وضع داكن
28-03-2024
Logo
الخطبة : 0396 - ثمار الحج - زيارة النبي.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الخطبة الأولى:
 الحمد لله ثم الحمد لله ، الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ، وما توفيقي ولا اعتصامي ولا توكُّلي إلا على الله . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقراراً بربوبيته وإرغاماً لمن جحد به وكفر . وأشهد أنَّ سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلَّم ، رسول الله سيِّد الخلق والبشر ، ما اتصلت عينٌ بنظرٍ أو سمعت أذنٌ بخبر . اللهمَّ صلّ وسلم وبارك على سيدنا محمد ، وعلى آله وأصحابه ، وعلى ذريَّته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين . اللهم ارحمنا فإنك بنا راحم ، ولا تعذبنا فإنك علينا قادر ، والطف بنا فيما جرت به المقادير ، إنك على كل شيء قدير . اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .

الحج :

 أيها الأخوة المؤمنون ؛ الموضوع الذي بدأت به قبل الحَج محوره أن الدين كله حُسْنُ الخلق ، وأن هناك تلازماً ضرورياً بين التديُّن الصحيح وبين الخُلُق القويم ، ولكنني أشعر أن أغلبكم ينتظر مني خطبةً موضوعها " الحج " ، لا من حيث أحكامه ، وآدابه ، ومناسكه كما وردت في كتب الفِقه ، ولكن من حيث التجربة العملية ، والثمار التي يمكن للحاج أن يجنيها من حَجِّه .
 أيها الأخوة الأكارم ؛ الحج كما تعلمون فريضةٌ خامسة على المُستطيع ، لا مندوحة من تأديَتها ، فمن ترك الحج فقد ترك فريضةً مُحْكَمَة ، وما دام لابدَّ من تأدية هذه الفريضة ، فالأولى أن تؤدَّى في سن الشباب ، فالأولى أن تؤدَّى وأنت صحيح قوي ، الأولى أن تؤدَّى وأنت غَنيّ ، الأولى أن تؤدى وسُبل الحج ميسَّرة .
 لذلك ورد في الجامع الصغير من أحاديث البشير النذير حديثٌ دقيقٌ دقيق ، يقول عليه الصلاة والسلام :

((حجوا قبل ألا تحجوا))

[الجامع الصغير عن أبي هريرة]

 أيْ قبل ألا تتمكَّنوا مِنَ الحج ؛ إما لضعفٍ في البنية ، أو لضيقٍ في المال ، أو لصعوباتٍ وُضعت تلافياً للازدحام الشديد الذي تُعاني منه المشاعر المقدسة ، " حجوا قبل ألا تحجوا " ، هذه الحقيقة الأولى .
 أما أن يذهب الحاج إلى الديار المقدسة فيصبح عبئاً على الحُجَّاج لعللٍ كثيرةٍ يعاني منها ، فهذا مما يعيق صحة أدائه مناسك الحج ، ما دام الحج فريضةً مُحْكَمَةً ، تجب على المستطيع بدنياً ومالياً ، فلابدَّ من أدائها في الوقت المُناسب ، ولابدَّ من أدائها وأنت نَشيط ، ولابدَّ من أدائها وأنت صحيح ، من أجل أن تقطف الثمار اليانعة التي وعدك الله بها .

 

الحج عبادةٌ بدنيةٌ ماليةٌ وشعائرية في وقتٍ واحد :

 أيها الأخوة الأكارم ؛ هذه العبادة من نوعٍ خاص ، إذا كانت الصلاة عبادةٌ بدنية ، وإذا كانت الزكاة عبادةً مالية ، فالحج عبادةٌ بدنيةٌ ماليةٌ شعائرية في وقتٍ واحد .
 إذاً أراد الله من هذه العبادة أن يعين الإنسان على نفسه ، فجعل التفرُّغ أساساً لها، ومن كرمه تعالى أنه فضلاً عن التفرُّغ الحُكْمِيّ ، حينما يترك الإنسان بلده ، وهموم معاشه ، وأسرته ، ومشكلاتٍ يُعانيها ، حينما يدع بلده وما فيه من مشكلات فهذا تفرُّغ ، لكن الله جلَّ في عُلاه يضيف إلى هذا التفرُّغ تفريغاً من لَدُنْه ، فينسيك كل قضيةٍ تعاني منها ، يبعدك عن كل الهموم التي كانت معك ، التفرُّغ حُكْمَاً والتفريغ تكريماً من الله عزَّ وجل ، فهذه العبادة أساسها التفرُّغ ، وأساسها بذل المال والجهد والوقت ، ومع بذل المال والجهد والوقت يشعر الإنسان أنه قدَّم شيئاً ثميناً لهذه العبادة ، عندئذٍ تنعقد الصِلَةُ بينه وبين الله عزَّ وجل ، وإذا انعقدت الصِلة بينه وبين الله ، وإذا اصطلح مع الله ، وإذا استغفر الله ، وإذا حَسُنَت علاقته مع الله ، فقد حقَّق الهدف الأكبر من الحج .
 ألست في الدنيا من أجل أن تعرف الله ؟ ألست في الدنيا من أجل أن تُقْبِل عليه ؟ ألست في الدنيا من أجل أن تستقيم على أمره ؟ ألست في الدنيا من أجل أن تفعل الصالحات تقرُّباً له ؟ إن الحجَّ بما فيه من تفرُّغٍ أولاً تفرغٍ حُكْمِيّ ، ولما فيه من تفريغٍ إلهيٍ إكراماً لك ، ولما فيه من بذل جهدٍ ووقتٍ ومال ، يعين نفسك على الاتصال بالله ، على أن تستغفره عما مضى . لذلك أبرز الأدعية في الحج :

((اللهمَّ إنك عفوٌ كريم تحب العفو فاعفُ عني يا كريم ))

 أبرز الأدعية في الحج :

((اللهمَّ اغفر وارحم واعفُ عما تعلم إنك أنت الأعزُّ الأكرم ))

 هذه واحدة .

 

العبادات في الإسلام كلها مُعَلَّلة في القرآن الكريم :

 الشيء الثاني : أن العبادات في الإسلام كلها مُعَلَّلةٌ في القرآن الكريم ، ألا ترى إلى أن الصلاة مُعَلَّلَة ؟ يقول الله عزَّ وجل :

﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ﴾

[ سورة العنكبوت : 45 ]

 ألا ترى أن الصيام مُعَلَّلٌ بالتقوى ؟ . .

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾

[ سورة البقرة : 183]

 ألا ترى أن الزكاة مُعَلَّلَةٌ أيضاً ؟ . .

﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ﴾

[ سورة التوبة : 103 ]

 فأين حِكمة الحج في القرآن الكريم ؟ قال الله عزَّ وجل :

﴿جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾

[ سورة المائدة : 97]

 قال العلماء : جعل الله الكعبة قياماً للناس ، أيْ فيها قيام أمر دينهم ، فإذا صحَّ دينهم ، وصحَّت وجهتهم ، وأخلصوا لربهم ، واستقاموا على أمره ، أصلح الله دنياهم . فإذا قال الله عزَّ وجل :

﴿جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ﴾

 أيْ فيها قيام أمر دينهم ودنياهم ، أيْ إذا اصطلح الإنسان مع الله ، وتعرَّف إليه ، ولزم منهجه ، فقد حقَّق المُراد الإلهي ، عندئذِ تأتي الآية الكريمة :

﴿مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ ﴾

[ سورة النساء : 147 ]

 إن عرفت الله وشكرته ، ما يفعل الله بعذابك في نص القرآن الكريم .

 

من علم أن الله يعلم و سيحاسب يستقيم على أمره :

 إذاً :

﴿جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ﴾

[ سورة المائدة : 97]

 هذه الآية أيها الأخوة دقيقةٌ جداً ، متى عَلِمْتَ أن الله يعلم فقد قطعت نِصف الطريق إلى الله ، إذا علمت أن الله يعلم ، ومن لوازم أنه يعلم سيحاسب ، عندئذٍ تستقيم على أمره .
 متى يعصي الإنسان ربه ؟ إذا ظنَّ أن الله غافلٌ عنه ، أو إذا ظن أن الله لا يعلم ، أو إذا ظن أنه يعلم ولكن لن يحاسِب ، أما إذا أيقنت ، أنت إذا أيقنت مع إنسانٍ أنك لن تتفلَّت من قبضته إذا عصيت أمره ، لن تعصي أمره ، هذه من قوانين النَفس ، فإذا علمت أن الله يعلم؛ يعلم سرك وجهرك ، يعلم نواياك ، يعلم مقاصدك ، يعلم ما أنت عليه في خلوتك ، في جلوتك ، مع الناس ، في بيتك ، في بيعك ، في شرائك ، إذا علمت أن الله يعلم ، فقد قطعت نصف الطريق إلى الله ، فإذا علمت أن الله يعلم وسيحاسب ، فقد استقمت على أمره ، وإذا استقمت على أمره حقَّقت كل شيء ، لأن الله عزَّ وجل يقول :

﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾

[ سورة الحجرات : 13 ]

 أيها الأخوة الأكارم ؛ يؤكِّد هذا المعنى قوله تعالى :

﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً ﴾

[ سورة الطلاق : 12]

 اختار الله عزَّ وجل من بين أسمائه كلِّها اسمين فقط ؛ أنه عليمٌ وأنه قدير ، أي أن علمه يطولك ، وأن قدرته تطولك ، فإذا تحقَّقت أن الله يعلم كل شيء ، يعلم السر وأخفى ، يعلم ما أسررت ويعلم ما خفي عنك أنت ، وأن العِلم مُقْتَضَاهُ المُحاسبة ، أيْ إذا استقمت على أمر الله فقد حققت المراد من وجودك في الدنيا ، إذاً . .

﴿جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾

[ سورة المائدة : 97]

من كان مع الله كان الله معه :

 الآية الثانية التي تتحدَّث عن حِكْمَةِ الحج ، وعن الثِمار اليانعة التي يقطفها الحاج، هي قوله تعالى :

﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً﴾

[ سورة آل عمران : 96-97]

 القرآن كما قال الإمام عليٌّ رضي الله عنه : حَمَّال أَوْجُه .

﴿وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً﴾

  أيْ من دخل البيت الحرام فهو في أمنٍ من الله عزَّ وجل ، ولكن المعنى الأوسع والأشمل أنك إذا دخلت هذا البيت حاجاً ، تائباً ، منيباً ، مُخْلصاً ، تبتغي رضوان الله عزَّ وجل فقد دخلت في أمْن الله ، دخلت في رعايته ، وفي حفظه ، وفي نصره ، وفي تأييده ، وفي توفيقه ، أيْ أنت في عين الله كما قال الله عزَّ وجل يخاطب النبيّ عليه الصلاة والسلام :

﴿فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا﴾

[ سورة الطور : 48 ]

 فالأمنُ الذي تعنيه الآية لا يقتصر على أنك آمنٌ وأنت في البيت الحرام ، إنك آمنٌ ما دُمْتَ مع الله عزَّ وجل ، فإذا كنت مع الله ترى الله معك .

 

ثمار الحج تقطف بعد الحج :

 أيها الأخوة الأكارم ؛ مِن لطائف الحَج أن ثمار الحج تقطفها بعد الحج ، كيف ؟
 إنك حينما قبَّلت الحجر الأسود ، أو حينما استلمت الحجر الأسود إن لم يُتَح لك تقبيله ، وهناك جهلٌ كبيرٌ بين الحُجَّاج حيث يُضَحّون بفريضةٍ من أجل سنَّة ، ما هي الفريضة ؟ فرضٌ عليك ألا تؤذي المُسلمين ، وتقبيل الحَجر سُنة ، فكم من حاجٍ لم يتفقَّه قبَّل أن يحج ، فمن أجل أن يُقَبِّل الحجر ضحى بفريضةٍ محكمة وهي عدم إيذاء المسلمين ، لذلك ورد في الأثر أن : " تفقَّهوا قبل أن تحجوا " .
 إنك أيها الأخ الكريم حينما تُقَبِّل الحجر ، أو حينما تَسْتَلمه ، أو حينما تسير إليه تدعو بدعاء النبي صلى الله عليه وسلَّم :

((بِسمِ اللَّهِ ، واللَّهُ أكْبَرُ ، اللَّهُمَّ إيمَاناً بِكَ ، وَتَصدِيقاً بِكِتابِكَ ، وَوَفاءً بِعَهْدِكَ وَاتِّباعاً لِسُنَّةِ نَبِيِّكَ صلى اللّه عليه وسلم ))

[ المعجم الأوسط عن علي]

 فالحاج أيها الأخوة بعد أن يأتي إلى بلده ، وبعد أن يدخل إلى غِمَار الحياة ، وبعد أن يدخل إلى مَتْجَرِهِ ، أو إلى مَكْتَبِهِ ، وبعد أن يدخل إلى بيته ، يجب أن يبقى هذا العهد الذي عاهد الله به على طاعته طوال حياته ، فكلَّما وقف أمام شُبُهَةٍ ، أو أمام مُخالفةٍ ينبغي أن يسمع نداء الله عزَّ وجل : أن يا عبدي تذكَّر عهدك الذي عاهدتني به ، كلَّما وقفت أمام شبهةٍ ، أمام مَزْلَقٍ ، أمام مُخالفةٍ ، كلَّما حدَّثتك نفسُك أن تقصِّر ، أو أن تفعل شيئاً لا يرضي الله ، لا تنس أن نداء الله عزَّ وجل يقول لك : يا عبدي أين عهدك ؟ أين وعدك ؟ ألم تعاهدني على الطاعة؟ ألم تعدني بالاستقامة على أمري ؟

 

الحج مغفرةٌ وعفوٌ تامٌ من الله جلَّ في عُلاه :

 شيءٌ آخر : أيها الأخوة الأكارم يؤكِّد النبي صلى الله عليه وسلَّم أن للحاج دعوةً مستجابة ، فـ . .

((الحُجاج وفد الله إن دعوه أجابهم ، وإن استغفروه غفر لهم))

[ ابن ماجه و ابن حبان عن أبي هريرة]

 كيف بك أيها الأخ الحاج إذا أيقنت أن خالق السموات والأرض يُعطيك هذه الفُرصة، لك عندي يا عبدي دعوة مستجابة ، ادعُنيِ . لذلك حينما تقع عينك أول مرةٍ على الكعبة لك في هذا الموقف دعوةٌ مستجابة ، وحينما تقف في عرفات ، في هذا اليوم العظيم ، لك عند الله دعوةٌ مستجابة ، وحينما تطوف حول البيت ، لك عند الله دعوةٌ مستجابة ، وحينما تسعى بين الصفا والمروة لك دعوةٌ مستجابة ، وقد عدَّ الفقهاء خمسة عشرَ موضعاً في الحج لك فيها عند الله دعوةً مستجابة ، وكان خير دعاء النبي صلى الله عليه وسلم ، وكانت أدعيته جامعةً مانعةً . .

((ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقِنا عذاب النار))

[ من الدر المنثور عن ابن جريح ]

 وقد قيل لبعض العلماء : ما حسنة الدنيا ؟ وهذا الكلام موجَّهٌ للشباب ، فقال أحدهم: إنها الزوجة الصالحة . فمن دعا بهذا الدعاء فلعل الله جل في عُلاه يرزقه زوجةً صالحة كما قال عليه الصلاة والسلام :

((الدنيا متاع وخير متاعها المرأة الصالحة ))

[رياض الصالحين عن عمرو بن العاص ]

 أيها الأخوة الأكارم ؛ ألا يكفي الحاج هذه البِشارة :

(( مَنْ حَجَّ لِلَّهِ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ ))

[ متفق عليه أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ]

 إنها فرصة العُمر ؛ أن تفتح مع الله صفحةً جديدة ، إنها فرصة العمر أن يُغْفَر لك ما تقدَّم من ذنبك وما تأخَّر ، إنها فرصة العمر أن تعود من ذنوبك كيوم ولدتك أمك .
 بِشارةٌ أخرى ، يقول عليه الصلاة والسلام :

((..الحجُّ المبرور ليس له جزاءٌ إلا الجنة ))

[متفق عليه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ]

 هذه بشارةٌ ثانية . والبشارة الثالثة :

(( الحج يهدم ما كان قبله ))

[الدر المنثور عن عمرو بن العاص ]

 أيْ كما قلت قبل قليل : إنه مغفرةٌ وعفوٌ تامٌ من الله جلَّ في عُلاه .

التعجّل بالحج قبل أن يعرض للإنسان ما يكره :

 مرةً ثانية : يا أيها الأخوة الأكارم ؛ ليتعجَّل أحدكم في حجه فإنه لا يدري ما يعرُض له ، فقد سمعت أن في بعض البلاد الإفريقية لا يستطيع الإنسان أن يحجَّ بيت الله الحرام ، في أقلَّ من ربع مليون ليرة بعملتنا ، فكلما تقدَّم الوقت ارتفعت تكاليف السفر ، ووضِعَت الشروط التي تُضَيِّق العدد الذي يمكن أن يُتاح له أن يحج البيت ، لذلك تعجَّلوا الحج فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له . والشيء الذي يلفت النظر - وهذا من سلبيَّات الحج - أن كثيراً من حُجاج بيت الله الحرام لم يتفقَّهوا الفقه الكافي قبل الحج ، فوقعوا في أخطاء كبيرة ، هذه الأخطاء ربما تسيء إلى حجهم ، وإلى أداء نُسُكِهِم ، لسببٍ بسيط هو أنهم لا يعلمون . فمن أراد الحج لابدَّ من أن يخضع لمجموعةٍ عديدةٍ من الدروس ؛ في مناسك الحج ، وفي آداب الحج ، وفي حِكَم الحج ، في واجباته ، في أركانه ، في سُنَنِهِ ، في آراء الفقهاء في بعض المَناسك ، فقد يكلِّف الحاج أحياناً نفسه فوق ما تستطيع فيُهلك نفسه ، وفي بعض المذاهب رُخصة ، وقد يتساهل تساهلاً يسيء إلى مناسك الحج ، هذا كله أيها الأخوة يجب أن يكون في ذهن من ينوي الحج في العام القادم إن شاء الله تعالى .

حقوق العباد مبنيةٌ على المُشاحَحَة وحقوق الله مبنيةٌ على المُسامحة :

 أيها الأخوة الأكارم ؛ كلكم يعلم أن العبادات كلّها لها محورٌ واحد وهو : الاتصال بالله عزَّ وجل ؛ فالصلاة من أجل الصلة ، والصيام من أجل الصِلة ، والزكاة من أجل الصلة، والحَجُّ من أجل الصلة . وكلكم يعلم أن أعلى درجات الصلة الدُعاء ، فقد قال عليه الصلاة والسلام :

(( الدعاء مخُّ العبادة ))

[الجامع الصغير عن أنس ]

 إنه أعلى درجات الصلة . وكلكم يعلمُ أيضاً أن الإنسان ما لم يكن تائباً ، ما لم يُصَفّي كل علاقاته قبل أن يحج ، لا يستطيع أن يدعو الدعاء الذي أراده ، يشعر أن بينه وبين الله حجاباً ، لذلك :

﴿ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ﴾

[ سورة الأعراف : 55]

 هناك وَهْمٌ أتمنى على الله جل في علاه أن يتبدَّد من أذهان المسلمين هو أن الله جلَّ في علاه يغفر للحاج كل ذنب إلا ما كان بينه وبين العباد ، إن الذنوب التي تغفر في الحج، والتي يعود منها المسلم كيوم ولدته أمه ، إنها الذنوب التي بينك وبين الله فقط ، أما ما كان بينك وبين العباد فلا يُغْفَرُ إلا بشيئين : بالأداء أو المسامحة ، لأن حقوق العباد مبنيةٌ على المُشاحَحَة ، وحقوق الله جلَّ عُلاه مبنيةٌ على المُسامحة .
 هذه نقطةٌ دقيقةٌ جداً ؛ من أكل مالاً حراماً ، من اغتصب شبراً من أرضٍ ، من كان في عنقه مظلمةٌ للناس ، إذا توهَّم أنه إذا ذهب إلى الحج تُغفر له كل هذه الذنوب هذا وهمٌ خطير ، إن الذنوب المتعلقة فيما بينك وبين العباد لا تغفر إلا بالأداء ، ولا تغفر إلا بالمسامحة، أما الذنوب التي ترد في في أحاديث الحج ، والتي تتحدث عن فَضل الحج فإنها تلك الذنوب التي بينك وبين الله فقط .

 

حاجة الحج إلى إعداد نفسي و علمي :

 أيها الأخوة الأكارم ؛ الحجُّ ركنٌ خامسٌ من أركان الإسلام ، ويحتاج إلى إعداد ؛ إلى إعدادٍ عِلْمِيّ ، إلى معرفةٍ بأركانه ، وواجباته ، وسُنَنِهِ ، وآدابه ، وإلى معرفةٍ في اختلاف الفقهاء في تحديد مَناسك الحج بين واجبٍ وسنة . ويحتاج إلى إعدادٍ نفسيٍ ، هناك توبةٍ نصوح قبل أن ينطلق الحاج إلى بيت الله الحرام ، لأن الحج كله دعاء في معظمه . إن الحج في معظمه استشعارٌ لعظمة الله عزَّ وجل ، ومناجاةٌ لله عزَّ وجل . هذا في جوهره ، فمن لم تكن علاقته قبل الحَج بالله طيِّبةٌ لا يستطيع أن يدعو الدعاء الذي أراده الله عزَّ وجل .
 أيها الأخوة الأكارم ؛ حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوا أعمالكم قبل أن توزَن عليكم ، واعلموا أن مَلَكَ الموت قد تخطَّانا إلى غيرنا ، وسيتخطَّى غيرنا إلينا فلنتخذ حذرنا ، الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنّى على الله الأماني .

* * *

الخطبة الثانية :
 أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين ، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله ، صاحب الخلق العظيم ، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

زيارة النبي :

أيها الأخوة الأكارم ؛ فقرةٌ ثانية متعلقةٌ بالحج ألا وهي زيارة النبي صلى الله عليه وسلَّم .
 الحقيقة أيها الأخوة أن القيَم الأخلاقية لا تعيش في الكُتُب ، لا تعيش إلا بالمثل الحيّ ، ولن تقتنِعَ أنت بمكارم الأخلاق ، ولا بالسموّ النفسي إذا بقي حِبْراً على وَرَق ، أو معلوماتٍ تقرؤها في كتاب ، أو محاضراتٍ تُلْقَى على مسامعك ، لن تطمح إلى أن تكون أخلاقياً إلا إذا رأيت إنساناً كاملاً ، والإنسان الكامل الذي جعله الله قدوةً لبني البشر ، الإنسان الكامل الذي جعله الله أسوةً صالحةً للخَلْق ، الإنسان الكامل الذي جعله الله مثلاً أعلى هو النبي صلى الله عليه وسلَّم . فإذا زرته بعد موته فكأنما زرته في حياته ، ولا أدلَّ على ذلك من قول الله عزَّ وجل :

﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ ﴾

[ سورة النساء : 64 ]

 وقد قال مُعْظَم المفسرون : إن هذه الآية تصلح في حياة النبي ، وتصلح بعد موت النبي . .

﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً ﴾

[ سورة النساء : 64 ]

 أيْ أَنَّ الإنسان حينما يُقَصِّر في اتباع سنة النبي فقد ظلم نفسه أشدَّ الظلم ، إذا قصَّر في اتباع سُنة النبي ظلم نفسه أشدَّ الظلم ، فإذا أراد أن يتوب إلى الله عزَّ وجل فينبغي أن يجمع بين استغفار الله و استغفار النبي صلى الله عليه وسلَّم . لذلك :

﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً ﴾

[ سورة النساء : 64 ]

 فلذلك زيارة النبي عليه الصلاة والسلام بعد مماته كزيارته في حياته ، إذا زُرْتَ النبي ؛ هذا الإنسان الأول الذي بلغ سِدْرَة المُنْتَهَى ، الذي حقَّق الكمال البشري ، الذي جعله الله قدوةٌ لنا .
 أيها الأخوة الأكارم ؛ ليس من باب الفضل أن تزور قبر النبي عليه الصلاة والسلام، ولكن إذا عَلِمْت أن الله في نَصّ القرآن الكريم يأمرك فيقول :

﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ﴾

[ سورة الحشر : 7 ]

 فأنت مأمورٌ بنصِّ الآية الكريمة أن تتبع سُنة النبي ، إذاً يجب أن تعرف سُنة النبي، كيف كان في بيته ؟ كيف كان مع أصحابه ؟ كيف كان في حَرْبِهِ ؟ كيف كان في سلمه ؟ كيف كان في بيته مع زوجاته ؟ كيف كان في كل شؤون حياته لأنه قدوةٌ لك .
 فكيف إذا جئت قبره الشريف ووقفت أمامه تقول له : يا سيدي يا رسول الله أشهد أنك بلَّغت الرسالة ، وأدَّيت الأمانة ، ونصحت الأمة ، وكشف الغُمَّة ، وجاهدت في الله حقَّ الجهاد ؟
 كيف إذا جئت المدينة المنوَّرة التي قال عنها النبي صلى الله عليه وسلَّم حينما خرج من مكة :

((اللهم إنك أخرجتني من أحب البلاد إلي فأسكني أحب البلاد إليك))

[كنز العمال عن أبي هريرة ]

 فالمدينة المنورة بنَصّ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلَّم أحبّ البلاد إلى الله جلَّ في عُلاه ، ومن زار قبر النبي ، وجلس في الروضة المُنيرة المباركة ، وصلى في مِحْراب النبي ، ورأى الآثار التي كان النبي صلى الله عليه وسلَّم وأصحابه ، عندئذٍ تخفق في قلبه مشاعر الحُب والشَوْق ، فزيارة النبي عليه الصلاة والسلام تضاف إلى ثمرات الحج ، وتشعر كيف أن النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه الكرام قدَّموا لنا هذا الدين جاهزاً ، وأُخرجوا من ديارهم ، وقاتلوا وقُتلوا من أجلنا ، ونحن ما علينا إلا أن نأخذ هذا الإسلام جاهزاً خالصاً ، ما علينا إلا التطبيق ، لكن شتَّان بين من جاهد حتى أوصلنا إلى هذا الدين ، وبين من طبَّق هذا الدين ، أما الشقي فهو الذي لم يعبأ بهذه الرسالة ولم يستقم على أمر الله .

 

الدعاء :

 اللهم اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولنا فيمن توليت ، وبارك لنا فيما أعطيت ، وقنا واصرف عنا شرّ ما قضيت ، فإنك تقضي بالحق ولا يُقضى عليك ، إنه لا يذل من واليت ، ولا يعز من عاديت ، تباركت ربنا وتعاليت ، ولك الحمد على ما قضيت ، نستغفرك ونتوب إليك ، اللهم هب لنا عملاً صالحاً يقربنا إليك . اللهم أعطنا ولا تحرمنا ، أكرمنا ولا تهنا ، آثرنا ولا تؤثر علينا ، أرضنا وارض عنا ، اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا بها جنتك ، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا ، ومتعنا اللهم بأسماعنا ، وأبصارنا ، وقوتنا ما أحييتنا ، واجعله الوارث منا ، واجعل ثأرنا على من ظلمنا ، وانصرنا على من عادانا ، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا ، ولا تسلط علينا من لا يخافك ولا يرحمنا ، مولانا رب العالمين . اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا ، ودنيانا التي فيها معاشنا ، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردنا ، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر ، مولانا رب العالمين . اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك ، وبطاعتك عن معصيتك ، وبفضلك عمن سواك . اللهم لا تؤمنا مكرك ، ولا تهتك عنا سترك ، ولا تنسنا ذكرك يا رب العالمين . اللهم استر عوراتنا ، وآمن روعاتنا ، وآمنا في أوطاننا ، واجعل هذا البلد آمناً سخياً رخياً وسائر بلاد المسلمين . اللهم إنا نعوذ بك من الخوف إلا منك ، ومن الفقر إلا إليك ، ومن الذل إلا لك ، نعوذ بك من عضال الداء ، ومن شماتة الأعداء ، ومن السلب بعد العطاء . اللهم ما رزقتنا مما نحب فاجعله عوناً لنا فيما تحب ، وما زويت عنا ما نحب فاجعله فراغاً لنا فيما تحب . اللهم صن وجوهنا باليسار ، ولا تبذلها بالإقتار ، فنسأل شرّ خلقك ، ونبتلى بحمد من أعطى ، وذم من منع ، وأنت من فوقهم ولي العطاء ، وبيدك وحدك خزائن الأرض والسماء . اللهم كما أقررت أعين أهل الدنيا بدنياهم فأقرر أعيننا من رضوانك يا رب العالمين . اللهم بفضلك وبرحمتك أعل كلمة الحق والدين ، وانصر الإسلام وأعز المسلمين، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى ، إنك على ما تشاء قدير ، وبالإجابة جدير .

 

تحميل النص

إخفاء الصور