وضع داكن
28-03-2024
Logo
طريق الهدى - الحلقة : 15 - مظاهر ضعف الإيمان6 - الشح والبخل والاستئثار.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 المذيع:
 الحمد لله رب العالمين، الحمد لله على نعمة الإيمان والإسلام، وكفى بها نعمة، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
 أيها الإخوة المستمعون، أهلاً ومرحباً بكم، تجد اللقاء مع برنامج طريق الهدى، يسرني أن أرحب بفضيلة الدكتور الشيخ محمد راتب النابلسي، أحد أبرز علماء دمشق، أهلاً ومرحباً بكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
 الأستاذ:
 وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
 المذيع:
 فضيلة الشيخ، نتابع وإياكم الحديث عن مظاهر ضعف الإيمان، وعدْنا بالأمس أن نتناول مظهر الشح والبخل والاستئثار، هذا المظهر، وهذا الخُلق الذميم الذي نهى عنه ديننا الحنيف، كيف يمكن أن نقوي إيماننا بالتخلص من هذا المظهر ؟
 الأستاذ:
 بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين.
 قضية ضعف الإيمان لها منعكسات خطيرة في حياة الإنسان، ذلك أن الإنسان حينما يعلم سرّ وجوده وغاية وجوده، وحينما يعلم أنه خلق لجنة عرضها السماوات والأرض ينعم فيها إلى أبد الآبدين، ولابد لدفع ثمن هذه الجنة، عندئذ يبني حياته على البذل والعطاء، أما إذا رأى أن الدنيا هي كل شيء، وأنها منتهى آماله، ومحط رحاله، عندئذ يبخل، القضية متعلقة بعمق العقيدة، لو أن الإنسان اعتقد شيئاً، ولم ينعكس سلوكه فليعتقد ما شاء، ولكن لأنه ما من عقيدة، أو ما من تصرف في الإنسان إلا وله منعكس في سلوكه، فلابد من صحة العقيدة، فهذا الذي يظن أن الدنيا كل شيء، وأن السعيد فيها كان غنياً، وأن السعيد فيها من انغمس في الشهوات إلى قمة رأسه، هذا لن يعطي شيئاً يبخل، فكأنما البخل من لوازم الكفر، وكأنما العطاء والبذل من لوازم الإيمان، من هنا يقول الله عز وجل:

﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7)﴾

(سورة الليل)

 لأنه صدق أنه مخلوق للجنة، الحسنى هي الجنة.

 

﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى(7)﴾

 لأنه اعتقد أنه مخلوق للجنة، وأن هذه الجنة ثمنها أن تعطي مما أعطاك الله، إذاً يعطي، فالكرم والبذل والتضحية، وتقديم الغالي والرخيص، والنفس والنفيس بسبب إيمانه أنه مخلوق للجنة، أما إذا ظن أن الدنيا هي كل شيء فإنه يستأثر يبخل.

 

 

﴿وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9)﴾

 لماذا بخل ؟ لأنه كذب بالحسنى، أيقن بالدنيا فقط، وقد وصف الله الكفار بأنهم:

 

 

﴿يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾

 

(سورة الروم)

 ليتَهم عرفوا حقيقتها بعمق، عرفوا ظاهرها، فظنوها منتهى آمالهم، ومحط رحالهم، فبخلوا، وقبضوا أيديهم، ولم يفهموا أنهم مخلوقون لجنة إلى أبد الآبدين.
 فالحقيقة تفسير البخل والشح سهل جداً، كلما ازداد إيمانك بالآخرة، كلما ازداد عطاؤك، وكلما ضعف إيمانك بالآخرة ازداد بخلك، هذه قاعدة، والآية من أوضح الآيات:

 

﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى(7)﴾

 

 وكأن الناس جميعاً لا يزيدون على رجلين، رجل عرف الله، آمن بالله واليوم الآخر فأعطى، ورجل ضعف إيمانه بالله، ولم يؤمن باليوم الآخر فبخل.
 المذيع:
 لنبقى في رحاب هذه الآية فضيلة الشيخ الدكتور محمد راتب النابلسي:

﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5)﴾

 هنا العطاء مرتبط بالتقوى.
 الأستاذ:
 الإنسان قد يكون غنياً، وقد يكون إيمانه بالآخرة ضعيفاً أو معدوماً، لكن في الظروف الاجتماعية يعطي، يريد أن ينتزع إعجاب الآخرين، معه أموال طائلة، هذا العطاء إن لم يبنى على تقوى من الله لا قيمة له.

 

﴿قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فَاسِقِينَ(53)﴾

 

(سورة التوبة)

 هكذا الآية، فالإنسان قد ينفق ليجلب سمعة، لينتزع إعجاباً، ليثني الناس عليه، ليصنفوه مع المحسنين، أما العطاء الذي أثنى الله عليه فهو المرتبط بالتقوى بالطاعة، هناك شيئان كبيران: شيء سلبي، أن تستقيم على أمر الله، وشيء إيجابي، أن تبذل، فهذان الشيئان الكبيران الاستقامة والبذل متكاملان، لا يقبل عطاء من دون استقامة، لذلك الأغنياء جداً ينفقون أموالا طائلة ما أرادوا بها وجه الله ولا الدار الآخرة، أرادوا سمعتهم، وثناء الناس عليهم، وأن يكونوا في أعين الناس من كبار المحسنين، لأن الله عز وجل طيب، ولا يقبل إلا طيباً، نبَّهنا:

 

﴿قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فَاسِقِينَ(53)﴾

 الآية دقيقة جداً:

 

 

﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5)﴾

 

 لماذا أعطى واتقى ؟ لأنه:

﴿وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6)﴾

 الترتيب تصاعدي، هو صدق بالحسنى، صدق أنه مخلوق لجنة عرضها السماوات والأرض، صدق أنها أُعدت للمتقين، صدق أن هذه الدنيا فانية، أنها زائلة، وأن الموت ينهي كل شيء، ينهي غنى الغني، وفقر الفقير، ينهي صحة الصحيح، ومرض المريض، ينهي قوة القوي، وضعف الضعيف، ينهي وسامة الوسيم، ودمامة الذميم، وكأن في الدنيا سباق أحمق، ألف سيارة تتسابق على طريق عريض وطويل، وينتهي بحفرة مالها من قرار، أول سيارة وصلت إلى الهدف سقطت، وآخرها سقطت، وأوسطها سقط، وأكبرها، وأضعفها، وأصغرها سقط، ما هذا التنافس ؟ ينتهي بالموت، والموت كل شيء، من هنا قال الله عز وجل:

 

﴿وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26)﴾

 

(سورة المطففين)

 التسابق إلى أمور الآخرة، فلذلك أن تشتهي أن تكون كزيد أو عبيد في الدنيا، هذا حسد، أما أن تشتهي أن تكون كزيد أو عبيد في الآخرة فهذه غبطة، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:

 

(( لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْقُرْآنَ، فَهُوَ يَتْلُوهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا، فَهُوَ يُنْفِقُهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ))

(صحيح البخاري)

 مرة قرأت تقديماً لكتاب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: لفت نظري إهداء المؤلف، أهداه إلى النبي عليه الصلاة والسلام، قال: يا من جئت الحياة فأعطيت ولم تأخذ، الأنبياء أعطوا ولم يأخذوا، والأقوياء أخذوا ولم يعطوا، والمؤمنون يعطون ويأخذون، لابد من أخذ وعطاء، هناك سؤال كبير: ماذا قدمت للبشرية ؟ ماذا قدمت للإنسانية، ماذا قدمت لأهل بلدي ؟ ماذا قدمت لمجتمعي ؟ حجم الإنسان عند الله بحجم عمله الصالح، وهذا يؤكده قوله تعالى:

 

﴿وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا﴾

(سورة الأنعام)

 فالمؤمن يبني حياته على العطاء، يعطي من كل شيء، قد يعطي من وقته، أو جهده، أو علمه، أو خبرته، أو جاهه، وهذا يؤكده قوله تعالى:

 

﴿الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)﴾

 

(سورة البقرة)

 هذه آية واسعة جداً، من أي شيء منحك الله إياه ينبغي أن تنفق، لأن الآخرة عمْلتُها الرائجة العمل الصالح، وهذا يؤكده قوله تعالى:

 

﴿لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً﴾

 

(سورة المؤمنون)

 الإنسان على فراش الموت يتمنى ماذا ؟ يتمنى أن يعمل صالحاً، لأن العمل الصالح هو ثمن الجنة.
 المذيع:
 ذكرتم دكتور راتب النابلسي أن في ديننا الحنيف اتجاهين: الأول سلبي، وهو طريق الاستقامة، أن يستقيم المرء على الصراط المستقيم، وأن يتبع هدي الله سبحانه وتعالى، والاتجاه الآخر هو إيجابي، أن يكون على الاستقامة، وأن يعطي، ماذا قصدتم بالسلبي والإيجابي ؟
 الأستاذ:
 المستقيم يقول: أنا ما كذبت، ما غششت، ما افتريت، ما نظرت إلى امرأة لا تحل لي، الاستقامة طبعها سلبي امتناع، امتنع عن الكذب، عن يمين كاذبة، عن الإيقاع بين مؤمنين، امتنع أن يسخر من إنسان، امتنع عن أن يحقد، كله امتنع، فالإنسان يستقيم، لكن العمل الصالح إيجابي، فيه بذل.
 أنا أشبه تماماً الطريق إلى الله بإنسان غارق في المعاصي، كله عقبات تحول بينه وبين السير على هذا الطريق، فإذا استقام أزاح كل العقبات، هل يكفي أن تزيح العقبات حتى تصل إلى الهدف ؟ لابد من أن تتحرك، فإزاحة العقبات هي الاستقامة، والعمل الصالح هو التحرر، لقوله تعالى:

 

﴿وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ﴾

 

(سورة فاطر)

 لابد من أن أزيل كل عقبة أمامي، وبعدها لابد من أن أعمل عملاً صالحاً يدفعني إلى الله عز وجل، وكما تعلمون الطرائق إلى الخالق بعدد أنفاس الخلائق، مادمنا قد دخلنا في العمل الصالح الله عز وجل هو الهدف، هو المقصد، إلهي أنت مقصودي، ورضاك مطلوبي، وقد رسم إلي ملايين الطرق، أنت في بيتك هناك طرق عديدة لتصل إلى الله، أن تكون زوجاً مثالياً، أو أباً رحيماً، أن تكون ابناً باراً ضمن البيت، ضمن حرفتك، وعملك، أنت حينما تختار حرفة مشروعة في أصل الدين، وتمارسها بطريقة مشروعة، وتنوي بها كفاية نفسك، وخدمة المسلمين، ولا تحجزك عن عمل صالح، ولا عن واجب ديني، انقلبت حرفتك إلى عبادة، وهذا المفهوم ذكرته سابقاً، المفهوم الحديث للعبادة، أن تعبد الله فيما أقامك، فالقضية قضية علم، حينما تعلم سرّ وجودك تصبح كريماً وباذلاً، ومعطاءً وسخياً، حينما تجهل سر وجودك تظن أن هذه الدنيا هي كل شيء طبعاً تبخل، هذه قاعدة، الإنسان يبخل إذا آمن بالدنيا فقط، عَنْ أَنَسٍ

((أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَنَمًا بَيْنَ جَبَلَيْنِ فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ، فَأَتَى قَوْمَهُ، فَقَالَ: أَيْ قَوْمِ أَسْلِمُوا، فَوَاللَّهِ إِنَّ مُحَمَّدًا لَيُعْطِي عَطَاءً مَا يَخَافُ الْفَقْرَ، فَقَالَ أَنَسٌ إِنْ كَانَ الرَّجُلُ لَيُسْلِمُ مَا يُرِيدُ إِلَّا الدُّنْيَا فَمَا يُسْلِمُ حَتَّى يَكُونَ الْإِسْلَامُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا))

(مسلم)

 الآخرة مبنية على البذل، فحينما تشعر أنه كلما بذلت ارتقيت، أما الجاهل فبنى حياته على الاستئثار والقبض، هناك من يفرح بالأخذ، وهناك من يفرح بالعطاء، إن أردت أن تعرف ما إذا كنت من أهل الدنيا ومن أهل الآخرة فانظر ما الذي يفرحك، أن تعطي أم أن تأخذ ؟ علامة الإيمان بالآخرة أن تفرح بالعطاء، وعلامة ضعف الإيمان أن تفرح بالأخذ فقط، هنا نقطة دقيقة، حينما قال الله تعالى:

 

﴿وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9)﴾

 

(سورة الليل)

 بخل بكل شيء، بخل بخبرة يعطيها لإنسان، بخل بمال ينفقه، بخل بوقت يمنحه، بخل بخبرة يقدمها، بخل بكلمة يقولها، هذا الذي يبخل من صفاته أنه استغنى عن طاعة الله، هناك أعطى واتقى، هنا بخل واستغنى، لماذا أعطى واتقى ؟ لأنه صدق بالحسنى، لماذا بخل واستغنى ؟ لأنه كذب بالحسنى.

 

﴿وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى (11)﴾

 أندم الناس من عاش فقيراً ليموت غنياً، وأندم الناس رجل مات ودخل ورثته بماله الجنة ! ودخل هو بماله النار، وفي بعض الآثار أن روح الميت ترفرف فوق النعش تقول: يا أهلي يا ولدي لا تلعبن بكم الدنيا كما لعبت بي، جمعت المال مما حلّى وحرم، فأنفقته في حلّه وفي غير حلّه، فالهناء لكم والتبعة علي.
 المذيع:
 فضيلة الشيخ هناك مذهب آخر متعلق بهذا المظهر، مظهر البخل والشح والاستئثار من مظاهر ضعف الإيمان، ألا وهو المن والأذى الذي يلحق به البعض أي عطاء يعطونه.
أيضاً تفسير هذا سهل جداً، أنت حينما ترجو بعطائك رضوان الله، والله معك، يعلم سرك ونجواك، لا تخفى عليه خافية، أنت تكتفي برضوان الله عليك، فلا تطالب الناس أن يمدحوك، ولا أن يشكروك، ولا أن يثنوا عليك، أما حينما يكون المرء مقطوعاً عن الله، ولا يرجو ما عند الله، فلابد من أن يرجو ما عند الناس، فإن لم يشكر يغضب، وإن لم ينوّه بفضله يستثار، وإن لم توضع لوحة تشيد به أن هذا الجامع هو الذي أنفق عليه لا يقبل، الإنسان حينما يعرف الله لا يتمنى جهة أخرى تثني عليه، وحسب المؤمن أن الله يعلم.
 بالمناسبة هناك آيات كثيرة تؤكد هذا:

 

 

﴿وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ﴾

 

(سورة البقرة)

 فالإنسان يرتاح مع الله، لا يحتاج لا إلى إيصال، ولا إلى تنويه، ولا إلى زاوية تشكره في الجريدة، هو يحتاج إلى رضوان الله، فتجد أن المؤمن من أقوى الشخصيات، لأن نقطة ضعف الإنسان حاجته إلى المديح، والمنافقون يستغلون هذه الحاجة، فيكيلون المديح جزافاً لبعض الأشخاص، وكأنهم يستحثونهم على العطاء الزائد، هو يعطي ليمدح، يعطي ليثنى عليه، أما المؤمن فقوة شخصيته نابعة من أنه مستغن عن المديح، لا يعبأ.

 

﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُوراً(9)﴾

 

(سورة الإنسان)

 الإنسان حينما يعمل عملاً صالحاً، وينتظر الثناء فكأن هذا العمل لغير الله، أما إذا عمل عملاً صالحاً، ولم يبالِ إطلاقاً بردود فعل الآخرين، فأغلب الظن أنه مخلص بهذا العمل.
 بالمناسبة، علامة الإخلاص ألا ترجو ثواباً من أحد، وألاّ يختلف سرك عن علانيتك، وأن تشعر بسعادة كبيرة حينما تعمل عملاً صالحاً، لأنه عاد عليك من هذا العمل ما يسمى السكينة في قلبك، فعلامة الإخلاص سكينة تشعر بها في قلبك، هذا الذي يغني الإنسان عن طلب المديح، الحقيقة من أشد نقاط الضعف في حياة الشارد عن الله حاجته إلى المديح، وهناك أناس أذكياء يكشفون هذه الحاجة فيستغلونها، لكن المؤمن مستغنٍ عن مديح الناس، عرف نفسه، وعرف ربه، فما ضرته مقالة الناس به، لكنه كما قال النبي عليه الصلاة والسلام:

((رحم الله عبداً جبّ المغيبة عن نفسه ))

(ورد في الأثر)

 المذيع:
 يكفي أن نستذكر أيضاً من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:

((سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ، الْإِمَامُ الْعَادِلُ، وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ رَبِّهِ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَسَاجِدِ، وَرَجُلَانِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ، اجْتَمَعَا عَلَيْهِ، وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ، وَرَجُلٌ طَلَبَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ أَخْفَى حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ ))

(صحيح البخاري)

 الأستاذ:
 هذا من علامات الإخلاص، ثم هناك شيء دقيق: كما قال عليه الصلاة والسلام:

(( يا معاذ أخلص دينك يكفِك القليل من العمل ))

(ورد في الأثر)

﴿وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً (23)﴾

(سورة الفرقان)

 عمل قليل مع إخلاص كثير ينجي صاحبه من أهوال الدنيا، ومن عذاب الآخرة.
 المذيع:
 نسأل الله عز وجل القبول والإجابة، وحسبنا في تقوية إيماننا من خلال التخلص من مظاهر الشح والبخل.
 الأستاذ:
 ومِن دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم:

((... َلَا تَجْعَلِ الدُّنْيَا أَكْبَرَ هَمِّنَا وَلَا مَبْلَغَ عِلْمِنَا... ))

(سنن الترمذي)

 وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

(( لَا يَجْتَمِعُ غُبَارٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَدُخَانُ جَهَنَّمَ فِي جَوْفِ عَبْدٍ أَبَدًا، وَلَا يَجْتَمِعُ الشُّحُّ وَالْإِيمَانُ فِي قَلْبِ عَبْدٍ أَبَدًا ))

(سنن النسائي)

 وهذا حديث دقيق، لَا يَجْتَمِعُ، لعلهما متناقضان، التناقض غير التعاكس، البيض والأسود متعاكسان، وقد يجتمعان على حائط، أما النور والظلام فمتناقضان، لأنهما لا يجتمعان، وجود أحدهما ينقض وجود الآخر، فكأن النبي عليه الصلاة والسلام يقول:

(( وَلَا يَجْتَمِعُ الشُّحُّ وَالْإِيمَانُ فِي قَلْبِ عَبْدٍ أَبَدًا ))

 إن كان في القلب إيمان فلا يجتمع فيه شح أبداً، وإن كان فيه شح فلا يمكن أن يكون فيه إيمان أبداً.
 المذيع:
 شكراً فضيلة الشيخ الدكتور محمد راتب النابلسي، غداً بإذن الله تعالى نتابع لقاءنا، ونتحدث عن مظهر آخر من مظاهر ضعف الإيمان ـ والعياذ بالله ـ نتابع هذه السلسلة من هذه المظاهر، لننتقل بعد ذلك إلى أسباب ضعف الإيمان في سلسلة أخرى من الحوارات، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، شكراً لكم، وأشكر الإخوة المستمعين لحسن إصغائهم.

الاستماع للدرس

00:00/00:00

إخفاء الصور