- الخطب
- /
- ٠1خطب الجمعة
الخطبة الأولى :
الحمد لله ثم الحمد لله ، الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ، وما توفيقي ولا اعتصامي ولا توكّلي إلا على الله .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقراراً بربوبيته وإرغاماً لمن جحد به وكفر .
وأشهد أنَّ سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلَّم ، رسول الله سيِّد الخلق والبشر ، ما اتصلت عينٌ بنظرٍ أو سمعت أذنٌ بخبر .
اللهمَّ صلِ وسلم وبارك على سيدنا محمد ، وعلى آله وأصحابه ، وعلى ذريَّته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين .
اللهم ارحمنا فإنك بنا راحم ، ولا تعذبنا فإنك علينا قادر ، والطف بنا فيما جرت به المقادير ، إنك على كل شيءٍ قدير .
الصيام :
قال تعالى :
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ﴾
فالصوم ركنٌ من أركان الإسلام ، وقد قال عليه الصلاة والسلام :
(( الصومُ نِصْفُ الصبر ))
وفي حديثٍ آخر :
(( الصبر نصف الإيمان ))
فإذا كان الصوم نصف الصبر ، والصبر نصف الإيمان ، فالصوم ربع الإيمان .
قال تعالى : ( يأيها الذين أمنوا .... ) الخطاب هاهنا للمؤمنين .
الشيء الذي يتبين من هذه الآية أن الله سبحانه وتعالى يتوجه بالخطاب إلى المؤمنين :
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ﴾
أما كلمة :
﴿ كُتِبَ ﴾
فالله سبحانه وتعالى يستخدم هذه الكلمة للتثبيت ، مثلاً :
﴿ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ﴾
﴿ كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي ﴾
فإذا وردت كلمة كتب بحق الله سبحانه وتعالى ، لأن الله سبحانه وتعالى كلامه حق واقع .
الحكمة من الصيام .
أما كلمة كتب لنا .. ف ..
﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾
أي عبادة ثابتة ، ارتقت إلى مستوى الفَرْضيّة ، ما معنى الفرض في حقيقته ؟ أوضح لكم ذلك بأن أقول : استنشاق الهواء فرض ، أي فرضٌ لسلامة الإنسان ، لو لم يستنشق الهواء لهَلَك .
فالصيام لا بالمعنى الذي قاله الإمام الغزالي ، قال :
هناك صيام العامة ، وهناك صيام المؤمنين ، وهناك صيام الخواص .
المعنى الذي تحدّث به الإمام الغزالي عن صيام العامة لا قيمة له ، صيام العامة ترك الطعام والشراب ، عن أبو هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
(( مَن لم يَدَعْ قولَ الزُّورِ والعمَلَ بِهِ ، فَليسَ للهِ حاجة فِي أَن يَدَعَ طَعَامَهُ وشَرَابَهُ ))
(( من لم يكن له ورعٌ يصده عن معصية الله إذا خلا لم يعبأ الله بشيءٍ من عمله ))
فالصيام ليس معناه ترك الطعام والشراب ، بل المعنى الذي يشمله الصيام ؛ صيام الجوارح عن المعاصي ، هذا المعنى ينطبق على المؤمنين ، المؤمنون يصومون عن كل معصية ، إذا رأيت إنساناً يدع الطعام والشراب ، ويكذب ، ويغتاب ، وينظر ، ويحلِف يميناً كاذبة ، ويمزح مُزاحاً رخيصاً ، ويحتال ، ويغُش ، ويخادع ، هذا الصيام ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش ، لا يزيد عن صيام بهيمةٍ تركت الطعام والشراب .
أما صيام المؤمن ترك الطعام والشراب ، وترك كل المعاصي من أجل أن ترقى نفسه .
أما صيام الخواص فترك ما سوى الله . ترك الصيام والشراب صيام العوام ، وترك كل المعاصي صيام المؤمنين ، وترك ما سوى الله صيام الخواص السابقين ، فربنا عز وجل قال :
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾
الصيام في أصل اللغة الإمساك ؛ هناك مَن يصوم عن الكلام ، هناك مَن يصوم عن الحركة ، هناك مَن يصوم عن الطعام والشراب ، هذا المعنى معنىً لغوي ، ولكن الصيام في المعنى الشرعي ، أو في المصطلح الشرعي : ترك الطعام والشراب ، وسائر المُفْطِرات ، مِن طلوع الفجر الصادق ، إلى غروب الشمس بنية . النية ركن مِن أركان الصيام .
﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ﴾
أي أن ربنا سبحانه وتعالى شرعه واحد ، والحكم التي تستنبط مِن شرعه واحدة ، لذلك مِن البديهي أن الذي كتب علينا يجب أن يكون قد كتب على مَن قبلنا ، وهكذا قال الله عز وجل :
﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾
تروي كتب التاريخ أن الذي مِن قبلنا كتب عليهم صيام رمضان بالذات ، وهو شهرٌ قمري ، يدور مع أيام السنة ، لكن هؤلاء الذين كتب عليهم الصيام كما كتب علينا ، حينما جاء رمضان في أيام الصيف الحارة الطويلة ، أو في أيام البرد الشديد ، نقلوه إلى الربيع ، وأضافوا عشرة أيامٍ فوق الثلاثين ، ثم أضافوا عشرة أيامٍ أخرى ، ثم جعلوا الصيام إلى وقت الظهيرة ، ثم جمعوا الصيام عن المواد الحيوانية ، واكتفوا بالنباتيات ، حينما يترك الشرع للعقل ، العقل يتصرّف إلى أن يُلغى الصيام ، أصبح الصيام شيئاً لا معنى له عند الشرائع الأخرى .
لذلك من فضل الله عز وجل أنه حفظ لنا هذا الكتاب ، ومِن فضل الله عز وجل أنه سخَّر لنا علماء أشداء ، أمضوا حياتهم كلها في علم الحديث حتى حفظوا السنة ، لذلك حفظ السنة متممٌ لحفظ القرآن ..
﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾
بعض العلماء قال : مِن حفظ الكتاب حفظ السُنَّة ، لأن الكتاب يأمرنا أن نتّبع ما جاء به النبي ..
﴿ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ﴾
فلو أن السُنّة ضاعت لكان هذا نقصاً في الآية الكريمة ، لذلك مِن تمام حفظ كتاب الله عز وجل أن الله عز وجل تولى أيضاً حفظ السُنة ، من حفظ السُنة أنه سخَّر لها علماء كبار ، أمضوا حياتهم في علم الحديث، وعلم الرواية ، وعلم التجريح ، صنفوا الأحاديث الصحيحة ، والحسنة ، والضعيفة ، والموضوعة ، ونبّهوا إلى قواعد الحديث ، إلى أن أصبح لدينا اليوم علمٌ اسمه علم الحديث حَفِظَ لنا قول النبي صلى الله عليه وسلم الذي هو مصدرٌ ثانٍ مِن مصادر الشريعة ، فبفضل الله عز وجل الذي جاء به القرآن ، والذي جاء به النبي العدنان ، محفوظٌ تماماً ، لذلك بقي الصيام كما شُرِعَ في عهد النبي صلى الله عليه وسلم .
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾
أي الله عز وجل في صريح القرآن ، وفي آيةٍ واضحة وضوح الشمس بيّن أن الحكمة مِن الصيام :
التقوى ؛ أي أن تبلغوا مرتبة التقوى .
مفردات عامة :
وكما تعرفون ، أن هناك الإسلام ، وهناك الإيمان ، وهناك التقوى ، وهناك الإحسان .
أولاً : الإسلام .
فالإسلام أن تنقاد كلّياً لأوامر الشرع ، الإسلام هو المظهر السلوكي للدين ، المظهر السلوكي ؛ تشهد أن لا إله إلا الله ، تقيم الصلاة ، تؤتي الزكاة ، تصوم رمضان ، تحجُّ البيت ، هذا هو الإسلام ، لا تأكل الربا ، لا تنظر إلى الحرام ، تتحرّى الدخل الحلال، لا تجلس مع مَن لا يحل لك أن تجلس ، أي إذا انقادت نفسه لأوامر الشرع كلها ، في المنشط والمكره ، فيما عرفت حكمته ، وما لم تُعْرَف فأنت مسلم .
ثانياً : الإيمان .
أما إذا أقبلت على الله عز وجل ، وذاقت نفسك طعم القرب ، إذا اتّجهت إليه وذقت حلاوة الإقبال ، وتجلى الله على قلبك ، وشعرت بقيمة الصلاة ، وكانت الصلاة شُغْلاً لك ، وارتحت بها كما قال النبي عليه الصلاة والسلام ، إذا توجّهت إلى الله ؛ فطهرت نفسك من السوى ، وتحلت بالكمال فأنت مؤمن ، الإيمان ؛ الوجه الشعوري للإسلام ، طبّقت الشرع فأنت مسلم ، أقبلت على الحق فأنت مؤمن ..
﴿ وَأَوْصْانِي بِالصّلاةِ والزَّكَاةِ مَا دُمْت حَيّاً ﴾
ثالثاً : التقوى .
وأما التقوى : فأن تنتقل مِن مرتبة الذَوْق ، إلى مرتبة الشهود ..
﴿ وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾
أن تنتقل الحقيقة مِن ذهنك ، إلى شعورك ، إلى قلبك ، فتعقلها ، قال تعالى :
﴿ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا ﴾
التقوى أن ترى الحق حقاً والباطل باطلاً ، التقوى أن ترى حقائق الأشياء ، التقوى أن ترى بواطن الأشياء ، التقوى أن تَفْقَه سر التشريع ، التقوى أن ترى الشيء فلا تحيدَ عنه أبداً ، التقوى تحتاج إلى نورٍ كشّاف ساطعِ يقذفه الله في قلبك ، هذا النور الساطع الكشاف لا يكون إلا بالصلاة ؛ الصلاة المحكمة ، لذلك كان الصيام تركاً لكل المخالفات ، تمهيداً لإحكام الصِلَة ، وإحكام الصلة تمهيدٌ لقذف النور الإلهي في القلب، وقذف النور الإلهي في القلب إراءةٌ للقلب لكل الحقائق ، عندها لو قُطِّعْتَ إرباً إرباً لا تعصي الله ، لأنك ترى عندئذٍ ما في المعصية مِن هلاك ، وما في الطاعة مِن سعادة ، ترى ما في المعصية من دمار ، من شقاء ، من خسارة ، من بعدٍ عن الله ، وما في الطاعة من غنيمة ، وإقبالٍ ، وخيرٍ ، وسعادة ، التقوى مرتبة تأتي بعد الإيمان ..
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ ﴾
والتقوى مراتب ..
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ ﴾
وردت آيات التقوى في القرآن في أكثر من مئتيّ مَوْضع ، وكلها تؤكد أن المتقي يمشي بنور الله ، يجعل له فُرقاناً ، يريه الحق حقاً فيتّبعه، والباطل باطلاً فيجتنبه .
علة الصيام التقوى .
أما كلمة " لعل "
﴿ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾
فتعني شيئين ، تعني الترقُّب ، وتعني العِلَّة ، فحكمة الصيام بلوغ التقوى ، ولكن قد تبلغ التقوى وقد لا تبلغها ، إذا كان الصيام عادةً من عوائدك ، تركنا الطعام والشراب ، ونحن على ما نحن عليه من مخالفات ، وتقصيرات ، ومعاصي ، وتجاوزات لحدود الشرع ، وصلاتنا شكليّة ، وصيامنا جوع وعطش ، لو أنك صمت دهراً بكامله لن تبلغ التقوى ، أما إذا كان الصوم دورةً سنويةً ، دورةً مكثفة ، شهرٌ فيه جُهْدٌ كبير ، وإقبال شديد ، والتزام كامل ، وطاعة تامّة ، وعملٌ طيب ، وتلاوةٌ لكتاب الله واعية ، إذا شمَّرت عن ساعد الجِد ، وقلت : يا رب ، ودعوته ، قال لك: لبيك يا عبدي ، وأقبل عليك ، وتجلّى على قلبك ، فذُقت حلاوة التقوى .
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾
توضيحٌ آخر لمعنى التقوى لا بد منه : الإنسان في الحياة الدنيا أودع الله فيه الشهوات ؛ حب المال ، حب الجِنس ، حب العلو في الأرض ، هذه الشهوات تجعله يندفع لتحقيقها ، إذاً حياة الإنسان اندفاع نحو كسب المال ؛ ليشتري به الطعام والشراب ، ليتزوّج ، ليظهر على أقرانه ، اندفاعٌ نحو تحقيق هذه الميول ، هذا الاندفاع إذا لم تُرافقه رؤيةٌ مِن عند الله عز وجل ، إذا لم يرافقه نورٌ كشّاف لابد من أن تقع في الحرام ، لا بد من أن تأخذ ما ليس لك ، لا بد من أن تعتدي على أموال الناس بطريقةٍ أو بأخرى ، لا بد من أن تعتدي على أعراضهم بطريقةٍ أو بأخرى ، لا بد من أن تعلو في الأرض على أنقاض الناس بطريقةٍ أو بأخرى ، ما دام هناك اندفاعٌ لتحقيق شهواتٍ أودعها الله فيك ، فلا بد مِن نور كشّاف يهديك إلى سواء السبيل .
لذلك التقوى مِن الوقاية ، إنك إذا اتقيت الله عز وجل وَقَيْتَ نفسك مِن الهلاك ، هذه الشهوات مغرية ، الدنيا خضرةٌ نضرة ، المال يُغري ، النساء تغري ، حب العلو في الأرض يغري ، ما الذي يجعلك تتوقى الوقوع في هذه المغريات ، لا أن تهرب منها ، الحياة مليئة بالشهوات ، لو أنك فررت إلى شاهق ، وعبدت الله في صومعة ، ليس هذا حلاً ، هذا مخالفٌ للسُنَّة ، النبي عليه الصلاة والسلام بلغه أن بعض الناس ألزموا أنفسهم بترك أكل اللحم ، وبعضهم ترك الزواج ، وبعضهم ترك النوم ، فقال عليه الصلاة والسلام :
(( أشدكم لله خشيةً أنا ، أنام وأقوم ، أصوم وأفطر ، أتزوج النساء هذه سنتي فمن رغب عنها فليس من أمتي ))
ليس الخلاص مِن هذه الشهوات أن تهرب منها ، لا . الخلاص منها أن تواجهها بنورٍ كشّاف ، تعرف جانبها الخيِّر ، وجانبها الشرير ، إذا نظرت إلى المرأة بنور الله ، ترى أن المرأة خيرٌ كلها ، بشرطِ أن تطبق الشرع ، أن تخطبها من أهلها ، أن تحجّبها ، أن تعلّمها أمر دينها، أن تجعلها شركيةً لك في حياتك ، فإذا هذه الأسرة مباركة . طريق الزنا طريقٌ فيه اندفاع نحو الشهوة من دون استنارةٍ بنور الله ، وطريق الزواج اندفاعٌ نحو الشهوة مع استنارةٍ بنور الله .
طريق الكسب الحلال ، كسب للمال مع استنارةٍ بنور الله ، والكسب الحرام طريقٌ آخر فيه بُعدٌ عن الله سبحانه وتعالى .
فالحقيقة التقوى مهمة جداً ، من دون تقوى لا بد من أن تقع في شر عملك ، لا بد من أن تأكل المال الحرام ، لا بد من أن تنظر إلى ما لا يحل لك ، لا بد من أن تقيم علاقاتٍ غير شرعية ، أما إذا اتقيت الله عز وجل تصبح حركاتك ، ونشاطاتك ، وقدراتك ، وحركتك اليومية وفق الطريق السَوِيّ الذي شرعه الله لنا سبحانه وتعالى .
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾
أي أوضح مثل أن سيدنا يوسف عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام ، حينما دعته امرأة العزيز ، امرأة ذات منصبٍ وجمال دعته وهي سيدته ، لا يخشى أن تفشو سرّه ، دعته وهو في قصرها ، دعته وهو عبدٌ لها ، ما الذي رأى حتى قال : معاذ الله ؟ هذه هي التقوى ، لو دُعِيَ ألف شابٍ إلى ما دعي إليه يوسف عليه السلام ، لأقدم ولم يحجم ، لأنه أعمى .
إذا عرضت على إنسان مبلغاً غير مشروع ، إنسان يقول لك : هاته ، وإنسان يقول لك : معاذ الله ، لماذا ؟ لِمَ هذا الاختلاف في المواقف ؟ اختلاف الرؤية ، فالذي يرى بنور الله ما في المال الحرام من دمار لصاحبه ، يقول : معاذ الله ، الله الغني ، آكل خبزاً فقط ، ولا أمدُّ يدي لمبلغٍ مِن الحرام ، والأعمى غير المستنير بنور الله ، غير المتقي يراه مغنماً ، ويندفع إلى أخذه مِن أي طريق ، إذاً نحن بحاجةٍ ماسّةٍ إلى التقوى من أجل أن نرى الحقائق .
ما الذي يهلك الناس الآن ؟ يهلكهم أنهم في عمى ، لا يرون الطاعة مغنماً ، بل يرونها مغرماً ، يرون الطاعة عبئاً ، لا يرون المعصية مغرماً ، بل يرونها مغنماً ، فهذا الذي يأكل المال الحرام ، أو يعتدي على أعراض الناس ويظن هذا ذكاءً أو مغنماً ، أو تفوقاً ، أو نجاحاً ، أو فلاحاً ، هذا هو العمى بعينه .
والتقوى لا حد لها ، مثلاً : النبي عليه الصلاة والسلام كان يوزع في أحد أيام الأعياد أضحيةً ، بدأ يوزع منها ، ولم يبق منها إلا كتفها ، فقالت السيدة عائشة رضي الله عنها : يا رسول الله لم يبق إلا كتفها . فقال عليه الصلاة والسلام :
(( بل بقيت كلها إلا كتفها ))
رؤية ، سيدنا عمر أمسك تفاحةً قال هذا القول : أكلتها ذهبت ، أطعمتها بقيت .
هذه التقوى .
الدنيا ماضية ، الدنيا زائلة ، الدنيا منقطعة ، يأتي الموت فينهي كل شيء ، هذا الذي حصّلته في حياتك كلها ، ينتهي في ثانية ؛ حينما تقف ضربات القلب ، يمسك الطبيب بيده على يدك ، ويضع يده على مركز النَبْضِ ، ماذا يقول : عظّم الله أجركم ، انتهى ، ما معنى انتهى ؟ البيت ليس له ، والسيارة التي جَهِدَ حتى اشتراها ليست له ، وغرفة نومه ليست له ، ومكتبته ليست له ، ومكتبه ليس له ، بمجرد أن يقف القلب .
الدنيا جيفة ، طلابها كلابها ، الدنيا دار من لا دار له ، ولها يسعى مَن لا عقل له ، لو أن الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى الكافر منها شربة ماء ، فالتقوى أن ترى الشيء الباقي ، لا أن ترى الشيء الفاني ، قولوا لي بربِّكم أكثر الناس ينظرون إلى الدنيا فقط ، أما ساعة الموت ، ساعة ترك الدنيا ، ساعة الفراق ، ساعة نزول القبر ، ساعة البعث والنشور ، يوم القيامة تفتح بعض أبواب جهنم ، فيقول الكافر : لم أر خيراً قط في حياتي . كم مرة أكل أكلاً نفيساً ؟ وكم مرة سكن بيتاً مريحاً ؟ وكم مرة سافر سفرةً ممتعةً ؟ وكم مرة غاص في مباهج النعيم ، وغاص في ملذّات الحياة ؟ فالدنيا منقطعة ، فلذلك التقوى من أجل أن ترى حقيقة الدنيا ، " يا دنيا غري غيري ـ هكذا قال سيدنا علي ـ لقد طلقتك بالثلاث ، شأنك قليل ، وخطرك حقير ، آه من قلة الزاد وبعد السفر ، يا دنيا غري غيري " .
فلذلك التقوى من أجل أن ترى الحقائق ، من أجل ألا تفرح ببيتٍ ليس لك ، من أجل ألا تفرح باغتصاب أرضٍ ليست لك ، من أجل ألا تفرح بمبلغٍ كبير جاءك من طريقٍ غير مشروع ، هذا الذي يفرح بالمال ، من طريقٍ غير مشروع أعمى ، هذا الذي يعتدي على أعراض الناس أعمى ، هذا الذي ينظر إلى محاسن امرأةٍ أجنبيةٍ ، يُمْلي به عينيه أعمى ، لا يعرف أن الله بالمرصاد .
شخص كانت هوايته أن يتمشى في الطرقات الآهلة بالفتيات ، لا يتكلَّم ، ولا يفعل شيئاً إلا أن يمتع عينيه بهذا ، أصيب بمرض ارتخاء الجفون ، لا يستطيع أن يرى إلا بحركة أصابعه ، لو أنه اتقى لما فعل هذا . هذا بالنظر ، وهناك بكسب المال ، وهناك بالتجاوزات ، التقوى أن تعرف أن شرع الله يجب أن يطبَّق وإلا فالثمن كبير جداً ، الثمن قد يكون في الصحّة ، وقد يكون في المال ، وقد يكون في المكانة الاجتماعية ، حينما تأكل مالاً ليس لك ، قد ينكشف الأمر ، فإذا أنت في قاع السجن ، وكل يوم نسمع عن إنسان أحياناً اتهم وهو يحاسَب ، لو كان متقياً لما مدّ يده إلى الحرام ، وما دام نظيفاً فهو في مكانةٍ عليّة ، لا يستطيع أحدٌ أن ينال منه .
الرحمة الإلهية .
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ ﴾
رحيم ربنا عز وجل ، ثلاثين يوم فقط ، لو أن الصيام ستة أشهر، برمضان بالعشر الأخير يكون الإنسان استنفز المخزون في جسمه ، تجده ضعيف ، أمْيَل للسكوت ، أميل للاستلقاء ، أميَل لتأجيل القضايا ، ثلاثين يوم ، لو كان شهرين ، أو ستة أشهر ، أياماً معدودات ، والله الذي لا إله إلا هو فوائد الصيام لا يمكن أن تحصى ، فهي عبادة قبل كل شيء ، أولاً طهر ، ثانياً استقامة ، ثالثاً إقبال ، رابعاً تقوى ، استنارة ، قُرب ، وفوق كل هذا صحّة ، وسوف أعالج هذا في آخر الدرس .
﴿ أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ﴾
فربنا عز وجل ديننا دين فطرة ، هناك مرضى يؤذيهم الصيام ، وهناك سفرٌ يشق على الصائم ..
﴿ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ﴾
العلماء اختلفوا حول تفسير المرض والسفر ، يا ترى مُطْلَق المرض والسفر ؟ إذا واحد سافر للزبداني ، ركب سيارة ثلث ساعة ، أو ثلثين ساعة كان بالزبداني هل يعد هذا مسافراً ؟ لو أن شوكةً دخلت في إصبعه فأدْمتها ، هل يعد هذا مرضاً ؟ المذهب الظاهري مطلق المرض والسفر ، أما العلماء على أن السفر الشاق والمرض الذي يتفاقم بالصيام ، المرض الذي يؤذيه الصيام ، يزيد العلّة في الصيام ، يؤخر الشفاء ، هذا هو المرض الذي يُباح لصاحبه أن يفطر ، على كلا الموضوع خلافي .
﴿ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ﴾
لابد له مِن ترميم ، هذا الذي يترك صيام بضعة أيامٍ مِن شهر رمضان يحدث في نفسه انهدام ، هذا الانهدام يحتاج إلى ترميم ، الترميم أن تصوم أياماً أخرى فيما بعد رمضان .
﴿ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ﴾
أيضاً هذه الآية آيةٌ خلافية ، أوجه تفسيراتها :
أن اطاقة الصيام أي صيامه مع مشقةٍ كبيرة ، وتنطبق المشقّة الكبير على الشيخ الفاني ، والمرأة العجوز ، وعلى الحاِمل والمُرضع ، فمن كان شيخاً فانياً ، أو امرأةً عجوزاً ، أو من كانت حاملاً أو مرضعاً ..
﴿ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ ﴾
أي مع المشقة .
﴿ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ﴾
المسكين يُطْعَم مِن أوْسط ما تطعمون به أهليكم ، فلو إنسان يصرف بالشهر أربعة آلاف ، ألفين أجور سكن ولباس ودواء ، وألفين شراب وطعام ، تقسيم ثلاثين يوم ، تقسيم خمسة أشخاص ، فتقريباً يصيب النفر الواحد في الوجبة الواحدة ثلاثية ليرة مثلاً فرضاً ، فطعام مسكين ، أي يجب أن تطعم مسكيناً عن كل يومٍ أفطرته وأنت لا تطيق الصيام ، الشيخ الفاني ، المرأة العجوز ، الحامل ، المرضع .
لكن الذي يمرض مرضاً طارئاً عليه القضاء وليس عليه الكفارة ، لكن الذي يمرض مرضاً طارئاً ثم انتهى المرض ، وجاء شوال ، والأشهر تتابعت بعد شوال إلى أن جاء رمضان ولم يصم ما عليه ، الآن عليه القضاء والكفّارة ، القضاء في الشهر التي تلي رمضان ، أما إذا مضى عامٌ بأكمله ولم يؤدِّ ما عليه مِن قضاء ، وجبت عليه الكفارة أيضاً، قضاءٌ وكفارة ، هذا في مُعظم المذاهب ، والموضوع أيضاً خلافي بين المذاهب .
المعنى الثاني : الشيخ الفاني ، والمرأة العجوز ، والمرأة الحامل ، والمرضعة التي تستطيع أن تصوم ولكن الصيام يجهدها ، أو يستنفذ كل طاقتها ، وقد يعود هذا بالضرر على وليدها ، أو على حليبها ، الحامل أو المرضعة أو الشيخ الفاني أو المرأة العجوز ، هذا إذا أفطر ، ويُحْمَل عليه الأعمال الشاقّة التي لا قِبَل للإنسان أن يصوم معها ، أعمالٌ شاقةٌ نادرة أجاز العلماء بالفدية .
ويحمل على هذه الآية من كان مريضاً أو مسافراً ومضى عليه سنةٌ بأكملها ولم يصم ، تترتب عليه فديةٌ في العام التالي .
ويحمل على هذه الآية أيضاً ، أنه من كان سفره قريباً ومرضه خفيفاً ، وأفطر مستفيداً مِن رخصة الإفطار ، هذا عليه فدية ، وعلى الذي يطيق الصيام مع السفر والمرض وأفطر عليه فدية ، كم معنى صاروا ؟ القرآن حمّال أوجه ، القرآن ذو وجوه ، دخل بذلك الشيخ الفاني ، والمرأة العجوز ، ودخل بهذا المرأة الحامل ، والمرأة المرضعة ، ودخل بهذا الذي يتواني ويتكاسل عن أداء ما عليه ، ودخل بهذا من يستفيد مِن رخصة الإفطار وهو ليس أهلاً لها ، كمرض طفيف أصاب قدمه فأفطر ، سفرٌ قريب فأفطر ، تقول له :
﴿ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ﴾
في عندنا شيئين : إما أن تقضي وإما أن تفدي ، القضاء له أحكام ، والفدية لها أحكام .
﴿ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً ﴾
إلا أن الشيخ الفاني الذي ليس معه مالٌ يدفع فيه الفدية لا شيء عليه ، لا شيء عليه لأنه ليس بالإمكان أن يقضي ، وليس بالإمكان أن يدفع ، فهناك أحكام فرعية ، وليس من السهولة أن نُجْمِل أحكام الصيام في هذه الساعة ، أحكام الصيام لا تنتهي بعامٍ بأكمله ، لكن بقدر المستطاع أُجْمِل لكم أحكام الصيام المستنبطة من هذه الآية :
﴿ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ﴾
كإنسان ميسور ، في عنده مرض مزمن ، في أمراض معينة ، القرحة مثلاً لا يناسبها الصيام ، أمراض الكليتين ، إذا كان مرض طارئ عليك القضاء ، مرض مزمن مدى الحياة ، حياتي الكفارة ، الفدية، إنسان ميسور أخرج عن كل يومٍ إطعام عشرة مساكين ، فبارك الله بك .
﴿ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ﴾
لكن الله سبحانه وتعالى يلقي إلينا بهذه النصيحة :
﴿ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾
لا تستخدم هذه الرُخَص مِن دون وعي ، من دون تبصُّر ، من دون أن تسأل عالماً ، لمجرد أن يقول لك الطبيب : افطر . فأفطرت ، قد يكون هذا الطبيب بالأساس غير صائم ، فالإنسان الذي لا يصوم يتوسع بالإفتاء بالفطر ، لاحظت أن أكثر الأطباء الذين هم في الأساس لا يصومون ، لأتفه سببٍ ينصحونك أن تفطر ، لا بد مِن أن تستجيب لمشورة طبيبٍ مسلمٍ حاذق ، مسلم ورع ، ومع ورعه طبيب حاذق ، لذلك هناك أمراض إذا صمت فيها تفاقَمت ، وأنت آثم ، النبي عليه الصلاة والسلام ـ قيسوا عليها ـ قال لأصحابه :
(( من كانت له جملٌ حرون فلا يتبعنا ))
أي فلا يجاهد معنا ، وصحابي جليل رغبته في الجهاد حملته على معصية الرسول ، عنده جمل حرون ، ركبها وجاهد مع رسول الله ، فرمته وقتلته ، فأبى النبي عليه الصلاة والسلام أن يصلي عليه لأنه مات عاصياً ، فهناك أمراض خطيرة ، في أمراض نقص السكر ، في أمراض في المعدة ، في أمراض في القلب تحتاج إلى أدوية أن تصوم ، ليس ورعاً أن تصوم ، الورع أن تفطر ، ولكن برأي الطبيب المسلم الحاذق ، أما طبيب ليس فيه دين ، الطبيب من دون شيء يقول لك : لا تصوم أريح لك ، الآن بالامتحانات ينصحوك بأن تفطر ، الأطباء ينصحون الطلاب بالإفطار في الامتحانات ، لا يجوز هذا ، لا بد من مرضٍ عضال يتفاقم في الصيام ، أو يتأخر شفاؤه بالصيام .
﴿ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾
لما في الصيام مِن خير ، فإذا رأيت الإفطار أفضل من الصيام فأنت لا تعلم بنص هذه الآية :
﴿ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾
فوائد الصيام :
بعض العلماء الأكارم تحدّثوا عن فوائد الصيام .
أولاً :
نحن كمؤمنين ، يجب أن نصوم وكفى ، الصوم عبادة ، وأنت عبدٌ ، والرب ربٌ ، يجب أن تطيعه وكفى ، ولكن لا يوجد مانع أن نتحرى فوائد الصيام ، كي نعرف أن الإله العظيم أمره جليل ، أمره لا تحصى فوائده .
العلماء قالوا :
الإنسان مأمور بالاعتدال في الطعام والشراب طوال حياته ، والسيدة عائشة رضي الله عنها كانت تقول : أول بدعةٍ ابتدعها المسلمون بعد وفاة رسول الله الشبع . لو أن إنساناً خالف السُنَّة في أشهر السَنَة ، وأكل ، وشرب ، وارتفعت نسبة الدسم في الدم ، وارتفعت نسبة حمض البول في الدم ، أي الأسيد أوريك ، إذا ارتفعت نسبة الدسم في الدم فهذا يهدد الشرايين ، إن مرض تصلُّب الشرايين ، وهو أخطر مرضٍ بسبب ارتفاع نسب الدَسَم في الدم ، يقول لك : الشحوم في الدم كثيرة ، أول فحص تطالب فيه فحص نسبة الشحوم في الدم ، يأتي شهر الصيام ليخفِض هذه النسبة ، يخفض نسبة الشحم في الدم ، ونسبة حمض البول في الدم ، وفي خفض هاتَيْن النسبتين وقايةٌ لمرضين خطيرين ، تصلُّب الشرايين ، ومرض النقرس ، أي داء المفاصل ، ففي شهر الصيام لو فحصت دم صائم تجد أن نسبة الشحوم منخفضة ، ونسبة حمض البول منخفضة .
إذاً الصوم يخفف العبء عن جهاز الدوران والقلب ، إذا كان الشريان مرن فالقلب مرتاح ، فإذا تصلب الشريان ، فالقلب عندئذٍ يبذل جهداً إضافياً ، حينما تقل نسبة الشحوم في الدم ينخفض الضغط ، أي التوتر الشرياني ، ويرتاح القلب ، لذلك في حالات ارتفاع ضغط ، وارتفاع الضغط مرضٌ خطير ، علاجه الصيام ، إذا صُمت انخفض الضغط ، في ارتفاع استثنائي ، بسبب ارتفاع نسب السوائل والشحوم .
وبعد ، الصيام يريح الكليتين وجهاز البول بإقلاله مِن فضلات استقلاب الأغذية ، فإذا حرقت قطعة خشب ، ينتج عن هذا الاحتراق طاقة ، أي حرارة ، ولا بد مِن رماد ، الكليتان مكلفتان بطرح هذه الفضلات ، فكلما كانت كمّية الأشياء المحترقة كبيرة فالبواقي كبيرة ، فالجُهد على الكليتين كبير ، لذلك في الصيام الاستقلاب يتم ، الاستقلاب عملية تحول غذاء إلى طاقة ، فمعه فضلات ، والكلية مسؤولةٌ عن طرح الفضلات في البول ، فإذا كان الطعام قليلاً ترتاح الكليتان ، والآن في مرض خطير جداً اسمه توقف الكليتين المفاجئ ، وقف مفاجئ ، الإجهاد المستمر يأتي شهر الصيام فيريح الكليتين ، ويعطيها فرصةً تستجم فيه ، ويجعلها تستأنف عملها بعد الإفطار بنشاطٍ بالغ .
العلماء قالوا :
في الصيام يتحرك سكر الكبد ، بالكبد في مخزون سكري ، يتحرّك ، ويتحرك الدهن المخزون تحت الجلد ، وتتحرك بروتينات العَضَل ، تتحرك الغُدد ، تتحرك خلايا الكبد ، أي عملية تجديد ، وتنشيط ، وصيانة لكل أجهزة الجسم ، في الصيام ، إيّاكم أن تصوموا بنيّة أن تصحوا ، الصيام عبادة ، يجب أن تصوم طاعةً لله عز وجل ، ولكن أنا أعلمكم أن هذه الطاعة لها فوائد كبرى تتجاوز أنها عبادة إنه صحة ، لذلك قال عليه الصلاة والسلام :
(( صوموا تصحوا ))
العلماء قالوا :
الصوم أقرب إلى الطب الوقائي منه إلى الطب العلاجي ، بدليل : أن هناك أمراض تتفاقم بالصيام ، لذلك :
﴿ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ﴾
قرأت تعريفاً علمياً صحياً للصيام :
الصيام دورةٌ وقائيةٌ سنويةٌ تقي مِن كثيرةٍ من الأمراض ، في عندنا علاج لبعض الأمراض ، لبعضها .
أولاً : مرض السكر بنسبه المعتدلة يفيد فيه الصيام ، وارتفاع التوتّر الشرياني ، ارتفاع الضغط يفيده الصيام ، والالتهابات الهضمية الحادة والمزمنة يفيدها الصيام ، والأمراض الجلدية يفيدها الصيام ، ولكن هذا الكلام ليس وصفةً طبيةً مني ، هذا لا يجوز ، قال عليه الصلاة والسلام :
(( من تطبب ولم يعلم منه طبٌ فهو ضامن ))
أي إذا واحد معه مرض سكر عليه أن يسأل الطبيب ، كلامي لا يعفيه من سؤال الطبيب ، هذا كلام عام ، أما نسب السكر ، مدى ارتفاع السكر ، هذا يعلمه الطبيب فقط .
(( من تطبب ولم يعلم منه طبٌ فهو ضامن ))
فهذا الكلام لا يصلح أن يكون وصفةً لكم ، إنما هو بيانٌ لفضل هذا الأمر الإلهي العظيم ، كيف أن الصيام يرفع مِن طاقة التشغيل لدى أجهزة الإنسان كلها ، لكن الشرط الأساسي أن الإنسان يأكل بالصيام أكل معتدل ، كثير من الناس يعد عشاء مثل ثلاثة وجبات ، ويأتي من التراويح يعمل وجبة أيضاً يفيق على السحور يعمل له وجبة ، يجد نفسه وزنه زاد بعد رمضان ، هذا ليس صيام ، كل هذا الكلام ليس له معنى إذا لم يكن هناك اعتدال في شهر الصيام ، اعتدال في الطعام والشراب ، فيجب أن تكثر من الأشياء الخفيفة ، والكميات قليلة ، من أجل أن يؤتي الصيام أكله ، وفي درسٍ قادم إن شاء الله تعالى نعود إلى سورة النحل .