- الخطب
- /
- ٠1خطب الجمعة
الخطبة الأولى:
الحمد لله ثم الحمد لله ، الحمد لله الذي هدانا لهذا ، و ما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ، و ما توفيقي و لا اعتصامي ولا توكُّلي إلا على الله ، و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إقراراً بربوبيته وإرغاماً لمن جحد به وكفر ، وأشهد أن سيدنا محمداً صلَّى الله عليه وسلم رسولُ الله سِّيدُ الخلق والبشر ، ما اتَّصلت عينٌ بنظر أو سمعت أذنٌ بخبر ، اللهمّ صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وعلى ذرِّيته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علِّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علّمتنا وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً و ارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً و ارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
الإسلام نبع صاف :
أيها الأخوة المؤمنون ؛ ينبغي أن يعلم المسلم حقيقة الإسلام ، كما كان على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم ، و على عهد صحابته الكرام .
الإسلام أيها الأخوة نبع صاف ، فإن تتبعنا مسار هذا النبع لرأينا أنه تلحق به روافد قد تكون غريبة على مائه ، فإذا وصلنا إلى المصب ، أو فإذا وصلنا إلى مسافة بعيدة عن النبع وجدنا الماء مختلفاً ، وجدنا الماء الذي في مسافة بعيدة عن نبع الماء مختلفاً عن الماء الذي في النبع ، فلا بد من العودة إلى الينابيع ، لا بد من العودة إلى الأصول ، لا بد من العودة إلى حقيقة الإسلام كما أرادها الله عز وجل .
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ الإسلام حرَّر العباد من قيود الوساطة ، ومن قيود المكان ، ومن كل مظاهر العبودية لغير الواحد الديَّان ، فجعل الإسلامُ الأرضَ كلها محراباً كبيراً للمسلم ، حيثما توجَّه يستطيع أن يتوجه بعبادته إلى الله ، قال تعالى :
﴿وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ﴾
و قد قال عليه الصلاة و السلام ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
(( أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ وَجُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ فَلْيُصَلِّ وَأُحِلَّتْ لِي الْمَغَانِمُ وَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً))
في الإسلام حقيقتان كبيرتان :
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ في الإسلام حقيقتان كبيرتان ، الحقيقة الأولى أن الله سبحانه و تعالى فوق عباده ، علوًّا و قهراً و سلطاناً و تصرُّفاً ، لا يشبهه شيء ، و لا يحكم عليه شيء ، و لا يقع في ملكه إلا ما يريد ، قال تعالى :
﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ﴾
قال تعالى :
﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾
قال تعالى :
﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ﴾
الخلق جميعاً في قبضته ، لا يملكون لأنفسهم فضلاً عن غيرهم ضراً و لا نفعاً و لا موتاً و لا حياة و لا نشوراً ، الله سبحانه و تعالى وضَّح هذا المعنى في آية من أبرز آيات القرآن الكريم ، ألا وهي آية الكرسي ، قال تعالى :
﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ﴾
أي ما شاء الله كان ، و ما لم يشأ لم يكن ، إذا أراد الله شيئاً في الكون وقع ، و إذا وقع شيء أراده الله عز وجل ، لا يملك مخلوق أن يؤثِّر في إرادة الخالق ، هذه الحقيقة الأولى ، أي إنسان يملك مفاتيح الجنة ؟ هذا ليس في سلطته ، لذلك حين ادَّعى بعضُ الناس هذه الدعوة وقعوا في ضلال بعيد ، و التاريخ - تاريخ العصور الوسطى - يبيِّن تلك المهزلة التي كان فيها رجالُ الدين يبيعون قسائم من الجنة ، و كيف أن رجلاً خبيثاً اشترى جهنم بثمن بخس ، و صار يشيع بين الناس أن جهنم قد اشتراها ، و أنه لن يدخل إليها أحداً ، فاضطُر الذي يبيع تلك القسائم المتعلقة بالجنة أن يشتري منه جهنم بأضعاف مضاعفة ، أن يملك إنسان لإنسان دخولَ الجنة ، هذا شيء مرفوض رفضاً كليًّا في نص الكتاب و السنة .
شيء آخر أو حقيقة ثانية ، الله سبحانه و تعالى في الحقيقة الأولى فوق عباده ، قال تعالى :
﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ﴾
لا يشبهه شيء ، و لا يحكم عليه شيء ، و لا يقع في ملكه شيء إلا إذا أراده ، الحقيقة الثانية أن الله تعالى مع عظمته و علوِّ شأنه قريب من خلقه ، بل هو معهم أينما كانوا، في جلوتهم ، و في خلوتهم ، يسمع و يرى ، يوحي و يهدي من سأله ، ويجيب دعاء من دعاه، فهو تعالى قريب في علوِّه ، عليٌّ في دنوِّه ، قد جمع الله تعالى العلوَّ و الدنو و العظمة و القرب في آن واحد ، قال تعالى :
﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾
الله سبحانه و تعالى عالي الشأن قريب من الإنسان :
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ الله سبحانه و تعالى عالي الشأن ، قريب من الإنسان، عظيم مع الإنسان أينما كان ، هاتان الحقيقتان مهمَّتان ، وهما من أصول العقيدة الإسلامية ، الله سبحانه و تعالى كما وصفه سيدنا إبراهيم ، قال تعالى :
﴿الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ * وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ ﴾
هل بعد هذا القُرب قربٌ ؟ هل بعد هذا الدنوِّ دنوٌّ ؟ آية ثانية تؤكد أن الله مع الإنسان ، مع خواطره ، مع وساوسه ، مع طموحاته ، مع صراعاته ، مع ما يختلج في قلبه ، مع ما يرد إلى ذهنه ، مع تصوراته ، مع نواياه ، قال تعالى :
﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾
آية ثالثة تؤكد ذلك القرب قال تعالى :
﴿ فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ ﴾
أحد أصحاب النبي عليه الصلاة و السلام سأل النبيَّ صلى الله عليه و سلم قال ، عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ :
((كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزَاةٍ فَجَعَلْنَا لَا نَصْعَدُ شَرَفًا وَلَا نَعْلُو شَرَفًا وَلَا نَهْبِطُ فِي وَادٍ إِلَّا رَفَعْنَا أَصْوَاتَنَا بِالتَّكْبِيرِ قَالَ : فَدَنَا مِنَّا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا أَيُّهَا النَّاسُ ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ فَإِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا إِنَّمَا تَدْعُونَ سَمِيعًا بَصِيرًا ، ثُمَّ قَالَ : يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ قَيْسٍ أَلَا أُعَلِّمُكَ كَلِمَةً هِيَ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ ؟ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ ))
فنزل قوله تعالى :
﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ﴾
في هذه الآية شيء يلفت النظر ، هو أن قوله تعالى :
﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ﴾
أو ما شابه ذلك قال تعالى :
﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا﴾
و قال تعالى :
﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ العفو ﴾
قال تعالى :
﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ ﴾
و قال تعالى :
﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ ﴾
انعدام الوساطة بين العبد و ربه :
في القرآن الكريم اثنتا عشرة آية مصدَّرة بقوله تعالى : يسألونك ، و يأتي الجواب، وبين السؤال و الجواب كلمة " قل" أي أنت يا محمد قل لهم كذا و كذا ، إلا هذه الآية :
﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ﴾
لا يوجد " قل " في آية واحدة استنبط العلماء منها أنه ليس بين العبد و بين الله حجاب ، أينما كنت ، في أية حالة ، في أي مكان ، في أي زمان ، إذا قلت : يا رب ، قال الله لك : لبَّيك يا عبدي ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
((يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرُ فَيَقُولُ مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ ))
نزول دنوّ ، لا كما يفهم الفرق الضالة من أنه نزول مجسَّد ، أهل السنة و الجماعة لا تجسِّد و لا تعطِّل ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
((يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرُ فَيَقُولُ مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ ))
أيها الأخوة المؤمنون ؛ النبي عليه الصلاة و السلام رأى بعض أصحابه يجهرون بالدعاء ، و يرفعون أصواته بالدعاء ، فقال عليه الصلاة و السلام بعد هذا الدعاء عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ :
((كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزَاةٍ فَجَعَلْنَا لَا نَصْعَدُ شَرَفًا وَلَا نَعْلُو شَرَفًا وَلَا نَهْبِطُ فِي وَادٍ إِلَّا رَفَعْنَا أَصْوَاتَنَا بِالتَّكْبِيرِ قَالَ : فَدَنَا مِنَّا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا أَيُّهَا النَّاسُ ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ فَإِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا إِنَّمَا تَدْعُونَ سَمِيعًا بَصِيرًا ثُمَّ قَالَ : َا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ قَيْسٍ أَلَا أُعَلِّمُكَ كَلِمَةً هِيَ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ ))
يؤكد هذا قول الله عز وجل متحدثا عن سيدنا زكريا ، قال تعالى :
﴿ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا * إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّاً﴾
تستطيع و أنت مطبق الشفتين أن تناجي ربك ، و أن تسأله ، و أن تتوسل إليه ، وأن تستجير به ، وأن تحتمي بحماه ، وأن تسأله حاجتك كلها ، وأنت مطبق الشفتين ، قال تعالى :
﴿إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّاً﴾
باب الله مفتوح لكل الخلق :
يا أيها الأخوة المؤمنون؛ إذًا ليس هناك في الأرض إنسان واحد يستطيع أن يحتكر الوساطة بين العبد و بين الله عز وجل ، باب الله مفتوح لكل الخلق ، لكن العلماء يسرِّعون الخطا ، لكن العلماء يعطون من علمهم ما يقرِّب المسافة بين العباد و بين ربهم ، لكن العلماء يعطون خبراتهم ، يعطون ما تعلموه من كتاب الله ، ومن سنة رسوله ، ليس غير، العالم ينقل لك عن الله وعن رسوله ، فقد ورد في الأثر فيما معناه : " لا تصاحب إلا من ينهض بك إلى الله حالُه و يدلك على الله مقاله " ليس غير ، لا يستطيع أيُّ إنسان أن يفعل شيئاً إلا الله ، إذا كان النبيُّ عليه الصلاة السلام وهو سيد الخلق و حبيب الحق يقول :
﴿ قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلَا ضَرّاً ﴾
فإذا كان النبي عليه الصلاة و السلام لا يملك لنفسه نفعاً و لا ضراً ، فلأن لا يملك لغيره من باب أولى .
أيها الأخوة المؤمنون ؛ لله وحده الخلق والأمر ، و المِلك و المُلك ، و العقوبة و العطف ، هناك من زعم أن الملائكة بنات الله ، فردَّ الله عليهم فقال :
﴿وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ﴾
و قال تعالى :
﴿ وَقَالَتْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ﴾
نحن وسطاء بين الخالق و بين الخلق ، نحن أبناء الله وأحباؤه ، فردَّ الله عليهم ، قال تعالى :
﴿ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ ﴾
تقييم الناس من شأن الله وحده :
شيء آخر تتمة هذه الآية :
﴿يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾
سيدنا عيسى عليه و على نبينا أفضل الصلاة و السلام قال :
﴿إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾
ليس هذا من شأني ، للعبد شأن ، و للرب شأن ، لك شأن ، و لله شأن ، أنت ليس لك أن تقيِّم الناس ، هذا من شأن الله ، قال تعالى :
﴿وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً﴾
حتى النبي عليه الصلاة و السلام قال الله في حقه :
﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ * إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ * فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ * إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ ﴾
الله سبحانه و تعالى أمر النبي و هو سيد الخلق و حبيب الحق أمره أن يقول للناس :
﴿ قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلَا ضَرّاً ﴾
أيها الأخوة الأكارم ، في آية أخرى يقول الله عز وجل على لسان المصطفى صلى الله عليه و سلم :
﴿وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾
لو كنت أعلم الغيب ، النبي عليه الصلاة و السلام لا يعلم الغيب ، فكلُّ من يدَّعي أنه يعلم الغيب فهو كاذب ، بنص هذه الآية ، و النبي عليه الصلاة و السلام لا يملك نفعاً و لا ضراً لنفسه ، فلأن لا يملك هذا النفع والضر لغيره من باب أولى .
العلم و العمل الصالح شيئان يقربان العبد من الله عز وجل :
شيء آخر ؛ يقول الله عز وجل في الحديث القدسي : "إذا تقرب إلي عبدي شبراً " لكن هناك شيئين يقربانك من الله عز وجل بنص الكتاب و السنة ، الشيء الأول هو العلم ، لقول الله عز وجل :
﴿ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ﴾
العلم ، من هنا قال عليه الصلاة و السلام : "لا بورك لي في صباح يوم لم أزدد فيه من الله علماً " وقال تعالى :
﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾
و قال تعالى :
﴿وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً﴾
كن عالماً أو متعلماً أو مستمعاً أو محباً ، و لا تكن الخامسة فتهلك ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ قَالَ : ذُكِرَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلَانِ أَحَدُهُمَا عَابِدٌ وَالْآخَرُ عَالِمٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
((فَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِي عَلَى أَدْنَاكُمْ ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ وَأَهْلَ السَّماَوَاتِ وَالْأَرَضِينَ حَتَّى النَّمْلَةَ فِي جُحْرِهَا وَحَتَّى الْحُوتَ لَيُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الْخَيْرَ))
فضل العالم على العابد كفضل البدر على سائر الكواكب ، إذا أردت الدنيا فعليك بالعلم ، و إذا أردت الآخرة فعليك بالعلم ، و إذا أردتهما معا فعليك بالعلم ، العلم إذاً وسيط يقرِّبك إلى الله عز وجل ، يوسِّع أفقك ، و يزيد معرفتك بالله عز وجل ، يزيدك علماً بعظمة الله، بقدرته ، بحكمته ، برحمته ، بلطفه ، بعلمه ، بسمعه ، ببصره ، والشيء الثاني العمل الصالح ، لقوله تعالى :
﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً﴾
و الله سبحانه و تعالى يردُّ على تخرُّصات المتخرِّصين ، و دعاوى المدَّعين ، و كذب الكاذبين ، فيقول الله عز وجل :
﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلَا نَصِيراً﴾
و قال تعالى :
﴿وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيراً﴾
أيها الأخوة المؤمنون ؛ أردت من هذا الموضوع أن يعلم المؤمن علم اليقين أن باب الله مفتوح على مصراعيه ، لك أن تخاطبه في كل ساعة ، وفي كل وقت ، في الليل و في النهار ، في أي مكان ، في خلوتك ، في جلوتك ، و لك شفيعان ؛ الشفيع الأول هو العلم ، و الشفيع الثاني هو العلم الصالح .
أيها الأخوة المؤمنون ؛ حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، واعلموا أن ملك الموت قد تخطَّانا إلى غيرنا ، و سيتخطَّى غيرنا إلينا ، فلنتَّخذ حذرنا ، الكيَّس من دان نفسه و عمل لما بعد الموت ، و العاجز من أتبع نفسه هواها و تمنى على الله الأماني .
* * *
الخطبة الثانية :
أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين ، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله ، صاحب الخلق العظيم ، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
العلقة :
أيها الأخوة المؤمنون ؛ ربنا سبحانه و تعالى يقول :
﴿مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً﴾
وفي آية ثانية يقول الله عز وجل :
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً ﴾
هذه الآية في سورة الحج ، من هذه المراحل التي نوَّه الله بها مرحلة العلقة ، و كيف أن الله سبحانه و تعالى ذكر هذه المرحلة في القرآن الكريم فهذه النطفة أنواع ثلاثة ، نطفة الذكر وهي الحوينات المنوية ، و نطفة الأنثى وهي البويضة ، ونطفة الأمشاج ، وهي البويضة الملقَّحة ، هذه البويضة الملقحة تنقسم انقسامات سريعة في غضون أسبوع من الزمن ، إلى أن تصبح هذه البويضة الملقحة من شدة انقساماتها كالتوتة تماماً ، و لكن روعة الخلق أن هذا الانقسام لا يرافقه نموٌّ في الحجم ، لأن هذا الانقسام يجري في أنبوب ضيِّق ، فإذا نما حجم البويضة تعطَّل مسيرها إلى أن تصل هذه البويضة الملقحة المنقسمة التي يسميها العلماء التوتة إلى أن تصل إلى الرحم ، لماذا سماها الله علقة ؟ لأن وظيفتها الأولى أن تعلق في جدار الرحم، كيف تعلق ؟ العلماء قالوا : إن الغشاء الخارجي لهذه البويضة الملقحة التي هي كالتوتة مخملي الملمس ، فإذا وقف على جدار الرحم تعلق بجداره ، ثم إن هذه الخلايا التي على غلاف الكرة الجرثومية كما يسميها العلماء في المرحلة التالية خلايا آكلة ، تأكل غشاء الرحم لتصل إلى الطبقة التي يمكن أن تعلق عليها ، ثم إن هناك معاليق - جمع معلاق - تخرج من هذه البويضة أو من هذه الكرة الجرثومية لتعلق في جدار الرحم ، و في جدار الرحم معاليق مشابهة، كي تتشابك هذه المعاليق كي تعلق في جدار الرحم ، من هنا سماها الله العلقة , وفوق هذا و ذاك لا بد من كيس هو الكيس المشيمي يربطها ربطاً محكماً ، فحينما سماها الله العلقة لأن وظيفتها الأولى في هذه المرحلة أن تعلق في جدار الرحم كي تمتص منه الغذاء ، فبين الجسم المخملي إلى المعاليق الخارجة من هذه الكرة إلى المعاليق التي في غشاء الرحم الداخلي إلى الخلايا الآكلة ، هذا كله يؤدِّي إلى أن تعلق هذه الكرة الجرثومية كما يسميها العلماء في جدار الرحم ، لذلك يقول الله سبحانه و تعالى :
﴿ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً﴾
الدعاء :
اللهم اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولَنا فيمن تولَيت ، وبارك اللهم لنا فيما أعطيت ، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت ، فإنك تقضي ولا يقضى عليك ، اللهم أعطنا ولا تحرمنا ، أكرمنا ولا تهنا ، آثرنا ولا تؤثر علينا ، أرضنا وارض عنا ، اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك ، ومن طاعتك ما تبلغنا بها جنتك ، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا ، ومتعنا اللهم بأسماعنا ، وأبصارنا ، وقوتنا ما أحييتنا ، واجعله الوارث منا ، واجعل ثأرنا على من ظلمنا ، وانصرنا على من عادانا ، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا ، ولا تسلط علينا من لا يخافك ولا يرحمنا ، مولانا رب العالمين ، اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك ، وبطاعتك عن معصيتك ، وبفضلك عمن سواك ، اللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا ، وآمنا في أوطاننا ، واجعل هذا البلد آمناً سخياً رخياً وسائر بلاد المسلمين ، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين ، ولا تهلكنا بالسنين ، ولا تعاملنا بفعل المسيئين يا رب العالمين ، اللهم بفضلك ورحمتك أعلِ كلمة الحق والدين ، وانصر الإسلام وأعز المسلمين ، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى ، إنك على ما تشاء قدير ، وبالإجابة جدير .