وضع داكن
29-03-2024
Logo
الدرس : 05 - سورة التوبة - تفسير الآيتان 1-2 ، البراء انقطاع العصمة.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمدٍ وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، وعلى صحابته الغر الميامين، أمناء دعوته، وقادة ألويته، وارضَ عنا وعنهم يا رب العالمين، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات.


البراء انقطاع العصمة والعصمة تعني التمسك :


 أيها الإخوة الكرام، مع الدرس الخامس من دروس سورة التوبة، ولا زلنا في الآية الأولى:

﴿  بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ(1) ﴾

[ سورة التوبة ]

 أولاً: البراء يعني انقطاع العصمة، والعصمة تعني التمسك، فأنت بين أن تتمسك، وبين أن تتبرأ.

فلذلك الله -عز وجل- من عنده مباشرة تبرّأ من العهود التي كانت بين النبي -صلى الله عليه وسلم- وبين قريش، وبعض قبائل العرب لأن هؤلاء خانوا العهود.

 مثلاً: الدَّين قيد، فإذا الإنسان أدى الدَّين برئت ذمته من هذا الدَّين، والمرض قيد فإذا شُفي الإنسان برئ من هذا المرض الذي أقعده في الفراش.

 فالاستمساك نقيضه البراء ﴿بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ وتروي الروايات التاريخية أن النبي -صلى الله عليه وسلم- عاهد قريشاً، وعاهد اليهود، لكن السؤال الدقيق، لِمَ تأخر نقض العهد معهم إلى السنة التاسعة للهجرة مع أن فتح مكة تمّ في السنة الثامنة؟ لذلك قالوا في السنة الثامنة حُرر المكان من الأصنام، وفي السنة التاسعة حُرر الإنسان، تبرئة المكان سبقت تحرير الإنسان، لكن في هذه السنة  -أعني في السنة التاسعة - حُرِّر المكان والإنسان معاً. 


ثقة النبي عليه الصلاة والسلام بنصر الله عز وجل :


 دائماً المؤمن الموفق، الناجح، يعمل بعقله، وغير المؤمن يتحرك بعاطفته الهوجاء، فقد يخسر خسارة كبيرة، وهذه حقيقة دقيقة جداً بين أن تعمل بعقلك، أن ترسم خطة، أن تخطط، وبين أن تتحرك بعاطفتك.

يعني الصحابة الكرام قبل الهجرة مُنعوا منعاً باتاً، أُمروا أن يكفوا يدهم عن أي عمل يسيء للمشركين، الأوراق مختلطة، يوجد بكل بيت مؤمن ومشرك، لذلك:

﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً ۚ وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ ۗ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَىٰ وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77) ﴾

[  سورة النساء  ]

 فالتزموا، لما أصبح لهم كيان في المدينة، استطاعوا أن يحاربوا الروم والفرس، لذلك لما كان النبي -عليه الصلاة والسلام- في الهجرة، وتبعه سراقة، سراقة طمع بمئة ناقة، وقد وُضعت مئة ناقة لمن يأتي به حياً أو ميتاً، والله قال له كلاماً العقل يصعب أن يصدقه، إنسان أُهدر دمه، مئة ناقة لمن يأتي به حياً أو ميتاً، يتبعه إنسان طامع بهذه الجائزة، يقول له: كيف بك يا سراقة إذا لبست سواري كسرى؟ دقق في هذا الكلام حلله، ماذا يعني؟ يعني: إنني سأصل سالماً -هذه ثقته بالله- وسأنشئ دولة، وسأعد جيشاً، وسأحارب أكبر دولتين في العالم، وسأنتصر عليهما، وسوف تأتيني غنائم كسرى إلى المدينة، ولك يا سراقة سوار كسرى، هذا معنى الكلام، هذه ثقة النبي بنصر الله. 


أكبر مصيبة تصيب المسلمين انهيار ثقتهم بأنفسهم :


 أقول لكم الآن: أكبر مصيبة تصيب المسلمين انهيار ثقتهم بأنفسهم، لها اسم آخر: انهزامهم من الداخل، إحباطهم، شعورهم أنهم قد انتهوا، لأن أعداءهم أقوياء جداً، أكبر مصيبة تصيب الإنسان أن يُهزَم من الداخل.

أُهدر دمه، مئة ناقة لمن يأتي به حياً أو ميتاً، يقول له: كيف بك يا سراقة إذا لبست سواري كسرى؟ وفي عهد عمر جاءت كنوز كسرى، وقف صحابيان من كل طرف، رفع كل واحد منهما رمحه، لم يرَ الأول رمح الآخر، فقال عمر: إن الذي أدى هذا لأمين، فقال له سيدنا علي: يا أمير المؤمنين أعجبت من أمانتهم؟ لقد عففت فعفوا، ولو وقعت لوقعوا.

 أيها الإخوة، أخطر شيء أن نُهزَم من الداخل، أخطر كلمة أن نقول: لقد انتهينا، أخطر مصيبة تصيب الأمة حالة الإحباط واليأس.

﴿ وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ(139)﴾

[  سورة آل عمران ]

 فلذلك في السنة الثامنة تحرر المكان من الأصنام بفتح مكة، وكُسرت كل الأصنام، وفي السنة التاسعة تحرر الإنسان  بنقض هذه العهود التي لم يرعها الكفار.


النبي معصوم بمفرده وأمته معصومة بمجموعها :


 أيها الإخوة، لكن لئلا تعتقد أن هذا القرار قرار بشري، هو قرار إلهي، الإنسان يجتهد؛ قد يصيب، وقد لا يصيب، لكن هذا القرار قرار إلهي، والدليل:

﴿بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ هناك تعليق لطيف: النبي -عليه الصلاة والسلام- معصوم بمفرده، بينما أمته معصومة بمجموعها، لقول النبي الكريم:

(( إنَّ اللَّهَ لا يجمعُ أمَّتي على ضلالةٍ ويدُ اللَّهِ على الجماعةِ ))

[ الألباني عن عبد الله بن عمر ]

 النبي وحده معصوم بمفرده، وأمته معصومة بمجموعها.

 لذلك هذا القرار قرار إلهي ﴿بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ لأن الله -سبحانه وتعالى- علم ما كان، وعلم ما يكون، وعلم ما سيكون، وعلم ما لم يكن لو كان كيف كان يكون.

النبي معصوم، لكن لحكمة بالغةٍ بالغة بالغة، سُمح له صلى الله عليه وسلم بهامش اجتهادي، فإن أصاب أقره الوحي على اجتهاده، فصار اجتهاده كالوحي تماماً، وإن لم يكن اجتهاده كما يريد الله -عز وجل- يأتي الوحي ويصحح له.

﴿ عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (43) ﴾

[  سورة التوبة   ]

﴿  عَبَسَ وَتَوَلَّى(1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى(2)﴾

[ سورة عبس ]


الله عز وجل سمح للنبي الكريم بهامش اجتهادي :


 لماذا؟ لماذا سُمح للنبي -صلى الله عليه وسلم- بهامش اجتهادي؟ ليكون فرق بين مقام الألوهية المطلق ومقام البشر، بالنهاية النبي -صلى الله عليه وسلم- معصوم بمفرده من أن يخطئ في أقواله، وفي أفعاله، وفي إقراره، أقواله سنة وتشريع، وأفعاله سنة وتشريع، وإقراره إذا رأى شيئاً فسكت تشريع.

 والدليل: عندما كان في بيت أحد أصحابه وقد توفاه الله، سمع امرأة من وراء الستار تقول: هنيئاً لك أبا السائب لقد أكرمك الله، لو أنه سكت لكان كلامها صحيحاً، وتشريعاً، فقال لها: ومن أدراكِ أن الله أكرمه؟ .

(( أنَّهُمُ اقْتَسَمُوا المُهاجِرِينَ قُرْعَةً، قالَتْ : فَطارَ لنا عُثْمانُ بنُ مَظْعُونٍ وأَنْزَلْناهُ في أبْياتِنا، فَوَجِعَ وجَعَهُ الذي تُوُفِّيَ فِيهِ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ غُسِّلَ وكُفِّنَ في أثْوابِهِ، دَخَلَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَقُلتُ: رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ أبا السَّائِبِ، فَشَهادَتي عَلَيْكَ لقَدْ أكْرَمَكَ اللَّهُ، فقالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: وما يُدْرِيكِ أنَّ اللَّهَ أكْرَمَهُ فَقُلتُ: بأَبِي أنْتَ يا رَسولَ اللَّهِ، فمَن يُكْرِمُهُ اللَّهُ؟ فقالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: أمَّا هو فَواللَّهِ لقَدْ جاءَهُ اليَقِينُ، واللَّهِ إنِّي لَأَرْجُو له الخَيْرَ، وواللَّهِ ما أدْرِي وأنا رَسولُ اللَّهِ ماذا يُفْعَلُ بي فقالَتْ: واللَّهِ لا أُزَكِّي بَعْدَهُ أحَدًا أبَدًا. ))

[ البخاري عن أم العلاء عمة حزام بن حكيم ]

 فأن تحكم على إنسان بالجنة أو بالنار حكماً قطعياً، هذا سماه العلماء التألي على الله، من أنت حتى تقول فلان من أهل النار؟ لعله يتوب ويسبقك، ومن أنت حتى تقول فلان من أهل الجنة؟ لعله يخطئ، ومن أدراكِ أن الله أكرمه؟ قولي أرجو الله أن يكرمه، وأنا نبي مرسل لا أدري ما يفعل بي ولا بكم.

 هذا هو الأدب مع الله، قل دائماً إن أعجبك إنسان: أظنه صالحاً ولا أزكي على الله أحداً، إن طُلب منك أن تشهد بإنسان، قل: هذا علمي به، فإن بدل وغير فلا علم لي بالغيب، كن أديباً مع الله.

 إذاً: النبي -صلى الله عليه وسلم- معصوم بمفرده، وأمته معصومة بمجموعها، وعصمة النبي معها هامش اجتهادي ضيق جداً، فإن أصاب النبي أقره الوحي على ذلك، وإن لم يكن اجتهاده كما يريد الله -عز وجل- جاء الوحي وصحح له، ففي النهاية النبي معصوم بأقواله، وأفعاله، وإقراره.

 النبي -صلى الله عليه وسلم- حالف خزاعة، ولها قبيلة مناوئة لها هي قبيلة بكر، بكر تحالفت مع قريش، لذلك قريش أعانت بكراً على حرب خزاعة، وفي هذا نقض للعهد بين النبي -صلى الله عليه وسلم- وبين قريش وبكر، قريش وبكر، والنبي وخزاعة ـ قريش أعانت بكراً على قتال خزاعة، والنبي حليف لها، وحليف الحليف حليف، فلذلك كان هذا هو النقض الذي سبب أن الله في عليائه برأ من العهود والمواثيق التي كانت بين النبي -صلى الله عليه وسلم- وبين المشركين. 


رحمة الله عز وجل بعباده :


 لكن بعضهم تساءل: ﴿بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾

﴿  فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ(2)﴾

[  سورة التوبة ]

 فكيف يبلغ الله نبيه ببراءة نبيه من العهود مع المشركين ثم يخاطب المشركين؟ قال علماء التفسير: كأن الله أراد من المؤمنين ومن أصحاب النبي أن يبلغوا المشركين، أي قولوا لهم.

 الآن الوقفة الرائعة أنه في العالم كله لا يجوز أن تُطبَّق القوانين بمفعول رجعي، وهذا ظلم للإنسان ما بعده ظلم، شيء مباح، مسموح، إنسان فعله في ظلّ القوانين القائمة، أي موضوع مباح مسموح، الحاكم ارتأى أن يمنع هذا الشيء، له أن يمنعه، أما أن يطبق هذا المنع على من فعله سابقاً، هذا منتهى أنواع الظلم.

 لذلك شيء ثابت في عالم القوانين أن القوانين يُمنَع منعاً باتاً أن تُطبَّق بمفعول رجعي هذا عدل، لكن الإحسان أبلغ من ذلك، للتقريب: لو أن بلداً اكتشف أن هناك بضائع كثيرة جداً غير نظامية، وهذه البضائع تفوّت على الدولة أرباحاً كبيرة جداً، لأنها جاءت بطريق غير نظامي، هل يعقل والأسواق تعج بالبضائع غير النظامية أن يصدر قانون بمحاسبة المخالفين فوراً؟ التساهل السابق شجع الناس، فإذا منعت ينبغي أن تصبر على الناس حتى يُسوُّوا أوضاعهم، الآن تطبيق القانون بمفعول رجعي جريمة، لكن الرحمة أن تعطي الناس مهلة كي يسووا أمورهم.

 سمعت عن بلد في بإفريقيا، أعجبني هذا القرار، صدر قرار بإلزام الناس بأشياء معينة في الاستيراد، أعطاهم ستة أشهر ليسووا أوضاعهم، معنى ذلك أن هناك رحمة.

 دقق:

﴿بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ لكن أيها المشركون بعد نقض العهود التي أراد الله لها أن تُنقض، لأنكم خنتم هذه العهود، لن نحاربكم قبل أربعة أشهر، سووا أوضاعكم. 

﴿فَسِيحُوا﴾ ساح؛ أي تحرك على مهل، فالإنسان إذا ركب مركبته مع أهله للنزهة ما من داعٍ للسرعة، المنظر جميل، الطريق في النزهة جزء من النزهة، يمشي هوناً، قال: 

﴿فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ﴾ معكم أربعة أشهر لن نحاربكم، قال: لئلا يُؤخَذ المشركون على حين غِرّة، يعني ممكن أن يكون هناك أحدهم لم يُبلغ القرار، نقض العهد فينتقل من مكان إلى مكان، هذا عدو، لا، معك أربعة أشهر حتى تُبلغ، وحتى تأخذ الحيطة والحذر، وحتى تعد العدة.

 إخواننا الكرام، من هو العدو التقليدي للمؤمن؟ المشرك والكافر، أنت إذا أردت أن تؤذيه تُحاسب، المؤمن مكلَّف أن يحسن لكل من حوله، لكن وفق خطة، قال:

﴿فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ﴾ أي اطمئنوا، تحركوا ببطء، لن يُطبق مفعول هذا القرار وهذه البراءة إلا بعد أربعة أشهر. 


من عدل مع المشرك قربه إلى الله :


 أيها الإخوة، هناك سؤال آخر: أن الله -سبحانه وتعالى- أبلغ رسوله أن يتبرأ من عهوده مع الكفار، ثم خاطب الكفار مباشرة، كيف؟ مرة ثانية: الله -عز وجل- أراد من النبي، ومن خلال الصحابة أن يخاطب المشركين بهذا القرار الإلهي، هناك آية:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ۖ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8)﴾

[  سورة المائدة ]

 أي لا يحملنكم ﴿شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا﴾ والشنآن هو البغض الشديد ﴿اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ والله الذي لا إله إلا هو في منظور الإسلام، وفي ضوء مبادئ الإسلام، وقيم الإسلام، لا تستطيع أن تؤذي كافراً بلا مبرر ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ إن عدلت مع هذا المشرك قربته إلى الله، وقربته إليك ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ .


الابتعاد عن الاعتداد بالقوة لأن الإنسان في قبضة الله عز وجل :


﴿فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ﴾ لكن إياكم أن تعتدوا بقوتكم، لأنكم جميعاً في قبضة الله، إياكم، ثم إياكم، ثم إياكم أن تعتدوا بقوتكم، مع الله لا يوجد قوي، ولا ذكي، ولا محتال، أنت في قبضته.

 إذاً:﴿فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ﴾ مرة جاء توجيه من يزيد بن عبد الملك إلى والي البصرة، و قد يبدو أن هذا التوجيه لا يرضي الله، فلو نفذه والي البصرة لأغضب الله، ولو لم ينفذه لأغضب الخليفة، وقد يعزله، كان عنده الحسن البصري إمام كبير، وتابعي جليل، فسأله: ماذا أفعل؟ -هذا هو التوجيه-، أجابه إجابة والله تُكتَب بماء الذهب، قال له: اعلم أن الله يمنعك من يزيد، ولكن يزيد لا يمنعك من الله، أي إذا أراد بك يزيد شراً الله يمنعه، لكن لو أرضيته، وأغضبت الله، وأراد الله بالإنسان مرضاً عضالاً يزيد لا يمنعه، اعلم أن الله يمنعك من يزيد، ولكن يزيد لا يمنعك من الله.

 ثم قال الله -عز وجل- بعد أن قال: ﴿فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ﴾ أي في قبضته، للتفصيل: إنسان كبير، كبير في ماله، كبير في منصبه، كبير في علمه، كل علمه، وكل مكانته، وكل قوته، وكل ماله، متوقف على نبض قلبه، فإذا توقف القلب كل ما يملك صار إلى غيره، يكون بشراً يصير خبراً على الجدران، في الشام كل يوم تقريباً مئة و خمسون حالة وفاة، كلهم أشخاص لهم بيوت، لهم مراتب، لهم أعمال، دارسون، معهم شهادات، لهم مكانة، توقف القلب، انتهى كل شيء، فكل مكانتك، وكل حجمك المالي، وحجمك الإداري، وكل هيمنتك، مرتبطة بنبض قلبك، وكل مكانتك، وكل قيمتك، وكل حجمك المالي، والإداري، مرتبط بسيولة دمك، خثرة لا تُرى بالعين كرأس الدبوس تتجمد في بعض أوعية المخ شلل، فقد ذاكرة، فقد بصر، الإنسان ضعيف، لا تقل أنا قل الله. 


التولي و التخلي :


 أصحاب النبي الكريم قالوا: الله في بدر فانتصروا.

﴿ وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ ۖ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123)﴾

[  سورة آل عمران ]

 ضعاف، وفي حنين، هم هم، ومعهم سيد الخلق، وحبيب الحق، قالوا: لن نغلب من قلة، نحن كُثر، اعتدوا بكثرتهم.

﴿ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ(25)﴾

[  سورة التوبة ]

 وأنت أيها الأخ الكريم، أنت بحاجة إلى هذين الدرسين لا كل يوم، كل ساعة، كل دقيقة، تقول: أنا دارس، متعلم، أبي فلان، يتخلى الله عنك، تقول: يا رب ليس لي غيرك يتولاك، تقول: أنا يتخلى عنك، تقول: يا رب أنت وحدك القوي يتولاك، فأنت في كل لحظة بين التولي والتخلي، تعزي تفوقك إلى ذاتك يتخلى الله عنك، تعزي التفوق إلى الله يتولاك، يتابع التوفيق، الدرس الوحيد الذي يحاسب عليه كل مؤمن كل ساعة هذا الدرس، التولي والتخلي.

 فلذلك: ﴿فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ﴾ إنسان يبدو أنه متفوق جداً في الرياضيات، قال: يارب الرياضيات عليّ والجبر عليك، أنا ضعيف بالجبر، فرسب. فقال له: الرياضيات والجبر عليك.

لا يوجد إنسان قوي مع الله، لا تقل أنا، ألغِ كلمة أنا من حياتك، انظر إلى فضل الله عليك، حتى إن علماء القلوب يرون أن أي مؤمن شهد عمله فقد أشرك، لأنه إذا أراد ربك إظهار فضله عليك خلق الفضل ونسبه إليك. 


الدين الإسلامي دين عظيم لا يفرق بين إنسان و إنسان:


﴿وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ﴾ دقق في هذه الآية:

﴿ قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَىٰ جَهَنَّمَ ۚ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (12) ﴾

[  سورة آل عمران  ]

 أنتم لا تتصورن من هم أصحاب النبي؟ شباب، صغار، ضعاف، فقراء، صناديد قريش، أعلام، كبار، زعماء، أقوياء، أذكياء، فصحاء، أين هم صناديد قريش؟ في مزبلة التاريخ، تقول سيدنا أبو جهل؟ هل تستطيع أن تقولها؟ أبو لهب؟ تقولها؟ أعوذ بالله، سيدنا الصديق، سيدنا بلال، بلال عبد فلما أراد الصديق أن يشتريه من سيده الذي كان يعذبه كل يوم، يضع على صدره صخرة ليكفر بمحمد، يقول: أحد أحد، فاشتراه منه، أراد سيدُ بلالٍ أن يهين بلالاً، قال له: والله لو دفعت به درهماً واحداً لبعتكه، فقال له الصديق: والله لو طلبت به مئة ألف درهم لدفعتها لك، فلما أنقذه من سيده وضع يده تحت إبطه، سيدنا الصديق من أكبر رجالات قريش، وقال: هذا أخي حقاً.

 هل تصدقون أن عمر خليفة المسلمين خرج إلى ظاهر المدينة ليستقبل بلالاً؟ هذا ديننا، عبد، سيد، أبيض، ملون.

﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)﴾

[  سورة الحجرات  ]

 مرة تروي بعض الروايات أن بعض زعماء قريش وقفوا بباب عمر بعد فتح مكة، بعد الانتصار الحاسم، لم يؤذن لهم، آلمهم جداً أن صهيباً وبلالاً يدخلان ويخرجان بلا استئذان، فلما دخلوا عليه عاتبوه، فقال لهذا الذي عتب عليه: أنت مثلهما؟.

 سيدنا بلال! نقول: سيدنا بلال، وكان عبداً حبشياً، أسود اللون، لكن هو عند الله في أعلى مقام، هذا الدين، الدين أممي، والدين لا يفرق بين إنسان وإنسان. 


من أطاع الله عز وجل فهو في أعلى مقام :


 أقول لكم: والله أي واحد منكم، أي إنسان من أي بلد، من أي مكان، من أي جنس، مادام مطيعاً لله فهو عند الله في أعلى مقام.

 وأنا أخاطب كل شاب منكم: ليس معك شهادة، أول حياتك، من أسرة فقيرة، نعم، لكن مستقيم قلامة ظفرك تساوي مليون رجل فاسق ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ اشعر أنك مع الله. 

﴿وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ﴾ والكافرين إلى هلاك ﴿قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ﴾ 

﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۚ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ ۗ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَىٰ جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36)﴾

[  سورة الأنفال ]

 مرة كنت بإذاعة بأستراليا على الهواء مباشرة، فيبدو أن هناك إنسان مغرض، قبل نهاية الندوة بدقيقة، قال لي: الإسلام دين الجهل، والقتل، والفقر، والإرهاب، والإجابات تحتاج إلى ساعة، تعلم علم اليقين أن الندوة انتهت، و لم يبقَ غير دقيقة، وهذه تُهم تحتاج لساعات، فقلت له كلمة واحدة: ما ضرّ السحاب نبح الكلاب، وما ضرّ البحر أن ألقى فيه غلام بحجر، ولو تحول الناس إلى كناسين ليثيروا الغبار على الدين ما أثاروه إلا على أنفسهم. 


خلاص العالم بالإسلام إن أحسن المسلمون فهمه و تطبيقه :


 هذا دين الله، لا تقلقوا على هذا الدين إنه دين الله، ولكن لنقلق جميعاً ما إذا سمح الله لنا أو لم يسمح أن نكون جنوداً له، اقلق على هذا فقط، لا تقلق على هذا الدين، والله الذي لا إله إلا هو العالم كله الآن يحارب الدين، والدين في أعلى مستوى بانتشاره.

 مؤتمر عقد بفرنسا حضره كل دول العالم، المشتركون في المؤتمر مئة و خمسون ألفاً في وسط العاصمة الفرنسية، هذا الدين بخير، هناك إحصائيات دقيقة أن خمسين فرنسياً يدخلون في الإسلام يومياً، و ببلاد الغرب البعيدة في أمريكا يدخل ثلاثة و ثلاثون إنساناً في الإسلام يومياً.

 لذلك قال عالم أمريكي هداه الله إلى الإسلام: أنا لا أصدق أن يستطيع العالم الإسلامي اللحاق بالغرب على الأقل في المدى المنظور لاتساع الهوّة بينهما، ولكنني مؤمن أشد الإيمان أن العالم كله سيركع أمام أقدام المسلمين، لا لأنهم أقوياء، هم ضعاف، ولكن لأن خلاص العالم بالإسلام، أنظمة الغرب لم تنجح في إسعاد البشر، وأنظمة الشرق لم تنجح في إسعاد البشر، والعالم كله يتعلق اليوم بالإسلام، ولكن بشرط أن يحسن المسلمون فهم دينهم، وأن يحسنوا تطبيقه، وأن يحسنوا عرضه على الطرف الآخر، هذه البطولة.

لذلك انهيار النظام العالمي المالي نظام عملاق، مئة و خمسة و خمسون مصرفاً أعلنوا إفلاسهم، لأن هناك ربا، أليس هذا جرعة منعشة للمسلمين؟ انتصار إخوتنا العشرة آلاف في غزة على أقوى جيش في المنطقة، أليس هذا جرعة منعشة؟ كأن الله يقول لنا: أنا موجود يا عبادي، لا تيئسوا، أنا موجود، كل شيء بيدي، لكن كونوا لي كما أريد، أكن لكم كما تريدون.


الكافر إلى خزي والمؤمن إلى الله عز وجل :


 أيها الإخوة ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ﴾ بالنهاية الكافر في خزي وعار، ومستحيل، وألف ألف ألف مستحيل أن تطيعه وتخسر، ومستحيل وألف ألف ألف مستحيل أن تعصيه وتربح.

 لسيدنا علي كلمة رائعة: "يا بني ما خير بعده النار بخير، وما شرّ بعده الجنة بشر، وكل نعيم دون الجنة محقور، وكل بلاء دون النار عافية" .

 إذا كان الله معك فمن عليك؟ وإذا كان عليك فمن معك؟ ويا رب ماذا فقد من وجدك وماذا وجد من فقدك؟ 

﴿وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ﴾ قانون أزلي أبدي، الكافر إلى خزي، والمؤمن إلى عز.  

﴿ أُولَٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)﴾

[  سورة البقرة ]

 الهدى رفعهم، رفع قدرهم، رفع شأنهم، رفع مكانتهم، والباقي: 

﴿ أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَىٰ نُورٍ مِّن رَّبِّهِ ۚ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ ۚ أُولَٰئِكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (22)﴾

[  سورة الزمر ]

 في كآبة، أو في السجن، في تفيد شيئاً ضمن شيء، المؤمن على، على تفيد العلو ﴿أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ﴾ غير المؤمنين ﴿أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ .

 فلذلك إذا أردت الدنيا فعليك بالعلم، وإذا أردت الآخرة فعليك بالعلم، وإذا أردتهما معاً فعليك بالعلم، لأنك مفطور على حبّ وجودك، وعلى حبّ سلامة وجودك، وعلى حبّ كمال وجودك، وعلى حبّ استمرار وجودك، إذا أردت الدنيا فعليك بالعلم، وإذا أردت الآخرة فعليك بالعلم، وإذا أردتهما معاً فعليك بالعلم، والعلم لا يعطيك بعضه إلا إذا أعطيته كلك، فإذا أعطيته بعضك لم يعطك شيئاً.

 مجيئكم إلى هذا المسجد ـ جزاكم الله خيراً ـ يشبه تماماً شحن هذا الهاتف، إذا لم تشحنه يتوقف، إنسان بلا شحن نوبي، أسبوعي يسكت، يضيع، تأتيه كآبة، يأتيه إحباط، يأتيه تشاؤم، يأتيه ضجر، تزل قدمه، يرتكب معصية، لأنه لم يُشحن.

 فهذا اللقاء الطيب إن شاء الله شحنة لهذا الإنسان.

والحمد لله رب العالمين

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم أعطنا ولا تحرمنا، أكرمنا ولا تهنا، آثرنا ولا تؤثر علينا، أرضِنا وارضَ عنا، وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور