وضع داكن
20-04-2024
Logo
الخطبة : 0392 - ذكر الله عز وجل - إنهار الدم وفري الأوداج.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الخطبة الأولى:
 الحمد لله ثم الحمد لله ، الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، وما توفيقي ولا اعتصامي ولا توكُّلي إلا على الله . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقراراً بربوبيته وإرغاماً لمن جحد به وكفر . وأشهد أنَّ سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلَّم ، رسول الله سيِّد الخلق والبشر ، ما اتصلت عينٌ بنظرٍ أو سمعت أذنٌ بخبر . اللهمَّ صلّ وسلم وبارك على سيدنا محمد ، وعلى آله وأصحابه ، وعلى ذريَّته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين . اللهم ارحمنا فإنك بنا راحم ، ولا تعذبنا فإنك علينا قادر ، والطف بنا فيما جرت به المقادير ، إنك على كل شيء قدير .

ذكر الله عزّ وجل :

 أيها الأخوة الأكارم ؛ يقول الله سبحانه وتعالى ، وعزَّ مِنْ قائل في القرآن الكريم :

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً * هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً ﴾

[ سورة الأحزاب : 41-43]

 أيها الأخوة الأكارم ؛ كيف نذكر الله عزَّ وجل ؟ موضوع هذه الخُطبة ذِكْرُ الله عزَّ وجل تنفيذاً لقوله تعالى :

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا ذكرا كثيرا﴾

[ سورة الأحزاب : 41]

 يا أيها الأخوة الأكارم ؛ يُمكن أن تذكر الله لنفسك ، ويمكن أن تذكر الله لغَيرك ، فالأمر يشمل أن تُذَكِّرَ نفسك بالله عزَّ وجل ، وأن تُذَكِّرَ غيرك بالله عزَّ وجل ، كيف تُذَكِّرَ بالله عزَّ وجل ؟ هذا الذي أنكر الوجود ، وعدَّ الدين خُرافةً ، وردَّ كل ما جاء عن الله عزَّ وجل ، مثل هذا الإنسان لا يُذَكَّر بفروع الدين بل بأصوله ، يخاطب بقوله تعالى ، أو بمضمون قوله تعالى :

﴿اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ * لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴾

[ سورة الزمر : 62-63]

 بيَّن الله جلّ وعلا أن تذكير الناس بربِّهم ، وبخالقهم ، وبمن بيده أمرهم جميعهم ، إنما يكون من خلال الآيات الكونية التي بثَّها الله في الآفاق ، وبثَّها في أنفس الناس .
 يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ مثل هذا الإنسان يُخاطب بأصول الدين ، يخاطب بالوجود - وجود الله عزَّ وجل - يخاطب بوحدانيَّته ، يخاطَب بكماله ، ولكن الذي داخله الشِرك، واعتقد إن علانيةً وإن ضمناً أن هناك مع الله آلهةً كثيرة ، ولا يقصد بالآلهة تلك الأصنام التي تُعْبَد من دون الله ، ولكن الأشخاص الذين يَعْتَمِدُ عليهم ، وينسى ربَّه من أجلهم ، ويطيعهم ويعصي الله عزَّ وجل ، هذا شركٌ من نوعٍ واضحٍ جداً ، فمثل هذا الشخص يُخاطب بقوله تعالى :

﴿قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ * وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾

[ سورة الزمر : 64-65]

 إن رأيت ملامح الشِرك ، ملامح الاعتماد على غير الله ، ملامح قصد غير الله عزَّ وجل ، ملامح أن تُشرك مع الله شَخْصاً ، أو جِهَةً مثل هذا الإنسان يخاطب بالتوحيد .
 يا أيها الأخوة الأكارم ؛ أما هذا الإنسان الذي سحقته الهموم ، وأحاطت به المصائب ، وامتلأ قلبه خوفاً ، وفَرَقاً ، وقَلَقاً ، وضياعاً هذا الإنسان كيف يُخاطب ؟ كيف يُذَكَّر بالله عزّ وجل ؟ يذكَّر بقوله تعالى :

﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾

[ سورة الرعد : 28]

 إذاً يتِّجه التَذْكير إلى التأكيد على وجود الله ، وإلى التأكيد على وحدانيَّته ، وإلى التأكيد على ثمار الإيمان ، فالمؤمن يمتلئ قلبه طمأنينة ، والمؤمن يمتلئ قلبه استسلاماً لله عزَّ وجل ، والمؤمن يمتلئ قلبه ثقةً بالله عزَّ وجل ، فينبغي أن تُرَسِّخ معاني الوجود ، ومعاني الوحدانية ، ومعاني الكمال .

 

اليائس يذّكر بالعفو والمُنكر يخاطب بالوجود والمُشرك يخاطب بالتوحيد :

 يا أيها الأخوة الأكارم ؛ هذا الذي وقع في ذنب ، وضاقت عليه الدنيا بما رَحُبَت ، وقادته سيِّئته إلى اليأس من رحمة الله ، وقادته خطيئَته إلى البُعد عن الله عزَّ وجل ، والخجل من الله عزَّ وجل ، وجاءت هذه الخطيئة فكانت حجاباً كثيفاً بين العبد وبين الله عزَّ وجل ، مثل هذا الإنسان كيف يذكَّر ؟ يذكَّر بعفو الله .
 أيْ أَنَّه يجب أن تذكر الناس أحياناً بوجوده ، ويعبِّر العامة عن هذا المعنى بقولهم: الله موجود ، الله مُطَّلع ، والله كبير . هذا الذي يُنْكِر العدالة الإلهية ، ينكر أن الله عزَّ وجل بالمرصاد ، ينكر أن الله مطلعٌ على الأفئدة ، ينكر أن الله سيحاسب حساباً دقيقاً ، هذا المُنكر يخاطب بالوجود ، وذاك المُشرك يخاطب بالتوحيد . .

﴿قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ ﴾

[ سورة الزمر : 64]

 أأعبد من دون الله آلهةً لا يفعلون شيئاً ، لا يقدِّمون خيراً ولا يمنعون شراً ؟ والذي أقلقه اليأس ، وانتهت به الدنيا إلى القنوط من رحمة الله عزَّ وجل ، هذا يُطَمْأَن . .

﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾

[ سورة الرعد : 28]

 واليائس من عفو الله عزَّ وجل بماذا يُذَكَّر ؟ يذكَّر برحمة الله ، يذكَّر بعفوه ، قال تعالى :

﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾

[ سورة آل عمران : 135]

﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً﴾

[ سورة الزمر : 53 ]

(( لله أفرح بتوبة عبده من العقيم الوالد ، ومن الضال الواجد ، ومن الظمآن الوارد ))

[ الجامع الصغير عن أبي هريرة ]

كل آيةٍ في القرآن الكريم شفاءٌ للنفوس :

 يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ للذِكْرِ أصول ، ولتَذْكير الناس أصول ، فاليائس له خِطاب ، والمُنحرف له خطاب ، والقلق له خطاب ، والمشرك له خطاب ، والمنكر له خطاب ، وكل آيةٍ في القرآن الكريم هي في الحقيقة شفاءٌ للنفوس ، قال تعالى :

﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَاراً ﴾

[ سورة الإسراء : 82]

 هذا الذي أحبَّ الدنيا ، تربَّعت الدُنيا على قلبه ، شغلته عن ربه ، أعمته عن أمره ونهيه ، قادته إلى المَهالك ، هذا الذي أحب الدنيا بكل خليةٍ في جسده ، هذا الإنسان بماذا يخاطب ؟ يخاطب بقوله تعالى :

﴿فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى ﴾

[ سورة النجم : 29-30]

﴿فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ﴾

  لا يريد إلا الدنيا، لا يريد شيئاً بعدها ولا شيئاً فوقها ، ولا يريد رحمة الله عزَّ وجل ، ولا يريد عَفْوَهُ ، هذا الذي أقبل على الدنيا بكل ما يَمْلك ، بكل جوارحه ، بكل أعضائه ، أعطاها كل وقته ، كل اهتمامه ، هذا الإنسان يخاطب بهذا التوجيه الإلهي :

﴿فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ ﴾

[ سورة النجم : 29-30]

 أيها الأخوة الأكارم ؛ يتضح من خلال هذه الآيات أن هناك شِركاً ، وأن هناك إنكاراً، وأن هناك خوفاً مَرَضياً ، وأن هناك يأساً من رحمة الله ، وأن هناك حباً للدنيا ، هذه كلها أيها الأخوة أمراضٌ يجب أن تُعالج بهذه الآيات ، أو بمضمون هذه الآيات ، أو بأساليب فحواها يؤكِّد هذه الآيات .

 

الفرق بين المؤمن و الفاسق إذا وقعا في الذنب :

 أيها الأخوة الأكارم ؛ فرقٌ كبير بين المؤمن إذا وقع في ذنب ، وبين الفاسِق إذا أَدْمَنَ هذا الذنب ، ربنا سبحانه وتعالى يقول :

﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ ﴾

[ سورة الأعراف : 201]

 أي أن المؤمن يردُّه إيمانه كثيراً ، ألم يدرك فرعون الغَرَق ؟ هل نجَّاه إيمانه الضعيف أو إقراره اللساني من عذابٍ أكيد ؟ لكن يونس عليه السلام حينما وقع في بطن الحوت . .

﴿فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ ﴾

[ سورة الأنبياء : 87-88]

 أيها الأخوة الأكارم ؛ علامة الإيمان أن المؤمن سريعُ العودة إلى الله ، سريع الإنابة إليه ، كثير الحساب لنفسه ، يلومُ نفسه على كل تقصير ، على كل انحراف ، على كل هَفْوَة ، على كل كلمة ، على كل تجاوز ، فلذلك :

﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ * وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ ﴾

[ سورة الأعراف : 201 -202]

 أما الفَسَقَة ، أما الفُجَّار فهؤلاء يدمنون على المعاصي ، ويألفونها ، ويستمرئونها .
 وقد تجد إنساناً جعل إلهه المال ، أقبل على جمع الدرهم والدينار ، وضَرَبَ بكل القيَم الدينية عرض الطريق ، أقبل على جمع الدرهم والدينار وجعل المال مُبْتَغَاه ومنتهى علمه ، فمثل هذا الإنسان يوجَّه بالتوجيه التالي :

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ﴾

[ سورة المنافقون : 9-10]

 إذاً المال مرض ، حب المال مرض ، وحب الدنيا مرض ، والإدمان على المعصية معصيةٌ أخرى ، ويجب أن تتوب ، ويجب أن تتوب من تأخير التوبة .
 أيها الأخوة الأكارم ؛ هكذا يذكَّر الإنسان الشارد عن الله عزَّ وجل . وإذا خاف الإنسان عدواً جباراً ، شراساً ، قوياً ، بماذا يذكَّر ؟ يذكَّر بقوله تعالى :

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً ﴾

[ سورة الأحزاب : 9]

 لذلك إذا أردت أن تُذَكِّرَ الناس بالله عزَّ وجل ، يجب أن تعطيهم دواءً لمرضهم ، يجب أن تعطيهم حلاً لمشكلتهم ، يجب أن تعطيهم توجيهاً سليماً ينقذهم مما هم فيه ، فكل مرضٍ له دواء ، وكل حالةٍ لها توجيه ، وكل مصيبةٍ لها حل .
 فيا أيها الأخوة الأكارم ؛ تذكير الناس بالله عزَّ وجل يجب أن يكون وفق القرآن الكريم ، ووفق سنة النبي عليه الصلاة والسلام .

 

الخلوة مع الله تعطي الإنسان شحنةً روحيةً تحول بينه وبين أن يُفتن :

 شيءٌ آخر من الذكر : إذا خلوت بربك عزَّ وجل عليك أن تَذْكُرَهُ ، وقد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلَّم عن السبعة الذين يظلّهم الله تحت ظله يوم لا ظل إلا ظله ، من هؤلاء السبعة :

((... رجلٌ ذكر الله خالياً ففاضت عيناه ..))

[ البخاري عن أبي هريرة]

 حينما ينعُم الإنسان بوقت فراغ ، حينما يُتاح له أن يجلس جلسةً مع ربه ، حينما يتاح له أن يذكر الله خالياً ، حينما يتاح له أن يقرأ القرآن ، هذه فرصةٌ ثمينة لشحن النفس بطاقةٍ روحية تعينها على مواجهة الصِعاب ، وعلى مدافعة الفِتَن ، وعلى الانتصار على الذات .
 أيها الأخوة الأكارم ؛ هذه الخلوات مع الله عزَّ وجل تعطي الإنسان شحنةً روحيةً قويةً جداً تحول بينه وبين أن يُفتن ، وبين أن تزل قدمه ، وبين أن ينتهي إلى ما لا يرضي الله عزَّ وجل .

 

من نسي الله عزَّ وجل أنساه الله نَفْسَه :

 جاءت آيات الذكر في القرآن الكريم بمعنىً مُضاد للنِسْيان ، يقول الله عزَّ وجل :

﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ﴾

[ سورة الحشر : 19 ]

 حينما تنسى الله عزَّ وجل ؛ تنسى سرَّ وجودك ، تنسى حكمة وجودك ، تنسى مُهمتك في الدنيا ، تنسى أن الله عزَّ وجل جاء بك إلى الدنيا لتعرفه ، ولتطيعه ، ولتتقرَّب منه، فمن نسي الله عزَّ وجل أنساه الله نَفْسَه ، وهذا معنى قوله تعالى :

﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ﴾

[ سورة الحشر : 19 ]

 والإنسان متى ينسى الله عزَّ وجل ؟ حينما يقع في المعاصي ، قال تعالى :

﴿أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾

[ سورة الحشر : 19 ]

 هؤلاء الذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم . .

﴿أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾

[ سورة الحشر : 19 ]

 فسقوا ، فنسوا ربَّهم ، ونسوا أنفسهم ، ونسوا حكمة وجودهم ، وقال تعالى :

﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً ﴾

[ سورة الكهف : 103-104]

 إذا نسيت الله عزَّ وجل نسيت سرّ وجودك ، وأقبلت على الدنيا ، ثم فوجئت في ساعةٍ حَرِجة يوم لا ينفع الندم ، أن هذا الطريق لم يكن صواباً ولم يكن صحيحاً .

 

الغفلة عن الله عزَّ وجل سبب أكثر المصائب :

 أيها الأخوة الأكارم ؛ من معاني الذكر في القرآن الكريم أنه ضدُّ الغَفْلَة ، قال تعالى:

﴿اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ * مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ ﴾

[ سورة الأنبياء : 1-2]

 هم في غفلة ، فالغفلة عن الله عزَّ وجل سبب أكثر المصائب ، والعوام يستعيذون بالله من الغَفْلَة ، أو من ساعة الغفلة ، ساعة الغفلة أن تغفل عن الله ، ألا تشعر بوجود الله ، ألا تشعر بمراقبته ، ألا تشعر بمحاسبته ، ألا تشعر بأنه معك في كل أطوارك ، وفي كل أحوالك ، وفي كل مراحل حياتك . .

﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ﴾

[ سورة الحديد : 4 ]

على الإنسان أن يذكر الله متضرعاً خاضعاً و مفتقراً :

 ومن الذكر في القرآن الكريم أن تذكر الله متضرِّعاً ، أن تأتيه خاضعاً ، أن ترتدي ثياب العبودية ، أن تأتيه مفتقراً ، أن تأتيه محتاجاً ، أن تتبرَّأ من حولك ومن قوتك وأن تستعين بحوله وقوته ، أن تتبرأ من علمك وتستعين بعلمه . .

((عبادي كلكم ضالٌ إلا من هديته ، فاستهدوني أهدكم ، كلكم جائعٌ إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم ، كلكم عارٍ إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم ))

[ الجامع الصغير عن أبي ذر ]

((عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجلٍ واحدٍ منكم ما زاد في ملكي شيئاً ، ولو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحدٍ منكم ما نقص في ملكي شيئاً ، ولو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم وقفوا على صعيدٍ واحد وسألني كل واحدٍ منكم مسألته ما نقص ذلك في ملكي إلا كما ينقص المخيط إذا غُمِسَ في مياه البحر - ذلك لأن عطائي كلام وأخذي كلام- فمن وجد خيراً فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومنَّ إلا نفسه ))

[ الجامع الصغير عن أبي ذر ]

 الذكر ضد النِسْيان ، والذِكر ضد الغَفْلة ، والذكر مكانه الخلوة ، والذكر تذكيرٌ بوحدانية الله ، تذكيرٌ بوجوده ، تذكيرٌ بتفاهة الدنيا ، تذكيرٌ بأن المال عَرَضٌ زائل ، تذكيرٌ بأن الله مع الذين آمنوا ، هذه كلها اتجاهات التذكير في القرآن الكريم . .

﴿وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ ﴾

[ سورة الأعراف : 205]

 أما هؤلاء الذين جعلوا من الذكر حركاتٍ ، وإشاراتٍ ، ورقصاً لا يرضي الله عزَّ وجل جاء ذكرهم في القرآن الكريم حيث قال الله عزَّ وجل :

﴿وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا﴾

[ سورة الأنعام : 70 ]

 حينما تُتَّخذ القيَم الدينية ، أو العبادات الشكلية للارتزاق ، وللتسلية ، ولتمضية الوقت ، فهذا الذي اشترى بآيات الله ثمناً قليلاً .

 

من الذكر أن تعرف ضعفك و تلتجئ إلى ربك :

 أيها الأخوة الأكارم من الذكر أن تعرف ضعفك ، لذلك كان عليه الصلاة والسلام يكثر من القول :

(( لا حول ولا قوة إلا بالله ))

[ من الدر المنثور في التفسير بالمأثور ]

 وقد فسَّر المفسِّرون هذا القول بأنه : لا حول عن معصية الله إلا بالله ، ولا قوة على طاعته إلا به ، وأن الإنسان عليه أن يتبرَّأ من حوله ، ومن قوته ، ومن عِلمه ، ومن ذكائه ، ومن قدرته ، ومن مكانته ، ومن كل شيءٍ يتوهَّم أنه مالكٌ له ، هذا نوعٌ من أنواع الذكر . لذلك يقول ابن عطاء الله السكندري : ما تيسَّر طلبٌ أنت طالبه بنفسك ، وما تعسَّر طلبٌ أنت طالبه بربك .
 إذا طلبت الشيء معتمداً على قدرتك ، وعلى ذكائك ، وعلى خبرتك ، بعد عنك هذا الشيء ، وإذا طلبت شيئاً معتمداً على ربك هذا الشيء كان قريباً منك .

 

الصلاة من أعظم أنواع الذكر :

 أيها الأخوة الأكارم ؛ من أعظم أنواع الذكر الصلاة ، لقول الله عزَّ وجل :

﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي ﴾

[ سورة طه: 14]

 إن الصلاة مَحْضُ ذكرٍ . .

﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ ﴾

[ سورة العنكبوت : 45 ]

 قال بعض المفسرين : هو أكبر ما فيها . أكبر ما في الصلاة ذكر الله عزَّ وجل ، فالصلاة ذكرٌ من أرقى أنواع الذكر ، إنها اتصالٌ بين العَبْد وربه .

 

الدعاء مخ العبادة :

 و الدعاء ذكرٌ ، بل إن الدعاء كما يقول عليه الصلاة والسلام :

(( مخُّ العبادة ))

[ من الجامع الصغير عن انس ]

 كان عليه الصلاة والسلام إذا أوى إلى فراشه قال :

(( اللهمَّ إني أسلمت نفسي إليك ، ووجَّهت وجهي إليك ، وفوضت أمري إليك ، وألجأت ظهري إليك ، رغبةً ورهبةً إليك ، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك ، آمنت بكتابك الذي أنزلت ، وبنبيك الذي أرسلت ))

[ تخريج أحاديث الإحياء عن البراء ]

 هذا كان دعاء النبي قبل أن ينام ، قبل أن يؤوي إلى الفراش ، قبل أن يرى في المنام الكوابيس والأحلام المزعجة ، قبل أن يقوم من فراشه مُنْقَبِضَ الصدر ، إذا أويت إلى فراشك ، واتصلت بالله عزَّ وجل ، وذكرته بهذا الدعاء ، أعيد عليكم الدعاء مرةً ثانية ، كان عليه الصلاة والسلام إذا أوى إلى فراشه يقول :

(( اللهمَّ إني أسلمت نفسي إليك ، ووجَّهت وجهي إليك ، وفوضت أمري إليك ، وألجأت ظهري إليك ، رغبةً ورهبةً إليك ، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك ، آمنت بكتابك الذي أنزلت ، وبنبيك الذي أرسلت ))

[ تخريج أحاديث الإحياء عن البراء ]

  كان عليه الصلاة والسلام إذا استيقظ من منامه ، أول كلمةٍ يقولها :

(( الحمد لله الذي عافاني في جسدي ))

[ من زيادة الجامع الصغير عن أبي هريرة ]

 استيقظت ؛ الأعضاء كلها سليمة ، الحواس كلها سليمة ، الأجهزة الداخلية كلها سليمة ، شعرت بنشاط ، كان عليه الصلاة والسلام إذا استيقظ من فراشه يقول :

(( الحمد لله الذي عافاني في جسدي ، وردَّ عليَّ روحي ))

[ من زيادة الجامع الصغير عن أبي هريرة ]

 لأن النَوم نوعٌ من الموت ، إما أن يمسك الذي قضى عليها الموت ، هذه التي كتب الله عليه أن تموت في نومها ، ويرسل الأخرى ، فما دام الله قد أيقظك إذاً سمح لك أن تعيش يوماً جديداً ، فقال عليه الصلاة والسلام إذا استيقظ من منامه :

(( الحمد لله الذي عافاني في جسدي ، وردَّ عليَّ روحي ، وأذن لي بذكره ))

[ من زيادة الجامع الصغير عن أبي هريرة ]

 قد لا يأذن الله لعبدٍ أن يذكره صباحاً .

(( أذن لي بذكره ))

 وكان عليه الصلاة والسلام إذا ارتدى ثوباً جديداً يقول :

(( الحَمْدُ للّه الذي كَساني هَذَا الثَّوْبَ وَرَزَقنيهِ مِنْ غَيْرِ حَوْلٍ مِنِّي وَ لا قُوَّة))

[ من الأذكار النووية عن معاذ بن أنس ]

 حتى إذا ارتديت ثوباً جديداً ، قميصاً جديداً ، حاجةً جديدة كان له دعاءٌ عليه الصلاة والسلام . وكان إذا جلس إلى الطعام سمَّى الله عزَّ وجل ، وكان إذا انتهى منه يقول :

(( الحمد لله الذي أطعمني وأشبعني وسقاني وأرواني ))

[ من الجامع الصغير عن أبي موسى ]

 وكان إذا دخل الخلاء وخرج منه يقول :

(( غُفْرَانَكَ ، الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذي أذْهَبَ عَنِّي الأذَى وعَافَاني ))

[ من الأذكار النووية ]

 وهناك دعاء آخر :

((الحَمْدُ لِلَّه الَّذي أذَاقَنِي لَذَّتَهُ - أيْ الطعام - وأبْقَى فِيَّ قُوَّتَهُ - أيْ الغذاء - وَدَفَعَ عَنِّي أَذَاه – الفضلات- ))

[ من الأذكار النووية عن ابن عمر ]

النبي مع الله في كل أحواله :

 إذاً النبي كان مع الله في كل أحواله ؛ في طعامه ، في شرابه ، في حركته ، في خروجه من البيت ، كان إذا خرج من البيت يستعيذ بالله من أن يضل أو يُضَل ، أو أن يجهل أو أن يُجهل عليه ، أو أن يظلم أو أن يُظلَم . وهذا من دعائه صلى الله عليه وسلم .
 شيءٌ آخر أيها الأخوة ، كان عليه الصلاة والسلام إذا سافر يقول :

(( اللهمَّ أنت الصاحب في السفر ، والخليفة في الأهل والمال ))

[ الترمذي عن أبي هريرة ]

 وكان إذا عاد من سفره ، أو من حجِّه ، أو من غزوته يقول :

((آئِبونَ إنْ شاءَ اللَّهُ تَائِبونَ عابدونَ لرِبِّنا حَامِدونَ))

[ الترمذي عن أبي هريرة ]

 وكان إذا رأى الهلال يقول :

(( اللَّهُمَّ أهِلَّهُ عَلَيْنا باليُمْنِ وَالإِيمانِ وَالسَّلامَةِ وَالإِسْلامِ رَبِّي وَرَبُّكَ اللَّهُ ))

[ من الأذكار النووية عن طلحة بن عبيد الله ]

كثرة ذكر الله من علامة الإيمان :

 إذاً من الذكر الدعاء ، من الذكر الصلاة ، من الذكر أن تذكر الله خالياً ، من الذكر ألا تكون غافلاً ، من الذكر ألا تكون ناسياً ، من الذكر أن تذكِّر الناس بالله عزَّ وجل ؛ أن تُذَكِّرَهُم بوجوده ، أن تُذَكِّرَهُم بوحدانيته ، أن تُذَكِّرَهُم بكماله ، أن تُذَكِّرَهُم بأن الله عزَّ وجل يطمئن الذين آمنوا ، أن تُذَكِّرَهُم بأن الله أقوى من عدوِّهم ، وأن عدوَّهم في قبضة الله عزَّ وجل ، فإذا كانوا معه كفاهم الله شرَّه وقوَّاهم عليه .
 أيها الأخوة الأكارم ؛ الشيء الذي يلفت النظر أن الله عزَّ وجل يقول :

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً ﴾

[ سورة الأحزاب : 41]

 فالآية توجِّه إلى الذِكر الكثير ، بل إن النبي عليه الصلاة والسلام كان يقول :

(( من أكثر ذكر الله فقد برئ من النفاق ))

[الطبراني في الصغير عن أبي هريرة ]

 لأن الله عزَّ وجل وصف المنافقين بأنهم . .

﴿وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً ﴾

[ سورة النساء : 142]

 المؤمنون أمرهم أن يذكروا الله ذكراً كثيراً ، بينما المنافقون من صفاتهم أنهم لا يذكرون الله إلا قليلاً ، فمن علامة الإيمان كثرة ذكر الله ، وقد أوردت لكم الأنواع المنوَّعة من الذكر ؛ الأمر بالمعروف ذكر ، النهي عن المنكر ذكر ، تلاوة القرآن ذكر ، الاستغفار ذكر ، الحمد والتسبيح والتهليل والتكبير ذكر ، الدعاء مخ العبادة ذكر ، الصلاة ذكر ، تذكير الناس بربهم ، بوحدانيته ، بوجوده ، بكماله ، بتأييده ، أن تزيح عن قلوبهم الخَوْف هذا ذكر ، أن تعرِّفهم بحقيقة الدنيا ، بزوالها ، بتفاهتها ، هذا ذكر ، فلابدَّ من ذكرٍ في قلبك ، ولابدَّ من ذكرٍ في لسانك ، ولابدَّ من أن يكون الذكر شُغْلك الشاغل . .

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ﴾

[ سورة الأحزاب : 41-42]

 والنبي عليه الصلاة والسلام في بعض الأحاديث الشريفة يقول :

(( ألا أنبِّئكم بخير أعمالكم ، وأزكاها عن مليككم ، وخيرٌ لكم من إنفاق الذهب والفضَّة ، وخيرٌ لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقه ؟ قالوا : بلى . قال : ذكر الله تعالى))

[ رياض الصالحين عن أبي الدرداء ]

 أيها الأخوة الأكارم ؛ حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوا أعمالكم قبل أن توزَن عليكم ، واعلموا أن مَلَكَ الموت قد تخطَّانا إلى غيرنا ، وسيتخطَّى غيرنا إلينا ، فلنتخذ حذرنا ، الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنّى على الله الأماني .

* * *

الخطبة الثانية :
 أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين ، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله ، صاحب الخلق العظيم ، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

إنهار الدم وفري الأوداج من سنن النبي عليه الصلاة والسلام :

 أيها الأخوة الأكارم ؛ من الذِكر أيضاً أن تذكر الله عند ذبح الذبيحة ، وقد علَّمنا النبيُ ذلك ، فجعل من التسمية ، ومن قول : " الله أكبر " أحد السُنَن المُتَّبعة في ذبح الذبيحة .
 من سنن النبي عليه الصلاة والسلام إنهار الدم وفري الأوداج ، لابدَّ من أن يخرج هذا الدم الذي يحمل كل عوامل المرض ، لابدَّ من أن يخرج من جسم الدابة ، فقد قال العلماء : إن الدابَّة التي تحتجز الدم في أنسجتها يميل لونها إلى اللون الأزرق ، وهذا الدم إذا بقي في النسيج العضلي يتحلل وتخرج منه حموضٌ تؤدي إلى تيبُّس اللحم ، تخرج من هذا الدم المتحلِّل حموضٌ تسبب تيبُّس اللحم وتصلُّبه ، وبعد ساعاتٍ ثلاث تنفرد الجراثيم الهوائية واللاهوائية بإفساد هذه النُسُج اللحمية التي بقي الدم فيها . وهذا التفاعل تنتج عنه مركباتٌ كريهة الرائحة سامة التأثير ، وينتفخ اللحم بالغازات المتولِّدة . لذلك حينما علَّمنا النبي صلى الله عليه وسلم أنه لابدَّ من ذبح الدابة من أوداجها ، من أجل أن يخرج الدم من جسمها ، ويبقى اللحم طاهراً طيِّباً . من هُنا حكمة ربنا عزَّ وجل بأنه حرم علينا أكل المنخنقة ، والموقوذة ، والمتردية ، والنطيحة ، وما أكل السبع . كل هذه الحالات يبقى الدم في بدن الدابة ، والدم فيه كل عوامل المَرَض ، وعوامل التفسخ ، وعوامل التصلب ، وعوامل الانتفاخ ، فلابدَّ من أن يكون اللحم مذبوحاً بالطريقة الشرعية .
 لكن النبي عليه الصلاة والسلام استثنى السمك من شرط إنهار الدم ، والذي يلفت النظر أن السمك حينما يُصطاد وحينما يفارق الحياة يتجمَّع دمه كلّه في غلاصمه ، وكأنه ذُبِح، السمك وحده ، كل الدم في جسمه يتجمَّع في الغلاصم ، لذلك أنت تعرف السمك الذي صيد حديثاً من القديم من غلاصمه ، فإذا كانت ممتلئةٍ باللون الأحمر إذاً جاء الدم كله إلى هذه الغلاصم .
 أيها الأخوة الأكارم ؛ النبي عليه الصلاة والسلام لا ينطق عن الهوى ، فحينما أمرنا بهذه السُنَن ، إنما تنطوي هذه السنة على حكمةٍ يكشف العلم شيئاً فشيئاً عن أبعادها ، وعن دقائقها ، وعن حكمتها .

الدعاء :

 اللهم اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولنا فيمن توليت ، وبارك لنا فيما أعطيت ، وقنا واصرف عنا شرّ ما قضيت ، فإنك تقضي بالحق ولا يُقضى عليك ، إنه لا يذل من واليت ، ولا يعز من عاديت ، تباركت ربنا وتعاليت ، ولك الحمد على ما قضيت ، نستغفرك ونتوب إليك ، اللهم هب لنا عملاً صالحاً يقربنا إليك . اللهم أعطنا ولا تحرمنا ، أكرمنا ولا تهنا ، آثرنا ولا تؤثر علينا ، أرضنا وارض عنا ، اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا بها جنتك ، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا ، ومتعنا اللهم بأسماعنا ، وأبصارنا ، وقوتنا ما أحييتنا ، واجعله الوارث منا ، واجعل ثأرنا على من ظلمنا ، وانصرنا على من عادانا ، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا ، ولا تسلط علينا من لا يخافك ولا يرحمنا ، مولانا رب العالمين . اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا ، ودنيانا التي فيها معاشنا ، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردنا ، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر ، مولانا رب العالمين . اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك ، وبطاعتك عن معصيتك ، وبفضلك عمن سواك . اللهم لا تؤمنا مكرك ، ولا تهتك عنا سترك ، ولا تنسنا ذكرك يا رب العالمين . اللهم استر عوراتنا ، وآمن روعاتنا ، وآمنا في أوطاننا ، واجعل هذا البلد آمناً سخياً رخياً وسائر بلاد المسلمين . اللهم إنا نعوذ بك من الخوف إلا منك ، ومن الفقر إلا إليك ، ومن الذل إلا لك ، نعوذ بك من عضال الداء ، ومن شماتة الأعداء ، ومن السلب بعد العطاء . اللهم ما رزقتنا مما نحب فاجعله عوناً لنا فيما تحب ، وما زويت عنا ما نحب فاجعله فراغاً لنا فيما تحب . اللهم صن وجوهنا باليسار ، ولا تبذلها بالإقتار ، فنسأل شرّ خلقك ، ونبتلى بحمد من أعطى ، وذم من منع ، وأنت من فوقهم ولي العطاء ، وبيدك وحدك خزائن الأرض والسماء . اللهم كما أقررت أعين أهل الدنيا بدنياهم فأقرر أعيننا من رضوانك يا رب العالمين . اللهم بفضلك وبرحمتك أعل كلمة الحق والدين ، وانصر الإسلام وأعز المسلمين، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى ، إنك على ما تشاء قدير ، وبالإجابة جدير .

 

تحميل النص

إخفاء الصور