وضع داكن
18-04-2024
Logo
رحلة أمريكا 3 - المحاضرة : 02 - مؤتمر المايا - الإعجاز اللغوي في القرآن2.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 والصلاة والسلام على سيدنا محمد النبي الكريم، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
 محاضرتنا، أو ندوتنا في هذا اليوم هي: هذه اللغة العربية، لغة القرآن، ولغة أهل الجنة، واللغة العربية اختارها الله سبحانه وتعالى لنزِّل بها أحكامه، ويختم بها رسالة أنبيائه، يقول أحد أبنائها على لسانها:

وســعتِ كتاب الله لفظاً وغايةً  وما ضقت عن آيهٍ به وعظاتِ
فكيف أضيق اليوم عن وصف  آلةٍ وتنســيق أسماءٍ لمخترعات
* * *

 وذلك عندما عجز المسلمون عن أن يجاروا الغَرب حتى في الإتيان بأسماء مخترعاتهم، بتسميتها بتسمية لغة عربية، ثم يضيف:

 

أرى كل يومٍ في الجرائد مزلقاً  من القـبر يدنـيـني بغيـر أناتِ
* * *

 ولابد لنا من الاهتمام باللغة العربية، لأن فهمها واجادة فهمها، هو مفتاحٌ لفهم رسالة السماء، ومعنا في هذا اليوم محاضرين فاضلين، سوف يتناولان هذا الموضوع، وهما غنيّان عن التعريف في الحقيقة، وشاركانا في مؤتمراتٍ سابقة.
 فالأستاذ محمد راتب النابلسي، من سوريا، ومن مواليد مدينة دمشق، ومقيمٌ أيضاً في دمشق، وهو أستاذٌ محاضر في كلية التربية بجامعة دمشق، ومدرساً دينياً في مساجد دمشق، وعضواً في عددٍ من اللجان الإسلامية، ومشرفاً على مجلة "نهج الإسلام " التي تصدرها وزارة الأوقاف في سوريا، وله دروس يومية في عدد من الإذاعات والتلفزيونات والفضائيات مثل سوريا، وكذلك في عدد من المؤتمرات الإسلامية، من مؤلَّفاته:
 تأمُّلاتٌ في الإسلام.
 نظرات في الإسلام.
 الإسراء والمعراج.
 الهجرة.
 الله أكبر.
 وعددٌ آخر من المؤلَّفات.
 أما الدكتور صلاح الدين عبد الحليم سلطان فهو من مواليد مصر، من المنوفية، في السنة 1959م، ومقيم في بوسطن، وهو المستشار الفقهي والتربوي بالجمعية الإسلامية الأمريكية لأمريكا الشمالية وكندا (M - E – S) وهو أستاذ الشريعة الإسلامية بدار العلوم جامعة القاهرة، كذلك وهو أيضاً أستاذ الشريعة الإسلامية بالجامعة الأمريكية المفتوحة، وسابقاً مدير المركز الإسلامي بمدينة وستر، وهو له ليسانس في اللغة العربية والعلوم الإسلامية في دار العلوم في القاهرة، وكذلك ليسانس في القانون من كلية الحقوق جامعة القاهرة، ودكتوراه في الفقه الإسلامي وأصوله من دار العلوم بجامعة القاهرة أيضاً، وله كثيرٌ من المؤلَّفات تربوا عن خمس عشرة كتاباً وبحثاً علمياً منها:
 العبادات وأثرها التربوي في الفرد والأسرة والمجتمع والدولة.
 سلطة وليّ الأمر في الشريعة الإسلامية.
 أولاد حارتنا لنجيب محفوظ، قراءة نقدية.
 مدى حُجِّية الأدلة الاجتهادية في الشريعة الإسلامية.
 الميراث والوصية بين الشريعة والقانون.
 التوازن بين حقوق المرأة في الميراث.
 المضاربة وكيفية الاستغناء بها عن المعاملات الربوية.
 الوصية الواجبة في القوانين العربية، دراسة فقهية نقدية.
 لغلو في حُجِّية الإجماع الأصولي.
 وغير ذلك من المؤلّفات.
 إن شاء الله نبدأ بالأستاذ محمد راتب النابلسي، فليتفضَّل.

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين.
 أيها الإخوة الكرام... كفى باللُّغة العربية شرفاً أن الله سبحانه وتعالى يقول:

﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) ﴾

( سورة يوسف )

 وقال في آيةٍ أخرى:

 

﴿قُرْآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ﴾

 

( سورة الزمر آية " 38 " )

 وفي آيةٍ ثالثة:

 

﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) ﴾

 

( سورة الشعراء )

 أيها الإخوة الأكارم... من خلال هذه الآيات، يُستنبط أنه لابد لهذه اللغة العربية التي شرَّفها الله بأن جعلها لغة القرآن، لابد لها من خصائص موضوعية حتى استحقت أن تكون لغة القرآن.
 لا تنسوا أيها الإخوة من باب المُقارنة والموازنة، أن الشعر الذي كتبه شكسبير في القرن السادس عشر، لا يمكن أن يقرأه أحد من الإنكليز إلا أن يقرأه مترجماً، بينما طلاَّبنا في المرحلة الثانوية، يقرأون شعر إمريء القَيْس:

 

ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي  بصبحٍ وما الاصباح منك بأمثلِ
* * *

 

 إمرؤ القيس عاش قبل ألفٍ وخمسمئة عام، الشيء الذي يلفت النظر، ثبات هذه اللغة، فما كُتِبَ فيها قبل ألفٍ وخمسمئة عام يقرؤه طلاَّبنا اليوم، أما ما كتبه شكسبير قبل أربعمئة عام، لا يمكن لواحدٍ أن يقرؤه إلا مترجماً الآن، هذه حقيقة، فأول خصيصةً لهذه اللغة ـ والفضل القرآن الكريم ـ أنها ثابتة، ومستمرة.
 شيءٌ أخر: لا يغيب عن أذهانكم أيها السادة، أن اللغات الإنسانية كثيرةٌ جداً، لكن علماء اللغة صنَّفوها إلى زُمَر، مِن هذه الزُمَر:
 اللغات المنعزلة، أي أن كل حرفٍ كلمة كاللغة الصينية، وفي هذه اللغة: عشرات الألوف من الحروف، وكل حرفٍ كلمة لا يضاف عليه، ولا يحذف منه.
 واللغات الالصاقية، كاللغة اليابانية والتركية، تضيف كلمةً فتنفي، أو تضيف كلمةً فتضيف معنىً آخر، كما هو الشأن في اللغة التركية.
 لكن اللغة العربية من أرقى اللغات الإنسانية، هذا باعتراف عددٍ كبير من علماء اللغة في العالم الغربي، ولكن اللغة تقوى يقوة قومها وتضعف بضعفهم.
 أولاً: هذه اللغة التي شرَّفنا الله بها ـ لغة القرآن ـ لغةٌ متصرِّفة، ففيها مصدر، وفيها فعل ماض، وفعل مضارع، وفعل أمر، واسم فاعل، واسم مفعول، واسم آلة، واسم تفضيل، وما إلى ذلك، فمن جذرٍ واحد: عَرَفَ، يَعْرِف، اعْرِف، عارِف، مَعْروف، تَعْريف، عَرّاف.
 من كلمة واحدة تأخذ عدداً كبيراً من الاشتقاقات، واللغة التي يشتق من جذورها لغةٌ راقية جدّاً، بل إن مجمع اللغة العربية في القاهرة أقرَّ المصدر الصناعي، أيْ أن أيَّة كلمةٍ يمكن أن تضيف لها ياءً مشددة وتاءً مربوطة، فتغدو مصدراً صناعياً.
 شيءٌ آخر أيها الإخوة: من خصائص هذه اللغة ؛ ظاهرة الإعراب، يقول الله عزَّ وجل:

﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾

( سورة فاطر آية " 28 " )

 هذه الضمة الصغيرة، والضمة كما تعلمون، هي واوٌ مَخْطوفة، والفتحة ألفٌ مخطوفة، والكسرة ياءٌ مخطوفة، بل إن الألف فتحةٌ ممدودة، والياء كسرةٌ ممدودة، والواو ضمّة ممدودة، إنها حروف العِلّة أو الحروف الصوتية، فحركةٌ واحدة تقلِب المعنى رأساً على عَقِب..

 

﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾

 

( سورة فاطر آية " 28 " )

 لأن لفظ الجلالة جاء مفتوحا فهو مفعول به مُقَدَّم، والعلماء فاعل مؤخَّر، من هذه الحركة الصغيرة التي جاءت على كلمة العلماء.
 قوله تعالى:

 

﴿وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى﴾

 

( سورة التوبة آية "40 " )

 لو أنك قرأت هذه الآية على غير ما أنزلت وقلت: وكلمة الله هي العليا. لفسد المعنى

 

﴿وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى﴾

 الآية:

 

 

﴿وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا﴾

 

( سورة التوبة آية "40 " )

 لو أنك عطفتها فقلت: جعل كلمة الذين كفروا السفلى. بعد أن كانت عليا، وكلمة الله عُليا بعد أن كانت ـ والعياذ بالله ـ فالمعنى فاسد، إنها حركةٌ واحدة تقلب المعنى رأساً على عَقِب.
 لذالك قالوا لغتنا تفهم فتقرأ صواباً، بينما بعض اللغات ؛ تقرأ فتفهم، أما عندنا في لغتنا لابد من أن تفهم المعنى حتى تُحْسِن قراءته، لذلك الذين يقرأون قراءةً متأنّيةً ينقلون أعينهم إلى كلمةٍ لاحقة، كي يفهم المعنى الدقيق، فينطق بالوجه الصحيح.
 القصة التي فيها ابنة الأسود الدؤلي قالت:
 يا أبتي ما أجملُ السماءَ.
 قال: نجومها.
 قالت: ليس هذا أريد، أريد أنها جميلة.
 قال: قولي ما أجملَ السماءَ.
 أنا أقف عند ظاهرة الإعراب، أيْ أنَّ هذه الحركة التي توضع على آخر حرفٍ في الكلمة، يتغير المعنى رأساً على عقب، هذا إن كانت هذه الحركة في أواخر الكلمات، أما إن كانت في خلال الحروف الداخلية، فهناك فرقٌ كبير بين المَنْصَب والمَنْصِب، بحركةٍ واحدةٍ تختلف عنها.
 شيءٌ آخر: إن كتبت كلمة " محمد " باللغة الإنكليزية، تحتاج إلى عشرة أحرف، لأن الحركة حرف والحرف حرف، أما عندنا تكتب " محمد " أربعة أحرف، على الميم ضمّة، والحاء عليها شدة وفتحة، والميم عليها فتحة، والدال تنوين وضمّة.
 فإذاً لغتنا لغةٌ مُخْتَزَلَة، بإمكان الصحفي العربي أن يأخذ حديثاً ويكتبه مباشرةً، دون أن يستخدم لغةً أخرى.
 لا يغيب عن ذهنكم الفرق بين البَر، والبُر، والبِر. البَر: هو اليابسة، والبُر: هو القمح، والبِر: هو الإحسان.
 والخَلْق، والخُلُق، والخَلِق.
 فمن دعاء النبي الكريم:

 

(( اللَّهُمَّ كما حَسَّنْتَ خَلْقِي فَحَسِّنْ خُلُقِي))

 

( الأذكار النووية: عن " علي " )

 فرقٌ كبير بين: والخُلُق، الخَلْق، والخَلِق.
 لكن في اللغة العربية شيئاً يلفت النظر ؛ مناسبة الحروف لمعانيها، فكل كلمةٍ فيها حرف " سين "، فيها معنى شعور داخلي ؛ نَفْس، حِس، أُنس، لَمْس، هَمْس، الحرف وحده في لغتنا له دلالة، أية كلمةٍ في الأعم الأغلب فيها حرف " السين " فيها معنى داخلى إحساس داخلي، همس، لمس، حس، أُنس.
 وأي كلمةٍ فيها حرف الغين، والغين وحدها تشير إلى شيءٍ قد غاب ؛ غياب، غامِض، غَريب.
 وأية كلمةٍ فيها حرف الراء، فيها فعل متتالي ؛ مَرَّ، جَرَّ، كَرَّ، فَرَّ.
 ومن طرائف هذا البحث اللغوي، أن الذي يغرق يغيب عن الأنظار، وضعنا " الغين "، يتتالى سقوطه، وضعنا "الراء"، يرتطم بالقاع، وضعنا " القاف ".
 إذاً مناسبة الحروف لمعانيها شيءٌ يلفت النظر، الحرف الواحد له معنى.
 شيءٌ آخر من خصائص هذه اللغة العربية: الاشتقاق، يعني من جذرٍ واحد، نأخذ فعلاً ماضياً، يدل على حدثٍ وقع في الزمن الماضي، وفعلاً مضارعاً يدل على حدثٍ وقع الآن، أو سيقع في المستقبل، وفعل أمرٍ أيْ أنَّ هذا الفعل يقع بعد الطَلَب، واسم فاعل، وله صيغ مبالغةٍ كثيرة ؛ فاعول، فاروق، فَعِل، حَذِر، فعول، كذوب، واسم المفعول، واسم الآلة، والصفة المُشَبّهة باسم الفاعل، واسم التفضيل، وما إلى ذالك.
 لكن في هذه اللغة أيضاً، شيئاً يلفت النظر هو: الاشتقاق الكبير، أي أنك إن أتيت بجذرٍ ثلاثي، كـ " عَلِمَ "، احتمالات هذا الجذر سِت، فعَلِمَ، ولَعَمَ، ومَلَعَ، وعَمِلَ، ولَمَعَ، ومَعَلَ. لو فتحنا معاجم اللغة لوجدنا بين هذه التقاليب السِت معنىً مشتركاً واحداً هو: الظهور بعد الخفاء.
 فهذه ظاهرة الاشتقاق الكبير، والاشتقاق الصرفي، وظاهرة الإعراب، وظاهرة الثبات.
 أما الترادُف ؛ إنَّك إن أردت أن تُعبِّر عن نظرٍ تقول: نَظَرَ. فإن نظرتَ وتمطَّيت تقول: استَشْرَفَ. فإن نظرت ولمست الشيء بيدك تقول: اسْتَشَفَّ. فإن ظهر الشيء واختفى تقول: لاحً. فإن نظرت وأعْرَضْت تقول: لَمَحَ. إن ظهر حِملاق العَين تقول: حَمْلَقَ. إن اتَّسعت حدقة العَين تقول: حَدَّقَ. إن نظرتَ مع المَحَبَّة تقول: حَدَّجَ. وفي الحديث الصحيح:

 

(( حَدِّثِ القومَ ما حَدَجُوك بأَبصارهم ))

 

( لسان العرب: عن ابن مسعود )

 وإن نظرت مع الاحتقار تقول: نظر شَذَرَاً. وإن نظرت مع الخوف تقول: شَخَصَ.

 

﴿فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾

 

( سورة الأنبياء: آية " 97 " )

 وإن كان النظر أعمق من الشيء المَادّي تقول: رأى. رأيت العِلْمَ نافعاً.
 فكلُّ كلمةٍ في اللغة لها معنىً دقيق، بل إن علماء اللغة قالوا: الحرف الأول والثاني هو أصل اللغة، والحرف الثالث يعطي معنىً إضافيا فرعياً للغة.
 لذلك سيدنا عمر يقول: " تعلَّموا العربية فإنها من الدين ".
 طبعاً هذا بحثٌ يطول جداً، والأولى أن يُلْقى على المُتَخَصِّصين، ولكن لا مانع من أن نأتي ببعض الأمثلة.
 لو انتقلنا إلى الفقرة الثانية من المحاضرة وهي:
 نظم القرآن الكريم
 قال تعالى:

 

﴿الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4)﴾

 

( سورة الرحمان )

 أيُعقل أن يُعَلَّم الإنسان القرآن قبل أن يُخلَق ؟! دققوا:

 

﴿الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4)﴾

 

( سورة الرحمان )

 ما معنى هذه الآية ؟ قال علماء التفسير: إنَّه لا يعقل أن يقدَّم تعليمُ القرآن على خَلْقِ الإنسان، فإذا قُدِّم، فهذا تقديمٌ رُتَبِيّ، لا تقديمٌ زمنيّ، ومعنى التقديم الرُتَبي: أنه لا معنى لوجود الإنسان من دون منهجٍ يسير عليه، لذلك بدأ الله عز وجل قال:

 

﴿الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4)﴾

 

( سورة الرحمان )

 الأقارب في القرآن الكريم ورد ذكرهم في أربع آيات، ولكن في كل آيةٍ جاء قريبٌ في الدرجة الأولى، فمثلاً يقول الله عز وجل:

 

﴿قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ﴾

 ألخ..

 

 

( سورة التوبة: آية " 24 " )

 بدأ بالأب، لأن الآية هنا في موضع الاعتزازِ الاجتماعيّ، والإنسان يعتزُّ بأبيه.
 أما في آية ثانية بُديءَ بالمرأة قال:

 

 

﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ﴾

 

( سورة آل عمران: آية " 14 " )

 في موضع الشهوة، بدأ الله عزَّ وجل الآية بالمرأة.
 وفي آية ثالثة يقول الله عزَّ وجل:

 

﴿يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) ﴾

 

( سورة المعارج )

 في موطن الفِداء أصعب شيءٍ أن يفتدي الإنسان بابنه.
 أما في موطن المعاونة:

 

﴿يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36)|﴾

 

( سورة عبس)

 الأب كبير والابن صغير، من يُعينُك ؟ أخوك.
 ففي موطن بُديَء بالأخ، وففي موطن بُديءَ بالابن، وففي موطن بُديءَ بالمرأة، وففي موطن بُديءَ بالأب، فترتيب الكلمات في القرآن الكريم شيءٌ يُلفت النظر.
 مما يُلفت النظر قوله تعالى:

 

﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي﴾

 

( سورة النور: آية " 2 " )

 وقوله تعالى:

 

﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ﴾

 

( سورة المائدة: آية " 38 " )

 لأن التي تُثير الرجل هي المرأة، فبُديءَ بها، أما الرجلُ أقدر على السرقة من المرأة، قال تعالى:

 

﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ﴾

 أما الآية الأولى:

 

 

﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي﴾

 الإنس والجِن ؛ في مرة جاء الإنس أولاً، وفي مرةٍ جاء الجن أولاً، في موطن خَرق السماوات والأرض بدأ الله بالجِن:

 

 

﴿يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ (33) ﴾

 

( سورة الرحمن )

 أما في موطن نَظْم الكلام بُديءَ بالإنس:

 

﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (88)﴾

 

( سورة الإسراء )

 مثلاً المال والأنفس في مُعظم الآيات بُديءَ بالمال ثم ثُنِّيَ بالنفس:

 

﴿وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِم﴾

 

( سورة الأنفال: آية " 72 " )

 بُديءَ بالمال وثُنِّيَ بالنَفس، السبب أن النَفس أهون عليها أن تسخو بمالها من أن تسخو بذاتها، فربُنا عز وجل بدأ بالأسهل..

 

﴿وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِم﴾

 إلا آيةً واحدة قال تعالى:

 

 

﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ ﴾

 

( سورة التوبة: آية " 111 " )

 في موطن البيع القَطْعِيّ نبدأ بالأهم، فقد تقول: اشتريت بيتاً ومركبةً. نبدأ بالأهم والأغلى..

 

﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ ﴾

 أما في معظم الآيات..

 

 

﴿وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴾

 

( سورة الحجرات: آية " 15 " )

 في معنى السمع والبصر، أكثر من عشرين آية قُدِّم السمع على البصر، لأنه ثبت علمياً أن حاسَّة السمع تتخلَّق قبل حاسة البصر، يبدأ عمل حاسة السمع في رحم الأم، بينما حاسة البصر تبدأ بعد الولادة..

 

﴿أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ﴾

 

( سورة المؤمنون: آية " 78 " )

 إلا في آية واحدة:

 

﴿رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا﴾

 

( سورة السجدة: آية " 12 " )

 لأن الضوء يقطع ثلاثمئة ألف كيلو متر في الثانية، بينما الصوت ثلاثمئة وأربعون متراً في الثانية، فربنا بدأ بالأسرع:

 

﴿رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا﴾

 من دقة نَظم القرآن الكريم قوله تعالى:

 

 

﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا﴾

 

( سورة هود: آية " 6 " )

 جاءت كلمة الـ " دابة " نَكِرة تنكير شُمول، لتشمَل الدوابّ كلَّها، وجاءت كلمة " مِن " هذا حرف جرٍ زائد لاستغراق أفراد النَوْع، يعني أيَّة دابَّةٍ مهما كانت صغيرةً أو كبيرةً، ظاهرةً أو غائبةً " على الله رزقها "، فجاءت كلمة دابة نكرة، وجاءت هذه النَكِرة مسبوقة بمِن لاستغراق أفراد النوع، ثم قال الله عز وجل:

 

﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا﴾

 هذا تركيب شرطي، أي أن رزق الدوابِّ محصورٌ بالله قطعاً..

 

 

﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا﴾

 أما: " على " حينما تأتي مع لفظ الجلالة، فهذا يعني أن الله ألزمَ نفسه برزق العِباد.
 لو أن الآية على خلاف ما جاءت، لو أن الله عز وجل يقول: "الدوابُّ على الله رزقها ". ليس هناك استغراق لأفراد النوع.
 لو أن الله عز وجل ما جعل الاستثناء قال: " الدواب الله يرزقها " ويرزقها غير الله.
 لو لم تأت كلمة " على الله " ليس ملزماً.
 " على " تفيد الالزام، والتنكير يفيد الشُمول، و" مِن " تفيد استغراق أفراد النوع، والنفي والاستثناء يفيد الحصر، و"على" تفيد الالزام، في كلمات قليلة، هذا هو القرآن الكريم..

 

 

﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا﴾

 

( سورة هود: آية " 6 " )

 مثلاً:

 

﴿وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ﴾

 

( سورة النحل: آية " 127 " )

 في آية أخرى:

 

﴿وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17)﴾

 

( سورة لقمان)

 في آية أُخرى:

 

﴿وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43)﴾

 

( سورة الشورى)

 لماذا هناك " لام " قالوا: حينما تأتي المصيبة من الله مباشرةً ينبغي أن تصبر، أما حينما تأتي على يد إنسان، فأنت مكلف أن تصبر صبراً أشد، هناك إنساناً أمامك يمكن أن تُقاتله، ينبغي أن تصبر، ولمن صبر على قضاء الله وقدره، وغفر لهذا الذي جُعِلَ هذا القضاء على يده..

 

﴿إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43)﴾

 فهذه " اللام " وحدها لها معنى كبير.
 أيها الإخوة...

 

 

﴿أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً﴾

 يعني المنطق يقول: " كمن كان كافراً "، الآية جاءت:

 

 

﴿أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً﴾

 

( سورة السجدة: آية " 18 " )

 لماذا هذا التبديل ؟ هناك معنى مستفاد من تبديل كلمة فاسق بكافر: أن الكافر لابُد من أن يَفْسِق، يُفهم بالمعنى المُقابل: وأن المؤمن لابد من أن يطيع الله عز وجل.

 

﴿إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183)﴾

 

( سورة الأعراف: آية " 183 " )

 المتانة مقاومة قوى الشد، بينما القساوة مقاومة قوى الضَغْط، فكأن تدبير الله عز وجل حبلٌ متين لا يُمكن أن يُقْطَع، فالإنسان مهما تحرَّك، ومهما علا، ومهما طغى، ومهما بغى مربوطٌ بحبلٍ، في أيَّة لحظ يُشدُّ الحبلُ فإذا هو في قبضة الله عز وجل..

 

﴿إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183)﴾

 يمكن أن نقف عند كل كلمة في القرآن الكريم، بل عند كل حرفٍ، وفضل كلام الله على كلام خلقه كفضل الله على خلقه.
 أيها الإخوة الكرام... يقول الله عز وجل:

 

 

﴿وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27)﴾

 

( سورة الحج )

 المعنى " من كل فجٍ بعيد "، فلِمَ جاءت كلمة " عميق " ؟ ذلك أن الكرة الأرضية كُرة، وكلما ابتعدت عن إحدى نقاطها صار الخط منحنياً، فالعمقُ أبلغ من البُعد على سطح الكرة..

 

﴿وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27)﴾

 

( سورة الحج )

 وهذا من إعجاز القرآن الكريم.

 

﴿اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا﴾

 

( سورة الرعد: آية " 2 " )

 كلكم يعلم أيها الإخوة أن الأرض تدور حول الشمس في مسار إهليلَجِيّ، وكلكم يعلم أيضاً أن هذه الأرض تنجذب إلى الشمس، وقانون التجاذب يتأثَّر بالمسافة، فإذا اقتربت الأرض من الشمس، لئلا تنجذب إلى الشمس تزداد سرعتها، لينشأ من هذا الازدياد قوةٌ نابذةٌ تكافئ القوة الجاذبة، فإذا وصلت إلى البُعْد الأعلى ( الشكل بيضوي )، قللت من سرعتها، لينشأ من هذا التقليل من سرعتها قوة جذبٍ لئلا تتفلَّت من الشمس، فالأرض بين أن تنجذب إلى الشمس فتتبخر في ثانيةٍ واحدة، لأن حرارة الشمس في مركزها عشرين مليون درجة، وإما أن تتفلَّت من أسر الشمس، فتدخل في الفضاء الخارجي، ويهلك من على الأرض، مالذي يحدث ؟
 لو أن هذه الأرض لسببٍ أو لآخر تفللتت من جاذبية الشمس، وسارت في الفضاء الخارجي، كيف يمكن أن نعيدها إلى الشمس ؟ قال: لابد من أن نربطها بمليون مليون حبل فولاذي، قطر كل حبلٍ خمسة أمتار، وهذا الحبل يقاوم مقاومة شد قدرها مليونين طن، يعني الأرض مربوطة إلى الشمس بقوةٍ جذبٍ تزيد عن مليونين ضرب مليون مليون، كل هذه القوَّة من أجل أن تحرِفَ مسار الأرض حول الشمس ثلاث ميليمترات في الثانية، من أجل أن ينشأ لها مسار مُغْلَق، والآية الكريمة وهي قوله تعالى:

 

﴿وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ (11)﴾

 

( سورة الطارق )

 فُسِّرَت في يومٍ ما بأن هذه البحار تتبخر فترجع أمطاراً، ثم فسِّرت بأن هذا البَث الإذاعي لا بد من أن يلقى طبقة الأثير فيرتد إلى الأرض، ولولاه لما كان هناك بث إذاعي إطلاقاً، لكن أحدث تفسير لهذه الآية: أن كل كوكبٍ في الكون يسير في مسارٍ مغلقٍ ويرجع إلى مكان إنطلاقه النسبيّ، وهذه صفةٌ تنتظم الكون كله..

 

﴿وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ (11)﴾

 

( سورة الطارق )

 أيها الإخوة الكرام... هناك حقيقةٌ مذهلة هي: أن في القرآن ما يزيد عن ألفٍ وثلاثمئة آيةٍ كونية. النبي بطريقةٍ أو بأخرى، أو بتوجيهٍ من الله عز وجل لم يشرحها إطلاقاً، في أي حُكم شرعي هناك مئات الأحاديث، بينما في آيات الكون ليس هناك أحاديث تشرحُها، وهذه حكمةٌ بالغةٌ بالغةٌ بالغة.
 ذلك أن النبي عليه الصلاة والسلام لو شرحها شرحاً بسيطاً يفهمه من حوله لأنكرنا عليه، ولو شرحها شرحاً عميقاً نفهمه نحن لأنكر عليه أصحابه، هذه الآيات الكونية هي الإعجاز المستمر إلى يوم القيامة للقرآن الكريم، فكلما تقدَّم العلم كشف عن جانبٍ من جوانب هذا الإعجاز.
 فلو أردنا أن نربط الأرض وقد خرجت من مسارها حول الشمس، لاحتجنا إلى مليون مليون حبل فولاذي، قطر كل حبلٍ خمس أمتار، ومقاومة شد كل حبلٍ مليونا طن، إذاً الأرض مربوطة بالشمس بمليونين ضرب مليون مليون طن، من أجل أن تحرفها ثلاثة ميليمتر كل ثانية، حتى ينشأ مسار مُغْلَق حول الشمس، أي:

 

﴿وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ (11)﴾

 

( سورة الطارق )

 لو أردنا أن نزرع هذه الحبال على سطح الأرض المقابل للشمس، لكانت الحقيقة المُذهلة أن بين كل حبلين خمسة أمتار ؛ انعدمت الصناعة والزراعة والبناء والحركة نهائياً، ماذا قال الله عز وجل:

 

﴿اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ﴾

 

( سورة الرعد: آية " 2 " )

 أي رفعها بعمدٍ لا ترونها، هناك أعمدةٌ تربط الأرض بالشمس ولكن لا ترونها، ويمكن أن نتحرك خلالها، هذا من الآيات الدالة على عظمة الله عز وجل.

 

﴿وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ﴾

 

( سورة الحج: آية " 47 " )

 دققوا في هذه الآية:

 

﴿وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47)﴾

 

( سورة الحج )

 علماء التفسير حاروا في هذه الآية، ذلك أنك لو فسرتها على النحو التالي: إن ما يفعله البشر جميعاً في ألف عام يفعله الله في يوم. المعنى لا يستقيم، لأن الله عز وجل:

﴿ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾

 وانتهى الأمر، ما معنى هذه الآية ؟
 اكتشف حديثاً ـ وأرجو أن يكون المعنى دقيقاً وواضحاً ـ طبعاً القمر يدور حول الأرض دورةً كل شهر، لو وصلنا بين مركز الأرض ومركز القمر بخط، لكان هذا الخط نصف قطر الدائرة التي هي مسار القمر حول الأرض، هذا الخط بين مركز الأرض ومركز القمر، هذا الخط المستقيم هو نصف قطر الدائرة، الذي هو مسار القمر حول الأرض، طبعاً نصف القطر ضرب اثنين طلع القطر، ضرب الـ " بي " طلع المحيط، بإمكاننا أن نحسب محيط مسار القمر حول الأرض بشكلٍ سريع جداً، لو ضربنا هذا الرقم باثتا عشر، لعرفنا كم يقطع القمر في رحلته حول الأرض في عام، لو ضربنا هذا الرقم بألف، لعرفنا كم يقطع القمر في رحلته حول الأرض في ألف عام، يقول الله عز وجل، وهو يخاطب أمةً عربيةً تحسب سنتها القمرية:

 

﴿وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47)﴾

 

( سورة الحج )

 لو قسَّمنا عدد الكيلو مترات التي يقطعها القمر في رحلته حول الأرض في ألف عام على ثواني اليوم، ستين ضرب ستين ضرب أربع وعشرين، لذهلنا بنتيجة لا تعقل، إنها سرعة الضوء، الدقيقة مئتين وتسعة وتسعين ألف وسبعمئة واثنين وخمسين، هذه الآية هي آية النسبية، يمكن أكبر اكتشاف كشفه أنشتاين النظرية النسبية، وهي أن الشيء إذا سار مع الضوء ـ سار بسرعة الضوء ـ أصبح ضوءاً، وأصبحت كتلته صفراً، وحجمه لا نهائياً، وتوقف الزمن، فإذا سبق الشيء الضوء تراجع الزمن.
 نظرياً يمكن لو سرنا في مركبةٍ أسرع من الضوء أن نرى معركة بدر في أثناء وقوعها، فلو قَصَّرنا عن الضوء تراخى الزمن، هذه النظرية بُنِيَت على السرعة المطلقة للضوء، مئتين وتسعة وتسعين ألف وسبعمئة واثنين وخمسين، لو قسَّمنا عدد الكيلو مترات التي يقطعها القمر في رحلته حول الأرض في ألف عام على ثواني اليوم، لكانت سرعة الضوء تماماً..

 

﴿وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47)﴾

 

( سورة الحج )

 للإمام عليٍّ كرم الله وجهه كلامٌ لطيف قال: " في القرآن آياتٌ لمَّا تفَسَّر بَعْد ".
 كلما تقدم العلم كشف عن جانبٍ من عظمة هذه الآية:

 

﴿وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى (46)﴾

 

( سورة النجم )

 ثبت الآن أن تحديد جنس المولود لا يتعلَّق بالبويضة إطلاقاً، بالحوين..

 

﴿وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى (46)﴾

 

( سورة النجم )

 الـ " إكس " والـ " واي "، هذه في النطفة لا في البويضة.
 يعني كلما قرأت القرآن قراءةً متأنيةً، وجدت أن القرآن الكريم يتضمَّن أصول العلوم كلها، بل إن هذه الطائرة التي وقعت، ألم يقل الله عز وجل:

 

﴿وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ ﴾

 

( سورة يوسف آية " 67 " )

 إنها إشارةٌ لطيفة في القرآن الكريم، إلى أنه لا ينبغي أن نُجَمِّع أناساً مهمِّين في مكانٍ واحد.
 ثم إنه قوله تعالى:

 

﴿مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (19) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ (20) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (21)﴾

 

( سورة الرحمن )

 هذه الآية حيَّرت العلماء، أين هذا البرزخ ؟ ثم اكتشف من خلال المَركبات الفضائية أن هناك خطاً بين كل بحرين، تباين ألوان، فلما جاء علماء البحار ودرسوا مثلاً البحر الأحمر والبحر العربي، البحر الأسود والأبيض، الأبيض والأطلسي، الهادي والأطلسي، عند هذه الاتصالات بين البحرين وجدوا أن مكوّنات كل بحر ثابتة لا تتغيَّر ؛ كثافته، وملوحته، وخصائصه، ومكوناته، لذلك قال تعالى:

 

﴿مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (19) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ (20) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (21)﴾

 

( سورة الرحمن )

 بل إن أسماك المياه المالحة لا تنتقل إلى المياه العذبة والعكس صحيح..

 

﴿وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً (53) ﴾

 

( سورة الفرقان )

 هذه الآيات الكونية التي تضمَّنها القرآن الكريم، والتي تزيد عن ألفٍ وثلاثمئة آية، هي آيات التعريف بالله عز وجل، إنها منهج التفكُّر في خلق السماوات والأرض، إن عبادة التفكُّر هي العبادة الأولى لقوله تعالى:

 

﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191)﴾

 

( سورة آل عمران )

 يتفكَّرون في خَلق السماوات والأرض، كما قلت في المحاضرة السابقة:
 إن التفكُّر في الكون هو أوسع بابٍ تدخل منه إلى الله، وأقصر طريقٍ تصل من خلاله إليه.
 وهذه العبادة تكاد تكون معطلةً، والناس يبحثون عن شيءٍ آخر، مع أن الدلائل التي تشُد الإنسان إلى الله متضمنةٌ في القرآن الكريم.
 أيها الإخوة الكرام... الآيات التي تتحدَّث عن إعجاز القرآن العلمي لا تعدُّ ولا تحصى، وإعجاز القرآن في نظمه ظواهره كثيرةٌ جداً، ولكن أخذ القليل خيرٌ من ترك الكثير.
 والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
 مقدم الندوة:
 هذا حقيقة حديثٌ شيق لا يُمَل، ويبين فضل اللغة العربية وإعجاز القرآن، ويثبِّت في النفس الإيمان بالله، وبأن هذا الكتاب لا يمكن أن يكون من بَشَر، نسأل الله سبحانه تعالى أن يجزي أستاذنا الفاضل خير الجزاء على هذه المعلومات الطريفة، ونرجو أن توثَّق وتوضع في كتب حتى تكون في المتناول.

 

تحميل النص

إخفاء الصور