- الخطب
- /
- ٠1خطب الجمعة
الخطبة الأولى :
الحمد لله ثم الحمد لله ، الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ، وما توفيقي ولا اعتصامي ولا توكّلي إلا على الله .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقراراً بربوبيته وإرغاماً لمن جحد به وكفر .
وأشهد أنَّ سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلَّم ، رسول الله سيِّد الخلق والبشر ، ما اتصلت عينٌ بنظرٍ أو سمعت أذنٌ بخبر .
اللهمَّ صلِ وسلم وبارك على سيدنا محمد ، وعلى آله وأصحابه ، وعلى ذريَّته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين .
اللهم ارحمنا فإنك بنا راحم ، ولا تعذبنا فإنك علينا قادر ، والطف بنا فيما جرت به المقادير ، إنك على كل شيءٍ قدير .
اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علما ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أحاديث شريفة تبدأ بـ طوبى ..........
أيها الإخوة المؤمنون ؛ في كُتب الحديث الشريف طائفةٌ مِن أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلَّم ، تبدأ كلها بكلمة " طوبى " .
وطوبى مؤنَّث أطيب ، أطيب وطوبى ، وهي مصدر طابَ .
طاب الشيء أي حَسُن .
1- طوبى للغرباء ..............
عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم ونحن عنده :
(( طوبى للغرباء ))
فقيل : من الغرباء يا رسول الله ؟ قال :
(( أناس صالحون في أناس سوء كثير ))
إذا كنت مع الأقلية المؤمنة ، الأقلية المستقيمة ، الأقلية الصالحة ، الأقلية المُحْسِنَة ، الأقلية التي عرفت مهمتها في الحياة .
(( طوبى للغرباء - فقيل : من الغرباء يا رسول الله ؟ - قال : أناس صالحون في أناس سوء كثير من يعصيهم أكثر من يطيعهم ))
فليست العِبْرة أن تكون مع الخط العريض في المجتمع ، ولا أن تكون مع الأكثرية المُنحرفة ، الأكثرية الضّالة ، الأكثرية الفاسقة ، كن مع الأقلية المؤمنة ..
(( طوبى للغرباء أناسٌ صالحون في أناس سوءٍ كثير ، مَن يعصيهم أكثر ممن يطيعهم - ومَن يبغضهم أكثر ممَّن يحبهم - ))
قال الثوري :
إذا رأيت الرجل كثيرٌ أصدقاؤه فاعلم أنه مخلِّط لأنه لو نطق بالحق لما بقي له كل هؤلاء الأصدقاء .
كما قال عليه الصلاة والسلام :
(( ركعتان من رجل ورع خيرٌ من ألف ركعةٍ من مخلِّط ))
المُخَلِّط هو الذي عمل عملاً صالحاً وعمل عملاً سيئاً .
2- طوبى للمخلصين ..............
ويقول عليه الصلاة والسلام :
(( طوبى للمخلصين أولئك مصابيح الهدى تنجلي عنهم كل فتنةٍ ظلماء ))
قال بعض العلماء : هؤلاء المُخلصين أخلصوا أعمالهم من شوائب الأكدار ، ومحَّضوا عبادتهم للمَلِك القهَّار ، الواصلون للحَبْل ، الباذلون للفضل ، الحاكمون بالعدل ، لما أخلصوا لله لم يكن لغيره عليهم سُلطان ، وهم منه في حمايةٍ وأمان .
ويقول الإمام الغزالي رضي الله عنه :
عقبة الإخلاص عقبةٌ كؤود ، لكن بها تنال كل مطلوبٍ ومقصود . الإخلاص الإخلاص ، قليل العمل مع الإخلاص خيرٌ مِن كثير العمل مع الرياء .
الإخلاص أيها الإخوة المؤمنون ؛ لأنك إذا أخلصت ذُقْت حلاوة القُرب ، إذا أخلصت دينك لله يكْفك القليل مِن العمل ، إذا كنت مخلصاً صرت عند الله مُخْلَصاً ، نقَّاك مِن كل الشوائب ، خلَّصك مِن كل العيوب ، جعلك سليماً ، جعلك معافىً .
(( طوبى للمخلصين أولئك مصابيح الهدى تنجلي عنهم كل فتنةٍ ظلماء ))
يا أيها الإخوة الأكارم ؛ الله سبحانه وتعالى الذي تعبده ، يعرف ما تنطوي عليه نفسك ..
﴿ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى ﴾
يعلم كل شيء ، أقرب إليك من حبل الوريد ..
﴿ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ ﴾
يعلم ما تعلم ، يعلم ما تُعلن ، ويعلم ما تخفي ، ويعلم ما يخفى عنك ، أخلص له ، ليس لك إلا هو ..
﴿ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾
أَخْلِص للذي خلقك من قبل ولم تكن شيئاً ..
أخلص للذي مصيرك إليه ..
أخلص لمَن يقول لك في أول ليلةٍ توضع فيها في قبرك : رجعوا وتركوك ، وفي التراب دفنوك ، ولو بقوا معك ما نفعوك ، ولم يبقَ لك إلا أنا ، وأنا الحيُّ الذي لا يموت .
أخلص لمن ناصيتك بيده ، لمن رزقك بيده ، لمن صحَّتك بيده ، لمن أجهزتك بيده ، لمن أعداؤك بيده ، لمن بيده كل شيء ..
﴿ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ ﴾
(( طوبى للمخلصين أولئك مصابيح الهدى تنجلي عنهم كل فتنةٍ ظلماء ))
3- طوبى للسابقين ..............
(( طوبى للسابقين إلى ظل الله ، الذين إذا أعطَوْا الحق قبلوه ، وإذا سئلوه بذلوه ، والذين يحكمون للناس بحكمهم لأنفسهم ))
يا أيها الإخوة المؤمنين ؛ هذا الحديث مِحَكٌ دقيق لإيمان أحدكم ، مَن هم السابقون إلى ظل الله يوم لا ظل إلا ظله ؟ الذين إذا أعطوا الحق قبلوه ، هذا حقك يأخذه وهو راضٍ ، ولكن شرار الناس يريد أن يأخذ فوق حقّه ، الذين إذا أعطوا الحق قبلوه ، هذه أجرتك ، وهذا نصيبك مِن الميراث ، وهذا نصيبك من هذه الشركة ، وهذا نصيبك من هذه الصفقة، وهذا نصيبك من الطعام ، وهذا نصيبك من اللباس ..
(( الذين إذا أعطوا الحق قبلوه ، وإذا سئلوه بذلوه ))
أعطني أجرتي . يعطيه إياها عن حبٍ وكرامة ، وعن طيب نفسٍ، وعن تسامحٍ ، وعن سرورٍ ..
(( الذين إذا أعطوا الحق قبلوه ، وإذا سئلوه بذلوه ))
الذي يقول لمن عليه حقٌ ثابت : دونك المحاكم لها سبعة أبواب ، اختر أي بابٍ شئت ، هذا ليس مؤمناً ، مادام الحق ثابتاً عليك فلماذا لا تعطي الحق لأصحابه ؟ لماذا تتلكأ ؟ لقد وقَّعت معه عقداً بالسعر المُناسب ، وكنت راضياً ، وتمَّ الإيجاب والقبول ، لماذا تقول له : لا أفرغ لك البيت ؟ الذين إذا أعطوا الحق قبلوه ، وإذا سئلوه بذلوه ، بعته بيعاً قطعياً ونقدك الثمن كله ، والسعر مناسب ، وتم الإيجاب والقبول ، وانتهى كل شيء ، ولم تفرغ له هذا البيت بسببٍ أو آخر ، ومضت عشرة سنواتٍ أصبح ثمن البيت بعشر أمثال . ناصيته بيدك ، لا أفرغ لك البيت حتى تعطيني مئة ألفٍ زيادة ، لماذا يا أخي ؟ ما الذي حصل ؟ لقد أعطيتك الثمن كاملاً ، وكان سعره مناسباً ، ورضيت به ، إذا سئلوه بذلوه .
من علامة إيمان المؤمن ـ لعلك إذا رأيت الرجل يصلي في المسجد تظنه مؤمناً ، لا والله ـ عند التعامل بالدرهم والدينار ، عند المُحاكَكَة ، عند البيع والشراء ، في الأسواق ، في العقود ، هذا هو الإيمان .
(( وإذا سئلوه بذلوه ))
سمعة الرجل أغلى مِن مال الدنيا ، سمعته ، شرفه ، عِرضه أغلى مِن حُطام الدنيا بأكملها " .
(( وإذا سئلوه بذلوه ، والذين يحكمون للناس حكمهم لأنفسهم ))
هذا الصانع الذي في محلك التجاري ، لو أنه ابنك هل تكلِّفه هذه الأعمال ؟ هل تضع على ظهره كل هذه الأثقال ؟ هل تنهره أمام الناس؟ هل تُضَيِّق عليه ؟ هل تزجره .
(( يحكمون للناس بحكمهم لأنفسهم ))
والله الذي لا إله إلا هو ، لو طبَّق الناس هذا الحديث وحده لعاشوا في سعادة ما بعدها سعادة .
(( طوبى للسابقين إلى ظل الله ، الذين إذا أعطوا الحق قبلوه ، وإذا سئلوه بذلوه ، والذين يحكمون للناس بحكمهم لأنفسهم ))
4- طوبى للعلماء وللعباد ..............
(( طوبى للعلماء ، طوبى للعُبَّاد ، ويلٌ لأهل الأسواق ))
المقصود بــ
(( أهل الأسواق ))
الذين لا يعرفون في الحياة إلا الأسواق، ولا يعرفون في الحياة كلها إلا البيع والشراء ، ولا يعنيهم إلا جمع الدرهم والدينار ؛ بحقٍ أو بغير حقٍ ، بشكلٍ مشروعٍ أو غير مشروعٍ ، بأصولٍ أو بغير أصولٍ ، بما يرضي الله أو بما يغضبه .
(( ويلٌ لأهل الأسواق ))
الذين جعلوا من الدرهم والدينار معبودهم ، الذين جعلوا مِن الدرهم والدينار هدفهم الأخير .
(( طوبى للعلماء ، طوبى للعُبَّاد ، ويلٌ لأهل الأسواق ))
لماذا ؟ العلماء قالوا : لاستيلاء الغفلة والتَخْليط ، والغش والخيانة ، والأيمان الباطلة ، والمكاسب الرديئة .
5- طوبى لمن بات حاجا ..............
ويقول عليه الصلاة والسلام :
(( طوبى لمن بات حاجاً وأصبح غازياً ))
من هذا الذي يبيت حاجاً ويصبح غازياً ؟ شيءٌ مستحيل أن تبيت حاجاً وأن تصبح غازياً في يومٍ وليلة !! قال عليه الصلاة والسلام :
(( رجلٌ مستورٌ ، ذو عيالً ، متعففٌ ، قانعٌ باليسير من الدنيا ، يدخل على أهله ضاحكاً ، ويخرج مِن عندهم ضاحكاً ، فو الذي نفسي بيده إنهم هم الحاجّون الغازون في سبيل الله عز وجل ))
يقول أحد العلماء : سُلِبَ الغنى مَن سلب الرضى ، ومَن لم يقنعه اليسير افتقر في طلب الكثير ، والزم القناعة تَشْرُف في الدنيا والآخرة ، وما بسقت أغصان ذُلٍ إلا على بذور الطَمَع . الطمع أذلَّ رقاب الرجال.
لازلنا مع طائفةٍ من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلَّم تبدأ كلها بكلمة " طوبى " .
قال عليه الصلاة والسلام :
(( طوبى للغرباء أناسٌ صالحون في أناس سوءٍ كثير ))
(( طوبى للمخلصين أولئك مصابيح الهدى تنجلي عنهم كل فتنةٍ ظلماء ))
(( طوبى للسابقين إلى ظل الله ، الذين إذا أعطَوْا الحق قبلوه ، وإذا سئلوه بذلوه ، والذين يحكمون للناس بحكمهم لأنفسهم ))
(( طوبى للعلماء ، طوبى للعُبَّاد ، ويلٌ لأهل الأسواق ))
(( طوبى لمن بات حاجاً واصبح غازياً ، رجلٌ مستورٌ ، ذو عيالً ، متعففٌ ، قانعٌ بالسير من الدنيا ، يدخل على أهله ضاحكاً ، ويخرج من عندهم ضاحكاً ، فو الذي نفسي بيده إنهم هم الحاجّون الغازون في سبيل الله ))
6- طوبى لمن تواضع ..............
(( طوبى لمن تواضع مِن غير مَنْقَصةٍ ))
قال العلماء في تفسير هذا الحديث : المؤمن لا يضع نفسه بمكانٍ يذري به . من صفات المؤمن ؛ المؤمن لا يذل نفسه ، المؤمن لا يخنع، لا يستكين ، لا يستخذي ، لا يريق ماء وجهه ، لا يتضعضع أمام غني .
(( طوبى لمن تواضع من غير منقصةٍ ))
العلماء فسروا هذا الحديث : أن المؤمن لا يضع نفسه بمكانٍ يذري به ، ويؤدي إلى تضييع حق الحق ، هو يمثل الحق ، فإذا وضع نفسه في مكانٍ يذري به فقد ضَيَّع حق الحق ، والتواضع خَفْض الجناح للمؤمنين مع بقاء عزَّة الدين ، تعريف التواضع : خفض الجناح للمؤمنين مع بقاء عزة الدين .
وإذا أغضبك أحدٌ لغير شيءٍ ، فلا تبدأه بالصُلح ، لأنك تذل نفسك في غير مَحَل ، أغضبك لغير سبب ، لم تقترف معه إثماً ولا ذنباً، أغضبك ، إذاً لا تبدأه بالصُلْح لأنك إذا فعلت هذا وضعت نفسك في مكان الذُل .
وقال بعضهم : الإفراط في التواضع يورث الذلة ، والإفراط في المؤانسة يورث المهانة ، قال تعالى :
﴿ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ﴾
﴿ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ ﴾
وقيل : التكبُّر على المتكبِّر صدقة . والذِلَّة هي الدناءة ، والخسَّة، وبذل النفس في نَيْل حظوظها ، والإمام الشافعي يقول :
ما تكبر عليَّ متكبرٌ مرتين .
(( طوبى لمن تواضع من غير منقصةٍ ))
تجنَّب كل هذه الصفات .
(( وذل في نفسه من غير مسألة ))
رجلٌ مرَّ بسيدنا عمر وقد تخشَّع ، وتذلَّل ، وبالغ بالخضوع ، فقال له عمر رضي الله عنه : " ألست مسلماً ؟ " قال : بلى . قال : " فارفع رأسك وامدد عنقك ، فإن الإسلام عزيز " .
(( طوبى لمن تواضع مِن غير منقصةٍ ، وذل في نفسه مِن غير مسألة ، وأنفق مِن مالٍ جمعه مِن غير معصيةٍ ))
تواضع من غير منقصةٍ ، ذلَّ في نفسه ، النبي عليه الصلاة والسلام كان يقول :
(( اللهمَّ أرني بعين نفسي صغيراً ، وبأعين الناس كبيراً ))
لا كما هي حال بعض الناس يرى نفسه كبيراً ، وهو في أعين الناس صغيراً .
(( اللهمَّ أرني بعين نفسي صغيراً ، وفي أعين الناس كبيراً ))
(( وأنفق مِن مالٍ جمعه من غير معصيةٍ ، وخالط أهل الفقه والحكمة ))
خالطهم ، تعلَّم منهم ، جلس في مجالسهم ، تأدّب بآدابهم ، تخلَّق من أخلاقهم ، عرف منهم ، سمع مِن علمهم .
(( وخالط أهل الفقه والحكمة ، ورحم أهل الذل والمسكنة ))
7- طوبى لمن ذل في نفسه ..............
(( طوبى لمن ذل في نفسه ، وطاب كسبه ، وحسنت سريرته ، وكرمت علانيته ، وعزل عن الناس شره ))
8- طوبى لمن علم بعلمه ..............
(( طوبى لمن عَلِمَ بعلمه ، وأنفق الفضل من ماله ، وأمسك الفضل من قوله ))
مَن شغل بنفسه شغل عن الناس ، ومَن شغل بالله شغل عن نفسه .
لازلنا مع أحاديث شريفة تبدأ جميعها بكلمة " طوبى " ..
9- طوبى لمن شغله عيبه ..............
(( طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس ))
(( وأنفق الفضل من ماله ، وأمسك الفضل من قوله ))
(( ووسعته السنة ، ولم تستهوه البدعة ))
هذه البِدَع ، هذا الذي يفسد الناس ، يفسد أخلاقهم ، هذه العادات الجديدة ، التقاليد الجديدة المبنية على الاختلاط ، وعلى النفاق ، وعلى الكذب ، وعلى المعصية ، وعلى تقليد الأجانب ، هذه البدع ..
10- طوبى لمن وسعته السنة ..............
(( طوبى لمن وسعته السنة ولم تستهوه البدعة ))
أي إذا أقام احتفالاً في بيته بمناسبة عيد المولد النبوي الشريف ، هذا مِن السُنَّة ، أما أن يقلِّد الأجانب بإقامة حفلات أعياد الميلاد مثلاً ، هذا استهوته البدعة .
(( طوبى لمن وسعته السنة ولم تستهوه البدعة ))
أما هذا الذي شغله عيبه عن عيوب الناس فهو مؤمن ، مَن تتبع عيوب الناس ، هذه العيوب لا تخلو عن أن تكون عيباً خُلُقياً أو خَلْقِيّاً ، فإذا كان عيباً خَلْقِيّاً فالذم ذمٌ للخالق ، إذا عيَّرت إنساناً بخَلقه ؛ بقامته ، بلونه ، بعاهةٍ فيه ، فهذا جهلٌ فاضح ، وهذا ذمٌ لصنعة الصانع ، وللصانع حكمةٌ في هذه الصنعة قد لا تعرفها أنت .
أما إذا عيَّرته بعيبٍ خُلُقِيّ ، فإذا ظننت أنه لا عيب لك ، فهذا أكبر عيبٍ فيك ، وإذا ظننت أن ترفُّعك عن هذا العَيْب بقدراتك الذاتية فهذا جهلٌ آخر ، وعيبٌ آخر ، فعجز غيرك عن التنزهُّ عن هذا العيب كعجزك أنت ، أو عجزك كعجز غيرك ، يؤكِّد هذا قول الله عزَّ وجل على لسان سيدنا يوسف :
﴿ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ ﴾
ما العمل ؟ أن تشكر الله على أن نجَّاك مِن هذا العَيب ، وأن تأخذ بيد أخيك إلى تطهير نفسه مِن ذلك العيب . فـ
(( طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس ))
قال أحدهم لرجل :
يا قبيح الوجه .
فأجابه : ما كان خلق وجهي إليك فأحَسّنه .
وقال بعضهم : ما أنا عن نفسي براضٍ فأتفرَّغ منها إلى ذم غيرها.
وقال بعضهم : إن العباد خافوا الله على ذنوب غيرهم ، وأمِنوه على ذنوب أنفسهم .
وقال الإمام الشعراني : مِن علامة بُعد العبد عن حضرة الرب نسيانه عيوبه ونقائِصه ، لأن الحقَّ نور ، وشأن النور أن يكشف لك عن العيوب .
11- طوبى لمن طال عمره ..............
(( طوبى لمن طال عمره وحسن عمله ))
قال علي رضي الله عنه : موت الإنسان بعد أن كبر وعرف خيرٌ له مِن أن يكوت طفلاً بلا حسابٍ في الآخرة .
(( طوبى لمن طال عمره وحسن عمله ))
12- طوبى لمن بعث وجوفه محشو بالقرآن ..............
(( طوبى لمَن بعث يوم القيامة وجوفه محشوٌ بالقرآن ))
13- طوبى لمن ملك لسانه ..............
(( طوبى لمَن مَلَك لسانه ووسعه بيته وبكى على خطيئته ))
وسعه بيته ، لا يرتاد الأماكن العامة ، لا يرتاد أماكن اللهو ، لا يُعْنى بهذه المقاصف التي فيها اختلاط ، وفيها غناء ، وفيها أشياء لا ترضي الله عزَّ وجل .
(( طوبى لمَن مَلَك لسانه ووسعه بيته وبكى على خطيئته ))
أيها الإخوة المؤمنون ؛ روي عن ابن عباسٍ رضي الله عنه أنه كان معتكفاً في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلَّم ، فأتاه رجلٌ فسلَّم عليه ، ثم جلس ، فقال ابن عباسٍ :
يا فلان أراك مكتئباً حزيناً .
قال : نعم .
قال : ما شأنك ؟ .
قال : يا ابن عم رسول الله لفلانٍ عليَّ حقٌ ـ أي دين ـ وحرمة صاحب هذا القبر ـ أشار إلى النبي عليه الصلاة والسلام ـ وحرمة صاحب هذا القبر ما أقدر عليه .
فقال ابن عباس : ألا أكلمه فيك .
قال : إن أحببت .
هو معتكف ، فقال : فانتعل ابن عباسٍ ، ثم خرج مِن المسجد ، فقال له رجل : أنسيت أنك معتكفٌ في المسجد ؟ . قال : لا . لا أنسى ولكني سمعت صاحب هذا القبر والعهد به قريب ـ فدمعت عيناه وهو يقول :
(( من مشى في حاجة أخيه وبلغ فيها ، كان خيراً له مِن اعتكاف عشر سنين ، ومَن اعتكف يوماً ابتغاء وجه الله جعل الله بينه وبين النار ثلاثة خنادق ، كل خندق أبعد ما بين الخافقين ))
نعم أنا معتكف ، وسأخرج مِن اعتكافي لأمشي في حاجة أخي ، لذلك روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلَّم أنه قال :
(( واللهِ لأن أمشي في حاجة أخٍ مؤمن خيرٌ لي مِن صيام شهرٍ واعتكافي في مسجدي هذا ))
أيها الإخوة المؤمنون ؛ حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، واعلموا أن مَلَكَ الموت قد تخطانا إلى غيرنا ، وسيتخطى غيرنا إلينا فلنتخذ حذرنا ، الكيِّس مَن دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز مَن أتبع نفسه هواها ، وتمنّى على الله الأماني .
والحمد لله رب العالمين
***
الخطبة الثانية :
الحمد لله رب العالمين ، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين ، وأشهد أن سيدنا محمداً عبد ورسوله صاحب الخلق العظيم ، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين .
الفجل :
أيها الإخوة المؤمنون ؛ في سلسلة الموضوعات العلمية التي من عادتي أن أعالجها في الخطبة الثانية : أن نباتاً نراه في الأسواق ، وقد نشتريه ، أو لا نشتريه ، لا يحتل عندنا مكانةً مَرْموقة ، هذا النبات هو الفِجل ، وقد يتندَّر بعضهم فيقول : أرخص مِن الفجل . لقلة شأن هذا النبات عند الناس .
ذهلت لما تنطوي عليه هذه المادة ، أو هذا النبات الذي خلقه الله لنا، قال العلماء : يحتوي هذا النبات على مواد آزوتية ، ومقادير من المواد النشوية ، والمعدنية ، كما يحتوي على نسبةٍ جيدة من الفيتامين (ث) وهذا النبات باحتوائه على هذه الفيتامينات ، يحتوي أيضاً على الكالسيوم ، والحديد ، ونظراً لاحتوائه على هذه الفيتامينات ، فإنه مقوٍ للعظام ، الفجل مقوٍ للعظام ، مدرٌ للبول ، يفيد عصيره في تفتيت حصيات الكليتين ، وفي تفتيت حصيات الصفراء ، ويذوِّب الرمال البولية ، ويشفي من النوَب الكبدية ، ويساعد على الهضم ، ويستعمل في بعض الدول المتقدمة بمقياس العصر ، كعلاجٍ لمكافحة السعال الديكي .
سبحانك يا رب ! كلُّ هذه المواد ، وهذه المعادن ، وهذه الفيتامينات في هذا النبات الذي لا يعبأ الناس به ، خلق الله سبحانه وتعالى كل شيء فأبدع خلقه ، وأتقن صُنْعَه ، وجعل مِن هذا النبات شيئاً موزوناً ..
﴿ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ ﴾
أي احتوائه على هذه المواد : خمسة وثمانين بالمئة ماء ، مواد آزوتية ، مقادير من المواد النشوية ، والمعدنية ، فيتامين ( أ ) فيتامين (ث) ، كالسيوم ، حديد ، حموض معيّنة ، هذه كلها مِن أجل أن تقي الإنسان بعض الأمراض ، وأن تعينه على ترميم بعض الأعضاء ، إن الله سبحانه وتعالى جعل مِن هذه النباتات ، آيةً دالةً على عظمته سبحانه وتعالى ..
﴿ فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبّاً * ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقّاً * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبّاً * وَعِنَباً وَقَضْباً * وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً * وَحَدَائِقَ غُلْباً * وَفَاكِهَةً وَأَبّاً * مَتَاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ ﴾
الدعاء :
اللهمَّ اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولَّنا فيمن توليت ، وبارِك اللهمَّ لنا فيما أعطيت ، وقنا واصرف عنا شرَّ ما قضيت، فإنك تقضي ولا يُقضى عليك .
اللهمَّ أعطنا ولا تحرمنا ، وأكرمنا ولا تهنا ، وآثرنا ولا تؤثر علينا ، وأرضنا وارض عنا .
اللهم اغفر لنا ذنوبنا ، واستر عيوبنا ، واقبل توبتنا ، وفك أسرنا ، وأحسن خلاصنا ، وبلّغنا مما يرضيك آمالنا ، واختم بالصالحات أعمالنا ، مولانا رب العالمين .
اللهم إنا نعوذ بك من الفقر إلا إليك ، ومن الذل إلا لك ، ومن الخوف إلا منك ، نعوذ بك من عضال الداء ، ومن شماتة الأعداء ، ومن السلب بعد العطاء ، مولانا رب العالمين .
اللهم ارزقنا حبك وحب مَن يحبك ، وحب عملٍ صالح يقربنا إلى حبك .
اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين ، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين ، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين .
اللهمَّ بفضلك ورحمتك أعل كلمة الحق والدين ، وانصر الإسلام وأعزَّ المسلمين ، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى ، إنه على ما تشاء قدير ، وبالإجابة جدير .