لك دخل ما دام للابن دخل فيجب أن يُسْهِم في المصروف ، لأنه إذا كان الابن له مال يكفيه وجبت نفقته في ماله لا على أبيه ، وإذا كان الابن ليس له مال ولكنه قادر على الكسب ولا يعمل ، يستيقظ في الساعة الثانية عشرة ، أين الأكل ؟ يأكل وحيداً ، يقلي عشر بيضات بالسمن بلدي ، يريد أن يأكل لوحده لكي يتهنَّى ، وينام إلى الظهر ، ومساءً كل يوم عنده سهرة ، وهو شاب قوي ، وأعطوني ، هذا لا يجوز ، إذا كان الابن معه مال فنفقته في ماله إذا كان ليس له مال وقادر على الكسب يجب أن يكتسب ، هكذا السُنَّة .

من له مسكنٌ يسكنه يكون فقيراً لأن الإيواء في البيت ضرورة حياتية :

 لكن توجد نقطة مهمَّة جداً ، قال : من له مسكنٌ يسكنه وليس معه ما يأكل فهو فقير لأنه غير معقول أن تبيع بيتك وتصرفه ، أين ستسكن ؟ أخي هذا معه نصاب لأن ثمن بيته ثلاثة ملايين ، الآن بيت مساحته تقدر بتسعين متراً وثمنه ثلاثة ملايين ونصف ، بيت شمالي ، تسعون متراً ، ثمنه ثلاثة ملايين ، يا أخي هذه معه ثلاثة ملايين ، إنه ساكن فيهم ، فإذا إنسان ساكن في بيت ، هذا البيت لا يجعله غنياً ولو صار ثمنه مئة مليون ، هذا البيت مأوى لابدَّ منه ، فهنا من له مسكنٌ يسكنه يكون فقيراً لأن الإيواء في البيت ضرورة حياتية فلا يؤمر أن يبيع بيته ليأكل ، هذا ليس وارداً .

الولد الصغير العاجز عن الكسب تجب نفقته على أبيه :

 الولد العاجز عن الكسب تجب نفقته على أبيه ، من هو العاجز ؟ قال : الصغير . والله سمعت قصَّة من يومين ، يفتح الأب إلى ابنه الباب وابنه عمره ثماني سنوات ، إذا لم يحضر بمبلغ معين يطرده ويقول له : اذهب ونم في الخارج ، يجعله يبيع مسكة ، كبريت ، يبيع دخَّاناً ، الطفل الصغير يجب ألا يشتغل بل يجب أن يتربَّى ، يتعلَّم ، كل إنسان يقحم ابنه للعمل قبل سن معقول يكون في حقه مجرماً ، لأن المجتمع كيف يرى طفلاً مثل الوردة تنزِّله إلى السوق ؟ يمكن أن تنحرف أخلاقه ، يمكن أن يتعلَّم عادات سيئة ، يتعلَّم كلمات بذيئة ، يصير شخصاً مضغوطاً ، فلذلك الطفل في الصغر يُعَدُّ عاجزَّاً عن الكسب .

نفقة الأنثى على أبيها إلى أن تتزوج :

 أما إذا بلغ الشاب حد الكسب وصار عمره ثماني عشرة سنة ولم يشتغل ، الأب يجب أن يجبره على الشغل ، سبحان الله ! قال : إلا الأنثى لأن الأنثى لو أُجبرت على العمل ، وفي العمل اختلاط بالرجال لكان خطراً على عفَّتها ، لذلك الأنثى نفقتها على أبيها إلى أن تتزوَّج . . سمعت عن فتاة في بلد أجنبي جاءت فرأت أمتعتها خارج الغرفة ، والغرفة لأبيها ، لأن الأجرة قليلة وجاءه مستأجر ودفع أكثر فرماها في الطريق . . حينما تُرمَى الأنثى في الطريق أغلب الظن أنها تنحرف انتقاماً من أهلها ، هل تعلمون أن القاضي لا يأتي أحداً ، يجب أن يأتيه كل الناس ، أنت عليك شهادة في محكمة ، لابأس ، اجعله يحضر إليّ ويشهد أمامي ، هذه غير واردة إطلاقاً ، القاضي يؤتى ، قال : إلا أن هناك شخصين في الأمة هو يأتيهم : الأمير رئيس الدولة والمرأة المسلمة تؤتى في بيتها وتؤخذ شهادتها في البيت لقداستها ، المرأة مقدَّسة ، " أول من يهُزُّ حِلَقَ الجنَّة أنا - أول إنسان يمسك حلقة الجنَّة أنا - أول من يهُزُّ حِلَقَ الجنَّة أنا فإذا امرأةٌ تنازعني تريد أن تدخل الجنَّة قبلي ، قلت : من هذه يا جبريل ؟ قال هي امرأةٌ مات زوجها وترك لها أولاداً فأبت الزواج من أجلهم " هذه امرأةً تنازع النبي عليه الصلاة والسلام، طبعاً هذا تعبير رمزي ، أن لها مكانة عند الله ربَّما دخلت الجنَّة لفضلها عند الله عزَّ وجل قبل كل الناس ، حتى أنها تنازع النبي دخول الجنَّة .
 فتعلمون دائماً أيها الأخوة أن المرأة كالرجل في التكليف ، وفي التشريف ، مكلَّفةٌ كالرجل ، مشرَّفةٌ كالرجل ، أما الأنثى فأنثى ، والذكر ذكر لقوله تعالى :

﴿وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى﴾

[ سورة آل عمران : 36]

 فإذا خرجت عن دائرتها فسدت وأَفْسَدَت ، حينما تقع المرأة في مواقع الرجال تَفْسُد وتُفْسِد ، فالصغر علَّة العجز عن الكسب ، الصغير عاجز ، العلماء أجازوا أن تتعلَّم الخياطة مثلاً تتعلَّم الغزل ، تتعلَّم صنعة ليس فيها خطر على أنوثتها ولا على عفَّتها ، إذا كان للانثى عمل كالخياطة وفي بيتها ، ولا يوجد اختلاط مع الرجال وكسبت مال ، وأبوها دخله محدود قال: عندئذٍ تجب نفقتها في مالها .

حالات نفقة الأب على الولد الكبير :

 يوجد عندنا موضوع الولد الكبير ، أي إنه طويل عريض ، شاب قوي عتيد ، طويل عريض هذا ولد كبير قال : لا تجب نفقته على الأب إلا في حالات .
 أولاً : إذا كان عاجزاً عن الكسب لآفةٍ في عقله ، أو آفةٍ في جسمه ، إما في عقله توجد آفة أي جنون أو عُته ، أو آفة في جسمه أي شلل أو عمى ، أو يده مقطوعة ، أو كان طالباً للعلم ، ولو كان عمره خمساً وثلاثين سنة ، ولكن لقدسية العلم تجب نفقته على أبيه ، الذي عنده ابن طالب علم ولاسيما طالب علمٍ شرعي يجب أن ينفق عليه من أصل ماله وليشكر الله على ذلك ، أي أن أي أب عنده طالب علم شرعي لو أعطاه ربع دخله موفِّية معه ، لأنه أفضل عمل تفعله على الإطلاق أن يكون لك من بعدك ولدٌ صالحٌ يدعو إلى الله .
 فلذلك إما عنده عجز في عقله ، أو في جسمه ، أو عنده طلب للعلم ، ولو كان كبيراً في الثالثة والعشرين ، أو الخامسة والعشرين ، أو الخامسة والثلاثين تجب نفقته على أبيه .

تلخيص لما سبق :

 العامل الأول في الصغر ، الثاني الأنوثة ، البنت عاجزةٌ عن الكسب مهما كان سِنُّها ونفقتها على أبيها إلى أن تتزوَّج ، فإذا طُلِّقت عادت النفقة على أبيها حفاظاً على شرفها ، وعلى عفَّتها، وعلى طهارتها ، وعلى سمعتها ، لأن العمل في أغلب الأحيان مظنة اختلاط بالرجال ، وعندما يختلط الرجل بالأنثى في العمل يجوز أن يكون له سلطة عليها ، بجوز أن يجبرها على شيء لا يرضي الله عزَّ وجل ، يمكن أن يتخذها خليلة بحكم أن له سلطة عليها في العمل ، فلذلك العمل المقبول هو العمل الذي لا يمسُّ عفافها ولا شرفها ، ولا مكانتها ، مثل التعليم أحياناً، التمريض أحياناً بحيث لا يوجد اختلاط مع الرجال ، أو خياطة مثلاً .
 المرض المانع من العمل ، يوجد مرض يمنع من العمل كالعمى والشلل والجنون.

وجوب رعاية طلاب العلم ولا سيما الغرباء :

 طالب العلم أيضاً يعدُّ عاجزاً عن الكسب ، لأن هذا العالم بأمَّة ، كلكم تعلمون أنه عندما جاء للنبي الكريم شريك يشكو شريكه ويقول له : إنه لا يشتغل ، إنه يأخذ النصف ولا يشتغل ، قال له : ماذا يفعل ؟ قال له : إنه يطلب العلم ، قال له : لعلَّك تُرْزَقُ به ، لأن طالب العلم يطلب العلم لغيره لا لنفسه ، أما العابد فالنبي نهى أي إنه لم يكن مرتاحاً ، قال له : من يطعمك ؟ قال له : أخي ، قال : أخوك أعبد منك ، في العبادة المكتسب أرقى من العابد ، لكن طالب العلم المكتسب إذا أنفق عليه له أجر كبير ، ربَّما كان شريكه في أجره ، إذا إنسان أنفق على الثاني ، يكون ابن أحياناً والأب ليس متعلِّماً ، محروق قلبه أنفق على ابنه حتى أصبح عالماً ، أنا لا أبالغ ولا أزيد ، كل هذه الدعوة وكل هذا العلم في صحيفة الأب لأنه هو المنفِق ، كل إنسان أنفق على طالب علم صار شريكه في الأجر ، إذا كان طالب علم غريب .
 وأنا أبشركم أن هذه الشام على مستوى العالم الإسلامي تعدُّ البلدة الأولى في العالم الإسلامي في رعاية طُلاَّب العلم ، وطلاب العلم في إفريقيا وفي آسيا و في أي مكان في العالم يؤثرونها على أي بلد إسلامي آخر ، على مصر وعلى الحجاز ، فنرجو الله أن نكون أهلاً لرعاية هؤلاء الطلاب ، الذي له جار طالب علم من بلد بعيد يجب أن يُشْعِرَه أنه بين أهله هذه هي السُنَّة .
 حدَّثني أحد العلماء ، طالب تركي تعلَّم في الشام عند عالِم جليل ، فهذا العالِم طبعاً وكَّل فيه بعض تلاميذه المتفوقين فعلَّموه ، فتلاميذه الذين علَّموه نادموه ذات مرَّة أنك إذا ذهبت إلى تركيا وسألوك من شيخك ؟ فلم يذكرهم بل إنه ذكر شيخه الأصلي الذي علَّمهم ، قالوا له : لم يعلِّمك ، فقال لهم : أنتم من الذي عرَّفكم ؟ أنا شيخي فلان . . القصَّة ليست هنا . . إنه يقول : بعد خمس أو ست سنوات طُرِقَ باب الشيخ ففتح فوجد أمامه بولمان فيه خمسين ، وبولمان آخر فيه خمسين ، كلهم طلاب لهذا التلميذ الذي كان طالباً لهذا الشيخ ، فدخل مئة طالب علمٍ يتجهون إلى الحج ، مرَّ على شيخه وهؤلاء سلَّموا على شيخه جميعاً ، مئة طالب علم ، مئة داعية ، فأنت عندما تعلِّم طالب علم ، عندما ترعى طالب علم ، تؤمِّن له مسكناً ، تؤمن له طعاماً ، تؤمن له رعاية ، عطفاً ، أحياناً دفئاً اجتماعياً ، أن أنت بين أهلك ولست غريباً .
 مرَّة كنّا في حفلة لإخواننا الصينيين والأتراك في رمضان الماضي فقام أحد الإخوان من الأفارقة وخطب فقال : نحن أجانب ، فقال له : لا أنت لست أجنبياً أنت بين أهلك . . فأنا أحب من إخواننا الذين لهم جيران أقرباء ، أخ كريم من إفريقيا ، من آسيا ، من الصين ، والله يحضرون من أقصى الدنيا ، مرَّة أحببت أن أداعب صينياً فقلت له : أنت بحقك الحديث : اطلبوا العلم ولو بالشام نحن ولو بالصين ، أنت ولو بالشام ، جاء وترك اثني عشر ألف كيلو متراً خلفه لكي يتعلَّم ، يتكلَّم العربية بطلاقة ، فهذا طالب العلم نفقته تعدُل أضعافاً مضاعفة ، لأن كل علمه أنت لك فيه أجر ونصيب ، لو ذهب إلى بلده وصار داعية كبيراً ، صار خطيب مسجد ودعا إلى الله هذا كله في صحيفتك ، فلذلك رعاية طلاَّب العلم واجبة ولاسيما الغرباء .
 لكن هناك شرطاً ألا يكون كسولاً ، قال : بشرط أن يكون مجدَّاً ناجحاً ، أما إذا كان سينجح جراً، كله دون الوسط ، وكلَّه شحط ، وكلَّه مع المساعدة ، يعمل أي صنعة أريح له ، يجب أن يكون متفوِّقاً لكي يكون ألمعياً .

تعلق النفقة بالميراث :

 الشرط الرابع : ألا يختلف الدين ، إذا اختلف الدين اختلف التوارث ، يوجد وريث مع اختلاف الدين ؟ لا يوجد ، الله عزَّ وجل ماذا قال ؟ قال :

﴿وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ﴾

[ سورة البقرة : 233 ]

 فاستنبط العلماء أن النفقة متعلِّقة بالميراث ، فإذا امتنع الميراث امتنعت النفقة ، هذا مذهب واحد ، وثلاثة مذاهب على أن نفقة الآباء على الأبناء واجبة ولو اختلف الدين ، إلا الحنابلة قال : يجب أن يتحد الدين وإلا لا يجب ، نحن الحديث عن الوجوب فقط ، أما الإنفاق من دون وجوب فبحث آخر .

خاتمة :

 إن شاء الله في درسٍ قادم نتحدَّث : من تجب عليه نفقة الأولاد ، نحن تحدَّثنا أن الأب إذا كان قادراً على الإنفاق أو قادراً على الكسب عليه أن ينفق على أولاده ، فإذا كان الابن فقيراً أو عاجزاً عن الكسب يستحق النفقة ، وإذا كان صغيراً يستحق النفقة ، والأنثى لا تكلَّف بالعمل ولو بلغت سن الكسب حفاظاً على مكانتها . أنا ذكرت بعض الحِرَف في عمل المرأة لكن لا أقصد حرفة فيها اختلاط مع الرجال ، الاختلاط مفسدة محقَّقة ، فإذا وجدت حرفة ، المرأة تعمل في بيتها بالخياطة ، تريكو ، حبكة مثلاً ، تفصيل لا يوجد مانع ، تعمل عملاً لا يوجد فيه اختلاط إطلاقاً ، إذا لا يوجد اختلاط فلا توجد مشكلة ، أما إذا كان هناك اختلاط فالاختلاط مظنة الفساد ، وأعظم عمل للمرأة أن تكون مربّية لأولادها . .

الأم مدرسةٌ إذا أعددتها  أعددت شعباً طيّب الأعراق
***

 فإذا قلنا للطيار : أنت هنا محبوس في غرفة اذهب واجلس مع الركَّاب ، تسقط الطائرة كلها ، هذا أخطر عمل عمله ، هذا ليس حجزاً هذا مركز قيادة ، بقاء الأم في بيتها هذا مركز قيادة .
 " أيما امرأةٍ قعدت على بيت أولادها فهي معي في الجنَّة" ، هذه الملازمة ، قال لي إنسان : والله من شهر زوجتي ما خرجت من البيت وهي في رعاية أولادها ، وتحفيظهم ، وتنظيفهم ، وتوجيههم ، وتربيتهم ، " أيما امرأةٍ قعدت على بيت أولادها فهي معي في الجنة " .
 فأنا عندما ذكرت عملاً طبعاً لأنه حق ، لا أقصد العمل الذي فيه اختلاط ، الاختلاط فيه فساد قولاً واحداً ، أما إذا كان العمل لا يوجد فيه اختلاط ، ولا يأتي على المرأة بشبهة إطلاقاً فتكسب لتطعم أولادها اليتامى و لها عند الله أجرٌ عظيم .
 نتابع هذا الموضوع في درس آخر إن شاء الله تعالى ، ألا ترون معي أن هذا الموضوع نحتاجه جميعاً ؟ موضوع النفقة ، لأن أكثر المشكلات والخلافات حول الإنفاق .

 

تحميل النص

إخفاء الصور