- ٠4كتاب مقومات التكليف
- /
- ٠5المقوم الرابع - التشريع
إنّ الفطرةَ و العقلَ مَلَكَتَانِ للإدراكِ البشريِّ، وطريقانِ للمعرفةِ الإنسانيّةِ، يكمِّلُ كلٌّ منهما الآخرَ لمعرفةِ الحقِّ والباطلِ، وتمييزِ الخيرِ من الشرِّ، والحسَنِ من القبيحِ.
العقلُ يحلِّلُ، ويركِّبُ، ويستنبطُ، ويستدلُّ، ويعتقدُ، ويؤمنُ، ويشكِّكُ، ويغلبُ على ظنّه، ويرفضُ، وهذه كلّها محاكماتٌ عقليّةٌ، والعقلُ مختصٌّ بها، والنفسُ ترتاحُ، و تتألّمُ، وتقلقُ، وتخافُ، وتحبّ، وتندفعُ، وهذا نشاطٌ نفسيٌّ، فالفطرةُ دليلٌ، والعقلُ دليلٌ، وإنهما يتعاونان، ويتكاملان، بل إنهما يجتمعان ليعرفَ الإنسانُ من خلالِهما الحقَّ، ويكشفَ الباطلَ.
ولكنّ العقلَ لا يستطيعُ أن يُلزِمَ صاحبَه بالصوابِ، فكم من إنسانٍ يتمتّعُ بأعلى ثقافةٍ، ومع ذلك هو يدخِّنُ، فالمعلومةُ وحْدها لا تكفي، بل لا بد مِن إرادةٍ تدعِّم هذه المعلومةَ.
وأمّا الفطرةُ فقد تُطْمَسُ، وقد تُشَوَّهُ، وقد تمحقُها البيئةُ، ما الذي بقيَ ثابتاً في حياةِ المسلمين ؟ إنه الوحيُ، وحيُ السماءِ، هذا الوحي الذي:
﴿ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ﴾
هذا الوحيُ هو الحقُّ الصّرفُ، وهو الميزانُ، و هو القيمةُ المطلقةُ، فلذلك أيّ جولةٍ للعقلِ وصلتْ إلى نتيجةٍ تتوافقُ مع الوحيين فقد أصابَ العقلُ، وأيُّ نتيجةٍ وصلَ العقلُ إليها تخالفُ الوحيين فهي خطأٌ صارخٌ، ولا مجالَ لقَبولِه، لأنّ الوحيَ مطلقٌ في أَحَقِّيتِه، وأيُّ شيءٍ ترتاحُ له الفطرةُ المشوَّهةُ يخالفُ الدينَ فهذا ليس من الفطرةِ السليمةِ، بل هو مِن الفطرةِ التي شُوِّهَتْ، وتغيَّرَتْ.
الكتابُ والسنّةُ إن نعتصمْ بهما فلنْ نضلَّ أبداً، لكنّ العقلَ يُعِيننا على معرفةِ اللهِ من خلالِ خَلْقِه، وإنّ الفطرةَ تُعَيننا على السيرِ في طريقِ اللهِ من خلالِ راحتِها لطاعةِ اللهِ، واضطرابِها من معصيةِ اللهِ.
إنّ اللهَ جلّ جلاله كاملٌ كمالاً مطلقاً، ودينُه كاملٌ كمالاً مطلقاً، قال سبحانه:
﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الْإِسْلَامَ دِينًا ﴾
التمامٌ عَدَدِيٌّ، والكمالُ نوعيٌّ، أيْ إنّ عددَ القضايا التي عالجَها الدِّينُ تامٌّ عدداً، كاملٌ نوعاً.
هذا الدِّينُ دينُ اللهِ، وحينما بيّنَ اللهُ سبحانه وتعالى أنّ هذا القرآنَ لا يأتيه الباطلُ مِن بين يديه ولا من خَلفِه، وأنّ هذا الدينَ هو وحيٌ مِن اللهِ جلّ جلاله، فلا يجوزُ أنْ نضيفَ عليه، ولا أنْ نحذِفَ منه، إنّنا إنْ أَضَفْنا عليه ما ليس منه نشأتْ فِرَقٌ ومذاهبُ، ثم تعارضتْ، وتنافستْ، وصار بأسُها بينها، وكان هذا سبباً لفُرقتِنا، وتشرذمِنا، ولو حَذَفْنا منه لكان الضعفُ والتخلفُ وانهيارُ الحضارةِ.
وردَ في الأثر:
(( ابنَ عُمَرَ، دِينَكَ، إِنَّهُ لَحْمُكَ وَدَمُكَ، خُذْ عَنِ الَّذِينَ اسْتَقَامُوا، وَلاَ تَأْخُذْ عَنِ الَّذِينَ مَالُوا ))
وقال ابنُ سيرين: " إنّ هذا العلمَ دينٌ، فانظروا عمّن تأخذون دينَكم ".
إنّ قضيةَ الدِّينِ قضيةٌ مصيريّةٌ، فو الذي نفسُ محمّدٍ بيده ما بعد الدنيا من دارٍ إلا الجنّةُ أو النارُ.
أضعُ بين أيديكم مثلاً منتَزَعاً من الواقعِ، أيُّ نبعٍ انظرْ إلى منبعِه الصافِي، ثم انظرْ إلى مَصَبِّه، وقد جاءَته الروافدُ من كلِّ حَدَبٍ وصوبٍ، إلى أنْ أصبحتُ مياهُه سوداءَ.
هذا الدينُ العظيمُ ينبغي أنْ نعودَ إلى ينابيعِه الأولى، وهذا هو التجديدُ بالمعنى الدقيقِ، قد يتوهّمُ البعضُ أنّ التجديدَ في الدينِ أنْ نأتيَ بجديدٍ، إنّ تجديدَ الدِّينِ له معنى خاصٌّ، وهو أنْ تزيلَ عنه ما علَقَ به ممّا ليس منه.
وحينما تنحرفُ فرقةٌ ضالّةٌ عن جوهرِ الدينِ فإنها تؤلِّهُ الأشخاصَ، وتخفِّفُ التكاليفَ، وتعتمدُ النصوصَ الموضوعةَ والضعيفةَ، وتتّجهُ إلى نزعةٍ عدوانيةٍ، وهذه هي خصائصُ الفرقِ الضالّةِ في التاريخِ الإسلاميِّ، ( تأليهُ الأشخاصِ – تخفيفُ التكاليفِ – اعتمادُ النصوصِ الموضوعةِ والضعيفةِ – النزعةُ العدوانيةِ )
أما حينما نحافظُ على جوهرِ الدِّينِ وأصولِه، لا نزيدُ عليها، ولا نحذفُ منها يكونُ هذا الدِّينُ سببَ رُقِيِّنَا وسعادتنا.
عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ:
(( كَانَ رَسُولُ اللَّهِ يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ، يَحْمَدُ اللَّهَ، وَيُثْنِي عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ يَقُولُ: مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ، إِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَأَحْسَنَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ، وَشَرُّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلُّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلُّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ ))
إنّ من خصائصِ الدعوةِ الخالصةِ إلى اللهِ تعالى الاتّباعُ، لأنّ الخالقَ كاملٌ كمالاً مطلقاً، ومنهجُه كذلك، فالذي يدعو إلى اللهِ بإخلاصٍ ينبغي أنْ يتّبعَ، لا أنْ يبتدعَ، ومن خصائصِها التعاونُ، والاعترافُ بما عند الآخرين مِن فضلٍ، لأنّ الداعيةَ حينما يحملُ همَّ المسلمين يتعاونُ معهم، ولا يتنافسُ، ويعترفُ لكلٍّ بفضلِه.
إذاً مِن صفاتِ الدعوةِ الخالصةِ إلى اللهِ الاتّباعُ، والتعاونُ، والاعترافُ بفضلِ الآخرين، لذلك قالوا: " اتّبعْ لا تبتدعْ، اتّضعْ لا ترتفع، الورعُ لا يتَسع ".
ولكن قد تكون هناك دعوةٌ إلى الذّاتِ مغلفةٌ بدعوةٍ إلى الله، هذه الدعوةُ مِن خصائصِها الابتداعُ لا الاتّباعُ، التنافسُ لا التعاونُ، إنكارُ ما عند الآخرين.
وما مِن عملٍ يتذبذبُ بين أنْ يكونَ عملاً عظيماً مقدساً كأنْ يكونَ صنعةَ الأنبياءِ، وأن يكونَ عملاً يضعفُ، ويصغرُ حتى يكون عملاً مبتذلاً لا يستحقُّ إلا ابتسامةً ساخرةً كالدعوةِ إلى اللهِ تعالى.
إذا التشريع هو أهم مقومات التكليف , وهم مجموعة الأوامر والنواهي التي وردت في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وفي الصفحات الآتية سنقف عند مصدري التشريع وقفة متأنية.