وضع داكن
29-03-2024
Logo
الخطبة : 0368 - أحاديث نبوية تبدأ بـ ثلاث من كن فيه..... - المسخ.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الخطبة الأولى:
 الحمد لله نحمده ، ونستعين به ونسترشده ، ونعوذ به من شرور أنفسنـا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقراراً بربوبيته وإرغامـاً لمن جحد به وكفر . وأشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله سيد الخلق والبشر ، ما اتصلت عين بنظر ، أو سمعت أذن بخبر . اللهم صلّ وسلم وبارك على سيدنا محمد ، وعلى آله وأصحابه وعلى ذريته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين . اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً ، وأرِنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممــــن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

الإيمان عملية بناء مستمرة :

 أيها الأخوة المؤمنون ؛ بضعة من الأحاديث الشريفة تبدأ بقوله صلى الله عليه وسلم :

((ثلاثٌ من كُنَّ فيه وجدَ بهنَّ طَعْمَ الإيمان))

[ متفق عليه عن أنس]

 كل إنسان أقرّ بوجود خالق لهذا الكون فهو مؤمن ، ولكن هذا المستوى من الإيمان هل ينجيه من عذاب الدنيا أو الآخرة ؟ هذا المستوى أن تقر بوجود خالق لهذا الكون ليس غير لا يكفي لنجاتك من مزالق الحياة الدنيا ؛ من فتنها ، من شهواتها ، من ضلالاتها ، من شبهها ، لذلك ربنا سبحانه وتعالى يقول :

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾

[سورة النساء: 136]

 إذاً الإيمان مستويات ، بعض مستوياته لا تكفي ، ولا تنجي ، ولا تقي ، ومستوياته الأخرى تنجي ، وتسعد في الدنيا والآخرة . فلا ينبغي للمؤمن أن يقنع بدرجة من الإيمان ، لعل هذه الدرجة لا تصمد أمام المغريات ، لعل هذه الدرجة لا تصمد أمام الضغوط ، لابد لك من إيمان قوي ، والدليل على ذلك أن أصحاب النبي عليهم رضوان الله الذين كانوا معه، وكانوا يسمعون القرآن يُتلى من فمه الشريف ، ويسمعون حديثه الصحيح من فمه ، ومع ذلك حينما ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديداً قال الذين في قلوبهم مرض : ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا . هذا كلام دقيق وخطير ، أن تصف نفسك بالإيمان ، لعل هذا الإيمان لا يقوى على مجابهة الأحداث ، لعل هذا الإيمان لا يصمد أمام الضغوط ، لعل هذا الإيمان لا يتماسك أمام المغريات ، وما أكثر إغراءات الحياة ، وما أكثر الفتن ، الدنيا خضرة نضرة ، شهواتها مستعرة ، فتنها يقظى ، فالذي أريد أن أوضحه لكم من خلال هذا الحديث الشريف أن الإيمان عملية بناء مستمرة ، وليست إقراراً ليس غير .

 

ارتباط حجم العمل الصالح بحجم الإيمان :

 وفي أحاديث كثيرة قال عليه الصلاة والسلام :

(( جددوا إيمانكم ))

[أحمد في مسنده والحاكم في المستدرك عن أبي هريرة]

 أنت علمك الصالح حجمه بحجم إيمانك ، انضباطك حجمه بحجم إيمانك ، التزامك بأوامر الدين حجمه بحجم إيمانك ، فكلما ارتقى الإيمان ارتقى معه الورع ، كلما ارتقى الإيمان ارتقى معه الالتزام ، كلما ارتقى الإيمان ارتقى معه البر والعطاء . فلا تقنع أيها الأخ الكريم بمسوى من الإيمان ، قد تكون توارثته عن أمك وأبيك ، أو عن معلمك ومربيك ، أو عن خطباء المساجد ، لابد من بحث ، ولابد من تدقيق ، لابد من تأمل ، لابد من مداومة ، لابد من دراسة ، يقول عليه الصلاة والسلام :

((ثلاثٌ من كُنَّ فيه وجدَ بهنَّ طَعْمَ الإيمان))

[ متفق عليه عن أنس]

 من مستويات الإيمان أن تذوق حلاوته ، كيف تذوق حلاوة الحلوى ؟ كيف أن حلاوة الحلوى شيء واقعي تذوقه بلسانك ولا تشك فيه ، النبي عليه الصلاة والسلام قرَّب لك المفاهيم ، قال :

((ثلاثٌ من كُنَّ فيه وجدَ بهنَّ طَعْمَ الإيمان))

[ متفق عليه عن أنس]

 هل ذاق القلب حلاوة الإيمان أم أنت في مستوى الإقرار ؟ الإسلام عندك معلومات ، ثقافات ، علم كلام ، قناعات ، أحكام ، أم الإسلام أذواق ومواجيد ، أم الإسلام عندك والإيمان مشاعر لا تبيع الدنيا بها ؟

حلاوة الإيمان تحمل الإنسان على الصبر :

 أيها الأخوة الأكارم ؛

((ثلاثٌ من كُنَّ فيه وجدَ بهنَّ طَعْمَ الإيمان))

[ متفق عليه عن أنس]

 ما الذي يدفعك إلى تحمل مشاق الطاعات ؟ لو رأينا رجلاً يعمل في البرد الشديد، وفي مكان خطر ، ما الذي يدفعه إلى تحمل هذه المشاق - أن يعمل في مكان خطر وفي وقت شديد البرودة -؟ أغلب الظن أن الأجر المرتفع يغطي عنده هذه المشاق . المؤمن ما الذي يدفعه لتحمل مشاق الطاعات والطاعات كلها تكاليف ، والتكاليف تعني أنها ذات كلفة ؟ ما الذي يحمل المؤمن على أن يصبر عن الشهوات ؟ ما الذي يحمله كي يحمل مشاق الطاعات ؟ وما الذي يحمله على أن يصبر على الشهوات ؟ وما الذي يصبِّره على أمر الله التكليفي ؟ أمر الله التكليفي افعل ، ما الذي حمله على أن يفعل وأمر الله التكليفي لا تفعل ؟ ما الذي منعه ألا يفعل وأمر الله التكويني أن الله سبحانه وتعالى شاءت حكمته أن يصيب الإنسان ببلاء ؟ ما الذي يحمله على الصبر ؟ أغلب الظن ، بل اليقين القطعي هو حلاوة الإيمان . حلاوة الإيمان تفعل فعل السحر بالنفس ، لذلك يقول عليه الصلاة والسلام :

(( ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان ؛ أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما . . ))

[ متفق عليه عن أنس]

 هذه الفقرة من الحديث تترجم ترجمة واقعية ، حينما تطيع ما سوى الله وتعصي الله، فاقطع يقيناً أنك تحب هذا الذي أطعته وعصيت خالقك أكثر من الله ، حينما تطيع مخلوقاً وتعصي الخالق ، تفسير ذلك أنك ترى هذا المخلوق رضاه أغلى عليك من رضا الله ، وسخطه أشد عندك من سخط الله ، ومحبته أغلى عندك من محبة الله ، لكن المؤمن الصادق أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما .

 

من غضّ بصره عن محارم الله أورثه الله حلاوة في قلبه إلى يوم يلقاه :

 من بعض مستويات الحديث أن تحب أن تنفذ أمر الله عز وجل وأمر النبي عليه الصلاة والسلام أكثر مما تحب أن تنفذ أمر الآخرين ، بل إن هناك كما قال العلماء محبة عقلية أي أنت كمثقف تقرأ كلمة عن بعض أنواع الغذاء ، وهذا الغذاء لا تحبه أنت ، ولكن نظراً لفوائده الكثيرة تقبل عليه ، وهذا الإقبال ينطلق من محبة علمية ، وليس من محبة شعورية ، فالحد الأدنى أن ترى بعقلك أن طاعة الله أثمن من طاعة المخلوقين ، وإن إرضاء الله أجدى وأنجح وأربح من طاعة المخلوقين ، أو من رضا المخلوقين ، فلذلك إذا كان الله ورسوله أحب إليكم مما سواهما فأبشروا فأنتم مؤمنون وربِ الكعبة ، ولابد من أن تذوقوا حلاوة الإيمان .
 حينما تعرض لك الدنيا بشهواتها ، بمباهجها ، بفتنها ، بمسراتها وتقول : إني أخاف الله رب العالمين ، حينما تصرف نفسك عن الهوى الذي لا يريده الله عز وجل تذوق حلاوة الإيمان ، تذوق حلاوة القرب ، ولا أدل على ذلك من شيء بسيط بين أيديكم ، حينما تغض بصرك عن محارم الله ، أو حينما تغض بصرك عن امرأة لا تحل لك ، أذاقك الله بعد غض البصر حلاوة الإيمان ، من غض بصره عن محارم الله أورثه الله حلاوة في قلبه إلى يوم يلقاه .

الأمور التي يذوق الإنسان من خلالها حلاوة الإيمان :

 أيها الأخوة الأكارم ؛ إذا كان مستوى إيماننا مستوى فكرياً فلنرق به إلى مستوى نفسي ، وإذا كان مستوى إيماننا مستوى نفسياً فلنرق به إلى مستوى شهودي . قال تعالى :

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ﴾

[سورة الحديد: 28]

 فشتان بين من يطبق الأمر والنهي ، ونفسه في واد ، وعمله في واد ، وبين من يذوق حلاوة الإيمان ، وشتان بين من يذوق حلاوة الإيمان وبين من يرى ملكوت السموات والأرض ، بين من يذوق ، وبين من يرى حقائق الأشياء .
 الشيء الثاني : أولاً حتى تذوق حلاوة الإيمان ، حتى تقول بملء فمك : ليس في الأرض أسعد مني إلا أن يكون أتقى مني ، حتى تشعر أن الإيمان شيء ثمين جداً ، ليكن أمر الله ، وأمر رسوله أحب إليك مما سواهما .
 أنت وسط مجتمع ، تتلقى آلاف التوجيهات ، آلاف الضغوط ، آلاف المغريات ، إذا كان الله بمعنى إذا كان أمر الله ، وإذا كان رسوله بمعنى أنه أمر رسوله ، إذا كان الله ورسوله ، أي أن أمر الله ورسوله أحب إليك من أوامر الناس جميعاً ذقت حلاوة الإيمان ورب الكعبة .

فَلَيتَكَ تَحلو و الحَياةُ مَريــــــــرَةٌ  وَلَيتَكَ تَرضى وَالأَنامُ غِضـــــابُ
وَلَيتَ الَّذي بَيني وَبَينَكَ عامِـرٌ  وَبَيني وَبَينَ العـالَمينَ خَـــــرابُ
وليت شرابي من ودادك سائغ  وشربي من ماء الفرات سراب
***

 البند الثاني الذي يجعلك تذوق حلاوة الإيمان : أن يحب المرء لا يحبه إلا لله . بنيت علاقات الناس على المصالح ، المصالح تعزز علاقات الناس بعضهم ببعض ، ولكن - أيها الأخ الكريم- ألك علاقة مع إنسان لا تبتغي بها مصلحة ولا منفعة ولا جاهاً ولا سمعة ولا نجاة ولا مكسباً ؟ أفي حياتك شخص لا تحبه إلا لله ؟ لا ينفعك ولا يضرك ولا يقدم لك شيئاً من الدنيا ، لكن علاقتك به خالصة لوجه الله عز وجل ؟
 إذا كان لك أخ مؤمن تحبه ويحبك ، وتصله ويصلك ، وتكرمه ويكرمك ، وتزوره ويزورك ، وتتعاون معه ويتعاون معك ، لا تبتغي من هذه العلاقة ، ولا من هذه الزيارة ، ولا من هذه الصلة ، ولا من هذا التعاون إلا وجه الله الكريم ، أبشر لابد من أن تذوق حلاوة الإيمان .

(( وَجَبَتْ محبَّتي للمُتَحَابِّينَ فيَّ ، والمُتجالِسينَ فيَّ ، والمُتزاورينَ فيَّ ، والمتباذلينَ فيَّ ، المتحابُّون في جلالي لهم منابرُ من نُور يغبِطهم النبيُّون والشهداءُ ))

[الترمذي ومالك عن معاذ بن جبل]

 ألك مسجد تأوي إليه ؟ ألك أخوة أطهار تحبهم ويحبونك ولا علاقة مادية بينك وبينهم ؟ ألك أخ تخفي له الود ؟ هذه علامة ثانية على صحة الإيمان وعمقه ، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله ، وبين أيديكم تاريخ الصحابة الكرام . والله الذي لا إله إلا هو لو قرأتم تاريخ الصحابة لقلتم هؤلاء بشر ، إذاً نحن لسنا ببشر ، وإن قلتم نحن بشر ، فهؤلاء فوق البشر ، هكذا كانت علاقتهم ، هكذا كان ودهم ، هكذا كانت أخوتهم ، هكذا كان عطاؤهم ، هكذا كانت مؤاثرتهم ، قال تعالى :

﴿ وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾

[سورة الحشر : 9]

 يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ لا يذوق المؤمن حلاوة الإيمان إلا إذا كان له أخ يمحضه الود ، والنصيحة ، والمعونة ، والعطاء ، والصلة ، وما إلى ذلك ، أي هل أنت في الأعماق أم أنت على الساحل ؟ إذا كنت في الأعماق فأنت في أعماق الإيمان .

 

المنافق حدوده رقيقة شفافة :

(( . . وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يُلقى في النار ))

 أي المنافق كالشاة العائرة بين الغنمين ، تارةً مع هؤلاء ، وتارةً مع هؤلاء ، الحدود بين دولة الإيمان ودولة الكفر ، عند المنافق حدود رقيقة شفافة ، تارة يميل إلى هؤلاء ، وتارة إلى هؤلاء ، ولكن المؤمن الصادق في أعماق الأعماق ، أي لو قطعته إرباً إرباً لا يرضى بإيمانه بديلاً ، والدليل موقف سحرة فرعون قال : آمنتم له قبل أن آذن لكم ، إنه . .
 لابد من موقف حازم ، النبي عليه الصلاة والسلام وصف المؤمن بأنه قوي في دينه ، أي كلمة لا عنده يقولها بملء فمه ، ألم يقل عليه الصلاة والسلام :

(( والله يا عم لو وضعوا الشمس في يميني ، والقمر في شمالي على أن أدع هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه ))

[ السيرة النبوية ]

 أيها الأخوة المؤمنون ؛ حياة بلا قيم لا تُعاش ، حياة بلا مبادئ لا تُعاش ، حياة بلا هدف كبير لا تُعاش ، شرف المؤمن قيامه بالليل ، وعزه استغناؤه عن الناس .

﴿لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴾

[سورة الحجر: 72]

 هم غارقون في شهواتهم ، غارقون في وحولهم ، غارقون في لذاتهم ، ولكن الصحوة عند الموت ، يصيح الرجل صيحة لو سمعها أهل الأرض لصعقوا بها .
 أيها الأخوة الأكارم ؛ أعيد على أسماعكم نص الحديث الشريف :

((ثلاثٌ من كُنَّ فيه وجدَ بهنَّ طَعْمَ الإيمان))

[ متفق عليه عن أنس]

 من أجل أن تذوق حلاوة الإيمان ، من أجل أن يكون إيمانك ذوقياً لا فكرياً ، وإذا وصلت إلى حلاوة الإيمان فاسع إلى الإيمان الشهودي .

((ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان ؛ أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله ، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يُلقى في النار ))

[ متفق عليه عن أنس]

أمور ثلاثة تُشعر الإنسان بأن الله راض عنه :

 أيها الأخوة الأكارم ؛ حديث شريف آخر : يقول عليه الصلاة والسلام :

(( ثلاث من كن فيه نشر اللّه عليه كنفه وأدخله الجنة ؛ الرفق بالضعيف ، والشفقة على الوالدين ، والإحسان إلى المملوك))

[أخرجه الترمذي وقال هذا حديث غريب]

 ألا تحبون أن ينشر الله عليكم ستره وحفظه وتوفيقه وتأييده ونصره ؟ ألا تحبون أن تكونوا ممن تعينهم هذه الآية ولو أنها موجهة إلى النبي عليه الصلاة والسلام ؟

﴿وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا﴾

[سورة الطور: 48]

 أي شعور يشعره المؤمن يفوق شعوره بأن الله راض عنه ، وبأنه في ظل الله، وبأنه في رعاية الله وتوفيقه ، يقول عليه الصلاة والسلام :

(( ثلاث من كن فيه نشر اللّه عليه كنفه وأدخله الجنة ...))

[أخرجه الترمذي وقال هذا حديث غريب]

 وقد فسر شرَّاح الحديث كنفه بكلمة ستره ، وصونه ، وحفظه ، وتأييده ، وتوفيقه. وأدخله الجنة . . في الدنيا محفوظ ، وفي الآخرة مرحوم ، له جنتان جنة في الدنيا ، وجنة في الآخرة ، رفق بالضعيف ، لا يوجد إنسان إلا وحوله ضعفاء ؛ ممن يلوذ به ، ممن تحت يده ، ممن يعملون معه ، ممن هم في جواره ، ممن هم في عمله ، أنت أعلى وهناك أدنى وهذه حكمة الله عز وجل ، فإذا رفقت بالضعيف ، أحسنت إليه ، أنصفته ، استمعت إليه ، لبيت حاجته ، أغثت لهفته ، فالله تعالى في عليائه يرحمك ، وقد ورد في بعض الأحاديث القدسية :

(( إن كنتم ترجون رحمتي فارحموا خلقي ))

[أخرجه الديلمي عن أبي بكر ، والحاكم في المستدرك]

 إذا أردتم رحمتي فارحموا خلقي ، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه، وما دام العبد في عون أخيه ، فثلاث من كن فيه نشر الله عليه كنفه ، وأدخله جنته . . رفق بالضعيف ، هناك ضعف مادي ، هناك مريض ، هناك فقير ، وهناك ضعف معنوي ، إنسان مركزه ضعيف ، لكنه مستقيم ، والجميع يكيدون له ، وأنت مؤمن ، فإذا دعمته ، وقويت مركزه ، ودافعت عنه ، أكرمك الله عز وجل ، لأنه من أكرم أخاه المؤمن فكأنما أكرم ربه .
 قال : وشفقة على الوالدين ، هؤلاء الذين كانا سبب وجودك في الدنيا ، هؤلاء الذين عاشا لك ، قدما كل شيء من أجل سعادتك ، ألا يستحقان العطف والبر ؟ لذلك ورد في بعض الأحاديث :

(( ليعمل العاق ما شاء أن يعمل فلن يدخل الجنة ))

[ الحاكم في تاريخه عن معاذ ]

 وقد ورد في بعض الأحاديث القدسية ، يقول الله عز وجل :

(( عبدي ماتت التي كنا نكرمك من أجلها ، فاعمل صالحاً نكرمك من أجلك ))

[ ورد في الأثر]

 من كان له والدان على قيد الحياة فليعلم علم اليقين أنه بإمكانه أن يدخل الجنة ببرهما ، وقد ورد هذا في نص الحديث الشريف قال عليه الصلاة والسلام :

((قابل الله في برها))

[ الطبراني عن أنس]

 بإمكانك أن تلقى الله في بر أمك وأبيك .
 أيها الأخوة الأكارم ؛ كلمة بين قوسين ، بإمكانك أن تدخل الجنة بأبوة مثالية ، وبإمكانك أن تدخل الجنة ببنوة مثالية ، وبإمكانك أن تدخل الجنة من خلال عملك الحرفي إذا أتقنته ، وأخلصت للناس فيه ، وجعلت السعر معتدلاً لا يثقل كاهلهم ، ونصحتهم ، ولم تبن ربحك على صحتهم ، بإمكانك أن تلقى الله بعملك الحرفي ، بمورد رزقك ، وهذا أقوله كثيراً : عملك المهني إذا كان مشروعاً في الأصل ، ومارسته بطريقة مشروعة ، وأتقنته كما أمر به النبي عليه الصلاة والسلام ، وابتغيت به أن تكفي نفسك ، وأهلك ، وأولادك ، ونصحت المسلمين ، ولم يشغلك عن فريضة صلاة ، ولا عن طاعة ، ولا عن مجلس علم ، انقلب هذا العمل الصالح إلى عبادة كالصلاة .
أيها الأخوة الأكارم ؛

(( ثلاث من كن فيه نشر اللّه عليه كنفه وأدخله الجنة ؛ الرفق بالضعيف ، والشفقة على الوالدين ، والإحسان إلى المملوك ))

 أي لا يخلو الأمر أن يكون إنسان تحت إشرافك ، أو مصيره بيدك ، أو منوط أمره إليك ، فإذا أنصفته ، إذا رحمته ، إذا أعطيته ، إذا أكرمته استحققت أن يرحمك الله عز وجل .

 

ثلاثة أمور من فعلها كان حسابه يسيراً و أدخل الجنة :

 أيها الأخوة الكرام ؛ يقول عليه الصلاة و السلام أيضاً :

((ثلاث من كن فيه حاسبه الله حساباً يسيراً وأدخله الجنة برحمته ؛ تعطي من حرمك ، وتعفو عمن ظلمك ، وتصل من قطعك ))

[أخرجه البزار والطبراني والحاكم عن أبي هريرة مرفوعا]

 تعطي من حرمك . أتستطيع أن تفعل ذلك ؟ أن تعطي من حرمك عطاءه أو مودته ؟ قال بعضهم : هذه أخلاق الأنبياء . قال تعالى :

﴿وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ﴾

[سورة فصلت: 34-35]

 مرةً لقي رجل عالماً ، أو داعيةً فقال له : يا سيدي إني أشفق عليك مما يقوله الناس في حقك ، فقال هذا العالم الداعية : هل سمعت مني شيئاً عليهم ؟ قال : لا ، قال : عليهم أشفق . من عصى الله فيك عليك أن تطيع الله فيه ، ردك الكامل أن تطيع الله فيه .

 

من أدى زكاة ماله وأقرى الضيف وأعطى على النائبة فقد وقي شح نفسه :

 أيها الأخوة الأكارم ؛ الحديث الأخير :

(( ثلاث من كن فيه وقي شح نفسه ؛ من أدى الزكاة ، وقرى الضيف ، وأعطى في النائبة ))

[ الطبراني عن خالد بن زيد بن حارثة]

 من أدى الزكاة ، أي إذا قلت عن إنسان يدفع الزكاة : هذا شحيح أو هذا بخيل ، فقد وقعت في إثم كبير ؛ لأن الذي يؤدي زكاة ماله لا يمكن أن يكون شحيحاً ، ولا يمكن أن يكون بخيلاً . وقد أعطانا النبي علامات كثيرة ، قال :

(( برئ من الشح من أدى زكاة ماله وبرئ من الكبر من حمل حاجته بيده ))

[رواه القضاعي والديلمي عن جابر مرفوعا وهو عند ابن لال عن أبي أمامة . وفي لفظ بضاعته بدل سلعته ، والشرك بدل الكبر ، قال ابن الغرس ضعيف]

(( من أكثر ذكر الله فقد برئ من النفاق ))

[ أخرجه الطبراني في الصغير عن أبي هريرة ]

(( ثلاث من كن فيه وقي شح نفسه : من أدى الزكاة ، وقرى الضيف . .))

 قال بعض المفسرين : إن قوله تعالى وهو يحدثنا عن سيدنا إبراهيم :

﴿فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ * فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ ﴾

[سورة الذاريات: 26-27]

 من هذه الآية الموجزة ، وبكلماتها المحدودة تُستنبط آداب الضيافة .
 كلمة راغ : أي انسل خفية . هذا الذي يقول لضيفه : أتحب أن تتغدى ما قولك ؟ قل ، يقول : لا ، لا أحب . راغ إلى أهله أي انسل من ضيفه خفية ، وما لبث أن جاء بعجل سمين ، أي مستعد ، وطعامه طيب ، والمؤمن كالنحلة ، لا تأكل إلا طيباً ، ولا تطعم إلا طيباً ، فقربه إليهم، تقريب الطعام من الضيف من السنة ، وبعد التقريب ؛ تفضل كل . قال : ألا تأكلون ؟ أن تكون مستعداً ، وأن تطعم الطعام .
 وأقرى الضيف ، وأعطى في النائبة . . إنسان مُبتلى بمرض عضال ، إنسان مُبتلى ببيت قد تهدم في الشتاء ، إنسان مبتلى بمصيبة ، يقول : أنا أديت زكاة مالي . هذا كلام مردود ، في المال حق سوى الزكاة . وحينما قال الله عز وجل :

﴿وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ﴾

[سورة الذاريات: 19]

 ولم يقل معلوم ، قال العلماء : هذه الصدقات ، وحينما استنبط النبي عليه الصلاة والسلام من هذه الآية أن في المال حقاً سوى الزكاة ، أي أديت زكاة مالك بقي حق الإنسانية عليك ، اسمع قوله تعالى ـ أيها الأخوة الأكارم ؛ هذه الآية نتلوها عليكم كل خطبة دائماً وأبداً :

﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾

[سورة النحل : 90]

 العدل قسري ، والإحسان طوعي ، ولكن في هذه الآية أنت كمؤمن مأمور بالإحسان كما أنت مأمور بالعدل ، فإذا كان هذا الشيء خارجاً عن العدالة فهو داخل بالإحسان، إن الله يأمر بالعدل والإحسان . إذاً من أدى زكاة ماله ، وأقرى الضيف ، وأعطى على النائبة هؤلاء الثلاثة من كن فيه فقد وقي شح نفسه .
 أيها الأخوة الكرام ؛ حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا لغيرنا ، وسيتخطى غيرنا إلينا ، الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتبع نفسه هواها ، وتمنى على الله الأماني ..

* * *

الخطبة الثانية :
 أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين ، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله ، صاحب الخلق العظيم ، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

المسخ :

 أيها الأخوة الأكارم ؛ يقول علماء الوراثة من خلال الاستقراءات العلمية : إن البالغين الذين يعانون من تشوهات خلقية ، سواء كانوا ذكوراً أو إناثاً لا ينجبون أبداً عند تزاوجهم، بل إن معظم حالات الإجهاض المبكر تنشأ عن تشوهات خلقية ، وإذا قُدر للأجنة المشوهة ، أو الممسوخة أن يستمر حملها فهي تولد في الأعم الأغلب ميتة ، أو تموت بعد أيام معدودة ، هذه حقيقة جاء بها علماء الوراثة من خلال استقراءاتهم ، لكن النبي عليه الصلاة والسلام في حديث صحيح رواه الإمام مسلم عن عبد الله بن مسعود يقول :

(( إن الله تعالى لم يجعل لمسخ نسلاً ولا عقباً ، وقد كانت القردة والخنازير ))

[ مسلم عن ابن مسعود]

 المسخ : المشوه ، بل إن حديثاً آخر رواه الإمام مسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :

((ما جعل الله لمسخ من نسل ))

[ مسلم عن ابن عباس]

 هذه رحمة مزجاة إلى الخلق ، فلو أن هذا الممسوخ أو هذا المشوه كان له نسل ممتد إلى أجيال لكنا أمام أجيال من المشوهين ، فالذي يشوه تصيبه عاهة ، هذا جعل الله نسله مقطوعاً لئلا يزداد التشوه في بني البشر ، بل إذا كان هناك تشوهات فهذه لها حكمة أخرى ، فإذا رأى الإنسان طفلاً غير سليم يبقى مع ربه داعياً منيباً متوسلاً متضرعاً أن يرزقه الله غلاماً سليماً ، فهذه وسائل لتوضيح نعمة الله على خلقه .
 أيها الأخوة الأكارم ؛ حينما نكتشف أن هذا القرآن الكريم ومن خلاله الحديث النبوي الشريف الذي بينه وفصله من عند خالق الكون ، عندئذ نرحب بالحقيقة العلمية إذا وافقت القرآن أو الحديث ، لأن الأصل في الحقيقة كلام الصانع وكلام الخالق .

الدعاء :

 اللهم اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولنا فيمن توليت ، وبارك لنا فيما أعطيت ، وقنا واصرف عنا شرّ ما قضيت ، فإنك تقضي بالحق ولا يُقضى عليك ، إنه لا يذل من واليت ، ولا يعز من عاديت ، تباركت ربنا وتعاليت ، ولك الحمد على ما قضيت ، نستغفرك ونتوب إليك ، اللهم هب لنا عملاً صالحاً يقربنا إليك . اللهم أعطنا ولا تحرمنا ، أكرمنا ولا تهنا ، آثرنا ولا تؤثر علينا ، أرضنا وارض عنا ، اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا بها جنتك ، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا ، ومتعنا اللهم بأسماعنا ، وأبصارنا ، وقوتنا ما أحييتنا ، واجعله الوارث منا ، واجعل ثأرنا على من ظلمنا ، وانصرنا على من عادانا ، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا ، ولا تسلط علينا من لا يخافك ولا يرحمنا ، مولانا رب العالمين . اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا ، ودنيانا التي فيها معاشنا ، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردنا ، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر ، مولانا رب العالمين . اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك ، وبطاعتك عن معصيتك ، وبفضلك عمن سواك . اللهم لا تؤمنا مكرك ، ولا تهتك عنا سترك ، ولا تنسنا ذكرك يا رب العالمين . اللهم استر عوراتنا ، وآمن روعاتنا ، وآمنا في أوطاننا ، واجعل هذا البلد آمناً سخياً رخياً وسائر بلاد المسلمين . اللهم إنا نعوذ بك من الخوف إلا منك ، ومن الفقر إلا إليك ، ومن الذل إلا لك ، نعوذ بك من عضال الداء ، ومن شماتة الأعداء ، ومن السلب بعد العطاء . اللهم ما رزقتنا مما نحب فاجعله عوناً لنا فيما تحب ، وما زويت عنا ما نحب فاجعله فراغاً لنا فيما تحب . اللهم صن وجوهنا باليسار ، ولا تبذلها بالإقتار ، فنسأل شرّ خلقك ، ونبتلى بحمد من أعطى ، وذم من منع ، وأنت من فوقهم ولي العطاء ، وبيدك وحدك خزائن الأرض والسماء . اللهم كما أقررت أعين أهل الدنيا بدنياهم فأقرر أعيننا من رضوانك يا رب العالمين . اللهم بفضلك وبرحمتك أعل كلمة الحق والدين ، وانصر الإسلام وأعز المسلمين، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى ، إنك على ما تشاء قدير ، وبالإجابة جدير .

 

تحميل النص

إخفاء الصور