وضع داكن
18-04-2024
Logo
منهج التائبين - الحلقة : 20 - الآمر بالمعروف لا يحتقر مقترف الذنب 2 - لاتتأله على الله.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

مقدمة :

المذيع :
 بسم الله و الحمد لله ، و الصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه .
 أيها الأخوة المستمعون ؛ السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، نحييكم في مستهل هذه الحلقة من برنامج : "منهج التائبين" ، أرحب بفضيلة الشيخ الدكتور محمد راتب النابلسي ، أحد أبرز علماء دمشق ودعاتها ، أهلاً ومرحباً بكم ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
الدكتور راتب :
 وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته .
المذيع :
 عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

(( مَنْ عَيَّرَ أَخَاهُ بِذَنْبٍ لَمْ يَمُتْ حَتَّى يَعْمَلَهُ ))

[سنن الترمذي عن معاذ بن جبل]

 هذا ما كان عليه حديثنا أمس ، ليتنا نتابع تفصيلاً لهذا الأمر بما فيه من الفائدة والمنفعة عندما يستكبر الطائع ويحقر أخاه المؤمن المسلم إذا ارتكب معصية أو اقترف ذنباً ؟

الابتعاد عن التألّي على الله :

الدكتور راتب :
 بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين .
 الحقيقة أن موضوع التألّي على الله موضوع دقيق جداً ، ينطلق هذا الموضوع من أن النبي عليه الصلاة والسلام كان عند أحد أصحابه ، وكان قد توفاه الله ، اسمه أبو السائب ، سمع امرأة تقول من وراء الستار : هنيئاً لك أبا السائب لقد أكرمك الله .
 النبي عليه الصلاة والسلام كلامه تشريع ، وفعله وسكوته تشريع ، لو أنه سكت على قولها لكان هذا صحيحاً وتشريعاً ، أما أنا كمؤمن لو رأيت منكراً ، ولم أستطع أن أنكره بلساني ولا بيدي أنكرته بقلبي ، ولا شيء عليّ ، أنا سكوتي لا يعد تشريعاً ، لكن النبي صلى الله عليه وسلم وحده لأنه مشرع ، ولأن الله أمرنا أن نأخذ منه كل شيء ، أقواله ، وأفعاله ، وإقراره ، لو أن النبي صلى الله عليه وسلم سكت على قولها لكان كلامها صحيحاً ، عَنْ خَارِجَةَ بْنِ زَيْدٍ الْأَنْصَارِيُّ أَنَّ أُمَّ الْعَلَاءِ امْرَأَةً مِنْ نِسَائِهِمْ قَدْ بَايَعَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَتْهُ

(( أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ طَارَ لَهُ سَهْمُهُ فِي السُّكْنَى حِينَ أَقْرَعَتِ الْأَنْصَارُ سُكْنَى الْمُهَاجِرِينَ ، قَالَتْ أُمُّ الْعَلَاءِ : فَسَكَنَ عِنْدَنَا عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ ، فَاشْتَكَى ، فَمَرَّضْنَاهُ ، حَتَّى إِذَا تُوُفِّيَ ، وَجَعَلْنَاهُ فِي ثِيَابِهِ ، دَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ : رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ أَبَا السَّائِبِ ، فَشَهَادَتِي عَلَيْكَ لَقَدْ أَكْرَمَكَ اللَّهُ ، فَقَالَ لِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : وَمَا يُدْرِيكِ أَنَّ اللَّهَ أَكْرَمَهُ ؟ فَقُلْتُ : لَا أَدْرِي ، بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَمَّا عُثْمَانُ فَقَدْ جَاءَهُ وَاللَّهِ الْيَقِينُ ، وَإِنِّي لَأَرْجُو لَهُ الْخَيْرَ ، وَاللَّهِ مَا أَدْرِي وَأَنَا رَسُولُ اللَّهِ مَا يُفْعَلُ بِهِ ، قَالَتْ : فَوَاللَّهِ لَا أُزَكِّي أَحَدًا بَعْدَهُ أَبَدًا ، وَأَحْزَنَنِي ذَلِكَ ، قَالَتْ : فَنِمْتُ فَأُرِيتُ لِعُثْمَانَ عَيْنًا تَجْرِي ، فَجِئْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْتُهُ ، فَقَالَ : ذَاكِ عَمَلُهُ ))

[البخاري عن خَارِجَةَ بْنِ زَيْدٍ الْأَنْصَارِيُّ]

 كلمة ( أرجو ) ، إذا قلت : لقد أكرمك الله فقد تألّيتِ على الله ، أما إذا قلت : أرجو الله أن يكرمه فقد دعوت له بالخير .
المذيع :
 أليس ذلك من باب حسن الظن بالله ؟

التألّي على الله جهل بالعقيدة وسوء أدب مع الله :

الدكتور راتب :
 صحابي جليل كان مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزواته ، لكن مقام الألوهية يقتدي أن يعلم المستقبل وحده ، لكن مقام البشرية من حقه أن يتفاءل ، أن يرجو لا أن يجزم ، هي جزمت قالت : لقد أكرمك الله ، قال : ومن أدراك أن الله أكرمه ؟! قولي : أرجو الله أن يكرمه، وأنا نبي مرسل لا أدري ما يفعل بي ولا بكم ، ليس هذا من باب الظن بالله ، لا ، ويرجو رحمة الله ، ويرجو أن يكون من أهل الجنة ، ولكن أن تجزم على المستقبل فهذا ممنوع ، والعكس صحيح ، أن يعد الآخرين بالنار وأن الله لن يغفر لك هذا تألّ عن الله .
 والتألّي عن الله ينطلق من جهلٍ بالله ، وبأصول العقيدة ، ومن كِبْر ، من أنت حتى تتألَّى على الله ؟ قال : قولي أرجو الله أن يكرمه وانتهى الأمر ، لذلك من أدب الصحابة الكرام أن أحدهم إذا سئل عن أحد يقول : والله أظنه كذا وكذا ، ولا أزكي عن الله أحداً :

﴿ فَلاَ تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى ﴾

[سورة النجم : 32]

 سيدنا الصديق عندما عيّن سيدنا عمراً خليفة من بعده جاء من يلومه على هذا التعيين ، سيدنا عمر شديد جداً ، فقال : أتخوفونني بالله ؟ والله لو أن الله سألني : لمَ استخلفته ؟ لقلتُ : واللهِ استخلفت عليهم أرحمهم ، لكن هذا علمي به ، فإذا بدّل وغيّر فلا علم لي بالغيب .
 لو تألّهت على الله ، بأن وصفت إنساناً من أهل الجنة تكون قد انحرفت في عقيدتك، وفي قولك ، فكيف إذا تألّيت على الله وحكمت عليه أنه من أهل النار ؟ واللهِ في تاريخ دعوتي ما يزيد على عشرين حالة من الحالات الانحرافية إلى أقصى الحدود ، ومع ذلك حينما عادوا إلى الله قبِلهم الله عز وجل ، فالتألّي على الله جهل بالعقيدة ، وسوء أدب مع الله ، وتطاول على الله ، ولكن من شأن المؤمن أنه يحب الطائع ، ويبغض العاصي ، وهذه علامة إيمانه ، لو أن إنسانًا هوي الكفرة حشر معهم ، ولا ينفعه عمله شيئاً ، لا يعقل أن يحب مؤمن عاصيًا زانيًا شاربَ خمر متطاولاً على الله ، إن أحبه كان هذا علامة فقْدِ إيمانه .

المؤمن الصادق لا يكره العاصي يكره عمله فقط :

 العلماء فرقوا بين أن تبغضه وبين أن تبغض عمله فقط ، كحال الأم مع ابنها ، تكره عمله ، فإذا عاد إليها تائباً قبلته ، وضمّته إلى صدرها .

 أذكر أن عملاق الإسلام عمر بن الخطاب ، وقبْل أن أذكر آخر القصة أبدأ من أولها ، أحد الذين فقدوا ابناً لهم أسيراً في معركة بدر عمير بن وهب ، هذا من أشد الكفار بغضاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، جلس مرة مع صفوان بن أمية ، وفي مكان خال قال عمير لصفوان : لولا أولاد أخشى عليهم العنت من بعدي ، ولولا ديون ركبتني لا أطيق سدادها لذهبت وقتلت محمداً ، وأرحتكم منه ، صفوان ذكي جداً ، وغني ، فاستغل هذه النقطة ، قال : أما أولادك فهم أولادي ما امتد بهم الأمر ‍، وأما ديونك فهي عليّ بلغت ما بلغت ، فامضِ لِمَا أمرت ، تكفل بأبنائه وديونه ، سقى سيفه سماً ليقتله بضربة واحدة ، وركب ناقته وتوجه إلى المدينة ، وقد تسألني : كيف يجرؤ على دخول المدينة ، هناك حجة معه ، له ابن أسير ، وأولياء الأسرى يأتون لفك أَسراهم ، وصل إلى المدينة بعد أيام عديدة ، لمحه عمر فقال : هذا عدو الله جاء يريد شراً ، وذهب به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : يا رسول الله ، هذا عدو الله جاء يريد شراً ، سيدنا رسول الله نبي عظيم قال : يا عمر أطلقه ، فأطلقه ، قال : ابتعد عنه ، فابتعد عنه ، قال : ادنُ مني يا عمير ، فدنا منه ، قال : سلم علينا ، قال : عمتَ صباحاً يا محمد ! قال : قل : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، فأجاب بغلظة ما بعدها غلظة ، قال : لست بعيداً عن سلامنا يا محمد ، هذا سلامنا ، قال : يا عمير ، ادنُ مني ما الذي جاء بك إلينا ؟ قال : جئت لفك ابني من الأسر ، قال : وهذه السيف التي على عاتقك ؟ قال : قاتلها الله من سيوف ، وهل نفعتنا يوم بدر ؟ قال : يا عمير ، ألم تقل لصفوان : لولا ديون ركبتني ما أطيق سدادها ، ولولا أولاد أخشى عليهم العنت من بعدي لذهبت وقتلت محمدًا وأرحتكم منه ؟ ماذا فعل عمير ؟ وقف وقال : أشهد أنك رسول الله ، لأن هذا الذي جرى بيني وبين صفوان لا يعلمه أحد إلا الله ، وأنت رسوله ، وأسلمَ .
 الشاهد في القصة ، أن سيدنا عمر قال : دخل عمير على رسول الله ، والخنزير أحب إليّ منه ، وخرج من عنده ، وهو أحبّ إليّ من بعض أولادي .
 المؤمن الصادق لا يكره العاصي ، يكره عمله فقط ، الإنسان إذا أطاع الله حلت كل مشكلته ، بل في الأثر :

((إذا رجع العبد إلى الله نادٍ مناد في السماوات والأرض أن هنئوا فلاناً فقد اصطلح مع الله ))

 والله الذي لا إله إلا هو لا أجد كلمة هنيئاً لك لأي أخ إلا إذا تاب إلى الله .
المذيع :
 هذا من حلاوة الإيمان أن يحب المرء لا يحبه إلا لله .

الولاء و البراء :

الدكتور راتب :
 عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :

(( ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ بِهِنَّ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ ، مَنْ كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا ، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ أَنْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ ))

[مسلم عن أنس]

 وهذا يقودنا إلى موضوع خطير في الدين ، الولاء والبراء ، ينبغي أن توالي المؤمنين ولو كانوا ضعافاً وفقراء ، وينبغي أن تتبرأ من الكفار والمشركين ولو كانوا أغنياء وأقوياء ، قضية انتماء ، أنا أنتمي إلى مجموع المؤمنين ، أنا أدافع عنهم ، أحل بعض مشكلاتهم ، أما أن أنسحب منهم ، وأن أتعاون مع عدو لهم من أجل مصالحي ، والله الذي لا إله إلا هو من تعاون مع أعداء المؤمنين من أجل مصالحه المادية أقول : والله لقد خرج من الإيمان ، وهذه خيانة كبيرة جداً ، بل إن معركة المسلمين اليوم معركة نكون أو لا نكون ، معركة بقاء أو فناء ، لأن أعداءهم أقوياء جداً ، وأغنياء ، وأذكياء جداً ، ولا يرحمونهم ، فنحن حينما نوالي المؤمنين فينبغي ألا نكره العصاة لذاتهم ، بل نكره عملهم فقط ، وهكذا كان عليه الصلاة والسلام وكان قمة في جلب أعدائه .
 أذكر أن عكرمة بن أبي جهل ، فرعون هذه الأمة وصف به أعدى أعداء النبي من دون استثناء ، فقال لأصحابه بعد أن جاءه عكرمة مسلماً : إذا جاءكم عكرمة مسلماً فإياكم أن تسبوا أباه ، فإن سبّ الميت يبلغ الحي ، ولا يبلغ الميت ، ما هذا الأدب ؟ تلطف معه من دون ذكره بسوء ، بل سيدنا يوسف لما جاءه إخوته إلى قصره قال لهم :

﴿وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ﴾

[سورة يوسف : 100]

 هو في الحقيقة كان بالجب ، وكان بالسجن ، الجب أخطر ، الإنسان في السجن حياته مضمونة ، وطعامه مضمون ، لكنه في الجب حياته ميؤوس منها ، فلم يذكر الجب لئلا يذكر إخوته بما فعلوه معه ، وهذا من أدب النبوة .
 فالحقيقة أن المؤمن لا يكره العاصي لذاته يكره عمل العاصي ، ولمجرد أن يتوب هذا العاصي إلى الله يصبح هذا العاصي التائب أقرب إليه .
المذيع :
 من عيّر أخاه بذنب لم يمت حتى يعمله ، هذه هي عواقب أن يعيّر المرء أخاه ، وخاصة عندما يتحول هذا إلى فضيحة ، عندما تكون نصيحته له فضيحة أمام الناس لذنب اقترفه أو لمعصية اقترفها .

المؤمن الكامل كالطبيب لا يحقد على الناس بل يعالجهم :

الدكتور راتب :
 يوجد موضوع دقيق - لا سمح الله ولا قدر - لو أن لي أخاً مصابًا بمرض جلدي ، هل أحقد عليه ؟ بالطبع لا ، بل أتمنى له الشفاء ، هناك معاصٍ كأنها أمراض ، فالمؤمن الكامل كأنه طبيب ، الطبيب الكامل لا يحقد على مرضاه ، لكن يعالجهم .
 دخل إلى بستان أحدِ الأنصار رجلٌ ، فأخذ ما ليس له ، فهذا الأنصاري ساقه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال : هذا سارق يا رسول الله ، قال له : هوّن عليك ، هل علّمته إذا كان جاهلاً ؟ وهلا أطعمته إذا كان جائعاً ؟ لابن مسعود كلمة رائعة جداً ، قال : " إذا رأيتم أخاكم قارف ذنباً فلا تكونوا أعواناً للشيطان عليه ، تقول : اللهم أخزه ، اللهم العنه ، لكن سلوا الله العافية له ، فإنا أصحاب محمد كنا لا نقول في أحد شيئاً حتى نعلم على ما يموت ، فإن ختم له بخير علمنا أنه قد أصاب خيراً ، وإن ختم له بشر خفنا عليه عمله " .

خاتمة وتوديع :

المذيع :
 شكراً لكم فضيلة الشيخ الدكتور محمد راتب النابلسي ، نسأل الله تبارك وتعالى أن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، أشكركم على هذه المساهمة القيمة من خلال هذا البرنامج منهج التائبين ، نتابع في الغد بإذن الله ، حتى ذلك الملتقى مع التحية و للأخوة المستمعين ، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور