وضع داكن
29-03-2024
Logo
درس تلفزيوني قناة سوريا - الدرس : 16 - التوبة بعد رمضان
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 أعزائي المشاهدين أخوتي المؤمنين: الحمد لله على كل حال والصلاة والسلام على سيدنا محمدٍ والآل وبعد:
فيا أيها الأخوة:
 نحن في اليوم الأخير أو قبل الأخير من شهر رمضان شهر التوبة والغفران، شهر الإحسان والقرآن، شهر القرب والرحمة، شهر الزلفى والتقوى، لقد شرع الصيام لتقوية إرادة الإنسان، على طاعة ربه، ولتنمية الإخلاص في قلبه، ولتمتين الصلة بخالقه، ولترسيخ معاني العبودية له لقد شرع الصيام، من أجل انتصار الإنسان على نفسه، كي يقودها نحو سعادتها الأبدية.
 فقد ركب الملك من عقل بلا شهوة، وركب الحيوان من شهوة بلا عقل، وركب الإنسان من كيلهما، فإن سما عقله على شهوته أصبح فوق الملائكة، وإن سمت شهوته على عقله، أصبح دون الحيوان.
أيها السادة الأعزاء:
ليست البطولة أن ننتصر على النفس في رمضان، ثم ننخذل أمامها بقية العام، ولكن البطولة أن نحافظ على هذا النصر على طول الدوران وتقلبات الزمان والمكان.
ليست البطولة أن نضبط ألسنتنا في رمضان، فننزهها عن الغيبة والنميمة وقول الزور، ثم نطلقها بعد رمضان، إلى حيث الكذب والبهتان، ولكن البطولة أن تستقيم منا الألسنة، وأن تصلح فينا القلوب ما دامت الأرواح في الأبدان.
 ليست البطولة أن نغض أبصارنا عن محارم الله، وأن نضبط شهواتنا غير المشروعة في رمضان، ثم نعود على ما كنا عليه بعد رمضان، إنا إذاً كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا، ولكن البطولة أن تصوم جوارحنا عن كل معصية، في رمضان، وبعد رمضان، فلا تفطر حتى تلقى الواحد الديان.
 ليست البطولة أن نتحرى الحلال في رمضان، خوفاً من أن يرد علينا صيامنا، ثم نتهاون في تحريه بعد رمضان، على أنه عادة من عوائدنا، ونمط شائع من سلوكنا، ولكن البطولة أن يكون الورع مبدأ ثابتاً وسلوك مستمراً.
ليست البطولة أن نبتعد عن المجالس، التي لا ترضي الله إكراماً لشهر رمضان، ثم نعود إليها بعد رمضان، وكأن الله ليس لنا بالمرصاد في بقية الشهور والأعوام.
ليست البطولة أن نراقب الله في أداء واجباتنا، وأعمالنا ما دمنا صائمين، فإذا ودعنا شهر الصيام، آثرنا حظوظ أنفسنا على أمانة أعمالنا ووجباتنا.
أيها الأخوة المشاهدون:
مثل هذا الإنسان لم يفقه حقيقة الصيام، ولا جوهر الإسلام إنه كالناقة عقلها أهلها، ثم أطلقوها، فلا تدري لمَ عقلت، ولا ولم أطلقت، لا يدري لم صام، ولا لم أفطر.
أيها الأخوة المؤمنين:
لو أديت العبادات ـ والصيام من العبادات ـ لو أديت العبادات على النحو الذي أراده الله عز وجل، لجعلت من المؤمن شخصية فذة إليها تنجذب النفوس، وبها تتعلق الأبصار، ومن نورها تهتدي القلوب.
 لو أديت العبادات، على النحو الذي أراده الله عز وجل لجعلت من المؤمن رجلاً نير الذهن والقلب معاً، حاد البصر والبصيرة جميعاً، تتعانق فكرته وعاطفته، فلا تدري أيهما أسبق ؟ صدق أدبه أم حسن معرفته، ولا تدري أيهما أروع ؟ خصوبة نفسه الجياشة، أم فطانة عقله اللماح.
 لو أديت العبادات على النحو الذي أراده الله عز وجل، لجعلت المؤمن ذا أفق واسع، ونظر حديد، ومحاكمة سليمة، ولجعلته منغمساً في سعادة، لا تقوى متع الأرض الحسية، أن تصرفه عنها، ولجعلته ذا أخلاقٍ أصيلة، لا تستطيع سبائك الذهب اللامعة، ولا الضغوط المانعة أن تقوضها.
المؤمن الحق أيها الأخوة:
 كما أراده الله أن يكون، كالجبل رسوخاً، وكالصخر صلابةً وكالشمس ضياءً، وكالبركان تدفقاً، وكالبحر عمقاً، وكالسماء صفاءً وكالربيع نضارةً، وكالماء عذوبةً، وكالعذراء حياءً، وكالطفل وداعةً.
مشاهدي الأعزاء:
 ومع أن شهر رمضان، شهر التوبة والغفران، لكن هذا لا يعني أن التوبة مقصورة عليه، محصورة فيه، بل إن أبواب التوبة مفتحةٌ على مصاريعها في كل أشهر العام.
كيف لا ؟ والله سبحانه وتعالى يقول في القرآن الكريم:

﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53)﴾

( سورة الزمر: 53 )

 إنه جل وعلا يدعوا المسرفين إلى التوبة، فكيف بالمقتصدين ؟
كيف لا ؟ والحق جل وعلا يقول في كتابه العزيز:

 

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً﴾

 

( سورة التحريم: 8 )

والتوبة النصوح كما قال بعض العلماء، ندم في القلب واستغفار باللسان، وإقلاع عن الذنب.
 كيف لا ؟ والله سبحانه وتعالى يقول في الحديث القدسي: يا ابن آدم، إنك ما دعوتني ورجوتني، غفرت لك على ما كان منك، ولا أبالي، يا ابن آدم، لو بلغت ذنوبك عنان السماء، ثم استغفرتني غفرت لك، يا ابن آدم إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شئ لأتيتك بقرابها مغفرة.
كيف لا ؟ والله سبحانه وتعالى، أفرح بتوبة عبده، من الظمآن الوارد، ومن القيم الوالد، ومن الضال الواجد " فمن تاب إلى الله توبة نصوحة أنسى الله حافظيه وجوارحه وبقاع الأرض كلها خطاياه وذنوبه ".
 كيف لا ؟ والحق جل وعلا يقول في الحديث القدسي: أهلي ذكري أهل مودتي، أهل شكري أهل زيادتي، أهل معصيتي لا أقنطهم من رحمتي، إن تابوا فأنا حبيبهم وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم، أبتليهم بالمصائب، لأطهرهم من الذنوب والمعايب.
كيف لا ؟ وإذا رجع العبد العاصي إلى الله، نادى مناد في السماوات والأرض، أن أيتها الخلائق، هنئوا فلان فقد اصطلح مع الله.
والتوبة أيها الأخوة:
 علم وحال وعمل... فهي علمٌ لأن المذنب لا يتوب إلا إذا علم ضرر الذنب، وكيف أن الذنوب حجابٌ بينه وبين المحبوب، وهذا العلم يولد حالة نفسية، هي الشعور بالندم، على ما أقترف من الذنوب وعلى ما فاته من الخيرات، وهذه الحالة من الندم تولد إرادة وقصداً إلى فعل له تعلق بالحال، وبالماضي، وبالاستقبال.
كيف لا، أيها الأخوة ؟
 والتائب يترك الذنب الذي كان متلبساً به في " الحال "، ويعزم بقلبه على ألا يعود إليه في " الاستقبال "، والتائب يسعى للإصلاح ما كان في " الماضي "، وقد لخص النبي عليه الصلاة والسلام هذه المراحل الثلاث بالندم، فقال فيما رواه الإمام أحمد في مسنده عن أنس ابن مالك: " الندم توبة ". حيث لا يخلو الندم، من علم أوجبه، ومن عمل أثمره.
أيها السادة الأعزاء، أيها الأخوة المشاهدون:
اللهم علمنا ما ينفعنا وأنفعنا بما علمتنا، وزدنا علما، وشكراً لإصغائكم، وإلى لقاء آخر، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

تحميل النص

إخفاء الصور