وضع داكن
22-11-2024
Logo
المؤلفات - كتاب مقومات التكليف – المقوم الثاني - الفقرة : 1 - العقل
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

قيمةُ العقلِ:

العقلُ أصلٌ في الدينِ، والآياتُ التي تحدّثتْ عن العقلِ بشكلٍ أو بأخرَ تقتربُ من الألفِ، إلاّ أنّ العقلَ يختلف من إنسانٍ إلى آخرَ، لذلك نقيِّدُ العقلَ بالصريحِ، لأنّ هناك عقلاً تبريريًّا، مرتبطاً بالأهواءِ والمصالحِ، سيأتي ذكرُه.
هذا الجهازُ الخطيرُ الذي أودعَه اللهُ فينا يجبُ أنْ يتوافقَ مع الشرعِ مئةً بالمئةِ، ذلك لأنّ الشرعَ من عندِ اللهِ، والعقلُ مقياسٌ أودعه اللهُ فينا، والفرعان إذا اتّحَدا في أصلٍ واحدٍ فلا بد أنْ يتوافقا.
هل يُعقَلُ أنْ يعطيَنا اللهُ مقياساً لو أعملناه في وحيِه وجدناه غيرَ صحيحٍ ؟ هذا مستحيلٌ، لأنّ العقلَ من صنعِ اللهِ، والنقلَ وحيُ اللهِ، فلابد مِن التوافقِ.
الإنسانُ مخلوقٌ في دنيا محدودةٍ، ولكنه يُعدّ لحياةٍ أبديةٍ، فالطبعُ يقتضي أنْ تتنعّمَ في هذه الحياةِ الدنيا، وتخسرَ الآخرةَ، أما العقلُ فيقتضي أنْ تعملَ للآخرةِ، وأن تتنعّمَ إلى أبد الآبدين في جنةِ الله عز وجل، لذلك قال العلماءُ: " ما مِن إنسانٍ يعملُ للدنيا، وينسى الآخرةَ إلاّ وهو في الحقيقةِ مجنونٌ "، ولو كان يحملُ أعلى شهادةٍ، فإنّ تفوّقَه العلميَّ يسمَّى ذكاءً، ولا يسمَّى عقلاً، ولكنْ حينما غفلَ عن الحقيقةِ الكبرى في الكونِ، وغفلَ عن الآخرةِ، وغفلَ عن سرّ وجودِه فهو مجنونٌ، والآيةُ الكريمةُ: 

﴿ ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ * مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ ﴾

[ سورة القلم: 1 ـ 2 ] 

يجبُ أن تؤمنَ، وأن تعتقدَ بكلِّ ذرةٍ في كيانك أنّ هذا الذي لا يصلّي، ولا يعرف اللهَ، وهو غارقٌ في المعاصي والآثامِ مجنونٌ، ولو كان يحملُ أعلى شهادةٍ، وأنّ هذا الذي يغتصبُ أموالَ الناسِ يتوهّم نفسَه عاقلاً، وفي الحقيقةِ هو أحمقُ، لأنه سوف يُسأَلُ عن كلّ ذرّةٍ،

﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه ﴾

[ سورة الزلزلة: 7 ـ 8 ]

العقلُ جعله اللهُ للدين أصلاً وللدنيا عماداً:

فالإنسانُ العاقلُ يعيش حياةً هادئةً، حياةً فيها سلامةٌ، فيها سعادةٌ، لأنه أخذ ما له، وتركَ ما ليس له، تحرّكَ بحجمِه، بنَى علاقاتِه بوضوحٍ، فأحبّه الناسُ، وكسبَ مالاً حلالاً، وأسّس أسرةً، وربّى أولاده، استعملَ عقلَه في الآخرةِ فكسبَها، واستعملَ عقلَه في الدنيا فربحَها، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم :

(( ‏مَا اكْتَسَبَ رَجُلٌ مِِثْلَ فَضْلِ عَقْلٍ يَهْدِي صَاحِبَهُ إِلَى هُدًى، وَيَرُدُّهُ عَنْ رَدًى، وَمَا تَمَّ إِيمَانُ عَبْدٍ، وَلاَ اسْتَقَامَ دِينُهُ حَتَّى يَكْمُلَ عَقْلُهُ )).

[ البيهقي في شعب الإيمان ( 4660 ) عن عمر] 

العاقلُ يسعدُ ويُسعدُ، أمّا ضعيفُ العقلِ فيشقى ويُشقي، وما مِن عطاءٍ إلهيٍّ يفوقُ في قيمته كل عطاءٍ كأنْ يهبَك اللهُ عقلاً راجحاً يُعينُك على الحياةِ بين الناسِ، وعلى كسبِ محبّتهم بالعقلِ والحكمةِ يسعدُ الإنسانُ بزوجةٍ من الدرجةِ الخامسةِ، ومن دونِ عقلٍ وحكمةٍ يشقى بزوجةٍ من الدرجةِ الأولى، بالعقلِ والحكمةِ يعيشُ بدخلٍ محدودٍ، ومن دونِ عقلٍ وحكمةٍ يدمّرُ نفسَه بدخلٍ غيرِ محدودٍ.
هذا نعيمُ بن مسعودٍ أحدُ كبارِ الصحابةِ، زعيمُ غطفانَ، جاء على رأسِ جيشٍ ليحاربَ النبيَّ عليه الصلاة والسلامُ في معركةِ الخندقِ، له قصةٌ رائعةٌ، كان مستلقياً في خيمته، وهو يحاصرُ النبيَّ عليه الصلاة والسلام، جرى في نفسِه حوارٌ ذاتيٌّ داخليٌّ، وهذا الحوارُ مع الذاتِ مهمٌّ جداً، فهذا الصحابيُّ الجليلُ يخاطبُ نفسَه، يقول: ويحكَ يا نعيمُ ! ما الذي جاء بك من تلك الأماكنِ البعيدةِ في نجدٍ لحربِ هذا الرجلِ ومَن معه ؟ فأنت لا تحاربُه انتصاراً لحقٍّ مسلوبٍ، ولا حميةً لعرضٍ مغصوبٍ، وإنما جئتَ لتحاربَه لغيرِ سببٍ معروفٍ، أيليقُ برجلٍ له عقلٌ مثلُ عقلِك أنْ يقاتلَ فيُقتَلَ، أو يَقتُلَ لغيرِ سببٍ ؟ ويحكَ يا نعيم ! ما الذي يجعلُك تشهرُ سيفَك في وجهِ هذا الرجلِ الصالحِ ؛ الذي يأمرُ أتباعَه بالعدلِ والإحسانِ وإيتاءِ ذي القربى، ويحك يا نعيمُ ! ما الذي يحملك على أنْ تغمسَ رمحَك في دماءِ أصحابِه الذين اتّبعوا ما جاءهم به من الهدى والحقِّ.
هذه المناقشةُ كانت سببَ سعادته إلى أبد الآبدين.
أناسٌ كثيرون ماتوا على الشرك، لا لأنهم كانوا فعلاً مشركين، إلا أنهم كانوا ـ
مع أتباعِهم هكذا ؛ لم يفكّر، وإنما يعيشُ مع المجموعِ، ومع التيارِ العامِّ، فسقٌ على فسقٍ ؛ ولم يحسم هذا الحوارَ العنيفَ بين نعيمٍ ونفسِه إلا القرارُ الحازمُ الذي نهضَ من توّه لتنفيذِه.
تسلّل نعيمُ بن مسعودٍ من معسكرِ قومِه تحت جنحِ الظلامِ، ومضى يحثُّ الخطَى إلى النبي صلى الله عليه وسلم ؛ فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم ماثلاً بين يديه قال: نعيمُ بن مسعودٍ !! قال: نعم يا رسولَ اللهِ ؛ قال: ما الذي جاء بك في هذه الساعةِ ؟ قال: يا رسولَ اللهِ، جئتُ لأشهدَ أن لا إلهَ إلا الله، وأنك عبدُ الله ورسولُه ؛ وأنّ ما جئتَ به الحقُّ، ثم أردفَ يقول: لقد أسلمتُ يا رسولَ الله، وإنّ قومِي لم يعلموا بإسلامي، فمُرْني بما شئت.
النبي صلى الله عليه وسلم في مواجهةِ عشرةِ آلافِ رجلٍ بأسلحتهم الفتّاكةِ، واليهودُ نقضوا العهدَ، وتحطيم الإسلامِ صارَ موضوعَ ساعات ؛ فماذا يفعلُ رجلٌ واحدٌ ؟! فقال صلى الله عليه وسلم : إنما أنت فينا رجلٌ واحدٌ، فاذهب إلى قومِك، وخذِّلْ عنا إن استطعتَ، فإن الحربَ خدعة.
الآن سيوظِّفُ ذكاءَه، وعقلَه الكبيرَ، وسرعةَ بديهته، وفطانتَه، وكلَّ أساليبه الذكيّةِ، سيوظِّفها لصالحِ الدينِ الجديدِ، قال: نعم يا رسولَ الله، وسترى ما يسرُّك إن شاءَ اللهُ.
في ساعةِ تفكيرٍ، ساعةِ إعمالٍ للعقل، ساعةِ تأملٍ، ساعةِ حديثٍ مع الذاتِ، انقلبَ من رجلٍ مشركٍ يحاربُ اللهَ ورسولَه إلى رجلٍ مؤمنٍ قلبَ موازينَ المعركةِ.
هذا الرجلُ الواحدُ استطاعَ أن يدخلَ إلى قريشٍ، وأن يوقعَ بينها وبين اليهودِ الذين نقضوا عهدَهم مع النبي صلى الله عليه وسلم ، قال لقريش: إنّ اليهودَ ندموا على نقضِ عهدِهم مع محمّدٍ، الآن سيطلبون منكم رهائنَ كي لا تتخلّوا عنهم، وسوف يقدمونهم إلى النبيِّ ليقتلهم، وقال لليهود أن يطلبوا الرهائنَ، فوقعَ بين قريشٍ واليهودِ الشقاقُ، وأرسلَ اللهُ عز وجل رياحاً عاتيةً قلبت قدورَهم، وأطفأت نيرانَهم، واقتلعتْ خيامَهم، وكفى اللهُ المؤمنين القتالَ.

[ ذكر هذه القصة بلفظها وتمامها ابن حجر في فتح الباري ( 7/402 )]

 ينبغي على المرءِ إنْ كان له عملٌ لا يرضي اللهَ، إنْ كانت في بيته معصيةٌ، أو زوجتُه ليست مستقيمةً، لم يربِّ أولادَه، في دخله شبهةٌ، ينبغي عليه أن يراجعَ نفسَه، أيليقُ بك وأنت من المسلمين أن تعصيَ اللهَ ؟ أن تفعلَ كذا وكذا ؟

ويقول صلى الله عليه وسلم :

(( لِكُلِّ شَيْءٍ دِعَامَةٌ، وَدِعَامَةُ عَمَلِ الْمَرْءِ عَقْلُهُ، فَبِقَدْرِ عَقْلِهِ تَكُونُ عِبَادَتُهُ لِرَبِّهِ ))

[ الفردوس بمأثور الخطاب ( 4999 ) عن أبي سعيد]

 أما سمعتم قولَ الفجّارِ:

﴿ وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ ﴾

[ الملك: الآية 10]

أصحابُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم الذين آمنوا به، ونصروه وعزّروه، واتبعوا النورَ الذي أُنزِلَ معه، وصدّقوه، وحاربوا معه، أين هم الآن ؟ في أعلى علّيّين، ما مِن مسلمٍ من مليارٍ ومئتي مليونٍ إلا ويقولُ إذا ذُكِرَ أحدُهم: " رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ "، لكن مَن منّا يترضّى عن أبي جهلٍ ـ لعنه اللهُ والملائكةُ والناسُ أجمعون إلى يوم الدين ـ هؤلاء أعداءُ الحقِّ، لُعِنوا في الدنيا والآخرةِ، ما استخدَموا عقولَهم، بل خضعوا لبيئتهم، خضعوا للتقاليدِ والعاداتِ، وكثير من الناسِ لا يستخدمون عقولَهم، بل يعيشون لَحْظَتَهم فقط، فأنت مع الأكثريةِ أم مع الأقليةِ، يجب أن تكونَ مع الأقليةِ المؤمنةِ، مع الأقليةِ العاقلةِ، مع الأقليةِ المفكّرةِ.
سيّدُنا عليٌّ رضي الله عنه قال: " يا بنيّ، الناسُ ثلاثةٌ ؛ عالِمٌ ربّانيّ، ومتعلمٌ على سبيلِ نجاةٍ، وهَمَجٌ رُعاعٌ أتباعُ كلّ ناعقٍ، لم يستضيئوا بنورِ العلمِ، ولم يلجؤوا إلى ركنٍ وثيقٍ، فاحذرْ يا كميلُ أن تكونَ منهم ".
يقولُ سيدنا عمرُ رضي الله عنه: " أصلُ الرجلِ عقلُه، وحسَبُه دينُه، ومروءتُه خُلُقه ".
ويقول الحسنُ البصري: " ما استودعَ اللهُ أحداً عقلاً إلا استنقذَه به يوماً ما ".
وقال بعضُ الأدباء: " صديقُ كل امرئٍ عقلُه، وعدوُّه جهلُه، لا أرى عدوًّا أعدى من الجهلِ "، قد يكونُ لنا أعداءٌ، ولكنّ أشدَّ عداوة لنا منهم جهلُنا، لأن الجاهلَ يفعلُ في نفسِه ما لا يستطيعُ عدوُّه أن يفعلَه به ".
لذلك فإنّ صديقَ كل امرئٍ عقلُه، وعدوَّه جهلُه.
وقال بعضُ البُلَغاءِ: " خيرُ المواهبِ العقلُ، وشرُّ المصائبِ الجهلُ ".
وقال بعضُ الشعراءِ:

يزينُ الفتى في الناسِ صحةُ عقلِه و إنْ كان محظوراً عليه مكاسبُه
يشينُ الفتى في الناس قلّةُ عقلـه و إنْ كرُمتْ أعرافُه ومناسبُــه
يعيشُ الفتى بالعقلِ في الناس إنه على العقلِ يجري علمُه و تجارِبُه
و أفضلُ قسمِ اللهِ للمرءِ عقلُــه فليس لأشياء شيءٌ يقاربُــــه
إذا أكمل الرحمنُ للمرءَ عقلَــه فقد كمُلتْ أخلاقُه ومآربُــــه

اللغات المتوافرة

إخفاء الصور