وضع داكن
28-03-2024
Logo
طريق الهدى - الحلقة : 20 - مظاهر ضعف الإيمان11 -احتقار المعروف - احتقار الحسنات.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 المذيع:
 الحمد لله رب العالمين، الحمد لله على نعمة الإيمان والإسلام، وكفى بها نعمة، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
 أيها الإخوة المستمعون، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، نحييكم، ويسرني أن أرحب بفضيلة الشيخ الدكتور محمد راتب النابلسي، أحد أبرز علماء دمشق ودعاتها، أهلاً ومرحباً بكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
 الأستاذ:
 وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
 المذيع:
 فضيلة الشيخ نتابع الحديث عن مظاهر ضعف الإيمان، ونتوقف عند حالة أخرى من حالات هذا الضعف والوهن، ألا وهي احتقار المعروف، وعدم الاهتمام بالحسنات مهما كانت صغيرة، أو بنظر البعض لا تذكر، فهل لنا أن نشرح هذه الفكرة ؟ ونوضح هذه الحالة ؟
 الأستاذ:
 بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين.
 الحقيقة أن هذا احتقار المعروف، أو احتقار الحسنات ولو أنها صغيرة تنطلق من ضعف الإيمان، بمعنى أن الإنسان حينما يعيش لذاته، ولا يعيش للناس لا تعنيه إلا ذاته، ولا يحرص إلا على سلامته وسعادته بمنظوره هو، أما حينما يقوى إيمانه، ويعرف سر وجوده وغاية وجوده، ينطلق من ذاته إلى خدمة الآخرين، هناك مجلة اسمها المختار مترجمة عن ريدر دايجست، مرة أتصفح مقالتها، فإذا في نهاية بعض المقالات فراغ ملئ حكمة، هذه الحكمة: إذا أردت أن تسعد فأسعد الآخرين، لمجرد أن تنطلق من ذاتك إلى خدمة الخلق فأنت أسعد الخلق، فالمؤمن ينطوي على قلب رقيق، لا يحتمل أن يرى مصاباً أو مشكلة أو مصيبة في مخلوق، فالقصة أن أخطر قلب في جسم إنسان القلب القاسي، قال تعالى:

﴿فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ﴾

(سورة الزمر)

 المؤمن لأنه اتصل بالله أصبح قلبه رحيماً، والآية الدقيقة:

 

﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ﴾

 

(سورة آل عمران)

 هذا اللين، وهذه الرقة، وهذا الحب بسبب رحمة استقرت في قلبك يا محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ من خلال اتصالك بنا، فكل إنسان يتصل بالله يمتلئ قلبه رحمة، أرحم الخلق بالخلق على الإطلاق هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك قال الله له:

 

﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ﴾

 جاءت منكرة تنكير تقليل، وفي آية ثانية:

 

 

﴿وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ﴾

 

(سورة الكهف)

 كأن جزءاً يسيراً من رحمة الله يترحم بها الخلائق، أنا لا أنسى نصًّا قرأته لا أعلق أهمية على مرجعيته، ولكن له دلالة كبيرة جداً، يروى أن سيدنا موسى مشى في الطريق، فرأى امرأة تخبز على التنور، وولدها إلى جنبها، فكلما وضعت في التنور رغيفاً أمسكت ابنها، وضمته، وقبلته، وفرحت به، فتعجب سيدنا موسى من هذه الرحمة، قال: يا رب ما هذه الرحمة ؟ فقال الله: هذه رحمتي أودعتها في قلب هذه الأم وسأنزعها، فلما نزعت الرحمة من قلبها وبكى ألقته في التور.
 حينما ينطوي قلبك على رحمة هي من الله قطعاً، ومن علامة ضعيف الإيمان قلبه القاسي، لا يرحم، ومن لا يَرحم لا يُرحم، وإن أردتم رحمتي فارحموا خلقي، الآية:

 

﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾

 كأن هذه الآية تبين قانون الالتفاف والارتباط، اتصال بالله، تستقر معه رحمة، تنعكس ديناً، يلتف الناس حولك، قلب مقطوع عن الله، امتلأ غلظة وقسوة، ومنعكس هذه القسوة فظاظة وغلظة ينفض الناس من حلوك، معنى الآية:

 

 

﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾

 فالمؤمن لأن في قلبه رحمة قد يرى قشرة فاكهة يمكن أن تسبب حادثاً لطفل صغير أو لشيخ كبير يأخذها، من أماط الأذى عن الطريق فهي له صدقة، أن تميط الأذى عن الطريق، هذا أحد فروع الإيمان، أن تنزع غصناً يعترض طريق المسلمين، هذا عمل صالح، أن تلقى أخاك بوجه طلق، ألاّ تخيفه، ألاّ ترعبه، ابتسمت له، رحبت به، هذا عمل صالح، وهناك أحاديث كثيرة، عَنْ أَبِي جُرَىٍّ الْهُجَيْمِيِّ قَالَ:

 

(( أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ، فَعَلِّمْنَا شَيْئًا يَنْفَعُنَا اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِهِ، قَالَ: لَا تَحْقِرَنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا، وَلَوْ أَنْ تُفْرِغَ مِنْ دَلْوِكَ فِي إِنَاءِ الْمُسْتَسْقِي، وَلَوْ أَنْ تُكَلِّمَ أَخَاكَ وَوَجْهُكَ إِلَيْهِ مُنْبَسِطٌ...))

(مسند الإمام أحمد)

 هذا نوع من الأعمال الصالحة، في أحاديث كثيرة جداً، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

(( مَرَّ رَجُلٌ بِغُصْنِ شَجَرَةٍ عَلَى ظَهْرِ طَرِيقٍ فَقَالَ: وَاللَّهِ لَأُنَحِّيَنَّ هَذَا عَنِ الْمُسْلِمِينَ، لَا يُؤْذِيهِمْ فَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ ))

(صحيح مسلم)

 من أماط الأذى عن الطريق كتب له حسنة، ومن تقبلت له حسنة دخل الجنة، من رفع حجراً من الطريق كتبت له حسنة، ومن كانت له حسنة دخل الجنة.
 عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ قَالَ ثِنْتَانِ حَفِظْتُهُمَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:

(( إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ فَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ ))

(صحيح مسلم)

 بل إن النبي عليه الصلاة والسلام رأى رجلاً يذبح شاة أمام أختها، فغضب، قال له:

(( هلا حجبتها عن أختها ؟ أتريد أن تميتها مرتين ؟))

(ورد في الأثر)

 العبرة أن قلبك إذا كان موصولاً امتلأ رحمة، هذه الرحمة تنعكس وجه باسمٍ مشرق أمام إخوانك، أمام من هم دونك لئلا تخيفهم، ينبغي أن تطمئنهم، وأن تدخل على قلبهم السرور، قد تجد أذىً في الطريق فتميطه عن طريق المسلمين، قد تجد غصناً يعتلي طريقهم، هذا كله من الأعمال الصالحة، والمؤمن بعد أن يعرف الله لا همّ له إلا أن يتقرب إليه بعمل صالح، والأعمال الصالحة لا تعد ولا تحصى، الخلق كلهم عيال الله، وأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله.
 عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

(( إِنَّ مِنْ إِجْلَالِ اللَّهِ إِكْرَامَ ذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ، وَحَامِلِ الْقُرْآنِ غَيْرِ الْغَالِي فِيهِ، وَالْجَافِي عَنْهُ، وَإِكْرَامَ ذِي السُّلْطَانِ الْمُقْسِطِ ))

(سنن أبي داوود)

 فتوقير الكبير، والرحمة للصغير، وأن تميط الأذى عن الطريق، وأن ترشد الرجل الضال، وأن تفرغ من دلوك في دلو المستسقي، هذه كلها أعمال صالحة.
 المذيع:
 مهما قلّ شأنها، ومن هنا مظهر ضعف الإيمان من مظاهره احتقار المعروف والحسنات الصغيرة، يقول: مالي وهذا فإنه قد لا يجزئني شيئاً.
 الأستاذ:
 عندي دليل قوي جداً، مقام النبوة مقام لا يرقى إليه مقام، ومقام سيد الأنبياء مقام واحد، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:

(( إِذَا سَمِعْتُمُ الْمُؤَذِّنَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ، ثُمَّ صَلُّوا عَلَيَّ، فَإِنَّهُ مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا، ثُمَّ سَلُوا اللَّهَ لِي الْوَسِيلَةَ، فَإِنَّهَا مَنْزِلَةٌ فِي الْجَنَّةِ لَا تَنْبَغِي إِلَّا لِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ، وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا هُوَ، فَمَنْ سَأَلَ لِي الْوَسِيلَةَ حَلَّتْ لَهُ الشَّفَاعَةُ ))

(صحيح مسلم)

 ومع علو مقامه في معركة بدر وجد النبي الكريم صلى الله عليه وسلم أن الرواحل قليلة، وأن أصحابه يزيدون على ثلاثمئة، فماذا يفعل ؟ أعطى توجيهه القيادي، فعَنْ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ:

(( كُنَّا يَوْمَ بَدْرٍ كُلُّ ثَلَاثَةٍ عَلَى بَعِيرٍ، كَانَ أَبُو لُبَابَةَ وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ زَمِيلَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: وَكَانَتْ عُقْبَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: فَقَالَا: نَحْنُ نَمْشِي عَنْكَ، فَقَالَ: مَا أَنْتُمَا بِأَقْوَى مِنِّي، وَلَا أَنَا بِأَغْنَى عَنْ الْأَجْرِ مِنْكُمَا ))

[أحمد في المسند]

 مع مقام نبوته ورسالته ودعوته، وأنه النبي الأول صلى الله عليه وسلم طمع في أجر أن يمشي، وصاحبه يركب الناقة.
 وحينما كانوا في سفر وأرادوا أن يعالجوا شاة ليأكلوها، قال أحد أصحابه:

((عليّ ذبحها، وقال الآخر: عليّ سلخها، وقال الثالث: عليّ طبخها، فقال عليه الصلاة والسلام: وعليّ جمع الحطب، فقالوا: يا رسول الله، نكفيك هذا، قال: أعلم أنكم تكفونني، ولكن الله يكره أن يرى عبده متميزاً على أقرانه ))

(ورد في الأثر)

 حسبك من هذا أن أحد العرب دخل على النبي صلى الله عليه وسلم فما عرفه، قال:

 

(( أين محمد ؟ فقال: بعضهم هذا الوضيء، وفي رواية ثانية: قال: أنا ))

(ورد في الأثر

 كلما امتلأ قلبك رحمة انطلقت إلى العمل الصالح، بل يكاد العمل الصالح يستحوذ عليك، لأنه ثمن الجنة.
 وهناك دليل قوي جداً، أن الإنسان حينما يأتيه الموت لا يندم إلا على شيء واحد، ما سمعنا في حياتنا أن إنسانًا على فراش الموت قال: أنظرني حتى أنهي بناء البيت، أو أنهي تخليص البضاعة، أو أنهي بيعها.

 

﴿لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ﴾

(سورة المؤمنون)

 فحينما يأتي الموت لا تندم إلا على شيء واحد، وهو العمل الصالح، والإيمان، كما قال عليه الصلاة والسلام، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

(( الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ، أَوْ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً، فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الْإِيمَانِ ))

(صحيح مسلم)

 فحينما تميط الأذى عن الطريق هذا إيمان، يوجد إله كبير خلق هذه الخلائق، وهذا الحجر يؤذي المارة، فينبغي أن أزيحه.
 أنا أذكر مثلا في الطرق في السفر تقف شاحنة، وتضع جحرًا كبيرًا وراء إحدى عجلاتها، ثم تمشي، وتضع الحجر في الطريق، هذا الحجر قد يسبب كارثة لو بقي في مكانه.
 ألاحظ شخصاً منطلقا بسرعة هائلة، يقف، ويزيح الحجر عن الطريق لئلا يأتي إنسان في الليل فيرتطم به، فيسبب حادثًا وبيلا، فكلما اشتدت رحمتك انطلقت إلى عمل صالح.
 المذيع:
 البعض يقصر العمل الصالح ـ فضيلة الشيخ الدكتور محمد راتب النابلسي ـ على العبادات، هل هذا صحيح، أم أنه يشمل كل معروف كما تذكرون ؟
 الأستاذ:
 العبادة شعائرية، وهناك عبادة تعاملية، العبادة الشعائرية لا قيمة لها إطلاقاً إن لم تدعم بعبادة تعاملية، أنا حينما أصلي، وليس لي عمل صالح، ما الذي أقدمه بين يدي ؟ أما حينما أمضي النهار في خدمة الخلق، ويأتي وقت الصلاة فأقف بين يدي الله، وجـهي أبيض، معي هدية إلى الله، خدمة عباده، لذلك العبادة الشعائرية تشبه ساعة الامتحان، والعبادة التعاملية تشبه العام الدراسي بأكمله، فلو أن الطالب لم يدرس إطلاقاً، ولم يحضر الدروس، ولم يكتب الوظائف، ماذا يفعل بهذه الساعات الثلاث ؟ لا قيمة لها، من هنا قال الله عز وجل:

 

﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ﴾

 

(سورة العنكبوت)

 ربط الله عز وجل بين الصلاة وترك الفحشاء والمنكر، فالعبادات ما لم ترقَ بنا، ما لم تهذبنا فلا تقبل عند الله عز وجل، والشيء الفاصل في هذا كرد لطيف على سؤالكم حديثُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:

(( أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ ؟ قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ، فَقَالَ: إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ، فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ ))

[مسلم]

 هذا النموذج الذي يعبد الله عباداته الشعائرية، ولا يعمل صالحاً ينطبق عليه هذا الحديث، بل إنني أعتقد أن الفقر الحقيقي هو فقر العمل الصالح، وأن الغنى الحقيقي هو غنى العمل الصالح، من هو الغني عند الله ؟ الذي أجرى الله على يديه الخير، لأن فاعل الخير خير من الخير، وفاعل الشر شر من الشر، هؤلاء الذين ألقوا القنابل في العراق، وفي أوروبة، وفي البلقان، وفيها نفايات نووية، وأصابت الآلاف بسرطان الدم، وهذا حديث اليوم بين الناس، هؤلاء بعد مئة عام انتهت مشكلتهم، ماتوا، لو أنهم لم يصابوا بهذا المرض سيموتون، لكن ما الذي يبقى ؟ هذا الذي أمر بإلقاء هذا السلاح بالذات فاعل الشر شر من الشر، لأنه سوف يشقى بفعله إلى أبد الآبدين، وفاعل الخير كإنسان أسس مسجدًا أو معهدًا شرعيًّا أو ميتمًا، عند قيام الساعة سينتهي هذا العمل، ما الذي يبقى ؟ يبقى خيرية هذا الإنسان، يسعد بقراره إلى أبد الآبدين، أمراض الجسم مهما تفاقمت تنتهي عند الموت، ولكن أمراض القلب تشقي صاحبها إلى أبد الآبدين، فأنت حينما تسبب مشكلة، نوبل رصد كل أمواله كجائزة لمن يقدم بحثًا في السلام، عرف أنه لما اخترع البارود سيموت آلاف مؤلفة لا ذنب لهم، القنابل، الألغام، كل الأسلحة الحديثة أسلحة فتاكة، تصيب المقاتل وغير المقاتل، هذا أدركه نوبل حينما اخترع البارود، ولعل هذا الذي وقفه لخدمة السلام يجزئه أو لا يجزئه، الله أعلم، لكن:

 

﴿إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ﴾

 

(سورة يس)

 وكل آثار الأعمال في صحيفة هذا الذي فعل ذلك، كم من الموبقات سببها بعض الاختراعات ؟ موبقات لا تنتهي.
 المذيع:
 فضيلة الشيخ الدكتور محمد راتب النابلسي، ما هو جزاء إتيان المعروف مهما كان صغيراً ؟ ومهما كن محتقراً بنظر ضعيف الإيمان ؟
 الأستاذ:
 الحقيقة أن النبي صلى الله عليه وسلم أجاب عن هذا السؤال، فَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِي اللَّه عَنْه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:

(( إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى... ))

(صحيح البخاري)

 قيمة العمل لا بحجمه، ولا بشكله، ولا ببيئته، ولا بفاعله، قيمة العمل بالنية التي تكمن وراءه، فأنا قد أنطوي على نية عالية جداً، الأعمال الصغيرة تصبح أكبر الأعمال، وأنا حينما أعمل عملاً كبيراً، لكن نيتي حب الظهور، وقد قالوا: حب الظهور يقسم الظهور، يصبح عملي لا قيمة له.
 وفي بعض الأحاديث القدسية عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ َقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:

(( إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهِ رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ، فَأُتِيَ بِهِ، فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ، فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا ؟ قَالَ: قَاتَلْتُ فِيكَ حَتَّى اسْتُشْهِدْتُ، قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ لِأَنْ يُقَالَ: جَرِيءٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ، وَعَلَّمَهُ، وَقَرَأَ الْقُرْآنَ، فَأُتِيَ بِهِ، فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ، فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا ؟ قَالَ: تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ، وَعَلَّمْتُهُ، وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ، قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ: عَالِمٌ، وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ: هُوَ قَارِئٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَأَعْطَاهُ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ كُلِّهِ فَأُتِيَ بِهِ، فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ، فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا ؟ قَالَ: مَا تَرَكْتُ مِنْ سَبِيلٍ تُحِبُّ أَنْ يُنْفَقَ فِيهَا إِلَّا أَنْفَقْتُ فِيهَا لَكَ، قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ فَعَلْتَ لِيُقَالَ: هُوَ جَوَادٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ، ثُمَّ أُلْقِيَ فِي النَّارِ ))

[مسلم]

 عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِي اللَّه عَنْه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:

(( إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ إِلَى امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ ))

(صحيح البخاري)

 يروى أن امرأة على جانب من الجمال أحبها رجل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فاشترطت عليه أن يهاجر إلى المدينة، فهاجر من أجلها، سماه الصحابة مهاجر أم قيس، وهاجر لا ابتغاء مرضاة الله، بل طلباً للزواج من هذه المرأة، فالعمل قيمته لا بحجمه، ولكن بالنية، فقد تنوي نية عالية جداً، وتعمل عملاً صغيراً، هذا العمل من أعظم الأعمال.
 سيدنا موسى ماذا فعل ؟ سقى لامرأتين، ثم تولى إلى الظل، قال:

 

﴿رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24)﴾

 

(سورة القصص)

 لا تنظر إلى صغر العمل، انظر إلى النية التي وراءه، ورد في بعض الأحاديث: وأن تضع اللقمة في فم زوجتك لك صدقة، إنسان يحب أن يمتن العلاقة بينه وبين زوجته، فأطعمها قطعة لحم في أثناء تناول الطعام، كتبت له عند الله صدقة، لأنه أكرمه بها، ويقابل هذا أنه من استهان بصغيرة، وأصر عليها انقلبت إلى كبيرة، لا صغيرة مع الإصرار، ولا كبيرة مع الاستغفار.
 فالمؤمن يبحث عن رضوان الله، قد يجده في إطعام فقير، في معاونة أرملة، في تمريض مريض، في إرشاد رجل ضال، في إماطة الأذى عن الطريق، في معالجة حيوان أحياناً، في أعمال صالحة كبيرة جداً، كبيرة في مضمونها، وصغيرة في نواياها، بعض الأعمال كبيرة جداً في نواياها، وصغيرة في مضمونها، العبرة كما قال النبي الكريم:

(( إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ ))

 المسلم له استراتيجية إن صح التعبير استراتيجيته أنه بعد أن عرف الله، وعرف منهجه، واستقام عليه ليس عنده شيء يعمله إلا أن يعمل صالحاً، لأنه ثمن مقامه العالي في الجنة، وكلما ازداد عمله ارتفع مقامك، سيدنا علي يقول: " الغنى والفقر بعد العرض على الله "، لا يعد الغني غنياً في الدنيا ولا الفقير فقيراً، لكن بعض العرض على الله الغني عنده أعمال صالحة، والفقير ليس له عمل صالح، قد يعيش الإنسان لشهواته، هناك أغنياء تركوا بضع ألوف بالملايين، ومع ذلك لا نقيم لهم يوم القيامة وزناً، لا شأن لهم عند الله، وإنسان فقير له أعمال طيبة كثيرة جداً، لذلك النبي الكريم لما دخل بعض الصحابة الفقراء وقف لهم قال:

((أهلاً بمن خبرني جبريل بقدومه، قال: أو مثلي قال: نعم يا أخي، خامل في الأرض، علَم في السماء، فابتغوا الرفعة عند الله ))

(ورد في الأثر)

 بصراحة الدنيا لها مقاييس، الغنى مقياس كبير، والوسامة، والجمال، والذكاء، والقوة، وكل مقاييس الدنيا، لكن مقاييس الآخرة مقياسان فقط، الإيمان والعمل الصالح، أن ترقى عند الله بإيمانك، قال تعالى:

 

﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾

 

(سورة المجادلة)

﴿وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا﴾

(سورة الأنعام)

 درجات الآخرة متعلقة بالإيمان والعمل، لكن درجات الدنيا واسعة جداً، لكن القرآن ما اعتمدها، لذلك ورد في بعض الأقوال أن الله يؤتي الصحة والمال والجمال للكثيرين من خلقه، ولكنه يعطي السكينة بقدر لأصفيائه المؤمنين.
 المذيع:
 نسأل الله عز وجل أن نكون منهم، ونسأله تعالى أن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أشكر فضيلة الشيخ الدكتور محمد رابت النابلسي، كما أشكر الإخوة المستمعين لحسن إصغائهم، وحسن متابعتهم لبرنامجنا طريق الهدى، نتابع بإذن الله تعالى حلقات هذا البرنامج، والحديث عن مظاهر ضعف الإيمان، مع فضيلة الشيخ محمد راتب النابلسي إلى اللقاء، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الاستماع للدرس

00:00/00:00

إخفاء الصور