وضع داكن
29-03-2024
Logo
إتحاف المسلم - الدرس : 40 - الاستقامة وعلاقتها بالعمل الصالح.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين .

إليكم ما يعنيه النبي من هذا الحديث :

 أيها الأخوة الكرام, حديث شريف: يقول عليه الصلاة والسلام:

((إن الله طيِّب لا يقبلُ إلا طيباً، وإنَّ الله أمرَ المؤمنين بما أمر به المرسلين))

[أخرجه مسلم والترمذي عن أبي هريرة]

 هناك أحاديث كثيرة تؤكد: أن الإنسان مكلف أن يدع كل ما نهى عنه الله عز وجل كلياً, أما الذي أُمر به: يفعل منه ما يستطيع, في شيء حدي, في شيء نسبي, بالمأمورات: القضية نسبية, بالمنهيات: القضية حدية.
 وضحت المثل البارحة في درس (بجامع الأحمدية): مستودع في حديد, ممكن أن تعبئ فيه بقدر ما تستطيع, يسع 8 كلم, معك متر, ممكن أن تعبئ بقيمة متر, والمتر محفوظ, متر مكعب, معك مبلغ أكبر, تعبئ متري وقود سائل, معك مبلغ أكبر, تعبئ ثلاثة أمتار, معك مبلغ كبير, تعبئ ثمانية أمتار, فالتعبئة بقدر ما تستطيع, أما الإحكام: لا يوجد إحكام نسبي, في إحكام حدي, لا نقبل لهذا المستودع: أن يسرب ولا ميليمتر, لو قبلنا التعبئة ليس لها قيمة, تتراوح القضية النسبية بين ما له متر, وبين يرش في الشهر متراً, ما دام يرش في الشهر متراً ليس محكماً, لا يصلح أن يكون هذا مستودع, بالمنهيات: القضية حدية.

((ما نهيتُكم فاجتَنِبُوه، وما أمرتكم فأتوا منه ما استطعتم))

.
 قال لك: أنفق من مالك بقدر ما تستطيع, قال لك: صل قيام الليل بقدر ما تستطيع, قال لك: ساعد الناس بقدر ما تستطيع؛ بالمأمورات, بالبذل والعطاء, بقدر ما تستطيع:

﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا﴾

[سورة البقرة الآية:286]

 بالمنهيات: يستوي أقل مؤمن مع رسول الله:

((إن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين))

 في دليل أقوى:

﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ﴾

[سورة هود الآية:112]

 أقل ممرض بالأرض, يجب أن يعقم الإبرة, ويعقم القارورة, ويعقم الجلد بالسبيرتو, وأكبر طبيب بالأرض يفعل هكذا, في القضايا الحدية: لا يوجد حل وسط, أما في القضايا التي فيها بذل وعطاء بقدر ما تستطيع.
 النقطة هذه: استقم بقدر ما تستطيع, كلام ليس وارداً, أحلام, أما ابذل بقدر ما تستطيع.

إليكم هذا المثال الذي يخص درسنا اليوم :

 أيها الأخوة, في قصة رائعة جداً: رجلان وقعا في أسر مسيلمة الكذاب, قبل أن تستفحل دعوته في عهد النبي, فقال للأول:

((أتؤمن أنني رسول الله؟ قال: لا أسمع شيئاً, فقتله, الثاني قال: أشهد أنك رسول الله –يعني: كفر– فلما بلغ النبي ذلك, قال: أما الأول فقد أعز الإسلام, فأعزه الله –طبعاً: بعد الموت, أعزه بالجنة- وأما الثاني: فقد قبل رخصة الله))

 لأنه فوق طاقته, خاف من القتل, فكفر, الأول: لم يتحمل, قبل, قتل .
 فالإسلام يسع الجميع, في المنهيات: الإسلام حدي, في المأمورات: الإسلام نسبي, أخطر شيء بالإسلام: أن تجعل المنهيات حدية, المنهيات نسبية, ماذا نريد أن نفعل؟ الله يتوب علينا, نحن نعمل على قدر ما نستطيع, المستودع غير محكم.
 لي صديق -قصة قديمة جداً- أثناء كان في أزمة وقود, حتى استطاع أن يأتي بسيارة وقود للبيت, قال: والله شهر بوسائط, -عقب حرب تشرين-, قال لي: غير معقول, الدنيا برد, عبأ المستودع, ودفع مبلغاً مرقماً, وهو مبلغ محدود, وطار فرحاً؛ لأنه أمن الشتوية كلها, بعد حين: وجد ما في شيء بالمستودع, نسي الحنفية مفتوحة بالمرحاض, كله نزل.
 إذا مستودع غير حدي, عبأت مثل بعضها, ما في فرق, المستودع يجب أن يكون حدي, هذه المنهيات, أما التعبئة نسبية؛ عبئ بمئة ليرة, بألف ليرة, بخمسة آلاف .....بقدر ما تريد عبئ, كله محفوظ.
 فلما الإنسان يأخذ المنهيات على أساس نسبية, وقع في إشكال كبير, وقع بالمنهيات, لأنه ما دام في معصية, انقطع عن الله عز وجل, أصبح الإسلام عنده غير مجدي, ما في صلة بالله عز وجل.
 فهنا:

((إن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين))

﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ﴾

[سورة هود الآية:112]

إليكم شرح هذه المصطلحات الشرعية :

 الآن في حلة ثالثة: في شيء: الله أولى به, وشيء: نهاك عنه, وشيء: سكت عنه.
 شخص يرتدي بدلة بني, لها علاقة بدينه هذه؟ ليس لها علاقة, بدلة كحلي, شخص يلبس قميصاً مبرقعاً, في ملايين الحالات, قضايا حيادية: ليس لها علاقة بالدين إطلاقاً.
 إنسان: يأكل أكلة ثابتة طوال عمره, يأكل كبسة –مثلاً-, إنسان آخر يأكل طعاماً منوعاً, فهذه قضايا ليس لها علاقة بالدين, صار في حقيقة؛ الله عز وجل: هو كل شيء, هو الحقيقة الكبرى في الكون؛ كل شيء يقربك منه, ولو شعرة: النبي أمرك فيه, كل شيء يبعدك عنه, ولو شعرة: النبي نهاك عنه.
 ما من شيء يقربك إلى الله عز وجل, إلا وأمرتكم به, وما من شيء يبعدكم إلا نهيتكم عنه.
 وفي مليار شيء؛ لا يقرب, ولا يبعد, النبي: سكت عنه.
 يأتي شخص, يريد أن يبحث عن أشياء مسكوت عنها, هذا نوع من عمل الشيطان, هذا شيء الله عز وجل سكت عنه, ليس نسيانه, لكن رحمة بكم, شيء لا يمس؛ لا العقيدة, ولا الصلة بالله, ولا الاستقامة.
 يأتي شخص قال لك: اذبح بقرة, ما لونها؟ حتى وصلوا إلى درجة: أن البقرة لم يجدوها إلا عند إنسان, طلب ثمنها بوزنها ذهباً, في سورة البقرة.
 فكلما تشددت الله سكت, قال لك شخص: عندك صحون؟ كم سعر الصحون؟ كذا, أعطن, أنت ماذا عندك؟ مطعم, تبيع خمر؟ الشرع: ما كلفك أن تعمل هكذا, ما دام صحن يوضع فيه طعام, فأنت مكلف, ماذا تفعل فيهم؟ .
 قال: هل ترد السباع هذه البركة؟ إنسان كان مع سيدنا عمر, ومعه أصحابه, ذهبوا ليشربوا, أو ليتوضؤوا: يا صاحب البركة! لا تجبنا.
 رأيت ماء نظيف طاهر, أخي السمكة إذا أكلتها, لعل إنساناً قد صادها, ووقعت منه, هذه وسوسة بقيت.
 في شخص تطرف نحو التفلت, طرف نحو التشدد, تشدد غير معقول, صار الدين عبئاً على الإنسان, فوق طاقته, الذي سكت الله عنه, لا تبحث عنه, والذي أمر به الله, خذه بقدر ما تستطيع, والذي نهاك عنه, دعه كلياً, هذا منهج.
 بعد ذلك: عندنا عبادات, ومعاملات, العبادات: الأصل فيها الحظر, ولا تشرع عبادة إلا بالنص, أما الأصل في المعاملات, والأشياء: الإباحة, ولا تحظر إلا بنص.
 قال لك: ممكن أن نعمل عرساً جماعياً؟ ممكن, لكن ليس وارداً في القرآن, ولا في السنة, هذا يسمونه: مصالح مرسلة, ممكن نحن أن نوفر, نعمل حفلة لخمسين شاباً, وفرنا نفقات العرس, عقد القران, ممكن أن ندفع المهر مقسطاً, لكن لم يرد فيها نصاً, هذه أشياء: لا فيها منع, ولا فيها تحريم.
 فإذا أخذنا المنهج هذا؛ المنهيات: حدية, والمأمورات: نسبية, والمسكوت عنه: نسكت عنه أيضاً, هذا الشيء الذي أمر به الله ورسوله.
 لفت نظري النص هذا:

((إن الله طيِّب، لا يقبلُ إلا طيباً، وإنَّ الله أمرَ المؤمنين بما أمر به المرسلين))

[أخرجه مسلم والترمذي عن أبي هريرة]

 لها معنى ثان: الأقوياء في الدنيا: يريدون أتباعاً, فأي إنسان: يعلن ولاءه, يقبلونه, يملؤون كسادهم فيه, يملؤون قوتهم فيه, لكن: لا يدققون في سلوك الأتباع, يا ترى هم مستقيمون, غير مستقيمين, يريدون أتباعاً, أما الله عز وجل غني عن الأتباع:

﴿إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُم﴾

[سورة الزمر الآية: 7]

 الله لا يقبل إلا إنساناً مستقيماً, أي جهة قوية: تقربك على عدم استقامتك, لكن على ولائك: تقربك, أما الله عز وجل: إذا عملت ولاء له, (ولاء زعبرة), لا يقربك, إذا لم تكن مستقيماً, لأنه كامل, فالكامل: لا يقبل إلا الكامل, حتى المؤمن لو صحب الأراذل, تجرح عدالته, أخي, عندنا معه مصلحة, واحد كلامه؛ بذيء, منحرف, شعر أنك معه مصلحة, تشوه سمعتك, صحبة الأراذل: تجرح العدالة.
 هذه موضوعات بالإسلام مهمة جداً؛ المنهيات: حدية, المأمورات: نسبية, المسكوت عنه: سُكت عنه, لحكمة بالغة لا يعلمها إلا الله, رحمة بالعباد, أو لأن هذا الذي سكت الله عنه: لا يتصل بالقرب من الله, ولا بالبعد عنه, قضية حيادية.

إليكم هذه الإفاضة في بيان هذا الحديث :

 الشيء الأخير:

((إن الله طيِّب، لا يقبلُ إلا طيباً))

[أخرجه مسلم والترمذي عن أبي هريرة]

 الله لا يريد كثرة المؤمنين غير الصادقين, يريد إنساناً صادقاً, بقدر ما أعلنت ولاءك للدين, وفي معاص, الله يعاقبه, وأحياناً: يعاقبه بشدة, والناس يحتارون, هذا صاحب دين, لا, ليس صاحب دين, الله لا يريد شخصاً يضل الناس.
فكل شخص منحرف, بقدر ما أعلن ولاءه, تجد في أدعية, لكن في مال حرام بالمنتصف, في زعبرة, فالله عز وجل يبطش به.
 إذا فهمنا الأمور الدقيقة؛ المنهيات: ما في مزاح, المأمورات: ما في شيء غير واقعي, بقدر ما تستطيع, أما الشيء المسكوت عنه؛ لا تبحث, ابق صامتاً, والزم أدبك.
 أخي قال لي شخص: هل يجوز أن أرتديها (شغل بريطانيا)؟ قلت له: ما فيها شيء يا بني! قال: لا, هؤلاء كفار, قلت له: اخلعها, هو أحرجني, فقلت له: حرام أن ترتديها, صحيح كلامك, يجوز أن تكون شغلة, هو مقتنع فيها مئة بالمئة.
 في حكم شرعي دقيق جداً, يعمل تشديد لدرجة تقف الحياة معه, الحياة لا تقف, إذا شخص دفع ليدفع عنه ظلماً متحققاً؛ الآثم: هو الآخذ, ليس الدافع, الآثم: هو الآخذ فقط, إذا كان شخص دفع شيئاً, ليدفع عنه ظلماً متحققاً, لا يمكن تلافيه هذا, في حكم شرعي, هو يريد أن يعمل مزاودة, صحيح مثل ما تكلمت, اعمل.
 فكل إنسان ينبغي أن يأخذ موقفاً دقيقاً, موقفاً شرعياً, إذا في نهي: نهي, إذا في أمر: لا أستطيع, في سكوت, لا يتدخل, لا يبحث عنه, لأن الله عز وجل ليس نسيانه.
 إن الله أمركم بأشياء, ونهاكم عن أشياء, وسكت عن أشياء رحمة بكم.
 الذي سكت عنه, الله عز وجل ليس نسيانه, لكن الحياة هكذا تمشي, والله عز وجل لا يقبل الولاء, يقبل الإتباع, بقدر ما تستطيع أعلن ولاءك للدين, وارفع عظمة الدين, وإذا لم تكن مستقيماً: يعاقبك, في شخص عنده ضعف تفكير, لدرجة أن الله يلعب عليه:

﴿يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُم﴾

[سورة النساء الآية:142]

 إذا رفعت شعارات إسلامية, وإذا عملت نفسك صاحب دين, وبالغت جداً ببعض العبارات, ولم تكن في المستوى الذي أراده الله عز وجل, لا تنجو من عذاب الله.
 فالحديث:

(( إن الله طيِّب، لا يقبلُ إلا طيباً، وإنَّ الله أمرَ المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ}

[المؤمنون: 51]

وقال:

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾

[البقرة: 172]

 ثم ذكرَ الرجلَ يُطيل السَّفر، أشعثَ أغْبَرَ، يمدّ يديه إلى السماء: يا ربِّ, يارب؛ ومطْعمه حرام، ومشْرَبُهُ حرام، وملبَسَهُ حرام، وغُذِيَ بالحرام، فأنَّى يُستجَاب لذلك؟)) 

[أخرجه مسلم والترمذي عن أبي هريرة]

 هذا حال المسلمين, فتجد ثمانمئة دعوى بقصر العدل, كلها اغتصاب, واحتيال؛ إنسان: تخلص من شريكه, والثاني: رشا المحامي, ورشا القاضي, وكلهم يصلون بالجوامع, هذا الوضع المرضي, الشيء الشعاري: جيد, أما الشيء التعاملي: سيء جداً, ما دام التعاملي سيئاً, الشعاري: لم يعد له قيمة, ما دام التعاملي جيداً.....

((مطْعمه حرام، ومشْرَبُهُ حرام، وملبَسَهُ حرام، وغُذِيَ بالحرام، فأنَّى يُستجَاب لذلك؟))

 قال لي شخص -أقسم لي بالله-: بيت واحد, سعره سبعة ملايين, يسكنه شخص, مستأجره, صاحبته إنسانة, تعيش في تركيا, فقيرة, تأخذ أجرته عن طريق أقربائها, استطاع أن يخلصه بسبعمئة ألف؛ بأساليب......, يصلي في الصف الأول.
 أنا أرى الإنسان لما يستقيم, يكون قد هيأ العبادة الصحيحة لله عز وجل, إذا لم يستقم يكون فرغ العبادة من مضمونها, أصبحت عبادة شكلية, وكل إنسان يصلي, يأكل مالاً حراماً, يكون قد أعطى سمعة سيئة للدين, لدرجة يكفر الناس بالدين أحياناً.
 أنت تصلي, تفعل الفعل هذا, وأكبر مشكلة تواجه المؤمنين الآن: يكون المؤمن مقصراً, يظن أن القضية بالصلاة الشعائرية, وبالأمور التعاملية: ماله غير حلال, هذا يصبح منفراً؛ نحن عندنا محبب, يقابله منفر, عندنا واصل, يقابله قاطع, عندنا مقرب, يقابله مبعد.
 فلما الإنسان يرفع شعاراً إسلامياً, يتزيا بزي إسلامي, يقوم بالعبادات الشعائرية, ويسيء لمعاملته, هذا أصبح قاطعاً, منفراً, مبعداً, لما يكون مستقيماً, وأخلاقه عالية, صار واصلاً, مقرباً, محبباً.
 قال:

((يا رب, أي عبادك أحب إليك حتى أحبه بحبك؟ قال: أحب عبادي إلي؛ تقي القلب, نقي اليدين, لا يمشي إلى أحد بسوء, أحبني, وأحب من أحبني, وحببني إلى خلقي, قال: يا رب, إنك تعلم أنني أحبك, وأحب من يحبك, فكيف أحببك إلى خلقك؟ قال: ذكرهم بآلائي, ونعمائي, وبلائي))

 فأنت لما تذكر العباد بآلاء الله, بعظمته, من خلال خلقه, ونعمه, وبلائه: تعظمه, وتحبه, وتخافه .

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور