وضع داكن
25-04-2024
Logo
الخطبة : 0178 - الهجرة1 (( الأخذ بالأسباب – مكارم الأخلاق )) - خصائص الفضة .
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الخطبة الأولى :
  الحمد لله ثم الحمد لله ، الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ، وما توفيقي ولا اعتصامي ولا توكّلي إلا على الله .
 وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقراراً بربوبيته وإرغاماً لمن جحد به وكفر .
 وأشهد أنَّ سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلَّم ، رسول الله سيِّد الخلق والبشر ، ما اتصلت عينٌ بنظرٍ أو سمعت أذنٌ بخبر .
 اللهمَّ صلِ وسلم وبارك على سيدنا محمد ، وعلى آله وأصحابه ، وعلى ذريَّته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين .
 اللهم ارحمنا فإنك بنا راحم ، ولا تعذبنا فإنك علينا قادر ، والطف بنا فيما جرت به المقادير ، إنك على كل شيءٍ قدير .
 اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علما ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .

تمهيد :

 أيها الإخوة المؤمنون ؛ تمرُّ على المسلمين ذكرى عَطِرَة ؛ إنها ذكرى هجرة النبي عليه الصلاة والسلام .
 يا أيها الإخوة المؤمنون ؛ في الهجرة وقائع ، وأحداث ، ومواقف ، تعرفونها جميعاً ، وفي كل مناسبةٍ تُذكر هذه الوقائع ، وتفصَّل ، وتحلَّل ، وينبغي لنا أن نبحث عن الدروس البَليغة ، المُستفادة من هذه المُناسبة العظيمة ـ مناسبة ذكرى هجرة النبي عليه الصلاة والسلام .
 أيها الإخوة المؤمنون ؛ بادئ ذي بَدْء ليست الهجرة انتقال موظَّفٍ من مكانٍ قريبٍ إلى مكانٍ بعيد ، إنها فوق هذا بكثير ، وليست الهجرة انتقال مفتقرٍ من أرضٍ مجدبةٍ إلى أرضٍ مخصبةٍ ، ولكن الهجرة أيها الإخوة المؤمنون إكراهُ رجلٍ آمناً في سِرْبه ، ممتدِّ الجذور في مكانه ، على إهدار مصالحه ، والتضحية بأمواله ، وتصفية مركزه ، والنجاة بشخصه ، فهو مستباحٌ منهوب ، قد يهلك في أول الطريق ، وفي منتصفها ، وفي آخرها ، ويأتي إلى أرضٍ لا يعرف ما تُكِنُّ له من مُقْلقاتٍ وأحزان ، إن هذه الهجرة ليست مجرَّد انتقال إنما هي موقف ، موقفٌ تمليه المبادئ والقيم ، موقفٌ يمليه الخوف من الله عزَّ وجل ، موقفٌ يُمليه الحِرص على الإيمان ، وعدم تعريضه للفتن .
 يا أيها الإخوة الأكارم ؛ الهجرة بمعناها الواسع : هجر ما نهى الله عنه ، فإذا كنت في أرضٍ يستحيل أن تقيم شعائر الله ، أو أن تطيع الله عزَّ وجل فيما أمر ، فلابدَّ حفاظاً على دينك ، وحفاظاً على إيمانك ، وحفاظاً على عقيدتك من أن تتحوَّل معه إلى مكانٍ آخر يحفظ لك دينك ، وإيمانك . هكذا حصل لأصحاب النبي عليه الصلاة والسلام وعليهم رضوان الله .

الدروس المستفادة من الهجرة .

 يا أيها الإخوة ؛ أول درسٍ عظيم والمسلمون بحاجةٍ ماسَّةٍ إليه .

الدرس الأول : الأخذ بالأسباب .

 الدرس الأول هو : أن النبي عليه الصلاة والسلام ؛ مع أنه نبي ، ومع أنه رسول ، ومع أنه مؤيَّدٌ من قِبَل الله عزَّ وجل ، ومع أن الله عزَّ وجل تكفَّل له بالعِصمة ، أي تكفَّل له من أن تُغْتال الدعوة باغتياله ، مع أن النبي سيد الخلق ، وحبيب الحق حينما انتقل من مكة إلى المدينة أخذ كل الأسباب ، بل إنه استجمع كل الأسباب ، وبعد أن استجمع كل الأسباب اتَّكل على رب الأرباب ..
 ماذا فعل ؟
 خرج في طريقٍ مغايرٍ لطريق المدينة ، اتجه مُساحلاً .
 وأدرك ـ بحكمته ـ أن الطلب سيشتد عليه لذلك اختبأ في غار ثَوْر .
 ووكَّل أناساً يأتونه بالأخبار :
 عبد الله بن أبي بكر رضي الله عنه .
 ووكَّل أناساً يَمْحون الآثار ـ آثار الأقدام ـ :
 عامر بن فُهَيْرة رضي الله عنه ، مولى أبي بكر .
 ووكَّل أناساً باختيار الطريق المُناسب الذي يظن أن أحداً لن يهتدي إليه .
 استجمع الأسباب ، وضع خطةً محكمةً ، لم يدع ثغرةً إلا وغطَّاها ، لم يدع نقطة ضعفٍ في خطته إلا وأحكمها ، بعدئذٍ توكَّل على الله رب العالمين ، هل من درسٍ يحتاجه المسلمون اليوم كهذا الدرس .
 فالطالب الذي يهمل دراسته ويتوكَّل على الله هذا ليس طالباً مسلماً ، ولا يعرف حقيقة التوكل ، يجب أن تدرس ، وأن تسهر الليالي ، وبعدئذٍ تتوكل على الله رب العالمين ..
 أية مصلحةٍ ، أيَّة حرفةٍ ، أيُّ زواجٍ ، أيُّ عملٍ ، أيّ مشروعٍ لا تتوكَّل قبل أن تستجمع الأسباب ، بأن هذا سوء أدبٍ مع الله عزَّ وجل .
 الله سبحانه وتعالى خلق الكون وخلق له سنناً لن يخرقها لإنسان ، قد يخرقها لنبي لحكمةٍ بالغةٍ ، قد يخرقها من أجل أن يؤمن قومٌ بأكملهم ، أما أن يخرق هذه السنن استجابةً لتقصير مؤمن فهذا لن يكون .
 لذلك يا إخوة الإيمان أيُّ عملٍ لن نتقدَّم إلا إذا أخذنا بالأسباب ، هذا الذي يمرض ابنه لا ينبغي أن يقول : توكلت على الله ، قبل أن يأخذه إلى الطبيب ، وقبل أن يشتري الدواء ، وقد أن يبالغ في تطبيق تعليمات الطبيب في تناول الدواء ، درسٌ بليغ نحتاجه في حياتنا اليومية ، في أعمالنا ، في علاقاتنا ، في بيوتنا ، في كل نشاطنا ، استجمع الأسباب ثم توكل على ربِّ الأرباب ، هذا هو التوكل .
 جاء جماعةٌ إلى سيدنا عمر رضي الله عنه ، فقالوا له :
 نحن المتوكِّلون .
 قال : كذبتم ؛ المتوكل من ألقى حبةً في الأرض ثم توكل على الله ، إني أرى الرجل لا عمل له فيسقط من عيني .
 كما قال رضي الله عنه عمر ؛ ليكن لك عملٌ تتقنه .
 أتقن عملك ، هذا التوكُّل الذي يفهمه المسلمون اليوم الإسلام منه بريء ، والنبي عليه الصلاة والسلام منه بريء ، قال عليه الصلاة والسلام :

(( إن الله تعالى يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه ))

[ من الجامع الصغير عن السيدة عائشة ]

 إتقان العمل جزءٌ من الدين ، لن ينهض المسلمون ، ولن يحققوا الرسالة التي حُمِّلوها إلا إذا أخذوا بالأسباب ، وأتقنوا أعمالهم ، وأحكموا خِطَطَهُم .
 أيها الإخوة الأكارم :

﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ ﴾

[ سورة الأحزاب الآية : 21 ]

 هل من إنسانٍ على وجه الأرض يستحقُّ النصر ، والتأييد ، والحفظ ، والمعونة كسيدنا محمد ؟! ومع ذلك رسم خطةً محكمةً ، وغطَّى كل ثغراتها ، استعان بالخبرة ؛ حينما استعان بخبيرٍ في الطريق ، أعلن بهذه الاستعانة أن الخبرة مقدَّسةٌ ، وأن لها مكاناً في الإسلام عظيم ، استعان بالخبرة ، ورسم الخطة ، وهيَّأ كل شيء ، وكلَّف أناساً يأتونه بأخبار قريش ، وكلَّف أناساً يمحون الآثار ، وقَبَع في غار ثور ليخفَّ عليه الطَلَب ، وبعدئذٍ قال لسيدنا أبي بكر :

(( يا أبا بكر ما ظنُّك باثنين الله ثالثهما ))

[ من الجامع لأحكام القرآن ]

 متى قال هذه الكلمة ؟ بعد أن استجمع الأسباب ، وأنت أيها الأخ الكريم ؛ في عملك ، في تجارتك ، في زراعتك ، في صناعتك ، في وظيفتك ، في تحصيلك ، في كل عملٍ تقوم به ينبغي أن تستعين بالخبرة ، أن تسأل أهل الخبرة من المؤمنين ، قال عليه الصلاة والسلام :

(( ما ندم من استشار ، ولا خاب من استخار ))

[ من الجامع الصغير عن أنس ]

 الاستشارة لأولي الخبرة من المؤمنين ، والاستخارة لله رب العالمين ، قبل أن تُقْدِم على عمل اسأل أهل الخبرة من المؤمنين ، لأن المؤمنين كما قال عليه الصلاة والسلام :

(( نصحةٌ متوادون ولو ابتعدت منازلهم ، والمنافقون بعضهم لبعضٍ غششةٌ متحاسدون ولو اقتربت منازلهم ))

 النبي عليه الصلاة والسلام في حديثٍ جامعٍ مانع عرَّف الدين بكلمةٍ واحدة ، فقال عليه الصلاة والسلام :

(( الدين النصيحة ))

[ من الجامع لأحكام القرآن عن تميم الداري ]

 والله الذي لا إله إلا هو لو صليت الصلوات الخمس ، وصليت الضُحى والأوَّابين وقيام الليل ، ولو تهجَّدت كل يوم ، ولو قرأت القرآن ، وصُمت صياماً نفلاً :
 وغششت مسلماً ، أو لم تنصح مسلماً ..
 قال :

(( الدين النصيحة . فقالوا : يا رسول الله لمن ؟ قال : لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين ولعامتهم ))

[ من الجامع لأحكام القرآن عن تميم الداري ]

 إن امتنعت عن إسداء النصح فلست مسلماً ، إن غششت فلست مسلماً ، ليس الدين صلاةً وصياماً وحَجاً فحسب ، قال سهل التستري :
 والله لترك دانقٍ من حرام خيرٌ من ثمانين حجةً بعد حجة الإسلام .
 دانقٍ من حرام .

 

الدرس الثاني : رد الأمانات

(( مكارم الأخلاق ))

 الدرس الثاني من دروس الهجرة : أن النبي عليه الصلاة والسلام حينما هاجر إلى المدينة ترك ابن عمه علياً رضي الله عنه وكرَّم وجهه ، تركه في فراشه ، لماذا ؟ ليردَّ الودائع إلى أهلها ، لماذا كانت عنده الودائع ؟ لأنه كان أميناً .
 أيها الإخوة المؤمنون ؛ لا تنفصل العبادات عن مكارم الأخلاق في الدين .
 أيها الإخوة الأكارم ؛ قال سيدنا جعفر مخاطباً النجاشي :
 أيها الملك كنا أهل جاهلية ؛ نعبد الأصنام ، ونأتي الفواحش ، ونسيء الجوار ، ويأكل القوي منَّا الضعيف ، حتى بعث الله فينا رجلاً نعرف أمانته ، وصدقه ، وعفافه فدعانا إلى الله لنعبده ، ونوحِّده ، ونخلع ما كان يعبد آباؤنا من الحجارة والأوثان ، وأمرنا بصدق الحديث ، وأداء الأمانة ، وصلة الرحم ، وحسن الجوار .
 يتضح لكم أيها الإخوة أنَّ الإسلام في حقيقته مكارم أخلاقية ..

(( بني الإسلام على خمس ... ))

[ من الجامع لأحكام القرآن ]

 هذه الخمس هي دعائم الإسلام ، وليست هي الإسلام ، الإسلام بناءٌ أخلاقي . عارضوه ، وائتمروا عليه ، وأخرجوه ؛ وأموالهم عنده ، ماذا يعني ذلك ؟ أموالهم ، ودائعهم ، نفائسهم كانت عنده صلى الله عليه وسلم ، كان اسمه (محمد الأمين) .
 فأيُّ صلاةٍ تُصليها إن لم تكن هناك أمانةٌ تشدُّ الناس إليك ؟
 أيَّة صلاةٍ تصليها إن لم تكن صادقاً ؟
 أية صلاةٍ تصليها إن لم تكن نصوحاً ؟
 أيَّة صلاةٍ تصليها إن لم تكن مستقيماً ؟
 أية صلاةٍ تصليها إن لم تكن عزيزاً ؟
 قال عليه الصلاة والسلام :

(( الإيمان عفيف عن المطامع ، عفيف عن المحارم ))

[ من الجامع الصغير عن محمد بن النضر ]

 إذاً الدرس الثاني ؛ لا يستكمل الرجل أن يكون مسلماً ، أو أن يكون مؤمناً ، إلا إذا كان أخلاقياً ، إذا كان صادقاً ، إذا كان أميناً ، إذا كان عفيفاً ، إذا كان حليماً ، إذا كان مُتسامحاً ، إذا كان مُنْصِفاً .
 يا رسول الله اشهد أني نَحَلْتُ ابني هذه الحديقة .
 قال عليه الصلاة والسلام :

(( أكلهم وهبت له مثل هذا ؟ ))

 قال : لا .
 قال :

(( فلا تشهدني إذاً فإني لا أشهد على جور ))

[ من الجامع لأحكام القرآن ]

 سيدنا عمر رضي الله عنه عمر كان يقول :
 من شاء صام ومن شاء صلَّى ولكنَّها الاستقامة .

 

الدرس الثالث : التوفيق .

 أيها الإخوة الأكارم ؛ شيءٌ آخر يضاف إلى دروس الهجرة : أن الذي يأخذ بالأسباب يستحق التوفيق .
 لمَّا دخل النبي عليه الصلاة والسلام غار ثور ، ومعه الصديق رضي الله عنه ، جاء العنكبوت فنسج على مدخل الغار ، وجاءت الحمامة ، وجاء المطاردون ، ووصلوا إلى باب الغار ، عندئذٍ قال الصديق : يا رسول الله لو نظر أحدهم إلى موطئ قدمه لرآنا . قال عليه الصلاة والسلام :

(( يا أبا بكر ما ظنُّك باثنين الله ثالثهما ؟! ))

[ من الجامع لأحكام القرآن ]

 أي إذا كان الله معك فمن عليك ؟ وإذا كان عليك فمن معك ؟
 تَرْوي كُتُب السيرة أن سيدنا أبا بكر قال : يا رسول الله لقد رأونا . وقعت عين أحدهم عليه ، قال :

(( يا أبا بكر ألم تقرأ قوله تعالى ))

﴿ وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ ﴾

[ سورة الأعراف الآية : 198 ]

 إذا أخذت بالأسباب قد تستحقُّ إكراماً مِن الله عزًَّ وجل . لذلك قال علماء العقيدة :
 لا تكون الكرامة إلا في المستقيم .
 الكرامة حق ولكن الله عزَّ وجل لا يمنحها إلا لمن تأدَّب مع سُنَنِهِ ، وتأدَّب مع قوانين الكون ، إذا أخذت بها تستحق الكرامة ، هذه كرامة ؛ أن يُنصر النبي الكريم بسببٍ صغيرٍ صغير ، بعنكبوتٍ نسج خيوطه على مدخل الغار ، بحمامةٍ وقفت على مدخل الغار ، استنبطوا أن هذا منذ سنوات ، وكيف بإمكان النبي أن يدخل إلى هذا الغار ؛ والعنكبوت قد نسج عليه خيوطه ؟ إذا وفِّقت في التجارة ، إذا وفِّقت في الامتحان فلأنك أخذت بالأسباب ، حينما تأخذ بالأسباب تستحق توفيق الله العليّ القدير ..

﴿ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ ﴾

[ سورة هود الآية : 88 ]

 قال العلماء : هذه الآية تعني أن هدفاً ما على وجه الأرض لا يمكن أن يتحقق إلا بتوفيق الله .
 لذلك : من ابتغى أمراً بمعصيةٍ كان أبعد مما رجا ، وأقرب مما اتقى . هذا الذي يبتغي الربح عن طريق شيءٍ محرَّم ، عن طريق شيءٍ حرَّمه الله ، أو بطريقةٍ حرَّمها الله ، أو بطريقة كسب مالٍ حرَّمها الله ، أو ببضاعةٍ حرمها الله ، أو بالكذب ، أو بالأَيْمان الكاذبة ، هذا الذي يبتغي الربح بمعصية بعُد عنه الربح ، وربما جمع مالاً كثيراً فدفعه في ساعةٍ واحدة .
 أيها الإخوة الأكارم ؛ من توفيقات الله عزَّ وجل أن النبي عليه الصلاة والسلام بعد أن أمضى مراحل في طريقه إلى المدينة ، علمت قريشٌ أن محمداً صلى الله عليه وسلَّم قد أُفلِتَ مِن قبضتها ، فاضطربت ، وهاجت ، وزمجرت ، ووضعت مئتَي ناقة لمن يأتيها بالنبي حياً أو ميتاً.

 

سراقة والنبي .

 سراقة رأى الجائزة كبيرة ، لن يحصِّلها بالعمل ولو دام سنواتٍ طويلة ؟ فركب فرسه ، واتَّجه صوب المدينة ليقبض على النبي عليه الصلاة والسلام ؛ ويستحق الجائزة الكبيرة .
 تروي كتب السيرة أن سيدنا الصديق لشدة حبه للنبي عليه الصلاة والسلام .

تنبيه :

 في هذه المناسبة النبي عليه الصلاة والسلام ، من دلائل عبقريته ، ودلائل نبوته ، وكماله البَشَري أنه كان يعرف لكل أصحابه حقوقه ، قال عن سيدنا الصديق :

(( سدوا كل خوخة في هذا المسجد غير خوخة أبي بكر ))

[ الدر المنثور في التفسير بالمأثور ]

(( ما ساءني قط ، أعطاني ماله ، وزوجني ابنته ، فاعرفوا له ذلك ))

 هذا الصحابي الجليل كان يسير مرَّةً أمام النبي ، ومرَّةً خلف النبي ، ومرَّةً عن يمينه ، ومرَّةً عن شماله ، يحرص عليه أشد من حرصه على نفسه ، كان يقول :
 يا رسول الله لو هلكت أنا لهلك رجلٌ واحد ، ولو هلكت أنت لهلكت أمَّة .
 رأوا شبحاً يتبعهم ، وعرفوا أنه سُراقة ، فقال أبو بكرٍ :
 يا رسول الله لقد رهقنا ؛ يعني أدركنا .
 فرفع النبي الكريم يديه إلى السماء وقال :

(( يا رب اكفنا سراقة بما شئت وكيف شئت ))

﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ﴾

[ سورة المائدة الآية : 67 ]

 معنى

﴿ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ﴾

 أي أن الله عزَّ وجل يعصم هذا الدين من أن يُغتال باغتيالك ، قال :

(( يا رب اكفنا سراقة بما شئت وكيف شئت ))

 فغاصت قدما فرس سُراقة في الرمل ، ووقع على الرمل ، وتعفَّر بالرمل ، ظنَّ أن هذا شيئاً عادياً ، قيل : لكل جوادٍ كبوة ، ولكل حسامٍ نبوة ، ولكل عالمٍ هَفْوَة .
 مرةً ثانية تعثَّرت ، أدرك عندئذٍ أن هذا رسول الله ، وأنه ممتنعٌ منه ، فناجاه ، وتوسَّل إليه أن يعفو عنه ، وعرض عليه طعاماً وشراباً ، فاعتذر النبي عن أن يأخذ منه شيئاً ، وقال له :

(( يا سراقة عمي علينا ))

 فرجع سراقة في طريق مكة ، وكلَّما رأى أناساً يطاردون النبي يقول :
 قد كفيتم هذا الوَجه .
 لا تتعبوا أنفسهم ، قد كفيتم هذا الوجه .
 يا أيها الإخوة المؤمنون ؛ كيف ينقلب المُطارد حارساً ؟ سراقة اتجه إلى طريق المدينة ليُطارد النبي ، فانقلب حارساً ، انقلب حارساً له وصار من أعظم أصحابه ، ووعده النبي بتاج كِسْرى وسوار قيصر ، وقد تحقَّق وعد النبي عليه الصلاة والسلام .

كن مع الله ترى الله معك  واترك الكل وحـاذر طمعـك
وإذا أعطاك مـن يمـنعه ؟  ثم من يعطي إذا ما منعك ؟
* * *

 هذه ملَّة طه خذ بها ..

(( ما من مخلوقٍ يعتصم بي من دون خلقي أعرف ذلك من نيَّته ، فتكيده أهل السماوات والأرض ، إلا جعلت له من بين ذلك مخرجا ))

[ من كنز العمال عن علي ]

 أيها الإخوة المؤمنون ؛ أرجو الله عزَّ وجل أن يمكنني في الأسبوع القادم من استنباط بعض الدروس البليغة التي نحن في أشد الحاجة إليها ، من الهجرة النبوية العظيمة التي كانت سبباً في نشر الدين في أرجاء الأرض .
 أيها الإخوة المؤمنون ؛ حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوا أعمالهم قبل أن توزن عليكم ، واعلموا أن ملك الموت قد تخطَّانا إلى غيرنا ، وسيتخطَّى غيرنا إلينا فلنتخذ حذرنا ، الكيِّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني .

والحمد لله رب العالمين
***

الخطبة الثانية :

 الحمد لله رب العالمين ، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله صاحب الخُلُق العظيم ، اللهمَّ صل وسلم وبارك على سيدنا محمد ، وعلى آله وأصحابه الطيِّبين الطاهرين ، ومن تبعهم إلى يوم الدين .

خصائص الفضة :

 أيها الإخوة الأكارم ؛ قبل سَنَةٍ أو أكثر أخٌ كريم من رواد المسجد ، ذكر لي : أن معامل تعبئة الزجاجات الغازية ، يجعلون في آخر مرحلة أنابيب من الفضَّة ، يجري الماء فيها من أجل التعقيم من الجراثيم .
 هذا كلامٌ طيب ، ولأنه كلامٌ شفهي ما جرؤت على إعلانه على منبر رسول الله ، لأن الكلمة أمانة ، لكنه قبل يومين وقعت يدي على كتاب يتحدَّث عن الفلذات وعن المعادن ، ففتحت على عنوان (الفضة) وقرأت عنها ، فإذا في هذا الكتاب ومؤلفو الكتاب ـ الكتاب مترجم ، ومؤلفو الكتاب لا يعرفون شيئاً عن كتاب الله ، ولا عن الإسلام إطلاقاً ، بل ربما كانوا لا يقيمون قيمةً لكل الأديان ـ مؤلِّفو الكتاب يقولون :
 إن للفضة خاصةٌ هامة ـ هذه العبارة الدقيقة ، كما وردت ـ وهي أنها تقضي على الجراثيم الموجودة في الماء ، لخاصةٍ إشعاعيَّة ، فإما أن يمر الماء في أنابيب ، وإما أن توضع فيه بعض قطع الفضَّة .
 وفي مكانٍ آخر يقولون : هذا الفِلْز قاتلٌ للبكتريات .
 وفي مكانٍ ثالث يقولون : إن مجرَّد تمَّاس الماء مع معدن الفضة فإنه يَطْهُرُ مما به من جراثيم .
 وفي مكانٍ آخر يقول مؤلف الكتاب : من أجل تعقيم لترٍ من الماء يكفي أن توضع فيه بضعة أجزاء من المليار من الغرام .
 وشيءٌ خامس : أن لون الفضة لا يتغيَّر إلا إذا كان الجو غير نقيٍ ، لو أن في الجو غازات غير صحيَّة لتغيَّر لون الفضة ، فكأن معدن الفضة صار مقياساً لنقاوة الجو .
 فضلاً عن الميزات الكثيرة للفضة التي تستخدم في الصناعة ، وفي التصوير ، وفي التوصيلات ، وما شاكل ذلك ، وفضلاً عن قيمة الفضة كمعدنٍ لتقييم السلع ، نقد ، الله سبحانه وتعالى في سورة الإنسان يقول :

﴿ وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَ * قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً ﴾

[ سورة الإنسان الآيات : 15-16 ]

 لِمَ ذكر الله عزَّ وجل الفضة ولم يذكر الذهب ، والذهب أثمن ، والذهب آنيةٌ من أواني أهل الجنة ؟! هذه إشارةٌ قرآنيةٌ إلى خواصِّ الفضة ، حينما قال الله عزَّ وجل :

﴿ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ﴾

[ سورة الأنعام الآية : 38 ]

 هذه الآية تؤكِّد أن الأصول العلميَّة موجودةٌ في كتاب الله سبحانه وتعالى .

 

دعاء الهجرة :

 أيها الإخوة الأكارم ؛ سأقرأ لكم الدعاء الذي قرأه النبي عليه الصلاة والسلام ، قبل أن يخرج من بيته مهاجراً ، حينما ركب الناقة دعا بهذا الدعاء قال :
 الحمد لله الذي خلقتني ولم أكُن شيئاً ، اللهمَّ أعني على هول الدنيا ، وبوائق الدهر ، ومصائب الليالي والأيام .
 اللهم اصحبني في سفري ، واخلفني في أهلي ، وبارك لي فيما رزقتني ، ولك ربي فذللني ، وعلى صالح خُلقي فقوني ، وإليك ربي فحببني ، وإلى الناس فلا تكلني .
 رب المستضعفين أنت ربي ، أعوذ بوجهك الكريم الذي أشرقت له السماوات والأرض ، وكُشفت به الظلمات ، وصلحَ عليه أمر الأوَّلين والآخرين ، أن تحلَّ عليَّ غضبك ، وأن تنزل بي سخطك ، وأعوذ بك من زوال نعمتك ، وفجأة نِقمتك ، وتحوّل عافيتك ، وجميع سخطك ، لك العتبى عندي حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بالله .
 هذا دعاءه صلى الله عليه وسلم حينما خرج مهاجراً .

الدعاء :

 اللهمَّ اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولَّنا فيمن توليت ، وبارِك اللهمَّ لنا فيما أعطيت ، وقنا واصرف عنا شرَّ ما قضيت ، فإنك تقضي ولا يُقضى عليك .
 اللهمَّ اغفر ذنوبنا ، واستر عيوبنا ، واقبل توبتنا ، وفكَّ أسرنا ، وأحسن خلاصنا ، وبلِّغنا مما يرضيك آمالنا ، واختم بالصالحات أعمالنا، مولانا رب العالمين .
 اللهمَّ إنَّا نعوذ بك من الفقر إلا إليك ، ومن الذل إلا لك ، ومن الخوف إلا منك ، نعوذ بك من عضال الداء ، ومن شماتة الأعداء ، ومن السلب بعد العطاء ، مولانا رب العالمين .
 اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا ، وأصلح لنا دنيانا التي فيها مَعاشنا ، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردُّنا ، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خَير ، واجعل الموت راحةً لنا من كل شر .
 اللهمَّ اجعل حبَّك أحبَّ الأشياء إلينا ، اللهمَّ ارزقنا حبك ، وحبَّ من يحبك ، وحب عملٍ صالحٍ يقرِّبنا إلى حبك ، وصلى الله على سيدنا محمد .
 اللهمَّ بفضلك ورحمتك أعل كلمة الحق والدين ، وانصر الإسلام وأعزَّ المسلمين ، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى ، إنه على ما تشاء قدير ، وبالإجابة جدير .

تحميل النص

إخفاء الصور