وضع داكن
18-04-2024
Logo
طريق الهدى - الحلقة : 16 - مظاهر ضعف الإيمان7 - النفاق .
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 المذيع:
 الحمد لله رب العالمين، الحمد لله على نعمة الإيمان والإسلام، وكفى بها نعمة، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
 بسم الله، نستفتح بالذي هو خير، ربنا عليك توكلنا، وإليك أنبنا وإليك المصير.
 أيها الإخوة، نجدد التحية، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، يسرني أن أرحب بفضيلة الدكتور الشيخ محمد راتب النابلسي، مكررين له الشكر على استضافتنا في هذا البرنامج، و نتابع مع فضيلته الحديث عن مظاهر ضعف الإيمان، لنتوقف عند مظهر خطير جداً، ألا وهو النفاق ـ والعياذ بالله ـ فضيلة الشيخ السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
 الأستاذ:
 وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
 المذيع:
 صفة النفاق وردت في القرآن الكريم، وفي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي مظهر من مظاهر ضعف الإيمان، ولكن يمكن أن يكون من أبرز هذه المظاهر، كيف ذلك لنشرح ونبين ؟
 الأستاذ:
 بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين.
 الحقيقة أن الله جل جلاله في كتابه العزيز، وفي ثاني سورة من سور القرآن الكريم، سورة البقرة صنف الناس جميعاً إلى ثلاثة أصناف، المؤمنين، والكفار، والمنافقين، الشيء الذي يلفت النظر أن آيات عدة وصفت المؤمنين:

﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)﴾

(سورة البقرة)

 ثم وصف الكفار فقال:

 

﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7)﴾

 

(سورة البقرة)

 لكنه وصف المنافقين في ثلاث عشرة آية، لماذا ؟ لأن المؤمن واضح، والكافر واضح، المؤمن آمن، واستقام، فسعد في الدنيا وفي الآخرة، والكافر أعرض عن هذا الدين إعراضاً كلياً، هو يعلن أنه غير مؤمن، لا تحتاج إلى سبرٍ كي تعرفه، واضح، لكن المنافق متلوِّن، يريد أن يأخذ ميزات المؤمنين فانتمى إليهم شكلاً وظاهراً، ويريد أن يأخذ تفلت الكفار، فانتمى إليهم حقيقة.

 

﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15)﴾

 

(سورة البقرة)

 الحقيقة، أعيد وأكرر، أنه حينما يضعف الإيمان ينعكس ضعف الإيمان نفاقاً، حينما يضعف الإيمان ينعكس ضعف الإيمان بخلاً وتفلتاً، فمن نتائج ضعف الإيمان النفاق، هو لا يرى الله، يرى الناس، يريد أن يرضي الناس، لو أنه علم أن الأمر كله بيد الله لما كان منافقًا، لذلك قالوا: ما تعلمت العبيد أفضل من التوحيد، ولذلك قالوا: التقوى نهاية العمل والتوحيد نهاية العلم، أنت حينما تدخل إلى دائرة تريد أن تأخذ توقيعاً، والدائرة فيها مئة موظف، على رأسهم مدير عام، إذا تيقّنت أن واحداً من هؤلاء الموظفين لن يستطيع الموافقة على طلبك إلا المدير العام، فهل تتجه إلى واحد من هؤلاء ؟ مستحيل، هل تبذل ماء وجهك أمامه ؟ مستحيل، هل تتضعضع أمامه ؟ مستحيل، مادام هؤلاء جميعاً ليس الأمر بيدهم الأمر، بل بيد واحد، فمن علامات قوة الإيمان أنك تتجه إلى الله وحده، أما من علامات ضعف الإيمان أنك تتجه إلى الآخرين، لابد من أن ترضي زيداً، وترضي عبيداً، وترضي فلاناً، وأن ترضي علاناً، إذاً هنا يقع النفاق، النفاق الانعكاس الطبيعي لضعف الإيمان، المنافق يقول دائماً ما لا يعتقد، يوجد في حياته ازدواجية، المؤمن فيه توحد، المؤمن من عظمة الإيمان الذي في قلبه أن سريرته كعلانيته، وأن خلوته كجلوته، وأن ما يبطن كالذي يعلن، لا يوجد في حياته ازدواجية أبداً.
 المذيع:
 هذا نفاق اعتقادي.
 الأستاذ:
 أن تقول ما لا تعتقد.
 المذيع:
 هل يقتصر الأمر على الاعتقاد الإيماني ؟ أم أنه ينسحب على كل ما تفكر فيه من أمور الحياة، ومن مواقف ومن آراء ؟
 الأستاذ:
 نحن في دائرة الإيمان، قواعد الإيمان معروفة، فهو يقول من قواعد الإيمان ما لا يعتقدها إطلاقاً، ليرضي من حوله، هدفه إرضاء الناس، وقد قيل: من استطاع أن يرضي الناس كلهم فهو منافق، لأن رضا الناس غاية لا تدرك، المؤمن لا يوجد في حياته طرف آخر.

 

﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ﴾

 

(سورة الأنعام)

 لا تطمح لأن يحبك الناس جميعاً من دون استثناء، ما دمت قد وقفت موقفَ حقًّ فلابد لك من خصم، دعه لله، أما أن تطمح أن يحبك الناس، وتكسب رضا الناس جميعاً فهذا مستحيل، لأن بين الحق والباطل معركة، فهؤلاء الذين نافقوا في عهد رسول الله، النبي صلى الله عليه وسلم كان في أعلى مقام، مقام العلم، ومقام الحكمة، ومقام الفضل، ومقام الإحسان، يتربع النبي على قمم القمم، هو قمة البشر جميعاً، ومع ذلك هناك من كرهه وأبغضه، لأنها معركة أزلية بين الحق والباطل، فالمؤمن اتجه إلى الله وحده، ومادام قد اتجه إلى الله وحده فهو راض بما عند الله، لا يطمع أن يرضي الناس جميعاً، أما المنافق يقول ما لا يعتقد، دائماً يتلوّن، وفي منافقين أذكياء جداً، أينما جلسوا يتأقلمون، ويتكيفون مع هذا الموقف، وكأنه منهم، إن جلس مع الملحدين أظهر تبرمه بالإيمان، وإن جلس مع العلمانينن أثنى عليهم، وإن جلس مع المسلمين أثنى على أهل الإيمان، حتى في الأمور التفصيلية، مع كل فئة ينصهر من أجل مصالحهم، حقيقة هؤلاء مصلحة، بينما المؤمن رجل مبدأ
 المذيع:
 يقول البعض فضيلة الشيخ الدكتور محمد راتب النابلسي: إن هذا الطبع يمارسه الإنسان، ولا يدري أنه على هذه الشاكلة، هل يا ترى جبل بعض الناس على هكذا طباع، أم أنه يمكن أن يتدرب على أن يتخلص من هذا الطبع ؟
 الأستاذ:
 الحقيقة أن أخطر أنواع النفاق حينما ينافق الإنسان، ولا يدري أنه ينافق، لو علم المنافق أنه منافق لكفّ عن نفاقه.
 أذكر نصاً رائعاً جداً، قَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ:

(( أَدْرَكْتُ ثَلَاثِينَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كُلُّهُمْ يَخَافُ النِّفَاقَ عَلَى نَفْسِهِ، مَا مِنْهُمْ أَحَدٌ يَقُولُ: إِنَّهُ عَلَى إِيمَانِ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ ))

[البخاري]

 فالذي يدخل في حساباته أنه منافق فهذا مؤمن، الذي يخشى أنه منافقاً هذا مؤمن، أما المنافق فينافق، ولا يشعر أنه ينافق، هنا الخطورة، ينسحب على هذا مقولة أخرى: إذا علم الثقيل أنه ثقيل، فليس بثقيل، لا يشعر أنه ثقيل، فالمنافق رجل مصلحة أينما كانت يبحث عنها، لو كانت مصلحته عند أهل الإيمان لصام، وصلى، وحج، وزكّى، لو أن مصلحته عند أهل الإيمان لتكلم مثلهم، ولأثنى على الدين مثلهم، ولا ندفع إلى بعض الأعمال الظاهرية مثلهم، هو يريد مصلحته، يمكن أن أقول لك: إن المؤمن رجل مبدأ، والمنافق رجل مصلحة، من أجل مصلحته يفعل ما يشاء يتلون، يكذب، يدعي، يبالغ، نعوذ بالله من النفاق، هم في الدرك الأسفل من النار.
 المذيع:
 عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:

(( الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ، وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا، وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ ))

[الترمذي، أحمد]

 كيف يدين الإنسان نفسه، ويحاسبها ؟ هل أنا منافق، أم أني صادق ؟ هل أنا رجل مصلحة، أم رجل مبدأ ؟ من جُبِل على هذا الطبع الذميم كيف يمكن أن يتخلص منه ؟ ما هي الآيات، أو الإشارات ؟ وآية المنافق ثلاث كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:

(( آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ، إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ ))

(صحيح البخاري)

 الأستاذ:
 الحقيقة لا أقول: إن هناك إنسانًا جُبِل على النفاق مستحيل، لأن الله عز وجل قال:

 

﴿فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا﴾

 

(سورة الروم)

 الفطرة كاملة، لكن الفطرة شيء، والصبغة شيء، الفطرة أن تحب العدل، والصبغة أن تكون عادلاً، فالمنافق يحب العدل، لكن لا يعدل، يحب الكرم، لكن لا يعطي، لأن كل إنسان خلقه الله عز وجل خلقه بفطرة عالية، هذا شأن المخلوقات جميعاً، والدليل: اللصوص إذا اقتسموا سرقتهم يدعون أنهم يقسمونها بالعدل، قضية الفطرة خطيرة جداً، ما من مخلوق إلا وقد جُبِل على الكمال، لذلك: هذا الذي يعذب الناس حينما يظلمون، لماذا مرض الكآبة في الحياة ؟ لماذا هذا المرض من أوسع الأمراض النفسية انتشاراً ؟ حتى المنافق والكافر والمجرم فطروا فطرة عالية، فإذا خرج عن فطرته شعر بكآبة لا تحتمل، كأن الفطرة تعذب نفسها، والدليل القوي:

 

﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8)﴾

 

(سورة الشمس)

 من دون معلم، فالمنافق له فطرة عالية، لكنه خرج عن فطرته إلى النفاق، إذاً هو معذب دائماً، ويحتقر نفسه.
 أستاذ زياد، نقطة دقيقة جداً: أنت قد تكون في موقع، كلّ مَن حولك دونك، هم يعظمونك، ولكن العبرة أن تكون محترماً في ذاتك، قد تنتزع إعجاب الناس، قد تعمل عملاً يحترمك الناس فيه، ولكن:

 

﴿بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (15)﴾

 

(سورة القيامة)

 فالإنسان حينما يسقط أمام نفسه فهذا من أشد أنواع السقوط.
 المذيع:
 لابد للمنافق من أن يعلم أنه ينافق، وهنا عليه أن يعلم أن هذا مظهر من مظاهر ضعف الإيمان، وهو النفاق، وعليه أن يتدرب أن يتخلص منه إن كان فعلاً من المؤمنين، وإن كان فعلاً على الصراط القويم.
 الأستاذ:
 الآن أنت وجّهتني إلى موضوع متعلق بالنفاق، النفاق نوعان: نفاق الكافرين، ونفاق ضعاف الإيمان، نفاق الكافرين كافر مئة بالمئة، ولا يعبأ بالدين إطلاقاً، ولا يعتقد بالآخرة إطلاقاً، ولكن بحسب مصالحه القريبة نافق، هؤلاء الذين عناهم الله فقال:

 

﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ﴾

 

(سورة النساء)

 لكن قد تجد بعض المؤمنين ضعيفين في إيمانه، هو أمام شبهات لا يقوى على ردها، أو أمام شهوات لا يقوى على مقاومتها، فحينما تغلبه شهواته لا يصحّ أن يدعى مع المؤمنين، ولا أن يكون مع الكافرين، هو بين بين

﴿ مُذَبْذَبِينَ بَيَنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَؤُلاَءِ وَلاَ إِلَى هَؤُلاَءِ ﴾

 هذا نوع من النفاق يرجى لبعضهم أن يؤمن، وقد وجد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم منافقون، ثم صلح إيمانهم، وأصبحوا منيبين، فنحن أمام زمرتين من النفاق: زمرة هي في الأصل كافرة، لكنها اتخذت النفاق غطاءً لها، وزمرة هي في الأصل مؤمنة، ولكن ضاعت في شبهات ما استطاعت لها حلاً، وغلبتها شهوات ما استطاعت لها مقاومة، فهؤلاء يرجى لهم أن يكونوا مؤمنين.
 المذيع:
 يرجى شفاء إيمانهم، بإذن الله تعالى، وهذا ما سوف نتحدث عنه في حوارات مقبلة عندما نتناول علاجات ضعف الإيمان.
 الأستاذ:
 أنا أقول دائماً: التعميم من العمى، أنا لا أعمم، أنا أمام منافقين، أحدهم نفاق كفر، والآخر نفاق ضعف، فأرجو للثاني أن يعود مؤمناً، وأن يحسن إيمانه، ولا أرى أن الأول يفكر أن يصلح نفسه، فهي قضية اختيار.
 المذيع:
 تحدثنا عن نفاق اعتقادي، هل هناك نفاق آخر غير اعتقادي، لنَقُْ عملي ؟
 الأستاذ:
 هناك نفاق اعتقادي، أن تقول ما لا تعتقد، وهناك نفاق عملي، أن تفعل ما لا تقول، وهذا مأخوذ من قوله تعالى:

 

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3)﴾

 

(سورة الصف)

 لأن الكلام سهل، بالمناسبة: الأنبياء العظام والنبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم له مهمتان كبيرتان جداً، مهمة دون مهمة، له مهمة التبليغ، ومهمة القدوة، التبليغ سهل، أيّ إنسان ذكي ذاكرته قوية يحفظ نصوصاً كثيرة، مطّلع ثقافته عميقة، بإمكانه أن ينطق بكلام منمق لطيف واضح، لكن أن تكون قدوة للآخرين فهذا يحتاج إلى جهاد، إلى بذل جهد كبير، فأعظم مهمات الأنبياء أنهم قدوة، فالمنافق باعتقادي قال ما لا يعتقد، لكن المنافق الثاني فعل ما لا يقول: القول سهل.
 مثلاً: حينما قال المتنبي:

 

أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي  و أسمعت كلماتي من به صمــم
أنام ملء جفوني عن شواردها  و يسهر الخلق جراها و يختصـم
الخيل و الليل و البيداء تعرفني  والسيف والرمح والقرطاس والقلم

 كان مسافراً بين البصرة وحلب، خرج عليه أعداء له فولى هارباً، قال له غلامه: ألم تقل:

 

 

الخيل و الليل و البيداء تعرفني  والسيف والرمح والقرطاس والقلم

 فقال: قتلتني قتلك الله.
 من السهل جداً أن تقول: أنا شجاع، أنا كريم، القضية سهلة، كلام في كلام، لكن البطولة كل البطولة أن تكون كريماً حقيقة، وأن تكون شجاعاً، فالكلام سهل، الآن ما من إنسان يلقي بكلام أمام جمع من الناس إلا ويدعي أنه أخلاقي، ورجل مبدأ، حتى المنافق والكافر والمنحرف والمجرم، الإنسان منطقي، لا يتكلم.
 فرعون قال:

 

 

﴿قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ (29)﴾

 

(سورة غافر)

 هو الذي قتل بني إسرائيل، واستحيا نسائهم، وقال:

 

﴿فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24)﴾

 

(سورة النازعات)

﴿وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي﴾

(سورة القصص)

 حينما تكلم ماذا قال ؟ قال:

 

﴿قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ(29)﴾

 أي إنسان يتكلم يتمنطق يدعي أنه رجل مبدأ أنه، حيادي، أنه رجل منصف، هذا كلام لا قيمة له إطلاقاً، ولا يصمد، لذلك: النفاق باعتقادي أعطى نتيجة خطيرة جداً في الحياة، أن الناس كفروا بالكلمة، الأنبياء جاؤوا بكلمة، وهم العظام، وهم من قمم الخير في العالم، ما جاؤوا بالصواريخ ولا بالكمبيوتر ولا بأجهزة عالية الدقة، ولا بحواسب، جاؤوا بكلمة صادقة، فقلبوا وجه الحياة، لأن هناك ممارسات ثقافية كثيرة جداً، الناس عامة كفروا بالكلمة، والآن الكلمة لا يمكن أن تعود لها مصداقيتها إلا إذا دُعمت بعمل عظيم، حتى ترجع الكلمة مصداقيتها، فالنفاق السلوكي جعل الناس يكفرون بالكلمة أصلاً.
 أنا كنت أقول قبل حين: نحن نحتاج إلى دعوة صامتة، دعوة لا تبنى على الكلام، دعوة أساسها الصدق والأمانة، والعفة والوفاء بالوعد، والحقيقة موقف أخلاقي يعدل أن تعبد الله سنوات طويلة، الذي يشد الناس إلى الدين مسلم يتحرك، كيف أنهم قالوا: الكون قرآن صامت، والقرآن كون ناطق، والنبي صلى الله عليه وسلم قرآن يمشي، أنا أريد مسلما يتحرك أمامي، أرى وفاءه، وتواضعه، وبذله، وكرمه، وصدقه، وأمانته، وعفته، أساساً لماذا آمن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم به ؟ قالوا:

 

((... كُنَّا قَوْمًا أَهْلَ جَاهِلِيَّةٍ، نَعْبُدُ الْأَصْنَامَ، وَنَأْكُلُ الْمَيْتَةَ، وَنَأْتِي الْفَوَاحِشَ، وَنَقْطَعُ الْأَرْحَامَ، وَنُسِيئُ الْجِوَارَ، يَأْكُلُ الْقَوِيُّ مِنَّا الضَّعِيفَ، فَكُنَّا عَلَى ذَلِكَ حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْنَا رَسُولًا مِنَّا، نَعْرِفُ نَسَبَهُ، وَصِدْقَهُ، وَأَمَانَتَهُ، وَعَفَافَهُ، فَدَعَانَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لِنُوَحِّدَهُ، وَنَعْبُدَهُ..... ))

(مسند الإمام أحمدعن أم سلمة)

 هذا الذي شدهم إلى الدين، القدوة، فالأنبياء لهم مهمة القدوة، وهي أخطر مهمة، ولهم مهمة التبليغ، ويحسنها أي خطيب مسجد، أما القدوة فهي التي تشد الناس إليك، أنك صادق فيما تقول، أنك مطبق لما تقول، أنك عند الأمر والنهي.
 يقول بعض العارفين بالله: ليس الولي الذي يطير في الهواء، ولا الذي يمشي على وجه الماء، الولي كل الولي الذي تجده عند الحلال والحرام، أن يراك حيث أمرك، وأن يفتقدك حيث نهاك، فالنفاق الاعتقادي محاولة إرضاء من حولك، النفاق العملي ضعفك عن أن تكون في مستوى كامل، من نتائج ضعف الإيمان أن هذا الإنسان من غلبته شهواته، فلم يفعل ما يقول.

 

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3)﴾

 

(سورة الصف)

 المذيع:
 نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من الذين يستمعون القول، فيتبعون أحسنه، أشكركم فضيلة الشيخ الدكتور محمد راتب النابلسي، نتابع غداً بإذن الله تعالى الحديث عن مظاهر ضعف الإيمان، أشكر الإخوة المستمعين حسن إصغائهم ومتابعتهم.
 السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الاستماع للدرس

00:00/00:00

إخفاء الصور