وضع داكن
20-04-2024
Logo
أمهات المؤمنين : السيدة خديجة بنت خويلد 1 - مقدمة
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .

المرأة لها شأنٌ كبيرٌ عند الله :

 أيها الأخوة الكرام ، بعد أن انتهت دروس أسماء الله الحسنى ، انتظرت أسبوعين لأستأنف دروس هذا المسجد الكريم ، كنت في هذه الفترة في حيرةٍ من أمري ؛ ماذا أعطي بعد الأسماء الحسنى ؟
 خلصت في النهاية إلى أننا بحاجةٍ ماسَّةٍ إلى موضوعٍ فقهي ، فأردت أن نبدأ بأصل الفقه ، بآيات الأحكام في القرآن الكريم ، ولمَّا كان هذا الدرس متعلِّقاً أيضاً بالسيرة ، أردت أن أجعل من سيرة نساء الصحابة الكرام ؛ نساء النبي أولاً ، وبنات النبي ثانياً ، ونساء الصحابة الكرام أنموذجاً يُحتذى ، فالمرأة نصف المجتمع ، ولا شيء أبلغ في حياتها كالقدوة الصالحة .
 المرأة نصف المجتمع
لذلك عزمت ـ والله المستعان ـ أن أجعل دروس الإثنين درساً في آيات الأحكام ودرساً في سيرة نساء النبي وبناته والصحابيات الجليلات ، درس سيرة متعلِّق بالنساء فقط ، ودرس فقه متعلِّق بالقرآن ، آيات الأحكام التي هي أصل التشريع ، وأصل كل اجتهادٍ فقهي ، فإن شاء الله نبدأ اليوم بالسيدة خديجة بنت خويلد رضي الله عنها، وفي الحديث:

 

(( خَيْرُ نِسَائِهَا مَرْيَمُ ابْنَةُ عِمْرَانَ وَخَيْرُ نِسَائِهَا خَدِيجَةُ))

[متفق عليه عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ]

 أيها الأخوة ، أريد أن أقول لكم أن المرأة لها شأنٌ كبيرٌ عند الله ، وأنه :

﴿ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى﴾

[ سورة النجم الآية: 45]

 وقال :

 

﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا﴾

[ سورة الحجرات الآية: 13]

لم يشهد التاريخ الإنساني رجلاً أشد وفاءً لزوجته من رسول الله :

 أقول مرَّاتٍ كثيرة : الرجل حينما ينظر إلى المرأة نظرةً تنخفض عن مكانته هو ، هذا رجل جاهلي ، يمكن أن تسبق المرأة آلاف الرجال .
 ماذا قال عنها النبي صلى الله عليه وسلَّم ؟ قال :

((آمَنَتْ بِي إِذْ كَفَرَ بِي النَّاسُ وَصَدَّقَتْنِي إِذْ كَذَّبَنِي النَّاسُ وَوَاسَتْنِي بِمَالِهَا إِذْ حَرَمَنِي النَّاسُ وَرَزَقَنِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَلَدَهَا إِذْ حَرَمَنِي أَوْلادَ النِّسَاءِ))

[أحمد عن السيدة عائشة ]

 لذلك السيدة عائشة كانت كلَّما سمعت مديحاً من رسول الله صلى الله عليه وسلَّم عن السيدة خديجة تغار ، فعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ :

(( اسْتَأْذَنَتْ هَالَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ أُخْتُ خَدِيجَةَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَرَفَ اسْتِئْذَانَ خَدِيجَةَ فَارْتَاعَ لِذَلِكَ فَقَالَ اللَّهُمَّ هَالَةَ قَالَتْ فَغِرْتُ فَقُلْتُ مَا تَذْكُرُ مِنْ عَجُوزٍ مِنْ عَجَائِزِ قُرَيْشٍ حَمْرَاءِ الشِّدْقَيْنِ هَلَكَتْ فِي الدَّهْرِ قَدْ أَبْدَلَكَ اللَّهُ خَيْراً مِنْهَا ))

[متفق عليه عن السيدة عائشة ]

(( كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا ذَكَرَ خَدِيجَةَ أَثْنَى عَلَيْهَا فَأَحْسَنَ الثَّنَاءَ قَالَتْ فَغِرْتُ يَوْماً فَقُلْتُ مَا أَكْثَرَ مَا تَذْكُرُهَا حَمْرَاءَ الشِّدْقِ قَدْ أَبْدَلَكَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهَا خَيْراً مِنْهَا قَالَ مَا أَبْدَلَنِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ خَيْراً مِنْهَا قَدْ آمَنَتْ بِي إِذْ كَفَرَ بِي النَّاسُ وَصَدَّقَتْنِي إِذْ كَذَّبَنِي النَّاسُ وَوَاسَتْنِي بِمَالِهَا إِذْ حَرَمَنِي النَّاسُ وَرَزَقَنِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَلَدَهَا إِذْ حَرَمَنِي أَوْلَادَ النِّسَاء ))

[أحمد عن السيدة عائشة ]

 كان يكرم صواحب خديجة بعد موتها ، لم يشهد التاريخ الإنساني رجلاً أشد وفاءً لزوجته من رسول الله :

(( قَدْ آمَنَتْ بِي إِذْ كَفَرَ بِي النَّاسُ وَصَدَّقَتْنِي إِذْ كَذَّبَنِي النَّاسُ وَوَاسَتْنِي بِمَالِهَا إِذْ حَرَمَنِي النَّاسُ وَرَزَقَنِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَلَدَهَا إِذْ حَرَمَنِي أَوْلَادَ النِّسَاء ))

[أحمد عن السيدة عائشة ]

 لم يرزقه الله تعالى ولداً ذكراً إلا من السيدة خديجة ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ :

(( مَا غِرْتُ عَلَى أَحَدٍ مِنْ نِسَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا غِرْتُ عَلَى خَدِيجَةَ وَمَا رَأَيْتُهَا وَلَكِنْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ ذِكْرَهَا وَرُبَّمَا ذَبَحَ الشَّاةَ ثُمَّ يُقَطِّعُهَا أَعْضَاءً ثُمَّ يَبْعَثُهَا فِي صَدَائِقِ خَدِيجَةَ فَرُبَّمَا قُلْتُ لَهُ كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي الدُّنْيَا امْرَأَةٌ إِلَّا خَدِيجَةُ فَيَقُولُ إِنَّهَا كَانَتْ وَكَانَتْ وَكَانَ لِي مِنْهَا وَلَدٌ ))

[متفق عليه عن السيدة عائشة ]

السيدة خديجة رضي الله عنها أول من آمن بالله ورسوله :

 الآن إذا تزوج الإنسان امرأة ، ماتت زوجته الأولى فتزوج ثانية ، يتقرَّب إلى الثانية بذم الأولى :

(( وَلَكِنْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ ذِكْرَهَا وَرُبَّمَا ذَبَحَ الشَّاةَ ثُمَّ يُقَطِّعُهَا أَعْضَاءً ثُمَّ يَبْعَثُهَا فِي صَدَائِقِ خَدِيجَةَ فَرُبَّمَا قُلْتُ لَهُ كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي الدُّنْيَا امْرَأَةٌ إِلَّا خَدِيجَةُ فَيَقُولُ إِنَّهَا كَانَتْ وَكَانَتْ وَكَانَ لِي مِنْهَا وَلَدٌ ))

[متفق عليه عن السيدة عائشة ]

لا يوجد أروع من الوفاء أيها الأخوة ، كأن النبي عليه الصلاة والسلام أراده الله أن يكون الزوج الوفي ، آلاف الرجال يتزوَّجون زوجات وهم فقراء ، فإذا اغتنوا تنكَّروا لهذه المرأة التي عاشت معه على الحصير ، تنكَّروا لهذه المرأة التي عاشت معه على الكفاف ، هذه المرأة التي كانت معك ، التي ذاقت قسوة الحياة معك ، يجب أن تذوق حلاوة الحياة معك .
 سيدنا عبد الله بن عباس ماذا قال عن السيدة خديجة ؟ قال : " كانت خديجة أول من آمنت بالله ورسوله ... " ، أول امرأةٍ على الإطلاق ، أو الأصح من ذلك ؛ أول إنسانٍ آمن برسول الله السيدة خديجة ، الأسبقية لها قيمة كبيرة جداً ، " كانت خديجة أول من آمنت بالله ورسوله ، وأول من صدَّق محمد صلى الله عليه وسلَّم فيما جاء به عن ربه ، وآزره على أمره " .
 صدقوا أيها الأخوة أن المرأة الصالحة يمكن أن تدفع زوجها إلى مراتب العظمة ، أساساً يقولون : ما من عظيمٍ إلا ووراءه امرأة ؛ تواسيه ، تخفِّف عنه ، تُسهم معه في مشكلاته ، تقف وراءه ، تدفعه إلى البطولة ، تخفف عنه أعباء الحياة ، المرأة الصالحة لا تقدَّر بثمن :

(( إِنَّ الدُّنْيَا كُلَّهَا مَتَاعٌ وَخَيْرُ مَتَاعِ الدُّنْيَا الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ ))

[ صحيح مسلم ]

مواساة السيدة خديجة للنبي الكريم من تكذيب المشركين له :

 قال الله عزَّ وجل :

﴿ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾

[ سورة البقرة الآية: 201]

 قال علماء التفسير : " حسنة الدنيا المرأة الصالحة ؛ التي إذا نظرت إليها سرَّتك ، وإذا غبت عنها حفظتك ، وإذا أمرتها أطاعتك " .
 لابد من الكفاءة بين الزوجين
كان لا يسمع من المشركين شيئاً يكرهه من ردٍ عليه وتكذيبٍ له ، إلا فرَّج الله عنه بها ، أي أنها كانت تواسيه ، فهناك امرأة هي عبءٌ على زوجها ، عبءٌ يضاف على أعبائه ، يُناضل خارج البيت ، يأتي إلى البيت ليجد آلاف المشكلات ، لا يرتاح ، أما المرأة العظيمة الصالحة يدخل الرجل إلى البيت فتنسيه متاعبه خارج البيت ، تخفِّف عنه وليست عبئاً عليه ، كان عليه الصلاة والسلام لا يسمع من المشركين شيئاً يكرهه من ردٍ عليه ، وتكذيبٍ له إلا فرَّج الله عنه بها ؛ تثبته، وتصدقه ، وتخفِّف عنه ، وتهوِّن عليه ما يلقى من قولٍ ، لذلك كما قال عليه الصلاة والسلام :

(( النِّسَاءَ شَقَائِقُ الرِّجَالِ ))

[ الترمذي عن السيدة عائشة ]

 يا أيها الآباء ابحث لابنتك عن زوجٍ يليق بها ، يا أيتها الأمهات ابحثن أو اخترن من بين الخاطبين الخاطب الذي يليق بابنتكن ، لأنه إن لم يكن هناك كفاءة فالمشكلة كبيرة .
 يقول الإمام الذهبي : " السيدة خديجة هي ممن كمل من النساء ، كانت عاقلةً ، جليلةً ، ديِّنةً ، مصونةً ، كريمة " ، الحقيقة إن رأيت عقلاً راجحاً في المرأة فهذا مما يلفت النظر ، إن رأيت عقلاً راجحاً في امرأةٍ تسعد زوجها ، وفوق إسعاده عقلٌ راجح ، ونظرٌ ثاقب ، فهذا شيءٌ يعدُّ ميزةً كبيرةً جداً .

نبذة عن حياة السيدة خديجة رضي الله عنها :

 أيها الأخوة الكرام ، السيدة خديجة بنت خويلد رضي الله عنها ، هي خديجة بنت خويلد بن أسدٍ بن عبد العزَّى بن قصي من الذؤابة من قريشٍ نسباً ، وبيتاً ، وحسباً ، وشرفاً ، يلتقي نسبها بنسب النبي صلى الله عليه وسلَّم في الجد الخامس ، وهي أقرب أمهات المؤمنين إلى النبي ، أي أن أقرب امرأةٍ إلى النبي السيدة خديجة ، كم كان عمرها حينما تزوجها ؟ كانت في الأربعين وكان هو في الخامسة والعشرين ، ما أكثر الشباب الذين يندبون حظَّهم إذا كانت زوجاتهم تقل عنهم سنتين ، كان هو في الخامسة والعشرين وكانت هي في الأربعين ، أي أنها كانت في سن أمه ، ومع ذلك كانت السيدة خديجة أقرب أمهات المؤمنين إلى النبي صلى الله عليه وسلَّم في النسب ، ولم يتزوَّج من ذرية جده قُصي غير السيدة خديجة ، أي أن أقرب امرأة إليه ، وأقربها نسباً إليه السيدة خديجة .
 قُدَّر لخديجة أن تتزوج مرتين قبل أن تتشرَّف بزواجها من رسول الله ، أي أنها امرأة متزوجة مرتين ، لكنها لم تطلَّق مرتين ، بل مات عنها زوجاها ، أول زوج مات عنها ، والثاني مات عنها ، والله سبحانه وتعالى ـ دققوا في هذا المعنى ـ جعل زوجة النبي الأولى والتي عاش معها، كم عاش معها ؟ خمساً وعشرين سنة ، رُبع قرن ، كم بلغت من العمر ؟ بالأربعين ، عاش معها إلى الخامسة والستين ، بدأ معها في الخامسة والعشرين ، وصار في الخمسين ، وهي في الخامسة والستين ، أطول فترة أمضاها النبي مع هذه الزوجة الطاهرة ، وكانت في سن أمه ، وكانت أقرب الزوجات إليه .
 إذاً هل كانت مقاييسه جماليَّة ؟ امرأة في سن أمه ، وعاش معها ربع قرن ، وكانت أحب الزوجات إليه وأكرمها عليه ، إذاً الأسباب ليست جمالية ، الأسباب خُلُق ، عقل ، طُهر ، عفاف ، وفاء ، ولاء ، هذه الأسباب ، الأشياء التي تبقى في الخارج لا قيمة لها كثيراً .

كلَّما ارتقت مرتبتك عند الله كان الذين حولك من النُخبة :

 سمعت والله البارحة قصة رجلٍ وضع في الوحل ، لأنه آثر الجمال فقط ، ولم يعبأ بشيءٍ آخر ، أول شيء كُتب عليه مبلغٌ فوق الخيال مقدَّماً ومؤخَّراً ، ثاني شيء يوم الدخول لم تكن فتاةً ، ثالث شيء كانت تخونه ، رابع شيء أذلَّته حتى وضعته في الوحل .
 كلما ارتقيت عند الله كان الذين حولك من النخبة
لمجرَّد أن أقول لكم : السيدة خديجة في عمر أم النبي ، وعاش معها ربع قرنٍ، وكانت أقرب النساء إليه ، وكان وفياً لها أشد الوفاء ، قال : حينما فتح مكة أين نصب راية المسلمين ؟ عند قبر خديجة ، لأنها لم تكحِّل عينيها بالفتح .
 دققوا في هذه الفكرة ، عند معظم الناس هذه امرأة لا تفهم شيئاً ، حينما فُتحت مكة ، من هذه المرأة التي كانت مع النبي ؟ تحمَّلت معه المُقاطعة ، والأذى ، والتكذيب ، والتضييق ، والتنكيل ، وكانت تصبِّره ، وتخفف عنه ، وتواسيه ، وتثبِّته ، ولم تكتحل عيناها بفتح مكة ، يوم فتح مكة المكرمة نصب راية المسلمين عند قبر خديجة ، كأنه أراد أن يُعْلِمَها بعد موتها أن ها قد فُتحت مكة التي أخرجتنا ، والتي نكَّلت بأصحابنا ، والتي ائتمرت على قتلنا وإخراجنا .
 قال : قُدِّر للسيدة خديجة أن تتزوج مرَّتين قبل أن تتشرف بالزواج من النبي صلى الله عليه وسلَّم، مات عنها زوجها الأول ، ومات عنها زوجها الثاني ، وانصرفت رضي الله عنها بعد موت زوجها الثاني عن الزواج ، ورفضت أن تتزوَّج أحداً ممن تقدَّم لخطبتها ، وقد تقدَّم لخطبتها رجالٌ كثيرون كلهم من أشراف مكة ، وكانوا حريصين على نكاحها ، قد طلبوها ، وبذلوا لها الأموال ؛ لشرفها ، ولعقلها ، ولنسبها ، ولجمالها رضي الله عنها ، وقد ألهمها الله تعالى أن ترُدَّ خطَّابها جميعاً ، كي تكون زوجةً لسيد الخلق وحبيب الحق سيدنا محمدٍ صلى الله عليه وسلَّم .
 بصراحة الإنسان حينما يختار الله له زوجة هذه من اختيار الله له ، هذه هدية الله له ، مكانة النبي العالية اقتضت حكمة الله أن تكون زوجته سيدة نساء العالمين ، هذا من تكريم الله لرسول الله ، فبصراحة إذا إنسان حوله أُناس مستواهم رفيع جداً ، هذا من نِعَم الله عليه ، هذا تكريمٌ له ، وأحياناً يكون حول الإنسان حُثالة ، فكلَّما ارتقت مرتبتك عند الله كان الذين حولك من النُخبة ، وحينما هبطت المرتبة كان الذين حولك من الحُثالة .
 أول شركة مضاربة قامت في الجزيرة قبيل الإسلام بين السيدة خديجة وبين رسول الله :
 قيل : هذه السيدة رضي الله عنها انصرفت إلى تثمير مالها ، وتنميتها في حرفة التجارة التي اشتهر بها قومها ، قال تعالى :

﴿ لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ*إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ﴾

[ سورة قريش الآيات: 1-2]

 رحلة في الشتاء إلى اليمن ، وفي الصيف إلى الشام ، ولكونها أنثى ما كانت رضي الله عنها تخرج بمالها مسافرةً ، أي هناك فطرة متغلغلة في الإنسان ، هذه قبل أن تأتي الرسالة المحمدية ، لشرفها ، وكمالها ، وعقلها ما كانت تخرج لتجارةٍ مسافرةً ، ماذا كانت تفعل ؟ تدفع مالها مُضاربةً للرجال ؛ منها المال ، ومن الرجال الجهد ، وأول شركة مضاربة قامت في الجزيرة قبيل الإسلام بين السيدة خديجة وبين رسول الله صلى الله عليه وسلَّم .
 قال ابن إسحاق : " كانت السيدة خديجة بنت خويلد امرأةً تاجرةً ، ذات شرفٍ ومال ، تستأجر الرجال في مالها ، وتضاربهم إيَّاه ، بشيءٍ تجعله لهم ، وكانت قريشٌ قد عُرفت بالتجارة ، هذه الزوجة الطاهرة اشتُهرت بأخلاقها الكريمة " .
ذكرت مرةً في خطبة أن العالِم الجليل ابن قيم الجوزية قال : "الإيمان هو الخُلُق ، فمن زاد عليك في الخُلُق زاد عليك في الإيمان " ، الصفة التي ترفعك عند الله الخُلُق الحسن ، الصفة التي ترقى بها ، التي تسمو بها ، التي تعدُّ وسام شرفٍ لك عند خالقك الخُلُق الحسن ، لأن الله سبحانه وتعالى حينما أثنى على النبي صلى الله عليه وسلَّم قال :

﴿ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾

[ سورة القلم الآية: 4]

 قال : هذه المرأة الجليلة اشتُهرت بأخلاقها الكريمة النبيلة ، قال السهيلي : " خديجة بنت خويلد تسمَّى الطاهرة في الجاهلية والإسلام ، وتسمى أيضاً سيدة نساء قريش ، وكانت تدعى في الجاهلية الطاهرة " .
 قال الذهبي : " هي ممن كمل من النساء ؛ كانت عاقلةً ، جليلةً ، ديّنةً ، مصونةً ، كريمةً " . الأخلاق ليست لها علاقة بالأزمنة ، الأزمنة حديثة ، فيها أثاث فخم ، فيها مخترعات ، فيها أجهزة في البيت ، فيها مركبات فخمة ، فيها طائرات ، فيها حدائق ، فيها معامل ، فيها هواتف ، الأخلاق لا علاقة لها بالعصور ، في أي عصر يوجد أخلاق ، والأخلاق هو الشيء الذي يلفت النظر في الإنسان .

لابدّ من قواسم مشتركة بين الزوج وزوجته فالنبي لقبه الأمينٌ والسيدة خديجة الطاهرة :

 أيها الأخوة في كلامٍ طيبٍ حول السيدة خديجة ، الأمين والطاهرة ؛ الأمين رسول الله ، والطاهرة السيدة خديجة ، والحقيقة ليس في الحياة أروع من أن تكون الزوجة على شاكلتك خُلقاً وديناً ، الذي يمزِّق الإنسان أحياناً أن يكون هو في وادٍ خلقيٍ رفيع ، في وادٍ دينيٍ رفيع ، وزوجته في وادٍ آخر ، هذا مما يُشقي الإنسان ، الإنسان إذا وفِّق إلى زوجةٍ طاهرةٍ ، تقيَّةٍ ، عفيفةٍ وفِّق إلى كل شيء .
 الحقيقة أن كل إنسان له شخصيةٌ يكونها ، وشخصيةٌ يتمنى أن يكونها ، وشخصيةٌ يكره أن يكونها، فلا بد من قواسم مشتركة بين الزوج وزوجته ، هو أمينٌ وهي طاهرة ، وإن الطيور على أشكالها تقع .
نشأ عليه الصلاة والسلام مُتصفاً بكل خُلُقٍ كريم ، مبرَّءاً من كل أمرٍ ذميم ، أدَّبه ربه ، يقول لك: الحياة ربَّته ، معترك الحياة هذَّبه ، له معلِّم جليل ربَّاه ، وتخرَّج من هذه المدرسة الراقية، كل هذا الكلام في واد وإذا قلنا: إن الله أدَّب النبي ، في مستوى آخر، كنت أقول دائماً :

(( فَضْلُ كَلامِ اللَّهِ عَلَى سَائِرِ الْكَلامِ كَفَضْلِ اللَّهِ عَلَى خَلْقِهِ ))

[الترمذي عن أبي سعيد ]

 تدخل إلى مكتبة فيها أعظم المجلدات ، كل هذه المكتبة من تأليف بشر ، أما كتاب الله كلام الله :

(( فَضْلُ كَلامِ اللَّهِ عَلَى سَائِرِ الْكَلامِ كَفَضْلِ اللَّهِ عَلَى خَلْقِهِ ))

[الترمذي عن أبي سعيد ]

 النبي من علَّمه ؟ الله جل جلاله ، إذاً بين علم النبي وبين علم أعلم علماء الأرض كما بين الله وخلقه تماماً ، لأن الله هو المعلِّم ، أما علماء الأرض علَّمهم بشر .
 الشيء الثالث : أكبر مربي في الأرض إذا ربَّى أعلى تربية ، والنبي ربَّاه ربه جل جلاله ، بين أخلاق النبي وأخلاق إنسان مُربى أعلى تربية كما بين الله وخلقه ، إذاً الله جل جلاله علَّمه وأدَّبه ، لذلك قال أحد الشيوخ لبعض تلاميذه : " يا بني نحن إلى أدبك أحوج منا إلى علمك " ، فالأدب مطلوب ، وكان عليه الصلاة والسلام في أعلى درجات الأدب ، أدَّبه ربه سبحانه وتعالى فأحسن تأديبه ، حينما تُسأل السيدة عائشة عن خُلُق النبي كانت تقول :

((كان خلقه القرآن))

[ مسلم عن عائشة ]

 إذا أردت أن تعرف مقامك عند الله فانظر فيما استعملك :
 شهد له عليه الصلاة والسلام ربه في القرآن الكريم بكمال الأخلاق فقال :

﴿ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾

[ سورة القلم الآية: 4]

شبَّ النبي الكريم والله تعالى يكلأه ، ويحفظه ، ويحوطه من أقذار الجاهليَّة ، والله يوجد في الحياة أحياناً مستنقعات ، مُنزلقات ، بؤَر نتنة ، أماكن لهو قذرة ، علاقات دنيئة ، سقوط مريع ، انهيار خلقي ، إنسان كالدَّابة ، كالخنزير ؛ ويوجد مجتمعات راقية جداً ، بيوت راقية ، مجالس علم راقية، علاقات إنسانية راقية ، علاقات علمية راقية ، فالإنسان إذا كان في بيئة صالحة ، هذه من نِعَم الله الكُبرى ، لك مسجد ، لك أخوان ، لك جلسة دينية ، إن جلست تتكلَّم عن الله ، تنطق بالحق ، تتحدّث عن القيَم هذه من نعم الله العظمى .
 مرَّة كنت في افتتاح المسجد كان بجانبي مدير أوقاف الريف ، قلت له : اشكر الله عزَّ وجل على أن الله أقامك على أمور المساجد ، فهناك من يشرف على دور اللهو ، وهو إنسان ، أنت اليوم تفتتح مسجداً ، وغيرك البارحة افتتح ملهىً ، فإذا أردت أن تعرف مقامك فانظر فيما استعملك .
سألني شخص مرة فقال لي : معنى قوله تعالى :

﴿ الزَّانِي لَا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ ﴾

[ سورة النور الآية: 3]

 هل هناك حالة امرأة غير زانية ، ونكحها زانٍ ؟ من أوجه تفسيرات هذه الآية أن الإنسان إذا رضي بزوجةٍ زانية فهو في حكم الزاني ، وان المرأة إن رضيت بزوجٍ زانٍ فهي في حكم الزانية، إذاً هي على شاكلته ، لأنها قبلت به .

حاجة السيدة خديجة إلى رجل صادق أمين لتأتمنه على مالها :

 أحياناً الإنسان يرى من ابنه بعض سوء الائتمان ، يقول لك : لا تدقِّق ، معنى هذا أن الأمانة ليست لها قيمة كبيرة عنده ، فأنت ما الذي يزعجك ؟ ما الذي يخرجك من جلدك أحياناً ؟ أن ترى نقيضك ، أما إن رأيت ما يوافقك فلا تكترث كثيراً ، فالمؤمن لا يُعقل أن يقبل بزانية ، والمؤمنة لا يمكن أن تقبل بزانٍ :

﴿ وَالزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَا﴾

[ سورة النور الآية: 3]

 أي لا يقبل بها إلا إنسانٌ على شاكلتها ، ولو لم يزنِ ، ما دام قد قبل بها زانيةً فهو في حكم الزاني، والمرأة إن قبلت زوجاً زانياً ، ولو لم تزن فهي في حكم الزانية ، هذا المعنى واقعي .
 سمعت السيدة خديجة رضي الله عنها بأخلاق النبي صلى الله عليه وسلَّم ؛ من الصدق والأمانة ، وهي امرأةٌ تاجرةٌ تحتاج إلى الرجل الصادق الأمين لتأتمنه على مالها .
يا أخواننا التجار الموظَّف في العمل التجاري يُقبل منه مليون غلطة إلا أن يخون أو أن يسرق
 المؤمن لا يكذب ولا يخون والسرقة خيانة ، لكونها تاجرة سمعت به أميناً ، صادقاً . قال ابن إسحاق : " كانت السيدة خديجة امرأةً تاجرة ذات شرفٍ ومال ، تستأجر الرجال في مالها تضاربهم إياه بشيءٍ تجعله لهم منه ، فلما بلغها عن رسول الله صلى الله عليه وسلَّم ـ أخواننا الكرام هذا الذي يضع ماله ليستثمره بربحٍ ثابت هذا نوع من الربا ، أما على شيءٍ تجعل لهم منه، على نسبةٍ وليس على أجرٍ مقطوع ، وإلا صار هذا نوعٌ من الربا ـ فلما بلغها عن رسول الله صلى الله عليه وسلَّم ما بلغها ، من صدق حديثه ، وعِظَمِ أمانته ، وكرم أخلاقه ، بعثت إليه ، وعرضت عليه أن يخرج بمالها إلى الشام تاجراً ، وتعطيه أفضل ما كانت تعطي غيره من التُجَّار، مع غلامٍ يقال له ميسرة " .

أنواع الفقر :

 النبي عليه الصلاة والسلام نشأ فقيراً ، فهل الفقر وصمة عار ؟ أبداً لعلَّه وسامُ شرف ، فاللهمَّ صلي عليه كان يتيم ، وكان فقير ، كل إنسان افتقر وأخلاقه عالية ، فله في النبي أسوةٌ حسنة
 عندنا فقر الكسل ، وهو مذموم ، وعندنا فقر القدر ، وصاحبه معذور ، فيه عاهة تمنعه من العمل ، وعندنا فقر محمود ، وهو فقر الإنفاق ، سيدنا الصديق أعطى كل ماله لرسول الله ، قال :

(( يَا أَبَا بَكْرٍ مَا أَبْقَيْتَ لأَهْلِكَ قَالَ : أَبْقَيْتُ لَهُمُ اللَّهَ وَرَسُولَه ))

[الترمذي عن عمر بن الخطاب ]

 صار سيدنا الصديق فقيراً ، لكن فقره فقر إنفاق ، لذلك قال تعالى :

﴿ وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ﴾

[ سورة البقرة الآية: 195]

الآية التالية لها معنيان ؛ إن لم تنفقوا ، وإن أنفقتم مالكم كلَّه ، والمعنيان رائعان :

 الآية التالية لها معنيان :

﴿ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ﴾

[ سورة البقرة الآية: 195]

 إن لم تنفقوا :

﴿ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ﴾

[ سورة البقرة الآية: 195]

 إن أنفقتم مالكم كلَّه ، والمعنيان رائعان .
 نشأ النبي عليه الصلاة والسلام يتيماً فقيراً ، توفي أبوه عبد الله وهو جنينٌ في رحم أمه ، لذلك دخلت مرةً إلى ميتم ، قرأت قوله تعالى في مدخل الميتم :

﴿ أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى﴾

[ سورة الضحى الآية: 6]

 والله اقشعرَّ جلدي ، أن سيد الخلق ، وحبيب الحق نشأ يتيماً ، اليُتم صعب ، الأخ غير الأب ، الأب يرحم ، الأخ قد يقسو ، فرقٌ كبير بين الأخ وبين الأب :

﴿ أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى﴾

[ سورة الضحى الآية: 6]

 خرج النبي صلى الله عليه وسلَّم مع عمه أبي طالب إلى بلاد الشام ، وعمره اثنتا عشرة سنة ، ورآه راهبٌ يقيم في صومعةٍ قرب بُصرى يدعى بَحِيرة ، فتفرَّس به مخايل النبوَّة ، وتأكَّد من فراسته حينما رأى خاتم النبوَّة بين كتفيه الشريفين .

عمل أكثر الأنبياء كان في رعي الغنم لأن فيه وقت فراغ كبير يعطى للإنسان كي يتأمَّل :

 سمعت من أستاذ في الجامعة متحقق ، وعالج هذا الموضوع معالجة متأنيَّة ، فوجد أن قصة الراهب بحيرة ليس لها أصل جملةً وتفصيلاً ، بعضهم يقول : من الذي علَّمه ؟ الراهب بحيرة ، على كلٍ هذا لا يعنينا ، ولم يرد فيه نصٌ صحيح .
 عمل عليه الصلاة والسلام برعي الغنم ، وصرَّح بذلك لأصحابه بعد بعثته ، مما يدلُّ على شدة تواضعه ، عمل راعيَ غنم ، أنا لا أعتقد أن في الأرض حرفةً أدنى من رعي الغنم ، انظروا إليه، في البراري ، في الجبال ، في الوهاد ، مع قطيعٍ من الغنم ، أكثر الأنبياء عملوا في رعي الغنم ، ما التوجيه في ذلك ؟
 أكثر الأنبياء عملوا في رعي الغنم
لأن رعي الغنم فيه وقت فراغ كبير يعطى للإنسان كي يتأمَّل ، الحقيقة الإنسان يعدُّ إنساناً إذا كان عنده وقت فراغ ، فكلُّ عملٍ يلغي وقت فراغك خسارةٌ محقَّقة ، كل عملٍ مهما كان دخله كبيراً إذا ألغى وقت فراغك ، هذا العمل خسارةٌ محقَّقة ، لأنه ألغى سرّ وجودك ، ألغى غاية وجودك ، ألغى هويَّتك ، الله عزَّ وجل وصف هؤلاء فقال :

﴿ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ *فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ ﴾

[ سورة المدثر الآيات: 50-51]

 لو ذهبت إلى شرق الدنيا أو إلى غربها ، لرأيت أن هذه البلاد ورشة عمل ؛ بلا كلل ، ولا ملل ، ولا راحة ، ولا استراحة ، ولا حياة ، ولا روحانيَّات ، ولا اتصال بالله ، ولا يقظة ، غفلة ، عمل مستمر حتى الموت ، العمل جيد لكن لكل شيءٍ إذا ما تم نقصان ، الإنسان لا يجب أن يكون عبداً للعمل ، أن يكون العمل وسيلةً في خدمته .
 سيدنا عمر وهو على المنبر كان يخطب ، قطع الخطبة بلا مبرّر ، وقال : " يا عُمير كنت راعياً ترعى على قراريط لبني مخزوم " ، وأكمل الخطبة ، شيء غريب ، ليس هناك داعٍ لقطع الخطبة، وهذا الكلام لا علاقة له بالخطبة ، فلما نزل سُئل : " يا أمير المؤمنين لمَ قلت ما قلت ؟ "، قال: " جاءتني نفسي فقالت لي : أنت أمير المؤمنين ، ليس بينك وبين الله أحد ، أردت أن أعرِّفها حدَّها ـ حجمها ـ " ، قال : " يا ابن الخطاب ، يا عمير كنت راعياً ترعى الإبل على قراريط لأهل مكة " ، قال : " أردت أن أعرِّف نفسي حدَّها " .

(( مَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيّاً إِلا رَعَى الْغَنَمَ فَقَالَ أَصْحَابُهُ : وَأَنْتَ . فَقَالَ : نَعَمْ كُنْتُ أَرْعَاهَا عَلَى قَرَارِيطَ لأَهْلِ مَكَّةَ ))

[ البخاري عن أبي هريرة ]

الإنسان لا يولد عظيماً الله عزَّ وجل يمتحنه ويمرِّره بأطوار وأطوار :

 تجد إنساناً يستحي من ماضيه ، يعتِّم عليه ، لكنني أرى أن الإنسان إذا ذكر ماضيه المتواضع رأى نعمة الله عليه ، قال لي رجل غني جداً : كنت عندما آكل في بيت أهلي الزعتر أضع قطعة الخبز على صحن الزعتر ، فإذا ضغطت قليلاً أُضرَب من والدي ، لا تضغط كثيراً " ، كان فقيراً إلى هذه الدرجة ، أي إذا ضغط على صحن الزعتر قليلاً معنى هذا في إسراف ، فيُضرب ، ثم صار شخصاً غنياً ، الإنسان إذا اغتنى يجب أن ينظر إلى ماضيه ، وإلى نعمة الله عليه .
 رجل يعد في بعض البلاد أول تاجر خضراوات ، قال لي : أنا عندي أربعين أو خمسين براد ـ أسطول ـ ينتقل عبر البلاد لنقل الخضراوات ، عنده برادات تكفي لبلاد بأكملها ، قال لي : كنت عتالاً ، لكن والله ما فاتني فرض صلاة بحياتي ، ولا أعرف الحرام أبداً ، أنا أكبرت فيه تواضعه، قال لي : " كنت عتَّالاً لكن ما فاتني فرض صلاة في حياتي ، ولا أكلت قرشاً حراماً ، ولا أعرف الحرام " .
 سيدنا النبي صلى الله عليه وسلم حينما أصبح في الخامسة والعشرين من عمره اتجه إلى العمل بالتجارة كسائر رجال قريش ، تذكر الروايات عن نفسية بنت مُنية قالت : " لمَّا بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلَّم خمساً وعشرين سنة ، وليس له بمكة اسمٌ إلا الأمين لما تكامل فيه من خصال الخير ، قال له أبو طالب : يا ابن أخي أنا رجلٌ لا مال لي ، وقد اشتدَّ الزمان علينا ، وألحَّت علينا سيول مُنكرة ، وليست لنا مادةٌ ولا تجارة ، وهذه عير قومك قد حضر خروجها إلى الشام ، وخديجة بنت خويلد تبعث رجالاً من قومك في عيرها " .
 أقف قليلاً هنا ، النبي كان فقيراً ، ليس فقيراً فحسب ، بل أُمر أن يذهب ، أن يسافر ، " يا ابن أخي أنا رجلٌ لا مال لي ، وليست لنا مادةٌ ولا تجارة ، وهذه عير قومك قد حضر خروجها إلى الشام ، وخديجة بنت خويلد تبعث رجالاً من قومك في عيرها ، فيتجرون لها في مالها ، ويصيبون منافع ، فلو جئتها وعرضت نفسك عليها ، لأسرعت إليك ، وفضَّلتك على غيرك لما بلغها عنك من طهارتك ، وإن كنت أكره أن تأتي الشام ، وأخاف عليك من اليهود ، ولكن لا نجد من ذلك بُدَّاً " ، أي اذهب واطلب منها أن تسافر إلى الشام بتجارةٍ لها .
 قال : غلب على النبي الكريم حياؤه وعزة نفسه ، فقال لعمه أبي طالب : " لعلَّها ترسل إليَّ في ذلك ، ثمة إنسان نفسه غالية عليه ، لا يطلب ، لا يلح في الطلب :

((ابتغوا الحوائج بعزة الأنفس فإن الأمور تجري بالمقادير .))

[ابن عساكر عن عبد الله بن بسر بسند ضعيف]

 لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه ، فالنبي الكريم غلب عليه حياؤه وعزة نفسه فقال لعمه أبو طالب : " لعلها ترسل إليَّ في ذلك " ، فقال أبو طالب : " أخاف أن تولي غيرك فتطلب الأمر مدبراً " . أي أن تفوتك الفرصة ، فافترقا ، وبلغ خديجة ما كان من محاورة عمه له ، وقبل ذلك ما كان من صدق حديثه ، وعظم أمانته فقالت : " ما علمت أنه يريد هذا " ، ثم أرسلت إليه فقالت : " إنه دعاني إلى البعث إليك ما بلغني من صدق حديثك ، وعظم أمانتك ، وكرم أخلاقك " .
 في تعليق لطيف : هذا سيد الرسل ، سيد الأنبياء ، وسيد ولد آدم ، وسيكون نبياً عظيماً ؛ طالب عمل ، يستحي أن يطلب هذا العمل ، قال له : أنا أستحي إن أرسلت إلي ، فالإنسان لا يولد عظيماً ، الله عزَّ وجل يمتحنه ، يمرِّره بأطوار وأطوار ، هذا الذي يستحي أن يطلب منها أن يسافر إلى الشام ، وهي ليس عندها علم ، وقال له عمه : " لعلها تطلب غيرك فيفوتك الأمر " ، قالت له : " إنه دعاني إلى البعث إليك ما بلغني من صدق حديثك ، وعِظَمِ أمانتك ، وكرم أخلاقك، وأنا أعطيك ضعف ما أعطي رجلاً من قومك " ، يبدو أنها أكبرت فيه أمانته ، وقد قيل:

(( الأمانة غنىً ))

من عُرض عليه شيء من دون شرط ولا طلب فرده فكأنما رده على الله :

 سمي السفر سفرا لأنه يسفر عن أخلاق الرجال
أخواننا الكرام ، عندي قصص والله ، الأمناء يصلون إلى قمم المجد ، إيَّاك أن تخون ، إيَّاك أن تكذب ، لأنه أمينٌ وصادق أعطته ضعف ما تُعطي قومها من الأجر ، ففعل عليه الصلاة والسلام، ثم لقي عمه أبا طالب فذكر له ذلك ، فقال : " إن هذا لرزقٌ ساقه الله إليك "، بالمناسبة هناك أخوان كثر يتأبَّون عن شيء ساقه الله إليهم وقد ورد :

(( إذا فتح لأحدكم رزق من باب فليلزمه ))

 إنسان عرض عليك مساعدة ، عرض عليك أنْ يغيِّر وضعك ، من وضع إلى وضع ، فثمة شخص يتأبَّى بلا سبب ، كِبر ، لا ، فإذا عرض عليك شيء من دون طلب ، ولا استشرافٍ ، ولا شرطٍ ، فرددته فكأنما رددته على الله ، ماذا قال له أبو طالب ؟ " هذا رزقٌ ساقه الله إليك " ، وخرج النبي عليه الصلاة والسلام مع غلامها مَيْسَرَة ، وقالت خديجة لميسرة : " لا تعص له أمراً، ولا تخالف له رأياً " ، لا بد من قائد واحد .
 وفي درسٍ قادم إن شاء الله نتحدَّث عن خبر هذه الرحلة التجارية الأولى ، التي تمَّت بين النبي عليه الصلاة والسلام ، وغلام السيدة خديجة ميسرة ، وكيف أن هذه الرحلة كشفت أخلاق النبي الكريم ، وسُمَّي السفر سفراً لأنه يُسْفِرُ عن أخلاق الرجال .
 أيها الأخوة الكرام ، هذه القصص التي جرت مع سيِّد الخلق هي دروس ، والمواقف مُثُل عُليا ، أرجو الله سبحانه وتعالى أن ينفعنا بها .

 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

اللغات المتوافرة

إخفاء الصور