- ٠4كتاب مقومات التكليف
- /
- ٠5المقوم الرابع - التشريع
القرآن هدى وبيان , وموعظة وبرهان , ونور وشفاء , وذكر وبلاغ , ووعد ووعيد , وبشرى ونذير , يهدي إلى الحق , وإلى الرشد , وإلى صراط مستقيم , يخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد , يحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه , فيه تبيان لكل شيء , وهو شفاء لما في الصدور.
جاء في الحديثِ الشريفِ عَنْ الْحَارِثِ قَالَ
مَرَرْتُ فِي الْمَسْجِدِ، فَإِذَا النَّاسُ يَخُوضُونَ فِي الْأَحَادِيثِ، فَدَخَلْتُ عَلَى عَلِيٍّ فَقُلْتُ:يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَلَا تَرَى أَنَّ النَّاسَ قَدْ خَاضُوا فِي الْأَحَادِيثِ ؟ قَالَ:وَقَدْ فَعَلُوهَا ؟ قُلْتُ:نَعَمْ، قَالَ:أَمَا إِنِّي قَدْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ يَقُولُ:
(( أَلَا إِنَّهَا سَتَكُونُ فِتْنَةٌ، فَقُلْتُ:مَا الْمَخْرَجُ مِنْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ:كِتَابُ اللَّهِ، فِيهِ نَبَأُ مَا كَانَ قَبْلَكُمْ، وَخَبَرُ مَا بَعْدَكُمْ، وَحُكْمُ مَا بَيْنَكُمْ، وَهُوَ الْفَصْلُ لَيْسَ بِالْهَزْلِ، مَنْ تَرَكَهُ مِنْ جَبَّارٍ قَصَمَهُ اللَّهُ، وَمَنْ ابْتَغَى الْهُدَى فِي غَيْرِهِ أَضَلَّهُ اللَّهُ، وَهُوَ حَبْلُ اللَّهِ الْمَتِينُ، وَهُوَ الذِّكْرُ الْحَكِيمُ، وَهُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ، هُوَ الَّذِي لَا تَزِيغُ بِهِ الْأَهْوَاءُ، وَلَا تَلْتَبِسُ بِهِ الْأَلْسِنَةُ، وَلَا يَشْبَعُ مِنْهُ الْعُلَمَاءُ، وَلَا يَخْلَقُ عَلَى كَثْرَةِ الرَّدِّ، وَلَا تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ، هُوَ الَّذِي لَمْ تَنْتَهِ الْجِنُّ إِذْ سَمِعَتْهُ حَتَّى قَالُوا:( إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ )، مَنْ قَالَ بِهِ صَدَقَ، وَمَنْ عَمِلَ بِهِ أُجِرَ، وَمَنْ حَكَمَ بِهِ عَدَلَ، وَمَنْ دَعَا إِلَيْهِ هَدَى إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ))
وهو مصدرٌ رئيسٌ لمعرفةِ اللهِ عز وجل، فالقرآنُ كلامُه، ومن خلالِه نعرف اللهَ عن طريقِ التدبُّرِ ؛ والسماواتُ والأرضُ خَلْقُه، ومن خلالهما نعرف اللهَ عن طريقِ التفكّرُ، والحوادثُ أفعالُه، ومن خلالِها نعرف اللهَ عن طريقِ النظرِ، والتأمّلِ.
حينما يقتني أحدُنا آلةً بالغةَ التعقيدِ، غاليةَ الثّمنِ، ذاتَ نفعٍ عظيمٍ تراه حريصاً حرصاً لا حدودَ له على اقتناءِ الكُتيِّبِ الذي تصدِرُه الجهةُ الصانعةُ، والذي يتضمَّنُ طريقةَ الاستعمالِ، وأسلوبَ الصيانةِ، فهو حريصٌ على اقتناءِ هذا الكُتيِّبِ، وعلى ترجمتِه وفهْمِه، وتنفيذِ تعليماتِه بدقّةٍ بالغةٍ، وهذا الحرصُ نابعٌ من حرصِه على سلامةِ هذه الآلةِ، وعلى مستوى مردودِها.
وهذا الإنسانُ بجسدِه الذي يُعدُّ أعقدَ آلةٍ في الكونِ، ففي خلاياه وأنسجتِه، وفي أعضائِه وأجهزتِه من الدقّةِ والتعقيدِ والإتقانِ ما يعجزُ عن فهمِ بنيتِها وطريقة عملِها
أعلمُ العلماءِ، وفي هذا الإنسانِ نفسٌ تعتلجُ فيها المشاعرُ والعواطفُ، وتصطرعُ فيها الشهواتُ والقيمُ والحاجاتُ والمبادئُ، حيث يعجزُ عن تحليلِها وتفسيرِها أعلمُ علماءِ النفسِ، وفيه عقلٌ يحوي من المبادئ والمسلماتِ والقُوى الإدراكيةِ والتحليليةِ والإبداعيةِ ما أَهَّلَهُ ليكونَ سيّدَ المخلوقاتِ.
والآن ألاَ يحتاجُ هذا المخلوقُ المكرَّمُ إلى كتابٍ مِن خالقِه ومربّيه ومدبّرِه ومسيّره، يبيّن له فيه الهدفَ من خَلقِه، والوسائلَ الفعّالةَ التي تحقّقُ هذا الهدف ؟
ألا يحتاجُ هذا المخلوقُ المكرّمُ إلى كتابٍ فيه منهجٌ يسيرُ عليه، ويضبطُ، ويصحّحُ حركاتِه ونشاطاتِه من الخللِ والعبث ؟
ألا يحتاجُ هذا المخلوقُ البديعُ في خَلقه إلى كتابٍ فيه مبادئُ سلامته ؛ سلامةِ جسدِه من العطبِ، وسلامةِ نفسِه من التردِّي، وسلامةِ عقلِه من التعطيلِ والتزويرِ.
ألا يحتاجُ هذا المخلوقُ المكرّمُ إلى كتابٍ فيه مبادئُ سعادتِه فرداً ومجتمعاً في الدنيا والآخرةِ ؟
إنه القرآنُ الكريمُ الذي لا يقِلُّ في عظمةِ إرشادِه وتشريعِه عن عظمةِ إيجادِ السماواتِ والأرض، قال تعالى :
﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ﴾
وقال :
﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا ﴾
فكما أنّ اللهَ يُحمَدُ على نعمةِ إيجادِ السماواتِ والأرضِ، كذلك يُحمَدُ بالقدْرِ نفسِه على نعمةِ الإرشادِ،إرشادِ الإنسانِ من خلالِ القرآنِ إلى طريقِ سلامتِه وسعادتِه الأبديّةِ.
لقد قدَّم اللهُ تعالى تعليمَ القرآنِ على خَلقِ الإنسانِ تقديماً رُتبياً لا تقديماً زمنياً، لأنه لا معنى لوجودِ الإنسانِ على سطحِ هذه الأرضِ ما لم يكن له منهجٌ يسيرُ عليه، فقال جل مِن قائلٍ:
﴿ الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْءَانَ * خَلَقَ الإِنْسَانَ ﴾
والله جل وعلا يشهدُ للإنسانِ أنّ هذا القرآنَ كلامُه، ومن خلالِ الأحداثِ التي يقدّرها اللهُ له أو عليه، وعندئذٍ يشهدُ القرآنُ للإنسانِ أنّ هذا الذي أُنزلَ عليه القرآنُ هو رسولُ الله، قال تعالى :
﴿ لَكِنْ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا ﴾
وقال سبحانه:
﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾
فإذا آمنَ الإنسانُ كما ينبغي، وعملَ صالحاً في صدقٍ وإخلاصٍ أذاقه اللهُ طعمَ الحياةِ الطيبةِ، من طمأنينةٍ، واستقرارٍ، وتيسيرٍ، وتوفيقٍ، وسعادةٍ، وحُبورٍ، عندئذٍ يشعر من خلالِ الحياةِ الطيبةِ التي ذاقها مِصداقاً لوعدِ الله، أنّ اللهَ جلّ جلاله، شهدَ له بأنّ هذا القرآنَ كلامُه، وأنّ هذه الحياةَ الطيبةَ مِن فعْلِه، قدّرها له تحقيقاً لوعدِه، وحينما يتطابقُ فعْلُ اللهِ مع ما في القرآن يقومُ الدليلُ القطعيُّ على أنّ القرآنَ كلامُ الله.
دليلٌ مقابلٌ:قال تعالى :
﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ﴾
فمن أعرضَ عن ذكرِ الله، والقرآنُ هو ذكرُ الله، وهَجَرَه، واتّخذه وراءه ظِهرياً، واستحلّ محارمَه، ولم يعبأْ بأمرِه ونهيِه، ووعدِه ووعيدِه أذاقه اللهُ طعمَ المعيشةِ الضنكِ، من خوفٍ، وقلقٍ، وضيقٍ، وشِدّةٍ، وتعسيرٍ، وإحباطٍ، وشقاءٍ، وضياعٍ، عندئذٍ يشعرُ من خلالِ هذه المعيشةِ الضنكِ التي ذاقها مصداقاً لوعيدِ اللهِ، أنّ اللهَ شهدَ له بأنّ هذا القرآنَ كلامُه، وأنّ هذه المعيشةَ الضنكَ من فعْلِ اللهِ قدّرها عليه تحقيقاً لوعيدِه.
العينُ مهما دقّتْ صنعتُها، ومهما أُحكمتْ أجزاؤُها، ومهما ارتقتْ وظائفُها، فلا تستطيعُ أنْ تبصرَ الأشياءَ إلاّ بنورِ الشمسِ، والعقلُ مهما كَبُرَ ورجحَ، ومهما تعدّدتْ وظائفُه، ومهما دقّت محاكمتُه، ومهما نما إبداعُه فلا يستطيعُ أنْ يدركَ الحقائقَ إلا بنورِ اللهِ، والقرآنُ هو نورُ اللهِ، قال تعالى :
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا ﴾
وحينما يستنيرُ المؤمنُ بنورِ اللهِ فلنْ يضلَّ عقلُه، ولن تشقى نفسُه، قال تعالى :
﴿ قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى ﴾
وكيف يضلُّ امرؤٌ يقرأُ القرآنَ، والقرآنُ يقدِّمُ له تفسيراً صحيحاً لحقيقةِ الكونِ والحياةِ والإنسانِ مِن عندِ مكوِّنِ الأكوانِ، وواهبِ الحياةِ، وخالقِ الإنسانِ ؟
فالسماواتُ والأرضُ خُلقت بالحقِّ، وهو الثباتُ والسموُّ، ولم تُخلقْ باطلاً، ولا لعباً ؛ وهما الزوالُ والعبثُ.
والسماواتُ والأرضُ مسخَّرةٌ للإنسانِ تسخيرَ تعريف وتكريمٍ من أجلِ أنْ يؤمنَ ويشكرَ.
والحياةُ الدنيا دارُ ابتلاءٍ، وانقطاعٍ، وعملٍ، والآخرةُ دارُ جزاءٍ، وخلودٍ، وتشريفٍ.
والحياةُ الدنيا كما وَصفَها القرآنُ حياةٌ دنيا، وليست عُليا، وهي لهوٌ ولعبٌ، وزينةٌ وتفاخرٌ وتكاثرٌ، وجمعٌ، والآخرةُ خيرٌ وأبقى، وهي دارُ القرارِ، قال تعالى:
﴿ وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ * أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ الْمُحْضَرِينَ ﴾
والإنسانُ لم يُخلَقْ عبثاً، ولن يُتركَ سُدىً، وهو على نفسِه بصيرةٌ، ولو ألقى معاذيرَه.
وإنه المخلوقُ المكرّمُ الذي خَلقَه اللهُ في أحسنِ تقويمٍ، وكرّمه أعظمَ تكريمٍ، حملَ الأمانةَ التي أشفقتْ مِن حملِها السماواتُ والأرضُ، مع أنّ الإنسانَ خُلِق ضعيفاً، وخُلق عجولاً، وخُلق هلوعاً، إذا مسَّه الشرُّ كان جزوعاً، وإذا مسّه الخيرُ كان منوعاً، إلا المصلّين، وأن ليس لهذا الإنسان إلا ما سعى، وأن سعيه سوف يُرى، ثم يجزاه يوم القيامةِ الجزاءَ الأوفى، وهو يفلحُ، ويفوزُ إذا أطاعَ الله ورسوله، وتزكّى، وذكر اسمَ ربّه فصلى، ولا ينفعه يومَ القيامةِ مالٌ، ولا بنونَ إلاّ مَن أتى
الله بقلبٍ سليم، وأنّ الإنسان لفي خسرٍ إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وتواصوا بالحقِّ، وتواصوا بالصبرِ.
وكيف يضلُّ امرؤٌ يقرأُ القرآنَ، والقرآنُ يبيّن له أنه لا إله إلا اللهُ، وهو غالبٌ على أمرِه، ولكنّ أكثرَ الناس لا يعلمون، وأنه في السماءِ إلهٌ معبود وفي الأرض إله معبود، وأنه إليه يُرجع الأمُر كلُّه، وأنه على كل شيءٍ وكيلٌ، وأنه يحكمُ ولا معقب لحكمه أبدًا، وأنه لا يشرك في حكمِه مخلوقًا أحداً، وأنه ما من دابّة إلاَ هو آخذٌ بناصيتها، وأنه ما يفتح للناسِ من رحمةٍ فلا ممسكَ لها، وما يُمسك فلا مُرسل له من بعده، وأنه لا يغيّرُ ما بقومٍ حتى يغيّروا ما بأنفسهم ؟
ومن اهتدى بهدي القرآنِ لا يضلّ عقلُه، ولا تشقى نفسُه، وكيف تشقى نفسُه وتحزنُ، وقد منحَه اللهُ نعمةً هي أثمنُ ما في الحياةِ النفسيةِ، ألا وهي نعمةُ الأمنِ، تلك النعمةُ التي عزّتْ على كثيرٍ من الناسِ، فهو حينما آمنَ بالله وحده ابتعدَ عن الشركِ الجلي والخفي، وحينما ابتعد عن الشركِ ابتعد عنه العذابِ النفسيّ، قال تعالى:
﴿ فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنْ الْمُعَذَّبِينَ ﴾
وحينما آمن باللهِ وحْده، وأنّ الأمرَ كلَّه راجعٌ إليه ؛ حملَه إيمانُه هذا على طاعتِه، وتركِ الإساءةِ إلى خَلقِه، عندئذٍ استحقّ نعمةَ الأمنِ، قال تعالى :
﴿ فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ﴾
وكيف تشقى نفسُ قارئِ القرآنِ وتحزنُ، وهي تتلو قولَه تعالى :
﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ﴾
وهل مِن طمأنينةٍ تنعمُ بها النفسُ أعظمُ مِن أنْ يؤكِّدَ لك خالقُ الكونِ أنّه لن يضّيعَ عليك إيمانَك، ولا عملَك الصالحَ، وأنه لن تكونَ حياتُك كحياةِ عامّةِ الناسِ الذين أعرضوا عن ذكْرِ ربّهم، فاجترحوا السيئاتِ، وتاهوا في الظلماتِ ؟
وكيف تشقى نفسُ قارئِ القرآنِ وتحزنُ، وهي تتلو قولَه تعالى :
﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ ﴾
وهل مِن شعورٍ أشدُّ تدميراً للنفسِ من الخوفِ ؟ فأنت من خوفِ المرضِ في مرضٍ، وأنت من خوفِ الفقرِ في فقرٍ، وتوقُّعُ المصيبةِ مصيبةٌ أكبرُ منها.
وهل من شعورٍ أشدُّ رضىً للنفسِ من الندمِ والحزنِ على ما فات ؟ فحينما يُفاجَأُ الإنسانُ بدنوِّ الأجلِ يُصعقُ، ويقولُ:
﴿ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ ﴾
و
﴿ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي ﴾
و
﴿ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا ﴾
و
﴿ لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا ﴾
لكنّ القرآنَ يُطمئنُ المؤمنين الذين آمنوا بالله، واستقاموا على أمرِه بألاّ خوفٌ عليهم في الدنيا، لأنّ اللهَ هو وليُّهم وناصرُهم، ويدافع عنهم، ويهديهم سواءَ السبيلِ ؛ ولا هم يحزنون على فراقِها، لأنّ المؤمن ينتقلُ بالموتِ من ضيقِ الدنيا إلى سَعةِ الآخرةِ، كما ينتقل الوليدُ من ضيقِ الرَّحمِ إلى سَعةِ الدنيا.
وكيف يقعدُ المؤمنُ عن استردادِ حقِّه المغتصبِ، واللهُ تعالى يقول :
﴿ وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمْ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمْ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمْ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمْ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ ﴾
وقال:
﴿ وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾
﴿إِنْ يَنْصُرْكُمْ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِوَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ ﴾
وقال :
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ﴾
وكيف يقعدُ المؤمنُ عن استردادِ حقِّه المغتصبِ، واللهُ عز وجل يخاطبُ المؤمنين الصادقين في كتابِه بقولِه :
﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضْ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ ﴾
وبقوله :
﴿ وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنْ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ﴾
ذكر الحافظُ محمدُ بنُ نصرٍ المروزيِّ في جزءِ قيامِ الليلِ، عن الأحنفِ بن قيسٍ أنه كان يوماً جالساً فعرضتْ له هذه الآيةُ:
﴿ لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾
فانتبه فقال :عليَّ بالمصحفِ لألتمسَ ذِكري اليومَ، حتى أعلمَ مِن أنا، ومن أشبِهُ ؟
يعني أنه لما علِمَ أنّ القرآنَ قد ذكرَ جميعَ صفاتِ البشرِ، وبيّن طبقاتِهم ومراتبَهم أراد أنْ يبحثَ عن نفسِه، في أيّ الطبقات، وفي أيّ المراتبِ هو ؟ فنشرَ المصحفَ، وقرأَ، فمرَّ بقومٍ :
﴿ كَانُوا قَلِيلًا مِنْ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ﴾
ومرّ بقومٍ :
﴿ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنْ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ﴾
ومرَّ بقومٍ:
﴿ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾
ومرَّ بقومٍ:
﴿ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ ﴾
فوقف الأحنفُ، ثم قال:اللهم لستُ أعرفُ نفسي هاهنا، أيْ:لم يجدْ هذه الصفاتِ في نفسِه، حتى يَعُدَّ نفسَه من هؤلاء، ثم أخذَ الأحنفُ السبيلَ الآخرَ، فمرّ بالمصحفِ على قومٍ :
﴿ إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ ﴾
ومرَّ على قومٍ يُسألون:
﴿ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ * فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ ﴾
فوقفَ الأحنفُ، وقال:اللهم إني أبرأُ إليك من هؤلاءِ، فما زالَ يقلِّبُ ورقَ المصحفِ، ويلتمسُ في أيّ الطبقاتِ هو حتى وقعَ على هذه الآيةِ :
﴿ وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾
فقال:أنا من هؤلاء.. ولعله قالها تواضعاً.. فإذا قرأ أحدُنا القرآنَ فلينظرْ موضعَ نفسِه في كتابِ اللهِ.
في السُّنّةِ النبويّةِ المطهّرةِ أحاديثُ صحيحةٌ بشأنِ القرآنِ، فعَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ قَالَ:
(( خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ ))
وعَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
(( إِنَّ اللَّهَ يَرْفَعُ بِهَذَا الْكِتَابِ أَقْوَامًا وَيَضَعُ بِهِ آخَرِينَ ))
وعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ:قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم :
(( الْمَاهِرُ بِالْقُرْآنِ مَعَ السَّفَرَةِ الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ، وَالَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ، وَيَتَتَعْتَعُ فِيهِ، وَهُوَ عَلَيْهِ شَاقٌّ لَهُ أَجْرَانِ ))
وعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
(( مَثَلُ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَالْأُتْرُجَّةِ، طَعْمُهَا طَيِّبٌ، وَرِيحُهَا طَيِّبٌ، وَالَّذِي لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَالتَّمْرَةِ، طَعْمُهَا طَيِّبٌ، وَلَا رِيحَ لَهَا، وَمَثَلُ الْفَاجِرِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ الرَّيْحَانَةِ، رِيحُهَا طَيِّبٌ، وَطَعْمُهَا مُرٌّ،وَمَثَلُ الْفَاجِرِ الَّذِي لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ الْحَنْظَلَةِ،طَعْمُهَا مُرٌّ وَلَا رِيحَ لَهَا ))
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
(( لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ ؛ رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْقُرْآنَ فَهُوَ يَتْلُوهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَهُوَ يُنْفِقُهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ ))
ومن حديثِ موجَّهٍ لسيّدِنا معاذٍ رضي الله عنه:
(( يَا مُعَاذُ إِنَّ الْمُؤْمِنَ قَيَّدَهُ الْقُرْآنُ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ هَوَى نَفْسِهِ وَشَهَوَاتِهِ، وَحَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَنْ يَهْلِكَ فِيمَا يَهْوِى ))
وقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه:
(( لاَ يَحْزَنُ قَارِئُ الْقُرْآنِ، وَلاَ يُعَذِّبُ اللهُ قَلْباً وَعَى الْقُرْآنَ، وَمَنْ جَمَعَ الْقُرْآنَ مَتَّعَهُ اللهُ بِعَقْلِهِ حَتَّى يَمُوتَ ))
ويقول صلى الله عليه وسلم أيضاً:
(( اِقْرَأِ الْقُرْآنَ مَا نَهَاكَ، وَإِنْ لَمْ يَنْهَكَ فَلَسْتَ تَقْرَؤُهُ ))
ويقول صلى الله عليه وسلم
(( وَمَا آمَنَ بِالْقُرْآنِ مَنِ اسْتَحَلَّ مَحَارِمَهُ ))