وضع داكن
24-04-2024
Logo
الدرس : 3 - سورة النبأ - تفسير الآيات 31-40 ، الفوز العظيم يكون بالنجاة من النار.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

الفوز بالنجاة من النار فوز عظيم :

 أيها الأخوة المؤمنون، مع الدرس الثالث من سورة النبأ، ومع الآية الواحدة والثلاثين وهي قوله تعالى:

﴿ إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً ﴾

 الحقيقة أن الفوز بالنجاة من النار فوز عظيم.

﴿ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ﴾

[ سورة آل عمران: 185 ]

 يا بني ما خير بعده النار بخير، وما شر بعده الجنة بشر، وكل نعيم دون الجنة محقور، وكل بلاء دون النار عافية.
 لمجرد النجاة من النار فهذا فوز عظيم، اتقوا النار ولو بشق تمرة، قال رجل لسفيان الثوري: أوصِني: فقال: اعمل للدنيا بقدر بقائك فيها، واعمل للآخرة بقدر بقائك فيها - فترة محدودة - واعمل لله بقدر حاجتك إليه، واتقِ النار بقدر صبرك عليها.

﴿ إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً ﴾

تقوى الله أن تذكره فلا تكفره وتطيعه فلا تعصيه :

 اللهُ عز وجل سمَّى هذا الفوز فوزاً عظيماً.

﴿ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ*لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ ﴾

[سورة الصافات: 60-61]

﴿ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ ﴾

[ سورة المطففين: 26 ]

 هؤلاء الذين اتقوا ربهم لمجرد أن يفوزوا بالنجاة من النار فهذا فوز عظيم.

﴿ إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً ﴾

 إنّ المتقي هو الذي اتقى أن يعصي الله، اتقى غضب الله، وسخطه، وعذابه في الدنيا والآخرة، فالتقوى هي الوقاية من شيء خطير، والفعل اتقى بمعنى وَقَى، فهؤلاء الذين اتقوا ربهم وقفوا عند كلامه، وعند أمره، وانتهوا عما نهى عنه الله، وائتمروا بما أمر الله، فوجدَهم الله حيث أمرهم، وافتقدهم حيث نهاهم، وحرموا ما حرم الله، وأحلُّوا ما أحل الله، هذا معنى المتقي.

﴿ أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ ﴾

[ سورة آل عمران: 102 ]

 أي أن تذكر الله فلا تكفره، وتطيعه فلا تعصيه ولا تغفل عنه.

﴿ إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً ﴾

ليس في الدنيا من حقيقة نعيم الآخرة إلا الأسماء :

 الفوز مُسعِد، وكل إنسان بحسب فطرته يتمنى أن يكون فائزاً فوزاً عظيماً، والفوز العظيم في الدنيا أن تكون غنياً، أو قوياً، أو في مرتبة عالية جداً، هذا فوز أهل الدنيا، لكن فوز أهل الإيمان فهو في طاعة الرحمن، والعمل الصالح، ومعرفة الواحد الديان، هذا معنى الفوز الأُخروي.
 قل لي: ما مقياس الفوز عندك أقلْ لك مَن أنت! أهل الدنيا فوزهم بالدرهم والدينار، أو بالمتع الحرفية، لكن فوز أهل الإيمان ففي معرفة الله، وطاعته، والعمل الصالح.

﴿ إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً ﴾

 نجوا من النيران، وسَعِدوا بالجنان.

﴿ حَدَائِقَ وَأَعْنَاباً ﴾

 الحقيقـة أنّ كل ما في الآخرة لا علاقة له بالدنيا، إلا في ذهنك، فإنّ الله عز وجل تقريباً للأذهان ذكر لنا أشياء نعرفها في الدنيا، وقد صحّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ اللَّهُ:

((أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ فَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ))

[متفق عليه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ]

 ليس في الدنيا من حقيقة نعيم الآخرة إلا الأسماء، فإنّ المسمَّى يختلف، نحن نرى في الدنيا بستاناً جميلاً، فيه أشجار وارفة الظلال، أرض خضراء ممتعة للعينين، ورود، وأزهار، ورياحين، وعصافير مزقزقة، نسيم عليل، هذه معلوماتنا عن الدنيا، وربنا عز وجل تقريباً لعقولنا قال:

﴿ إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً* حَدَائِقَ ﴾

الفوز الدنيوي والفوز الأخروي :

 أحياناً الإنسان يرى في مجلة صورةً لحديقة جميلة جداً، يُعتَنَى بها كثيراً، بساط أخضر، حوله ورود، وأشجار، وجدول من المياه الرقراق، فيقول: هذا منظر جميل جداً، يأخذ بالألباب، هذا كله تقريب لك.

((أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ ))

[ متفق عليه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ]

 كما أن النار مخيفة فالجنة جميلة، وكما أن النار خسارة ما بعدها خسارة فإنّ الجنة فوز ما بعده فوز، لو أن كل مصائب الدنيا طُرِحتْ على إنسان، وانتهت به إلى الجنة فهو الفائز الأول، ولو أن كل نعيم الدنيا كان بيد إنسان، وانتهى به الأمر إلى جهنم فهو الخاسر الأول، وهو ليس بشيء إطلاقاً.
 فإذا نظر ناظر بعقله أن الله أكرمه حين أعطاه، أو أهانه حينَ زوى عنه الدنيا، إذا قال: أهانني فقد كذب، وإن قال: أكرمني فقد أهان غيره حيث أعطاه الدنيا.

﴿ رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ ﴾

[ سورة يوسف: 101 ]

 من أدقِّ ما قرأت عن هذه الآية أنّ المُلْكَ ليس مَن ملَك القصرَ الجميل، وليس مَن جمع المال الوفير، الملْك مَن ملَك نفسه عند الشهوة فضبطها وحملها على طاعة الله، قال تعالى:

﴿ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ ﴾

[ سورة الحشر: 16 ]

 هذا هو الملْك العظيم، أما الملْك المادي فإنّ اللهَ يعطيه لمن يحب ولمن لا يحب.

 

الملْك أن تملك نفسك عند الغضب والشهوة وأن تتماسك عند الضغوط :

 الملْك أن تملك نفسك عند الغضب، والشهوة، والمغريات، وأن تتماسك عند الضغوط، وهذا هو الفوز العظيم.

﴿ إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً* حَدَائِقَ وَأَعْنَاباً ﴾

 الحديقة لها أسوار تحيط بها، حديقة ليست عامة ولكنها خاصة بك، وما يزيد في متعتها أنها لك وحدك، لأنّ المكان العام قد يكون فيه ازدحام، وهو لكل الناس، أما الحديقة الخاصة فهي لصاحبها حصراً.

﴿ إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً* حَدَائِقَ وَأَعْنَاباً ﴾

 الفواكه من الصعب أن تصفها، لأنّ لكل فاكهة طعماً تتميز به، أنا أقول لك: لن تستطيع أن تصف طعم العنب دون أن تقول هذا عنب، ولا الكُمَّثْرى دون أن تقول كمثرى، فلكل فاكهة طعم متميز، وهو محبب، فالتفاح والكمثرى والبرتقال أنواع منوَّعة، فهذه الحدائق لإمتاع الحس، وتلك الأعناب لإمتاع الذوق.

﴿ وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً ﴾

 حُورٌ كاملات الخَلق، وهذا أيضاً مما أودعه الله في الإنسان، قال تعالى:

﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ ﴾

[ سورة آل عمران: 14 ]

في الآخرة الحور العين من أكمل ما خَلَق الله عز وجل :

 لحكمة بالغة بَالغة لم يشأ الله عز وجل أن تكون المرأة كاملة في الدنيا، فما من امرأة إلا وفيها نقص، وهذا النقص هدفه تربوي، وهو أن تستعين بها دون أن تتعلق بها، تستعين بها على أمر دينك دون أن تجعلها قِبلتك، لكن التكليف يوم القيامة انتهى، فالنساء هناك كاملات الخَلق والخُلق، قد يعجبك في الدنيا خَلقُ امرأةٍ ولا يعجبك خُلُقها وبالعكس، والكمال لله وحده، أما في الآخرة فالحور من أكمل ما خَلَق الله عز وجل، لذلك قال بعض أصحاب النبي لزوجته، وقد أَلَّحَتْ عليه في شيء من الدنيا، قال: (اعلمي أيتها المرأة أن في الجنة من الحور العين ما لو أطلت إحداهن على الأرض لبلغ نورُ وجهها ضوء الشمس والقمر، فلأن أضحي بك من أجلهن أهْونُ من أن أضحي بهن من أجلك).

﴿ إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً*حَدَائِقَ وَأَعْنَاباً *وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً ﴾

 كواعب أي شابات، مكتملات الخَلق، وهناك معانٍ تفصيلية لمعنى الكواعب.

﴿ أَتْرَاباً ﴾

 أيْ: في سن متقارب، الفتاة ربما لا تألف مَن هو أكبر منها بكثير والرجل لا يألف من هي أكبر منه بكثير، فمِن دواعي كمال المتعة بين الزوجين أن يكونا في عمر متقارب.

﴿ إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً*حَدَائِقَ وَأَعْنَاباً *وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً* وَكَأْساً دِهَاقاً ﴾

 أي: مترعة ممتلئة، طبعاً في الجنة أنهار من عسل مصفى، وأنهار من لبن لم يتغير طعمه، وأنهار من خمر لذة للشاربين، وأنهار من ماء غير آسن، شراب مِن أعلى مستوى، والكأس مترعة ممتلئة، وهذا كله تقريب للأذهان، لأن اللغة لا بد لها من مسمَّيات، كلمة بحر تثير عندك خبرة، لو أنك ذهبت إلى البحر، وركبته، وسبحت فيه، ورأيت هيجانه، وجماله، ثم عدت، وسمعت بعدئذٍ كلمة (بحر)، فهذه الكلمة تثير عندك كل الخبرات.

 

ربنا عز وجل قرّب إلينا مفهوم الجنة بأسماء معلومة في الدنيا :

 مرة أستاذ بالجامعة ذكّرنا أن كلمة كرسي يعلَّق عليها كل إنسان ما في وسعه من الخبرات، فلو أن أستاذاً جامعياً يحمل أعلى شهادة، ولم يتح له أن يكون أستاذاً ذا كرسي في الجامعة، وسمع كلمة (كرسي) يبقى ساعات طويلة شارداً، متألماً لأنه لم يكن هو الأستاذ ذا الكرسي، وهو الأَولى بهذا المنصب لعلوِّ شهادته وكفاءته، فذهنه عند موقع أستاذ ذي كرسي، ووازن بين شهادته العالية من دولة ذات سمعة عالية في العلوم، وبين أستاذ آخر يحتل هذه المنزلة، وليست شهادته في المستوى المطلوب يتألم، فهو يفكر مدة ساعة أو ساعتين في كلمة (كرسي)، وهو يقول في نفسه: أنا أولى بهذا المنصب من فلان.
 يسمع كلمة (كرسي) إنسان حلاق عنده في الدكان كرسيان، يحتاج إلى كرسي ثالث، هل يشتري كرسياً ثالثاً، هناك ضريبة مالية، ويحتاج إلى موظف ثالث. إذا سمع بها حلاق فكَّر في الموضوع ساعات طويلة، وقد يسمع كلمة (كرسي) إنسان يحتاج إلى كرسي حمام، تُرى من أين أشتري هذا الكرسي؟ وماذا أشتريه، مِن خشب أم من نوع آخر؟ يفكر تفكيراً ثالثاً، وقد يسمع كلمة (كرسي) إنسان متعب، فيقول: آه، لو أستريح على كرسي لبعض الوقت، فكلمة واحد قد تعلق عليها كل خبراتك!
 ربنا عز وجل تقريباً لنا لمفهوم الجنة سمَّى بعض نعيم الجنة بأسماء معلومة في الدنيا، فعندنا حديقة، وبستان، وأشجار باسقة، وللزينة، وجميلة، ودائمة الخضرة، وذات أشكال مختلفة، وورود مختلف أنواعها، رياحين، ونباتات ذات رائحة عطرة، وأنهار، وينابيع، وشلالات، ونساء جميلات، وعصافير مزقزقة، وأطيار جميلة، هذه خبراتنا في الدنيا، فربنا عز وجل قرّب إلينا مفهوم الجنة فقال:

﴿ إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً*حَدَائِقَ وَأَعْنَاباً *وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً* وَكَأْساً دِهَاقاً ﴾

 الكأس مترعة، والفتاة مكتملة الخَلق، وهي في سنِّ مَن في الجنة، والحدائق لها خصوصية، وفيها من الفواكه ما لذّ وطاب.

﴿ إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً ﴾

أسعدُ أناسِ الدنيا أرغبهم عنها وأشقاهم فيها أرغبهم فيها :

 هذا إله عظيم، خالق السماوات والأرض يُغْرينا بما أعدَّه لنا في الآخرة، فهل ننصرف عن دعوته؟

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ﴾

[سورة الأنفال: 24]

 أغرانا بهذه الجنة التي نعيش فيها إلى أبد الآبدين، فلا مرض بالدنيا، لا تعب في الفقرة فتصبح حياته جحيماً، لا التهاب في المفاصل، ولا ضعف في الرؤيا، أو ارتفاع نسب الشحوم الثلاثية في الدم، فيمُنَع من تناول الطعام اللذيذ، هذه حياتنا في الدنيا، كلها متاعب، وهموم، وأحزان، وقد تضعف همةُ الإنسان على الإمتاع بالحياة، فيملّ الأكل، والشرب، والذهاب، والسفر، والاختلاط، فهذه الحياة الدنيا، فيها هموم، وموت الأقارب، وأمراض شديدة جداً، فيها ذل، وقهر، وخوف، وحزن، أمّا هذه الجنة فأُعدَّت لعباد الله الصالحين، فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
 قد تكون غنياً فلا تنجب أولاداً، وقد تنجب الكثير من الأولاد وليس معك المال الكافي لتنفق عليهم، وقد تنجح في زواجك ولا تنجح في تربية أولادك، وبالعكس، أو تنجح فيهما ولا تنجح في عملك، وقد تنجح في عملك ولا تنجح في صحتك، هكذا الدنيا أرادَها الله أن تكون ذات إيجابيات وسلبيات، كي لا نتعلق بها، ونتخذها مطية لا قبلة، ممراً لا مقراً، وسيلة لا غاية، وأسعدُ أناسِ الدنيا أرغبهم عنها، وأشقاهم فيها أرغبهم فيها، خذ من الدنيا ما شئت، وخذ بقدرها همّاً، ومَن أخذ مِن الدنيا فوق ما يكفيه فقد أَخَذ مِن حتفه وهو لا يشعر.

﴿ إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً*حَدَائِقَ وَأَعْنَاباً *وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً* وَكَأْساً دِهَاقاً ﴾

 هناك متعة للعين بالحدائق ومتعة للفم بالأعناب، ومتعة حسية بالكواعب الأتراب، ومتعة غذائية بالكأس الدهاق.

 

من سعادة المرء أن يعيش مع أناس صادقين :

 لاحظ الصفاء!

﴿ لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلَا كِذَّاباً ﴾

 اللغو كلام لا معنى له، كله كذب، كلام غير واقعي، فيه دجل ومجاملات وتزوير.

﴿ لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلَا كِذَّاباً ﴾

 لا يكذبون، ولا يُكذب عليهم، واللغو هو الكلام الذي لا معنى له. مرة كنت في مركبةٍ عامة، والحافلة مزدحمة بالركاب، والساعة الثالثة بعد الظهر، صديق السائق يدعوه لتناول الغداء معه في البيت! كلام لا معنى له، أيترك هذا السائق المركبة ممتلئة بالركاب، وينزل معه إلى الغداء؟! هذا نمط من كلام فارغ، ومجاملات لا معنى لها، وكذب، ودجل، وتعبيرات لا تعني شيئاً، هذا الذي في الدنيا كذب وهُراء، هناك أناس يكذبون، كلما تنفسوا كذبوا مع النفس! وقد تجلس مجلساً كله كذب في كذب، كله نفاق.

﴿ لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلَا كِذَّاباً ﴾

 ليس ثمة كلام لا معنى له، ولا كلام فيه كذب، فهم لا يكذبون، ولا يستمعون إلى الكذب، أي لا يُكذب عليهم.
 أخواننا الكرام: مجتمع الصدق مجتمع مقدس، أن تلتقي بإنسان صادق يعبِّر لك عن الواقع دون أن يزيد أو يحذف، أو يكثر أو يقلل، فمن سعادة المرء أن يعيش مع أناس صادقين.

((إِنَّ الصِّدْقَ بِرٌّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ، وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صِدِّيقاً....))

[مسلم عَنْ عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ مَسْعُودٍ]

الجنة والكأس الدهاق والبُعْد عن اللغو والكذب هي الفوز الكبير:

 هذه الجنة التي هي في الحقيقة فوز كبير، مع الحدائق المنوعة، والكأس الدهاق، والبُعْد عن اللغو والكذب.

﴿ جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَاباً ﴾

﴿ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ*آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ * كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ*وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ*وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ﴾

[سورة الذاريات: 15-19]

﴿ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ*إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ *فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ *فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ *قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ ﴾

[سورة الحاقة: 19-24]

كل ما في الدنيا له حساب دقيق في الآخرة :

 كل شيء بحساب دقيق، صلواتك، وغض بصرك، صِدْقك، وإعراضك عن النميمة، وبرك لوالديك، كل هذا محفوظ عند الله، كل صغيرة وكبيرة مسجلة عليك أو لك، حساب دقيق.

﴿ جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَاباً ﴾

 حساباً: أي عطاءً كبيراً، قال علماء اللغة: هذا عطاء إلى أن تقول: حسبي اكتفيت، خذ ما شئت. عَنْ أَبِي ذَرٍّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا رَوَى عَنِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّهُ قَالَ:

((.....يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا فَمَنْ وَجَدَ خَيْراً فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ))

[مسلم عَنْ أَبِي ذَرٍّ ]

﴿ جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَاباً ﴾

﴿ لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ ﴾

[سورة الصافات: 61]

﴿ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ ﴾

[ سورة المطففين: 26 ]

 أما الدنيا فَلَكَ أنْ تتَصَوَّرَ طريقاً عريضاً وطويلاً جداً، ينتهي بحفرة مالها من قرار! عمق الحفرة مئة متر، والسيارات تتسابق على هذا الطريق، أول سيارة السباقة الأولى سقطت! ثم الثانية، ثم الثالثة! فما هذا السباق؟ الدنيا هكذا أغنى وأقوى إنسان يموت، ويوضع في القبر، الصحيح والمريض، والوسيم والدميم، والقوي والضعيف، ومن أصل عريق والصعلوك، كل هؤلاء إلى الموت! والموت قَطْعٌ للدنيا، نهاية، ما هذا السباق؟!!

 

يوم الحساب سيشهِد علينا كلُّ شيءٍ:

 

 أما في الآخرة:

﴿ إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً ﴾

﴿ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ ﴾

[سورة القمر: 54-55]

﴿ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَاباً ﴾

 هذا اليوم العصيب! حينما يُستدعَى إنسان في الدنيا للتحقيق في موضوع ما، ربما لا ينام الليل أياماً عديدة، وسيسأله إنسان، وبإمكانه أن يخفي عنه الشيء الكثير، أما إذا وقفنا بين يدي الواحد الديان ليحاسبنا على كل ما اقترفت أيدينا شهِد عليك كلُّ شيءٍ، قال تعالى:

﴿ حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ* وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ ﴾

[سورة فصلت:20-21]

 جاء مع كل نفس شهيدٌ، ملَكٌ يسوقها، ومَلَكٌ يشهد عليها، هذا العطاء الكبير! قال بعضهم: بغير حساب، وقال بعضهم: حتى تقول حسبي.

 

يوم القيامة لا يملك إنسان أن يقول كلمة واحدة :

 قال تعالى:

﴿ جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَاباً ﴾

 هذا من الله.

﴿ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ ﴾

 الرب هو الممد الذي يدبر أمر السماوات والأرض، يمد المخلوقات بما يحتاجون، ويربِّيهم، ويقودهم إلى طريق سلامتهم وسعادتهم، الموقف رهيب، وإنّه يوم عصيب وعسير.

﴿ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَاباً ﴾

 في الدنيا الإنسان يتفوّق، ويعترض، وينتقم، ويترجى، أما في هذا اليوم العصيب فلا يملك إنسان أن يقول كلمة واحدة.

﴿ وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ ﴾

[سورة الأنعام:94 ]

﴿ يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفّاً لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً ﴾

 اختلف علماء التفسير في تفسير كلمة الروح، ماذا تعني؟ قال بعضهم: جبريل، وقال بعضهم: مَلَكٌ عظيم، يأتي بَعد العرضِ اسمه الروح، وقال بعضهم: الروح الملائكة، ومن أدق ما قرأت عن هذه الكلمة (الروح) هي القرآن الكريم، هو المنهج، الملَك معه عملك، والميزان إلى جانبك.

 

عملك بأيدي ملائكة كتبوا كل شيء والمقياس في تقييمك هو القرآن الكريم :

 قال تعالى:

﴿ يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ ﴾

 الملائكة كتبتْ على هذا الإنسان كل حركاته وسكناته، كتبت عليه كل أنفاسه، وسجلت عليه كل شيء، وأعماله تقوم بمنهج الله عز وجل، بهذا القرآن الكريم الذي فيه الأمر والنهي، وفيه الحلال والحرام، والفرض والواجب، والحق والباطل، والخير والشر، هو المنهج، والمقياس، والميزان، فعملك بأيدي ملائكة مقربين، كتبوا عليك كل شيء، والمقياس في تقييمك هو القرآن الكريم.

﴿ يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفّاً لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً ﴾

 أي: لا يتكلم بالشفاعة إلا من أذن له بالشفاعة، وقال صواباً.

﴿ ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ ﴾

 هذا اليوم واقع لا محالة، ونحن معه على موعد، وما هو إلا وقت يسير حتى نجد أنفسنا في هذا اليوم العصيب.

﴿ ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ ﴾

 كل متوقع آت، وكل آت قريب، لاحظ في حياتنا اليومية ننتظر رمضان، جاء رمضان وانتهى! سيأتي عيد الأضحى على أبوابه، سيأتي الصيف، يأتي الصيف وينتهي! بدأ عام ألفين، وانتهى، وألفين وواحد، وهكذا الزمن يمضي سراعاً.

 

إذا استعنت بعمل صالح خالص لله عز وجل نَقَلَك هذا العمل إلى رحمة الله :

 قال تعالى:

﴿ ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ ﴾

 اليوم الموعود، والمورود، والممدود، وأخطر أيامك كلها اليوم المشهود الذي نحن فيه، ما مضى فات والمؤمل غيب ولك الساعة التي أنت فيها.

﴿ ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآباً ﴾

 يمكن أن تتخذ عملاً صالحاً يُرجِعك إلى الله، فإذا استعنت بعمل صالح خالص لله عز وجل نَقَلَك هذا العمل إلى رحمة الله.

﴿ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ﴾

[ سورة فاطر: 10]

 فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً.

﴿ ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ ﴾

 من أراد النجاة، وسعادة الدنيا والآخرة، والفوز العظيم، وأن يكون في جنات الله يوم القيامة:

﴿ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآباً ﴾

 اتّخذَ إلى الله عز وجل وسيلة يرجع بها إليه سالماً غانماً.

 

نحن بين الدعوة البيانية والتأديب التربوي والإكرام الاستدراجي ثم القصم :

 من لم يشأْ:

﴿ إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَاباً قَرِيباً ﴾

 قال علماء التفسير: قريباً في الدنيا، وقال بعضهم: في الآخرة، وقد نجمع بين القولين، فإنْ لم يستجب الإنسان فقد قال الله لنبيه الكريم:

﴿ ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً ﴾

[ سورة المدثر: 11]

 ذرني وإياه، أنا سأعالجه، فالإنسان إن لم يستجب للدعوة البيانية ساق له الله التأديب التربوي، وإن لم يستجب به ساق له الإكرام الاستدراجي، وإن لم يتأثر قصمه الله عز وجل! فنحن بين الدعوة البيانية، والتأديب التربوي، والإكرام الاستدراجي، ثم القصم.

﴿ ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآباً ﴾

 اتخذ عملاً صالحاً يبتغي به وجه الله، ينفق مما أعطاه الله من ماله، أو وقته، أو علمه، أو خبرته، أو يقدم خبرة للمسلمين، أو يزيل الكرب عنهم، أو يحل مشكلاتهم:

﴿ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآباً ﴾

المؤمن ينظر إلى عمله الذي بين يديه وهو نور يضيء أمامه الطريق :

 

 إن لم تشأْ أيها الإنسان:

﴿ إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ ﴾

 المؤمن ينظر إلى عمله الذي بين يديه.

﴿ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾

[سورة التحريم: 8]

 المؤمن عمله الصالح يسعى بين يديه، وهو نور يضيء أمامه الطريق.

﴿ يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ ﴾

 قدم عملاً، قدم دعوة إلى الله، ترك كتابَ علمٍ، أو ولداً صالحاً، أنشأ مسجداً، أو ميتماً، أو معهداً شرعياً، أو أَمَرَ بالمعروف ونهى عن المنكر، تعلم القرآن وعلمه، تعلَّمَ السنة وعلَّمها، بَذَلَ جُهدَه، وأطعم الفقراء والمساكين، ورعى الأيتام، والبائسين، والنساء الأرامل، أنشأ جمعية خيرية، عمل عملاً طيباً يرجو به وجه ربه، فهذا العمل الطيب يراه المرء يوم القيامة بين يديه.
 إنسان فقير جداً دخْلُه أربعة آلاف، يعمل مستخدماً في المدرسة، ورث أرضاً، عُرِض عليه ثمنُها بضعة ملايين، فلما قبض ثمنها الدفعة الأولى قيل له الدفعة الثانية عند التنازل، عندما جاء وقتُ التنازل قيل له: سوف تغدو مسجداً، قال: لا أوافق أن أقبض ثمنها، لأنني أَولى منكم أنْ أقدمها لله! على فقره الشديد قدمها هدية في أحد أحياء دمشق، هذا المسجد نور له، إنسان يعمر معهداً شرعياً، أو ينشئ مسجداً، أو يؤلف كتاباً، أو يخدم الناس، أو يطعم الفقراء.

﴿ يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ ﴾

من قدّم مالَه أمامه سرَّه اللحاقُ به :

 أن تضع اللقمـة في فم زوجتك فهي لك صدقة! لقمة تطعمها فقيراً يوم القيامة تراها كجبل أحد.

﴿ يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ ﴾

 من قدّم مالَه أمامه سرَّه اللحاقُ به.

﴿ وَيَقُولُ الْكَافِرُ ﴾

 لماذا قلنا: المرء المؤمن؟ بالمقابل يوم ينظر المرء المؤمن ما قدمت يداه من خير، فيسعد به، ويرقى، ويدخل الجنة بهذا الخير.

﴿ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَاباً ﴾

﴿ وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ* وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ* يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ* مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ* هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ* خُذُوهُ فَغُلُّوهُ* ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ* ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ ﴾

[ سورة الحاقة: 25-32]

المؤمن الصادق يقيسُ أيَّ شيء يعرض عليه بمقياس الآخرة :

 هذه حقائق أيها الأخوة: هذا كلام ربنا عز وجل، نحن في مثل هذه الدروس نشحن شحنة إلى الله عز وجل، يجب أن تحملنا هذه الشحنة على طاعة الله وطلب الجنة وعلى الاستعاذة بالله من النار، هذه الشحنة يجب أن تجعل الجنة هدفاً لنا.
 أخواننا الكرام لو أن أحدكم أراد أن يسافر إلى بلد بعيد دخل إلى السفر وأخذ التأشيرة، أصبح هذا السفر إجازة ومعه ثمن البطاقة، لمجرد أن أخذ الإجازة للسفر إلى بلد بعيد عاش في هذا البلد في نفسه، هو لا زال في الشام! لكن أين سأنزل؟ أيّ ولاية سأزور؟ في أيّ مكان سأنام؟ ماذا سأشتري هناك؟ عاش هناك وهو لا يزال في بلده، والمؤمن الصادق حينما يؤمن بالجنة وبالنار يعيش مع أهل الجنة، فكلُّ عمل يعمله يرجو به وجه الله، وثوابه، والقرب منه، يرجو به مقعدَ صدقٍ عند مليك مقتدر.
 أنت حينما تكون من أبناء الآخرة تعيش في الآخرة قبل أن تصل إليها، وهذه من علامة المؤمن الصادق، والمؤمن الصادق يقيسُ أيَّ شيء يعرض عليه بمقياس الآخرة، هل هذا يرفعني عند الله أم لا؟ هل يقرِّبني أم يبعدني؟ هل يرضى الله عني بهذا العمل أو يسخط عني؟ هذا هو المؤمن، يعيش بمقياس الآخرة.
 بمقياس الدنيا القرض الربوي أكثر ربحاً، أقرضت مئة ألف فعادت إليك مئة وعشرين+ ألفاً، هكذا الحساب، أما ربنا عز وجل فيقول:

﴿ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ ﴾

[ سورة البقرة: 276 ]

 بمقياس الآخرة القـرض الحسن هو الذي يرضى الله عنه، وهو الذي يعين على أن يزداد المال، فلذلك المؤمن يؤمن بوعد الله ووعيده، ويعيش في الآخرة قبل أن يصل إليها، وهذه مشاهد مِن الجنة والنار.

 

مشاهد مِن الجنة والنار :

 الدرس الماضي كان عن أهل النار:

﴿ إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً* لِلطَّاغِينَ مَآباً *لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً *لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلَا شَرَاباً *إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً *جَزَاءً وِفَاقاً *إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَاباً*وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّاباً* وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَاباً *فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَاباً ﴾

 المحور الثاني:

﴿ إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً *حَدَائِقَ وَأَعْنَاباً *وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً *وَكَأْساً دِهَاقاً * لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلَا كِذَّاباً *جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَاباً *رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَاباً* يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفّاً لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً * ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآباً *إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَاباً ﴾

كل شيء يصحَّح في الحياة قبل فوات الأوان :

 نحن أحياء لأن كل شيء يصحَّح في الحياة، القلب ينبض ونتحرك، ولنا أيدٍ نعطي بها، وأعينٌ نغض بها طَرْفَنا، كل شيء يصحَّح قبل فوات الأوان، قبل أن يقول الإنسان:

﴿ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَاباً ﴾

 قبل أن نصل مع الله إلى طريق مسدود، قبل أن يأتي ملَك الموت، وتتوقف التوبة.

﴿ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً ﴾

[سورة الأنعام: 158]

 أيها الأخوة، هذا كلام فيه شُحْنة، أرجو الله سبحانه وتعالى أن ننتفع بها جميعاً، وأرجو أن تحملنا على مزيد من الاستقامةِ، والعمل الصالحِ، حتى نستحقَّ أن نكون في جنّة الرحمنِ حيث نجد:

﴿ حَدَائِقَ وَأَعْنَاباً *وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً *وَكَأْساً دِهَاقاً * لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلَا كِذَّاباً ﴾

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

اللغات المتوافرة

إخفاء الصور