وضع داكن
19-04-2024
Logo
الندوة : 16 - أصل الفرح في العيد - الفرق بين الرادع وبين الوازع
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

مقدمة :

الأستاذ جمال:
 بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العزة جلّ في عُلاه، وأفضل الصلاة وأتمّ التسليم على حبيب الله وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين.
 أيها الأخوة والأخوات، كل عام وأنتم بخير بمناسبة عيد الفطر السعيد، أعاده الله على أمتنا العربية والإسلامية بالخير واليُمن والبركة.
 أيها الأعزاء العيد بمعانيه يحمل دائماً كل الخير، وكل المحبة، للناس جميعاً، يحمل في طياته وفي جعبته البشرى، وما أجمل أيام العيد، لأنها تجعل التواصل بين الناس قائماً على أعلى المستويات، عن العيد وأهميته والمعاني المستوفى منه، يسعدنا أن يضيف دائماً الشيء الجديد الدكتور محمد راتب النابلسي أستاذ الأعجاز العلمي في القرآن والسنة، دكتور كل عام وأنتم بخير.
الدكتور راتب:
 وأنتم بخير أستاذ جمال جزاك الله خيراً.
الأستاذ جمال:
 سيدي:

العيد يا عماه من أرضى مولاه  ولم يعق أبواه فكانت الجنة مأواه
***

 هذا القول نسمعه دائماً منكم، ودائماً معاني العيد وكل ما يحمل من جديد من خلال معرفتكم واطلاعكم، تفضل سيدي.

 

العيد عند المسلمين هو عيد طاعة وشكر وتكبير لله :

الدكتور راتب:
 بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، وعلى صحابته الغر الميامين، أمناء دعوته، وقادة ألويته، وارضَ عنا وعنهم يا رب العالمين.
أستاذ جمال جزاك الله خيراً على هذا السؤال، لكن لا بد من تنويه إلى أن الأعياد في الأمم الأخرى لها شأن، وأعياد المسلمين لها شأن آخر، أعياد المسلمين تأتي عقب عبادات كبرى، وكأن النجاح الذي حققه المسلم في هذه العبادة، والتي نقلته نقلة نوعية، هذه العبادة التي أداها بنجاح لا بدّ من أن يفرح عقب أدائها، وعقب تحقيق المراد منها، فأصل الفرح في العيد في الفطر السعيد وفي الأضحى المبارك فرح بمكتسباتٍ إيمانية، وومضات روحية، تحققت لهذا المسلم في العيد.
 إذاً هو عيد طاعة، عيد شكر، عيد تكبير لله.

﴿ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ ﴾

[ سورة البقرة الآية: 185 ]

 وكأن هذه الكلمات في هذه الآية إشارة إلى العيد:

﴿ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾

[سورة البقرة]

النظام الإسلامي الأصل فيه الوازع والأنظمة الوضعية الأصل فيها الرادع :

 إذاً الأصل في هذا العيد أنه جاء عقب فريضة الصيام، والصيامُ دورةٌ إيمانيةٌ مكثفة لثلاثين يوماً، تنقل المرء إلى التقوى، والدليل أن الله عز وجل حينما قال:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾

[سورة البقرة]

 ما التقوى؟ أستاذ جمال، للإمام الشافعي كلمة رائعة، قال: العباداتُ معللةٌ بمصالح الخلق، هي حقيقة خطيرة، نبدأ بالصلاة:

﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ﴾

[سورة العنكبوت الآية:45]

 هذا النهي ذاتي، نهي داخلي، نهي انضباط ذاتي، نهي وازع، بينما القوانين في الأرض ينتهي الإنسان عن مخالفتها بدافع، بسبب العقاب، بالرادع، فالنظام الإسلامي الأصل فيه الوازع، والأنظمة الوضعية الأصل فيها الرادع، وفرقٌ كبير بين أن تنضبط من تلقاء ذاتك، من كمال حصّلته من الله، من خوفٍ من الله، من رغبةٍ لخدمة أخوانك في البشرية، وبين أن تنضبط مخافة العقاب، والدليل: أنه حينما انقطعت الكهرباء في أكبر مدينة بأمريكا في نيويورك، تمّ في هذه الليلة مئتا ألف سرقة، قيمتها ثلاثون ملياراً، إذاً الإنسان إما أن يعيش بالرادع، أو أن يعيش بالوازع، الإنسان المتفلت من منهج الله يعش بالرادع، أما المؤمن فيعيش بالوازع.
 فلذلك قال تعالى:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾

  تتقون أي أنكم ترون الحق حقاً، والباطل باطلاً.

 

الإنسان جُبل على حبّ وجوده وسلامة وجوده و استمرار وجوده :

 الإنسان أستاذ جمال، جبل وفطر وبرمج على حبّ وجوده، وعلى حبّ سلامة وجوده، وعلى حبّ كمال وجوده، وعلى حبّ استمرار وجوده، وعند كل إنسان دافع إلى الكمال، دافع إلى أن يكون ناجحاً في الحياة، ناجحاً في الآخرة، لكن الخطأ يأتي من الجهل، فالجهل أعدى أعداء الإنسان، والجاهل يفعل في نفسه ما لم يستطع عدوه أن يفعله به.
 مرة أستاذ جمال، مدير سجن ألّف كتاباً عن ثلاث و ستين جريمة، أصحابها محتجزون عنده، هذه الجرائم بعد أن ذكر التفاصيل بيّن الأسباب التي أدت إلى وقوع هذه الجريمة، جعل على رأس كل هذه الأسباب مخالفة منهج الله.
أنت أعقد آلة في الكون، لهذه الآلة صانع حكيم، ولهذا الصانع الحكيم تعليمات التشغيل والصيانة، فالإنسان حينما يتبع تعليمات الصانع يضمن سلامته، وحينما يتقرب إلى الصانع يضمن سعادته، وحينما يربي أولاده على منهج الله عز وجل يضمن استمرار وجوده.
 أنا لا أنسى أن عالماً كبيراً توفاه الله في الشام قبل عشرين عاماً تقريباً، أقيم له عزاء في الجامع الأموي، في اليوم الثالث وقف ابنه وألقى خطبة رائعة جداً لا تقل عن خطبة أبيه، أنا والله بكيت، قلت في نفسي: إذاً لم يمت الأب.
فالإنسان يسلم باتباع تعليمات الصانع، ويسعد بالإقبال عليه، ويستمر وجوده بأبنائه، لذلك ما من ورقة رابحة بقيت في أيدي المسلمين إلا أولادهم، والإنسان يسعد بسعادة أولاده ويشقى بشقائهم.

الحياة لا يمكن أن تصلح من دون وازع :

 نعود إلى الوازع والرادع، الصيام يحقق الوازع، بينما القوانين تحقق الرادع، فإذا تعطلت الكهرباء توقف الرادع فارتكب الإنسان كل الموبقات، لذلك أنا أقول مداعباً: إن استقامة أهل الغرب استقامة إلكترونية، أساسها الضبط، الإنسان لا يدفع ثمن السلعة، في البطاقة التي على السلعة مادة تتفاعل حينما لا يدفع ثمنها تصدر أصواتاً مخيفة، تغلق الأبواب فجأة، كل من في هذا المكان يدفعون الثمن، لا استقامةً ولا حباً بالأمانة إطلاقاً، خوفاً من هذه المادة التي لم تلغَ فتحدث صوتاً كبيراً.
 إذاً أكاد أقول إن الأنظمة الوضعية تقوم على الرادع الخارجي، بينما الأنظمة السماوية تقوم على الوازع الداخلي، مثلاً: عامل في فرن، دخل إلى بيت الخلاء، ولم يغسل يديه، وكان مصاباً بمرض كبدي، يمكن إذا صنع شيئاً من الطعام ولم يغسل يديه غسلاً جيداً، أن ينقل هذا المرض القاتل إلى ثلاثمئة إنسان في المطعم، شيء مخيف.
 أنا أقول لا يمكن أن تصلح الحياة من دون وازع، دليل الوازع أن ابن سيدنا عمر عبد الله، رأى راعياً يرعى الغنم في الجبال، قال له: بعني هذه الشاة وخذ ثمنها؟ قال: ليست لي، قال: قل لصاحبها ماتت أو أكلها الذئبُ، يمتحنه طبعاً، فقال هذا الراعي: والله لو قلت لصاحبها ماتت أو أكلها الذئب لصدقني فإني عنده صادق أمين، ولكن أين الله؟ هذا الراعي البسيط وضع يده على جوهر الدين، وفي اللحظة التي تقول فيها أين الله أنت مؤمن ورب الكعبة.
وحينما يُحصّل الإنسان العلم الغزير، ولا يُحصّل معرفة الله عز وجل، ولا يعبأ بطاعته، هذا العلم الغزير من دون استقامة على أمر الله لا ينفعه في آخرته.
الأستاذ جمال:
 دكتور محمد راتب النابلسي نحن نتابع برنامج: "فيه هدى للناس" منطلقين من قول الله عز وجل، وأحاديث المصطفى عليه الصلاة والسلام، العيد الذي نعيشه اليوم، أليس بعد مضي رمضان المبارك وحصول الوازع الداخلي؟ حصل بعد الصيام، الصيام تهذيب، تربية للنفس، عند حصول هذا الوازع الداخلي الإيمان بعد رمضان، أليس هذا عيداً حقيقياً للمؤمن؟.

 

العيد عودة إلى الله وطاعة له :

الدكتور راتب:
 نعم، بارك الله بك، الإنسان إذا صام صياماً مقبولاً، وشعر أنه أدى ما عليه تجاه خالقه، وشعر أنه في هذا الشهر قفز إيمانه قفزة نوعية، وأنه في هذا الشهر عرف عن كمالات الله الشيء الجديد، هذه القفزة النوعية في إيمانه هي أكبر مكسب له في دينه، لذلك فرحه في العيد حقيقي، لكن مع الأسف الشديد أحياناً العيد ينقلب إلى فلكلور، عادات وتقاليد، حلويات و ثياب جديدة، تبادل الزيارات أو تراشق الصداقات، هي حالة اجتماعية لا علاقة لها بالدين إطلاقاً، العيد كما تفضلت عودة إلى الله، بالتعريف الجامع المانع الرائع العيد عودة إلى الله، عيدُ المسلم عيدُ طاعة، عيدُ مغفرة، عيدُ حب، عيد تواصل، عيد صلة أرحام، عيد إكرام، عيد ابتسام، عيد صلح، العيد له معان دينية كبيرة جداً، لكن مع الأسف الشديد الإنسان ينضبط طوال العام، تأتي في بعض البلاد أعياد، في هذه الأعياد يتفلت بها الإنسان تفلتاً غير معقول، يصبح كالدابة لا يبحث إلا عن شهوته المحرمة، هذه المشكلة كبيرة، الفضل لله عز وجل أن أعياد المسلمين أعياد طاعات لله، أعياد تواصل، أعياد صلة رحم، فالإنسان بالعيد يلتقي مع أقربائه، مع أرحامه، يتبادل معهم الهدايا، يزورهم، يتفقد شؤونهم، والحقيقة أن منهج الله عز وجل منهج كامل، حتى الأفراح أفراح مرشدة، أفراح سامية، أفراح ذات مضامين عالية جداً، إذاً العيد عودة إلى الله، والدليل أنه يأتي بعد عبادات كبرى، فعيد الفطر السعيد يأتي عقب عبادة الصيام، والصيام ثمرته الأولى التقوى، والتقوى أن يقذف الله في قلبك نوراً ترى به الحق حقاً والباطل باطلاً، ترى به الحق فتتبعه، وترى فيه الباطل فتجتنبه، من أدعية النبي عليه الصلاة والسلام :" اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه".
الأستاذ جمال:
 عندما نتحدث فضيلة الشيخ النابلسي عن العيد، نتحدث عن الإنسان، هذا الإنسان الذي فهم حقيقة الحياة وعرف أن العيد هو نقلة نوعية في حياة الإنسان، لا أن يكون العيد كالذي سبقه، العيد هو مثلما تفضلت عقد العزم باستمرار العبادة والطاعة، ما المطلوب منا بعد العيد؟

 

المطلوب من الإنسان بعد رمضان :

الدكتور راتب:
 هناك فكر خاطئ يحمله بعض الناس، أنهم يتصورون أنه إذا جاء العيد كل الانضباط الذي كان عليه يدعه، إذاً لم يفعل شيئاً، أنا أتصور أن الانضباط الذي حصل في رمضان يجب أن يستمر بعد رمضان، ولا يفطر صبيحة العيد إلا فمه فقط، فمه يفطر، أما كان صادقاً، كان أميناً، كان ورعاً، كان يؤدي الحقوق، دفع أمواله، صلى الفجر في جماعة، العشاء في جماعة، وصل أرحامه، كل الطاعات التي كانت في رمضان يجب أن تستمر بعد رمضان، ولا يفطر إلا فمه.
 بالمناسبة المؤمن يصوم صوماً راقياً جداً، هو الصيام نقلة نوعية، فبين أن يكون في مدافعة التدني هو في متابعة الترقي، فرقٌ كبير، المؤمن في متابعة الترقي، لذلك أنا أتمنى أن نستعيد هذا المعاني السامية للعيد، التي تجعله أيام طاعة، أيام حب، أيام تواصل، أيام صلة رحم.

 

صلة الأرحام و الزكاة من أبرز أعمال العيد :

 أستاذ جمال لعل من أبرز أعمال العيد صلة الأرحام، كأن الله سبحانه وتعالى جعل الضمان الاجتماعي في حياة المسلمين على أساسين، على أساس النسب، وعلى أساس الجوار، فالضمان الاجتماعي كيف أضمن لهذا الفقير حقه؟ عن طريق العبادات، الغني يؤدي زكاة ماله، في رمضان تؤدى الزكاة، معنى تؤدى الزكاة أي أن هذا المال الذي أعطيته للفقير طهرك من مرض الشح، أستاذ جمال يوجد عندنا مرض يصيب الجسم، مرض خبيث قاتل، كالورم الخبيث، الشح مرضٌ خبيث كالورم الخبيث يصيب النفس، قال تعالى:

﴿ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾

[سورة الحشر]

 إذا أنفق الإنسان في رمضان ماله، بهذا الإنفاق يطهر الغني من الشح، والفقير من الحقد، والمال من تعلق حق الغير به، ينمي نفس الغني، يرى البسمة على قلوب من ساعدهم، رأى عمله ابتسامه على وجوه الصغار، الإنسان حينما يعمل صالحاً يشعر بقيمته، يشعر أنه مهم في المجتمع، يسمى هذا عند علماء النفس تأكيد الذات، الغني عندما أدى من ماله نصيب الزكاة، ورسم البسمة على وجوه الصغار يشعر بسعادة كبيرة.
 والله أنا أذكر مرة أخ كريم أصيب بمرض عُضال، يحتاج إلى عملية لا يملك من قيمتها ولا واحد بالألف، جاء إنسان محسن أجرى له هذه العملية، أنا أذكر أنني زرته بعد مرضه، وزرته بعد نجاح العملية، والله أولاده بعد نجاح العملية كادوا يرقصون من فرحهم، هذا الإنسان أدخل الفرح إلى هذا البيت.
 فلذلك العيد عودة إلى الله، سبقته الزكاة، الزكاة طهرت الغني من الشح، والفقير من الحقد، والمال من تعلق حق الغير به، والآن ونمت نفس الغني، رأى عمله، ونمت نفس الفقير رأى المجتمع مهتماً به، رأى هذا الدين العظيم أعطاه نصيبه من المال، وطهر أيضاً المجتمع من الأحقاد.
الأستاذ جمال:
 دكتور محمد راتب النابلسي ألا يندرج معنا ما عبد الله بأحب من جبر الخواطر في أيام العيد؟

 

الاستقامة و السعادة :

الدكتور راتب:
 طبعاً، بصراحة الإنسان إذا استقام على أمر الله يسلم، لكن لا تكفي الاستقامة، أما إذا عمل الصالحات يسعد، فرقٌ كبير، الاستقامة طابعها سلبي، يقول لك: أنا ما كذبت، ما أكلت مالاً حراماً ما غششت، الاستقامة طابعها سلبي، الإنسان بالاستقامة يسلم، مادام دخله حلالاً، ما أكل مالاً حراماً، ما اختار زوجة سيئة، ما أهمل أولاده، كل الماءات في السلوك استقامة، أما كل العطاءات في السلوك فعمل صالح، لذلك قال تعالى:

﴿ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ﴾

[سورة فاطر الآية:10]

 فالإنسان بالاستقامة يسلم، وبالعمل الصالح يسعد، وهم متكاملان، فالإنسان إذا صام رمضان كما أراد الله، وجاء العيد، الآن سلم وسعد، إذاً يفرح بهذا الإنجاز الديني الكبير، يفرح أنه صام، أما إذا أهملنا جانب العبادات، وتعلقنا بالمظاهر والماديات، عندئذٍ يعد الدين في حياتنا فلكلوراً، وعادات وتقاليد ورثناها عن الآباء والأجداد.

 

المعاني التي أرادها الله من العيد كبيرة جداً نحن في أمس الحاجة إليها :

 

  هذا المعنى ما أراده الله للعيد، لذلك وصِف بعض من لا يفقه حقيقة الصيام مثله كمثل الناقة حبسها أهلها، لا تدري هي لا لِمَ حبست؟ ولا لمَ أطلقت؟ برمضان لا أكل ولا شرب ولا فعل شيئاً لا يرضي الله، انتهى رمضان، عاد إلى ما كان عليه، حتى إن بعض الأشعار لبعض الشعراء:

رمضان ولى هاتها يا ساقي
* * *

 أي الذي فعله في رمضان عاد إلى فعله بعد رمضان، الذي تركه في رمضان عاد إليه بعد رمضان، ليس هذا معنى العيد إطلاقاً، العيد عودة إلى الله، العيد قرب إلى الله، العيد نجاح كبير حققه المسلم في رمضان، العيد تواصل اجتماعي، العيد صلح بين الناس، العيد نسيان الأحقاد، المعاني التي أرادها الله من العيد كبيرة جداً نحن في أمس الحاجة إليها.
الأستاذ جمال:
 إذاً أيها الأعزاء نتابع مع حضراتكم برنامج: "فيه هدى للناس"، مع صاحب الفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي، ونتحدث عن معاني العيد، دكتور خرج الإنسان من رمضان هناك نظام صحي معين اتبعه في رمضان، دعنا نتكلم من الناحية الصحية، والناحية الغذائية، ما المطلوب بعد رمضان من الناحية الصحية والغذائية وأنت أستاذ في مادة الإعجاز العلمي؟

 

رمضان من  الناحية الصحية :

الدكتور راتب:
 رمضان من زاوية صحية محضة، دورة وقائية وعلاجية لأجهزة الجسم، فالإنسان حينما يمتنع عن الطعام والشراب، هذا الجهاز الهضمي أخطر جهاز بالإنسان، خلال الطعام المستمر والعادات السيئة في الطعام والشراب، تتراكم بزوايا الأمعاء مواد غذائية، تتعفن بعد فترة، فيأتي رمضان يجرف كل هذه المواد، هذه نقطة مهمة جداً، وكأن الصيام صيانة لهذا الجهاز صيانة كاملة، والإنسان كما تعلم طبيعة الحياة المعاصرة الطعام طيب، وهناك أشياء جميلة جداً بالحياة، والحركة قليلة، أنا أقول لك كلمة دقيقة وهي: إن أسباب الأمراض في هذا العصر سببان كبيران؛ كسل عضلي، وشدة نفسية، أما أجدادنا فحياتهم كانت متعبة، وسائل الراحة لم تكن عندهم، كان عندهم جهد عضلي كبير، وراحة نفسية، تعد الشدة النفسية والكسل العضلي وراء معظم الأمراض الآن، أي الراحة، الدرج التغى هناك مصعد، والمركبة ألغت المشي، فحينما ألغيت الرياضة، مركبات، مصاعد، حياة ناعمة، راحة، طعام طيب، هذا يتناقض مع الصحة، فيأتي الصيام كدورة وقائية لجهاز الهضم، طبعاً جهاز الهضم يحتاج إلى صيانة، الآن عندنا شيء ثان وقاية، وصيانة، أي معمل يحتاج إلى صيانة.
 أقول لك نقطة دقيقة: عندنا مرض هذا المرض إلى الآن لم يعرف ما سببه، هذا المرض نقص عناصر الكريات البيضاء في الإنسان، يسمونه ابيضاض الدم، هذه الكريات تنقص، لماذا تنقص؟ لأن الإنسان حينما يأكل ويشرب عنده كل ثانية يموت اثنان ونصف مليون كرية حمراء فحينما يمتنع عن الطعام تكون مناسبة لتجديد نشاط فعل الكريات.
 أستاذ جمال هناك فكرة دقيقة بنقي العظام عندنا معامل لكريات الدم الحمراء، عندما الإنسان يأكل اللحمة، ومعها العظم، بعض قطع العظم يضربها على الطاولة ينزل منها ماسورة رمادية اللون، هذه الماسورة هي معامل كريات الدم الحمراء، هذه المعامل تنتج بكل ثانية اثنين ونصف مليون كرية حمراء، وأحياناً هذه المعامل في نقي العظام تكف عن تصنيع الكريات الحمراء، اسم المرض فقر دم لا مصنع، ليس له علاج حتى الآن، مات به ملوك، فقر دم لا مصنع، معامل كريات الدم تكف عن العمل، العلماء اكتشفوا أن صيانة هذه المعامل الوحيدة نقص الكريات الحمراء، النقص هو الصيانة، فالصيام يعمل نقصاً، فالذي يصوم فهو يعالج أخطر جهاز في الإنسان جهاز تصنيع كريات الدم الحمراء.
الأستاذ جمال:
 لذلك سيدي الحديث الشريف في مجال الصيام:

(( لو يعلم العباد ما في رمضان لتمنت أمتي أن تكون السنة كلها رمضان ))

[ أخرجه أبو يعلى عن عبد الله بن عباس]

 هذا تأكيد إعجاز علمي.

 

الصيام دورة وقائية ودورة علاجية لمعظم الأمراض :

الدكتور راتب:
 نعم، إذاً الصيام صحة، الصيام دورة وقائية، ودورة علاجية لمعظم الأمراض التي تصيب الإنسان، ولاسيما في السنوات المتأخرة، فهو نظام إلهي.
 بالمناسبة من السذاجة بمكان أن تتوهم أن الأمر الإلهي له فائدة واحدة، هو عبادة، هو قرب من الله، هو توبة، هو صحة، فالصيام يحجم الطعام ويقلله، ليكون هذا التحجيم والتقليل صيانة لجهاز الهضم ولمعامل الكريات الحمراء.
الأستاذ جمال:
 إذاً نتابع أيها الأعزاء مع حضراتكم برنامج: "فيه هدى للناس" الذي يذاع يوم الجمعة في الساعة الحادية عشرة صباحاً وحتى الثانية عشرة والربع، ونحن ما زلنا في ضيافة سماحة الشيخ الدكتور محمد راتب النابلسي، نعود سيدي إلى معاني العيد.

معاني العيد :

الدكتور راتب:
 التواصل بين الناس في العيد، أنا أقول لك: هناك عبادة تعاملية كبيرة جداً غابت عن الناس هي صلة الأرحام، لكن هناك فهماً ساذجاً لهذه العبادة، أنه بالعيد تطرق بابه فلا تجده فتضع له بطاقة وانتهى كل شيء، أنا أقول لك: لم ينتهِ شيء، ليست هذه الصلة التي أرادها الله عز وجل، الصلة القوي يتفقد الضعيف من أقربائه، يتفقد أحوالهم المعيشية، أحوالهم الاجتماعية، التربوية، وضع أولادهم، ينقصهم قسط الجامعة مثلاً، هذا القوي والغني يتفقد الضعيف والفقير، فالصلة حقيقة تفقد، ومساعدة، ومعاونة، وتماسك، وتعاون، والله لا أفهم الصلة إلا بهذه الطريقة، صلة تضمن للمجتمع استمراره، لأن الله عز وجل إن صحّ التعبير جعل أساس الضمان الاجتماعي أساساً جغرافياً، فهناك مئات الأحاديث توصي المؤمن بجاره، هذا أساس جغرافي، وأساس نسبي لأقربائه، لذلك لا تقبل زكاة الغني وفي أقربائه محاويج، الأقربون أولى بالمعروف، العيد مناسبة لهذه الصلة، الصلة لها معان كبيرة جداً، لكن مع الأسف الشديد مسخت هذه الصلة بطرق الباب ووضع البطاقة، أما الأصل أن نزورهم، أن نتفقد شؤونهم المعاشية، أن نساهم في حل مشكلاتهم، أن نتواصل معهم.
 والله أذكر قصة، أخ كريم سمع درساً من دروسي حول صلة الرحم، وهو عندي صادق، فله قريب لم يزره سابقاً، هو غني قريب، ذهب إليه بالعيد فما وجده فوضع له بطاقة، هذا القريب الغني يبدو أنه صالح، فتابع هذه البطاقة، وأخذ منها العنوان، وردّ له الزيارة، عندما ردّ له الزيارة وجده في بيت في القبو الثاني تحت الأرض، والظلام دامس، والرطوبة عالية، وعنده خمسة أولاد، وأكثرهم مصابون بالروماتيزم، من تلقاء نفسه بحث له عن بيت في الطابق الثالث، المبلغ في ذلك الوقت كان مليوني ليرة، قلت: سبحان الله! القصة هذه جعلتني أؤمن ما معنى صلة الرحم، عندما رأى هذا الغني قريبه بحاجة إلى بيت لأولاده اشترى له هذا البيت، هذه الصلة.
لذلك الأقرباء فيهم الأغنياء والفقراء، والأقوياء والضعفاء، و الغني فيهم مكلف بالفقير، والقوي فيهم مكلف بالضعيف، وهذه الصلة هي أساس الضمان الاجتماعي في العالم الإسلامي.
الأستاذ جمال:
 دكتور النابلسي، كم فرحة العيد تكبر عند الإنسان الميسور، وعند إمكانية كما تفضلت أن يفرج همّ أخيه؟.

 

ما مكّن الله إنساناً في الأرض إلا ليكون هذا التمكين سبباً لرقيه في الجنة :

الدكتور راتب:
 أنا أقول لك كلاماً دقيقاً، والله يا أستاذ جمال ما جعل الله الغني غنياً إلا ليصل بماله إلى أعلى درجات الجنة، لكن الغني الذي غفل عن الله يرى أن هذا المال لمتعه فقط، لمتعه وليتيه على غيره من الناس، وما جعل الله القوي قوياً إلا ليصل بقوته إلى أعلى درجات الجنة، القوي بجرة قلم يحق حقاً ويبطل باطلاً، يقر معروفاً ويزيل منكراً، وما جعل الله العالم عالماً إلا ليصل بعلمه إلى أعلى درجات الجنة، هذا اسمه التمكين في الأرض، ما مكن الله إنساناً في الأرض إلا ليكون هذا التمكين سبباً لرقيه في الجنة، الإنسان ببعده عن الله، وبغفلته، يتوهم أن هذا المال من أجل متعه الرخيصة، فيبذله، ويحرمه ممن يستحقه، لذلك ورد:

((شر الطعام طعام الوليمة يدعى إليه الغني ويترك الفقير ))

[أخرجه الطبراني عن عبد الله بن عباس ]

 كان في الشام الشيخ عطا الله الكسم - رحمه الله - كان مفتياً كبيراً، كان إذا دعا الأغنياء دعاهم إلى طعام خشن جداً، وإذا دعا الفقراء دعاهم إلى اللحوم، فكان ابنه يعترض عليه، فقال: يا بني هؤلاء الأغنياء ملوا من اللحوم، وهؤلاء الفقراء يشتهونها، نحن ما الذي يحصل؟ ندعو الكبراء والأغنياء.

((شر الطعام طعام الوليمة يدعى إليه الغني ويترك الفقير ))

 أنا مرة دُعيت إلى طعام، يبدو أن في الطعام لحماً، رأيت إنساناً يأكل أكلاً غير طبيعي، لعله من عام لم يذق اللحم، فحينما تقام الموائد في رمضان لجبر خاطر الفقراء، لإطعامهم، لإكسائهم.

 

رمضان مناسبة كبيرة جداً لصلة الأرحام :

 والله بالمناسبة: رمضان مناسبة كبيرة جداً لصلة الأرحام، الأرحام المتماسكة شيء كبير جداً، والله أنا أعجب بأسر متماسكة، مترابطة، متعاونة، حتى إني سمعت الآن أن في الشام جمعية تتعهد جميع الشباب للدراسة الجامعية، تتعهد الفقراء بالمعونة الاقتصادية، شيء جميل أن كل عائلة كبيرة تفعل هذا.
الأستاذ جمال:
 هذا مصداق لله عز وجل :

﴿ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ﴾

[ سورة المائدة الآية: 2]

 وتكبر معاني العيد سيدي عندما نحتفي بهذا العيد وتتفضل بأجل المعاني السامية التي تغني معاني العيد، إذاً:

العيد يا عماه من أرضى مولاه  ولم يعق أبواه فكانت الجنة مأواه
***

 عقوق الوالدين.

 

الله عز وجل رفع الإحسان إلى الوالدين إلى مستوى عبادته :

الدكتور راتب:
 إذا كنت مكلفاً أن تحسن للفقير والغريب والجار، فمن باب أولى للوالدين، الوالد سبب وجودك، وهناك ملمح دقيق جداً أن الله سبحانه وتعالى حينما قال:

﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً ﴾

[ سورة الإسراء الآية: 23 ]

 أنت مثلاً لا يمكن أن تقول اشتريت بيتاً وملعقة، لا يوجد تناسب، الواو حرف عطف تقتضي التماثل، تقول: بيتاً ومركبة، بيتاً وأرضاً، أرضاً ومزرعة، يجب أن يكون هناك تماثل، فإذا قال الله:

﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً ﴾

 أي رفع الإحسان إلى الوالدين إلى مستوى عبادته، إذاً: ليعمل العاق ما شاء أن يعمل فلن يغفر له، لو أن في القرآن كلمة أقل من أف لقالها الله عز وجل .

﴿ فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً ﴾

[ سورة الإسراء]

 لو أن في القرآن كلمة أصغر من أف لقالها الله، العلماء حملوا عليها ثلاثين حالة، دفع الباب بقوة كأف، النظر إلى الأب بقسوة كأف، ثلاثون حالة تساوي أف،

﴿ فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً ﴾

 سبحان الله! كأن الله وعد البار بوالديه بالرزق الوفير، والله أعرف إنساناً له ولدان؛ الأول عاق، والثاني بار، والله الثاني موفق توفيقاً يفوق حدّ الخيال، والأول لا يستطيع أن يبحث عن طعامه لأنه كان عاقاً لوالديه.
الأستاذ جمال:
 إذاً ما أجلّ معاني العيد وما أحلاها عندما نتمثلها بعد صيام هذا الشهر المبارك شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن، سيدي في ختام هذا الحديث ماذا نقول لكل الأجيال ولكل من يتابعنا؟ ما هو العيد؟.

 

العيد دعوة إلى الله و اصطلاح معه :

الدكتور راتب:
 العيد دعوة إلى الله.

(( إذا رجع العبد العاصي إلى الله، نادى منادٍ في السماوات والأرض أن هنئوا فلاناً فقد اصطلح مع الله ))

[ورد في الأثر]

 أنا أقول للأخوة الكرام لا تقصروا في رمضان، جاء العيد لنفتح صفحة جديدة مع الله، من لنا إلا الله؟ لو إنسان قصر ولم يصوم كما ينبغي الآن مناسبة أن يبدأ مع الله صفحة جديدة، لأن التوبة مستمرة، وباب التوبة مفتوح على مصارعه، وما أمرنا الله أن نتوب إليه إلا ليقبل توبتنا وما أمرنا أن نسأله إلا ليعطينا، وما أمرنا أن نستغفره إلا ليغفر لنا، وما أمرنا أن ندعوه إلا ليجيبنا.

 

خاتمة و توديع :

الأستاذ جمال:
 إذاً ما أجلّ معاني العيد التي تحمل الجديد للناس جميعاً في التعامل، في التسامح، وكما تفضل سماحة الشيخ الدكتور محمد راتب النابلسي الذي أضاف شيئاً مفيداً ورائعاً من خلال الهدي القرآني العظيم، وأحاديث المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم، وأيضاً من خلال الأمثلة والشواهد الدالة على ذلك.
 فضيلة الشيخ نشكركم الشكر الجزيل إن شاء الله، وكل عام وأنتم بألف خير.
الدكتور راتب:
 بارك الله بكم ونفع بكم أستاذ جمال، وأعاد هذا العيد على الأمة الإسلامية وهي في أعلى درجات القرب من الله إن شاء الله.
الأستاذ جمال:
 أيها الأعزاء كل الشكر لحسن متابعتكم، لقاؤنا إن شاء الله في الأسبوع القادم مع حلقة جديدة ومتجددة من لقائنا الأسبوعي: "فيه هدى للناس".
 والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور