وضع داكن
29-03-2024
Logo
موضوعات مختلفة في العقيدة - الدرس : 07 - آيات تتعلق بالعقيدة - معاني تعدية الأفعال في القرآن.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

فهم بعض الناس آيات القرآن الكريم عكس ما أراده الله تعالى :

 أيها الأخوة المؤمنون، موضوع الدرس اليوم موضوع جديد ونادر، ذلك أن الإنسان حينما يقرأ القرآن قد يفهم من بعض الآيات معنىً معيَّناً بادي الأمر، وقد يكون هذا المعنى عكس ما أراده الله سبحانه وتعالى، وأوْضَح مثل حينما تجد أن الإضلال معزوٌّ إلى الله في القرآن الكريم، قال تعالى:

﴿ ِ أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ﴾

[سورة الجاثية: 23]

 يتبادر إلى الذهن أن الله خلق هذا الإنسان ضالاً في أصل التكوين، وقدّر عليه الضلال، ثم يجعله في جهنم إلى أبد الآبدين، مهما حاولت أن تؤول المعنى تشعر بضيقٍ.
 إله عظيم غني عن تعذيب عباده، يخلقه ضالاً في أصل تكوينه، ويقدِّر عليه النار إلى أبد الآبدين.
 الحقيقة (أضل) فعل مُتَعَدٍ، ففي اللغة أفعال لازمة، مثل: نام، وغضب، وسرَّ، وحزن، هذه أفعال لازمة، وفيها أفعال متعدية، مثل: أعطى، ومنح، و(أضل) فعل متعدٍ، فإذا فهِم الإنسان أن الله سبحانه وتعالى هو الذي أضل عباده، يقول: يا رب كيف أفهم هذه الآية؟!

 

اختيار الله تعالى للغة العربية لتكون لغة القرآن يفرض علينا فهم حقيقة هذه اللغة :

 قال تعالى:

﴿ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً ﴾

[سورة الكهف: 28]

 قد يبدو لك من هذه الآية أيضاً أن الله هو الذي أغفل هذا القلب عن ذكر الله، قد يقول قائل: لماذا يعذبه، وماذا فعل؟ فاللهُ هو الذي أغفل قلبه عن ذكره، وللإيضاح أقول: أولاً أيها الأخوة، لا تستطيع أن تفهم القرآن الكريم بمعلومات متواضعة جداً عن اللغة العربية، لا بد من التعمق في فهم اللغة، لأن اللغة العربية اختارها الله لتكون لغة كلامه، قال تعالى:

﴿ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾

[ سورة الزخرف: 2]

﴿ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ ﴾

[ سورة الشعراء: 195]

 فحينما اختار الله سبحانه وتعالى اللغة العربية لتكون لغة القرآن دلَّ ذلك أنه ينبغي أن نفهم حقيقة هذه اللغة، فهل كل فعلٍ متعدٍ يعني أن الفاعل خلَق الفعلَ في المفعول به، أم أن هناك معاني أخرى، فإنْ كان هناك معانٍ أخرى فالقضية متعلقة بالعقيدة، ولو أن اللغة علاقتها بكلام البشر لكانت القضية سهلة، نفهم أوْ لا نفهم، نؤول أو لا نؤول، لكن القضية متعلقة بكلام الله عز وجل، وكلام الله عز وجل أخطر كلام في حياتنا.

 

الآيات المتشابهة مهما كثرت تُحمَل على الآيات المحكمة مهما قلَّت :

 مثلاً لو فهمت قوله تعالى:

﴿ فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ﴾

[ سورة الشمس: 8]

 على أنه أجبرها على الفجور فهذا اعتقاد فاسد، هذا اعتقاد لا يليق بالله عز وجل، بل ينبغي أن تفهم الآية على أنه ألهمها إذا فجرت أنْ تدرك أنها فجرت، هذا معنى راقٍ جداً، وإنّ الله عز وجل خلق النفس على فطرة عالية، فإذا انحرفت تدرك أنها انحرفت، وإذا فجرت تدرك أنها فجرت، وإذا أخطأت تدرك أنها أخطأت، وهذا من خصائص الفطرة، فثمّة فرق كبير جداً بين أن تفهم (ألهمها فجورها )، أنّ اللهَ أجبرها على الفجور ولا ذنب لها، وسيعاقبها، وقد تخلد إلى أبد الآبدين في جهنم وبئس المصير، وبين أن تفهم أنه ألهمها فجورها وتقواها، أي أنه رسم لها طريق الخير وطريق الشر ومنحها حرية الاختيار، وأنها حينما تَفجُر فبفطرتها تعرف أنها تفجر، وحينما تتقي فبفطرتها تعرف أنها تتقي، يؤكد هذا المعنى قوله تعالى:

﴿ بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ﴾

[ سورة القيامة: 14]

 شتان بين أن تفهم أن الله سبحانه وتعالى عَدْلٌ في أحكامه، وأسماؤه حسنى، وصفاته فضلى، وبين أن تفهم فهماً جبرياً ما أراده الله عز وجل، القرآن الكريم يؤيد بعضه بعضاً، لو فهمت أن الله أجبرها على أن تكون فاجرة، فكيف تفهم قوله تعالى:

﴿ سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ ﴾

[ سورة الأنعام: 148]

 هذه الآية أصل في نفي الجبر، ولو أن هناك مئتي آية يشم منها رائحة الجبر، يجب أن تُحمَل الآيات المتشابهة على الآيات المحكمة، هذه قاعدة في أصول الفقه، المتشابهات مهما كثرت تُحمَل على المحكمات مهما قلَّت.

 

التعدي في اللغة العربية :

 لو رجعنا إلى اللغة العربية ماذا يعني تعدي الفعل؟ قال علماء اللغة: يعني التَّسَبُّب، فمعنى أعطاه أيْ كان سبب العطاء أو الحكم، أضله أي وجده ضالاً، وليس معنى (أضله) أنه خلق الضلال فيه، لا، بل معناه وجده ضالاً، أو القضاء قضى عليه بالضلال، أو الاتهام: وقد يكون بريئاً، أو العلم: علمه ضالاً، هذه كتب اللغة، وهناك شواهد كثيرة.
 التعدي في اللغة يعني التسبُّب، والحكم، والقضاء، والعلم، وأحد هذه المعاني التسبب، فإذا فهمت (أضله الله) بمعنى أنه سبب، أن الله هو الذي سبب الضلالة في المخلوق، أو خلقه ضالاً في أصل التكوين، فقد اتهمت الله بما لا يليق به، فقد ظننت به غير الحق، أيْ ظن الجاهلية.
 أيها الأخوة، أنا لا أبالغ إذا قلت: إنّ عدداً كبيراً يزيد على الثلثين من بين المسلمين يعتقدون أن الله يجبر عباده على المعاصي، لذلك يقولون: لا ندري أين المصير وبهذا الفهم نعطِّل آيات العدل، ونعطِّل آيات الرحمة، ونعطِّل آيات الكمال، والخطأ في العقيدة خطأ فاحش، لأنّ الإنسان عندما يحتار لا يبالي، واللامبالاة أحد أسبابها الحيرة، هذه آيات يفهمها الناسُ أنّ الله خَلَق الإنسان ضالاً في أصل التكوين، وقدّر عليه قبل أن يُخلَق أن يكون ضالاً، وسوف يضعه في جهنم إلى أبد الآبدين، دون أن يفعل شيئاً، فهو ما فعل إلا أنه نفذ أمر الله، فبين أن تسيء الظن بالله، وبين أن تبتعد عن الله، وأنت لا تدري، وبين أن تظن بالله غير الحق ظن الجاهلية، وبين أن تنفر نفسك من هذا الدين، وبين أن تفهم الدين فهماً صحيحاً، فهماً قوامه العدل، قوامه الرحمة.

من رأى أن فعْلَ الإضلال معزواً إلى الله فهو تعدية حكم أو قضاء أو علم :

 إذا قرأت في القرآن الكريم:

﴿ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ ﴾

[ سورة النحل: 93]

﴿ أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ﴾

[ سورة الجاثية: 23]

﴿ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ﴾

[ سورة الرعد: 33]

 إذا رأيت فعْلَ الإضلال معزواً إلى الله فإياك أن تفهم أن هذه التعدية تعدية تَسَبُّب، إنها تعدية حكم، أو تعدية قضاء، أو تعدية علم، وإليكم الأدلة:
 زار عمرو بن معد يكرب رئيس بني سليم، فأعطاه عشرين ألف درهم وسيفاً، وفرساً، وغلاماً خبازاً، وثياباً، وطيباً، فقال عمرو: لله دركم يا بني سليم قاتلتها فما أجبنتها، وسألتها فما أبخلتها، وهاجيتها فما أفحمتها، هذا في لسان العرب، وهو معجَم من أدق وأوسع معاجم اللغة.
 "قاتلتها فما أجبنتها"، أي ما وجدتها جبانةً، و"سألتها فما أبخلتها"، أَبْخَلَ على وزن أضلَّ، ما أبخلتها أي ما وجدتها بخيلةً، و"هاجيتها فما أفحمتها"، أي ما وجدتها مفحمةً، بل فصيحة البيان، طليقة اللسان. فالأفعال: أفحم، أجبن، أبخل، هل معنى أن عمرو بن معد يكرب خلق البخل عند بني سليم، هذا نص جاهلي، وهذه لغة العرب، وهذا لسان العرب، قال تعالى:

﴿ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ ﴾

[ سورة الشعراء: 195]

ليس كل فعل متعدٍ يُفهم منه أن الفاعل سبَّب المفعول به :

 أنت ليس لك الحق على معلومات متواضعة باللغة، على فهم ساذج، على فهم أولي، أنْ تقول: أضله الله، أي أن الله خلق الضلال فيه، هذا المعنى لا يليق بذات الله، ولا بكماله، ولا بأسمائه الحسنى، ولا صفاته الفضلى، هذا ظن غير صحيح، قال تعالى:

﴿ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ ﴾

[ سورة آل عمران: 154]

 وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

((إِنَّ حُسْنَ الظَّنِّ بِاللَّهِ مِنْ حُسْنِ عِبَادَةِ اللَّهِ))

[الترمذي وأبو داود وأحمد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ]

 هل معنى أن يتعدى الفعل إلى المفعول به بمعنى خلق المفعول به؟ معنى ذلك قوله تعالى:

﴿ أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى* وَوَجَدَكَ ضَالّاً فَهَدَى* وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى ﴾

[ سورة الضحى: 6-8]

 أضله: أي وجده ضالاً، أضله: أي علِمه ضالاً، أضله: أي حَكَم عليه بالضلال، أضله أي قضى عليه بالضلال، أضله في غير القرآن الكريم أي: اتهمه بالضلال، يقال لغةً: أَجْبَنَه أي: وَجَدَه جباناً، أو حسِبه، وظنّه جباناً، جَبَّنه تجبيناً إذا نسبه إلى الجبن، بَخَّله أي: نَسَبه إلى البخل، وتقول في اللغة العربية: جَبَّنت الرجلَ، وبَخَّلته، وجَهَّلته إذا نسبته إلى الجبن والبخل والجهل، تقول: جَبِّنته، وبخَّلته، وجهّلته، إذا وجدته جباناً بخيلاً جاهلاً.
 ليس كل فعل متعدٍ يُفهم منه أن الفاعل سبَّب المفعول به، لكن الفاعل وجد المفعول به هكذا، أو حكم عليه، أو قضى عليه.

 

كلما قرأت في القرآن آية تَنسِب الضلال أو الغفلة إلى الله فصحِّحْ مفاهيمك :

 الآن أفهم آية في كتاب الله بمعنى أضله: أي وجده ضالاً، أضله حكم عليه بالضلال، ولا تعتقدْ عقيدة جبرية ما أنزل الله بها من سلطان، فأنت بهذا الفهم الدقيق للغة العرب لا تحتاج إلى تأويل، بل تفهم النصوص بلا تأويل، أضله: أي وجده ضالاً.
 الآن تقول لغةً: أغفلت الرجل إذا أصبتُه فوجدتُه غافلاً، قال تعالى:

﴿ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً ﴾

[سورة الكهف: 28]

 نظر الله إلى قلبه فوجده غافلاً، فالإنسان الضعيف في اللغة قد يفهم "أغفل قلبه" أي: خَلَق فيه الغفلة، والفرق كبير جداً بيْنَ أن تفهم أن الله خلق الغفلة في القلب، يا رب كيف تحاسبه وأنت الذي أغفلتَ قلبه عن ذكرك؟ وبين أن تفهم حقيقة اللغة: أغفلت الرجل أي وجدته غافلاً، بَرَّأت الرجل أي حكمت أنه بريء، فهل القاضي هو الذي خلق البراءة في الرجل؟ لا، لقد حَكَم عليه بالبراءة، فرق كبير بين أن يخلق البراءة وبين أن يحكم عليه بالبراءة.
 أنا أضع بين أيديكم ما في معاجم اللغة العربية، وهو درس نادر، درس في اللغة العربية يتحدّث عن معانٍ عديدة للتعدية، فكلما قرأت في القرآن آية تَنسِب الضلال إلى الله، أو الغفلة إلى الله فصحِّحْ مفاهيمك، قال تعالى:

﴿ قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ﴾

[ سورة الأعراف: 16 ]

 المعنى الساذج مبني على معلومات بسيطة في اللغة العربية، الشيطان بريء، إلا أن الله أغواه، وجعله شيطاناً، فهذه مشكلة كبيرة جداً.

 

الإثناء على الأفعال الطيبة :

 برّأته أي حكمت عليه بالبراءة، أغفلته وجدته غافلاً، ألا يقول العلماء: القلب منظر الرب، نظر الله إلى قلبه فوجده غافلاً، فتح أبٌ الباب على ابنه فوجده نائماً، نظر إليه فوجده غافلاً، وهذا معنى قوله تعالى:

﴿ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً ﴾

[سورة الكهف: 28]

 إياك أن تظن أن الله خلق الغفلة في قلبه، هذا لا يليق بالله عز وجل، هذا يتناقض مع رحمة الله، مع المنطق السليم، أغفل: وجده غافلاً، أضل: وجده ضالاً، أحلمت الرجل: إذا وجدته حليماً، أو وصفته بالحلم، وسميته حليماً، الآن خطَّأت الرجل: هل معنى ذلك أنه خلق الخطأ فيه؟ لا، بل خطّأت الرجل إذا حكمت عليه بأنه مخطئ، وهذا شيء نستعمله في الحياة اليومية، خطَّأه: أي بيَّنَ خطأه، هل معنى خطَّأه أي: خَلَق فيه الخطأ، أعوذ بالله، أو أنه أجبره على الخطأ، فلان خطَّأته، وهذه يستعملها العامة أي: نظرت إلى فعله فرأيته خطأً.
 صوَّبت الرجل أي: حكمت عليه بأنه مصيب، أو وصفته بالإصابة، لهذا يقال: إذا أصبتُ فصوِّبوني، هناك أشخاص بُخَلاء إذا رأى أحدُهم فعلاً حكيماً دقيقاً يبقى ساكتاً، عَوِّدْ نفسك أنْ تقدِّر الناس، إذا وقف إنسان موقفاً راقياً، وعمل عملاً طيباً فأثْنِ عليه، وبَيِّن له أنك تقدِّره، هذا من صفات المؤمنين، وهذا من كمال الإنسان، وهذا ممَّا فعله النبي صلى الله عليه وسلم، إنسان يتلقى آلاف الخدمات، ويبقى ساكتاً، فهذا كِبْر، إنسان فعَل فعلاً جميلاً أمامك، أو وقف موقفاً أخلاقياً فمِن المفروض أن تثنيَ عليه تشجيعاً له، لأن الحق بيِّنٌ والباطل بيِّنٌ، وإذا أثنيت على إنسان منحرف أغضبتَ اللهَ، فإن الله ليغضب إذا مُدِح الفاسق، عود نفسك كلما رأيت فعلاً جميلاً طيباً أن تثني عليه، وفي هذا تشجيعٌ له على مواصلة الطريق. خطَّأت الرجل أي: حكمت عليه بأنه مخطئ، وصوَّبته أي: حكمت عليه بأنه مصيب، وسوَّأت الرجل أي: حكمت عليه بأنه أساء، وعلى هذا يقال: إنْ أسأت فسوِّئ علي، أي بلِّغني، وانصحني.

 

على الإنسان أن يحسن الظن بالله تعالى وألا يفهم اللغة فهماً ضيقاً وساذجاً :

 سيدنا عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى ورضي عنه عدَّه المؤرخون خامس الخلفاء الراشدين، كان يلازمه عالم جليل، اسمه أبو حازم، قال له: يا أبا حازم كن إلى جانبي دائماً، فإذا رأيتني ضللت فأمسكني من تلابيبي، وهزَّني هزاً عنيفاً، وقل لي: اتَّقِ الله يا عمر، فإنك ستموت، هذه مهمته.
 ومعنى الفعل المتعدي قد يعني الاتهام، زنّاه إذا اتهمه بالزنا، أو حكم عليه قضاءً بالزنا، وقد يكون بريئاً من الزنا.
 إذاً صار التسبُّب، الوجود ـ وجدته ضالاً ـ الحكم، القضاء، الاتهام، هذه خمس معانٍ من معاني التعدية في اللغة العربية، فكلما قرأتَ حكماً في اللغة العربية يجب أن تبحث عن المعنى المناسب الذي يليق بكمال الله عز وجل، دون أن تفهم اللغة فهماً ضيقاً وساذجاً، وبسيطاً، وتتهم الله وأنت لا تدري، قال تعالى:

﴿ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً ﴾

[سورة الفتح: 6]

 قال تعالى:

﴿ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾

[سورة آل عمران: 154]

 عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

((إِنَّ حُسْنَ الظَّنِّ بِاللَّهِ مِنْ حُسْنِ عِبَادَةِ اللَّهِ))

[الترمذي وأبو داود وأحمد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ]

عدة معانٍ لكلمة (الوحي) :

 الآن مع فعل (جعل)، من الغباء أن تتوهم أن للكلمة في القرآن معنىً واحداً، وأوضَحُ مثل أضعه بين أيديكم فعل (أوحى)، قال تعالى:

﴿ إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا* وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا* وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا* يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا* بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا ﴾

[ سورة الزلزلة: 1-5]

 هذا وحي موجَّه إلى الجماد، معنى الوحي هنا الأمر، فإنَّ الله عز وجل أَمَرَها أن تنصاع.

﴿ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ﴾

[ سورة فصلت: 11]

 اللهُ عز وجل أمْرُه كن فيكون، فإذا تعلق الوحي بالجماد فهو الأمر، قال تعالى:

﴿ وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ ﴾

[ سورة النحل: 68]

 أما إذا تعلَّق الوحيُ بالحيوان فهو الغريزة، قال تعالى:

﴿ وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴾

[ سورة القصص: 7]

 وإذا تعلَّق الوحيُ بالإنسان العادي فيعني الإلهام، قال تعالى:

﴿ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ ﴾

[ سورة يوسف: 3]

 وحْيُ جبريل وحيُ مَلَكٍ، ووحيُ رسالةٍ.

 

يجب أن نفهم الكلمة مِن السباق و السياق و اللحاق :

 القاعدة الأساسية أنه لا يمكن أن يكون للكلمة في القرآن معنى واحد، بل لها معنى يُحَدَّد مِن السياق، والعلماء يقولون: هناك معنى سِباق، ومعنى سياق، ومعنى لحاق، فالكلمة يتضح معناها مما قبلها، مثلاً قال تعالى:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ* كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ ﴾

[ سورة الصف: 2-3]

 (تقولون ما لا تفعلون) كيف نفهمها؟ مِن اللِّحاق، فنحن نفهم الكلمة مِن السباق، ومن السياق، ومن اللحاق، أي ما قبلها يلقي عليها ضوءاً، وما بعدها يلقي عليها ضوءاً، وما حولها يلقي عليها ضوءاً، هكذا تفهم اللغة.
 نعود الآن إلى (جعَل)، تأتي في القرآن الكريم بمعنى الفعل والخلق، وتأتي بمعنى الاعتقاد، قال تعالى:

﴿ الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ ﴾

[ سورة ق: 26]

 فلا يمكن فهمُ (جعَل) بمعنى خلق مع الله إلهاً، هل هذا معقول؟ إنه مستحيل، معنى (جعل) هنا أي اعتقد، ومِن معاني الجعْل هو الخلْق، قال تعالى:

﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾

[ سورة الروم: 21]

 هنا (جعل) بمعنى خلق فالمودة والرحمة بين الزوجين من خلْق الله، (جعل) حينما تعلقت بالمودة والرحمة بين الزوجين فهي الخلق، أما جعل مع الآلهة الأخرى فهي الاعتقاد.

 

كلما قرأت القرآن فدقِّق فما كل فعلٍ يُفهَم فهماً ساذجاً محدوداً :

 قال تعالى:

﴿ الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ ﴾

[ سورة ق: 26]

﴿ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ ﴾

[ سورة الأنعام: 100]

 أهمْ خلقوا الجن؟ لا، وهل اعتقدوا أن الجن لها فعْلُها في الحياة؟ قال تعالى:

﴿ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً ﴾

[ سورة الإسراء: 33]

 ليس المعنى (الخلق) ولا (الاعتقاد)، لكن هنا الحكم، ومَن قُتِل مظلوماً فقد حكمنا لوليه أن يكون ذا سلطان في قتل القاتل.
 بمعنى الخلق، الاعتقاد، الحكم، كلما قرأت القرآن فدقِّق، فما كل فعلٍ يُفهَم فهماً ساذجاً محدوداً، كل فعلٍ له معنى سباقي، أو لحاقي، أو سياقي، مثلاً، قال تعالى:

﴿ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى ﴾

[ سورة النجم: 32]

 إنّ الله عز وجل ينهانا أن نزكي أنفسنا، ثم يقول في آيةٍ أخرى:

﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا ﴾

[ سورة الشمس: 9]

 الفعل نفسه مرة فيه نهيٌ، ومرة فيه أمرٌ، (لا تزكوا أنفسكم) لا تنسبوا لها الصفات الراقية مِن عند أنفسكم، أما: (قد أفلح من زكاها): عرَف اللهَ، وعَرَف أمْرَه، وحَمَل نفسه على طاعة الله حتى سَمَتْ فزكتْ، فبينهما اختلاف كبير.

 

الحكم بتزكية النفس ليس لنا وإنما هو لله :

 قال تعالى:

﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى ﴾

[ سورة الأعلى: 14]

﴿ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى ﴾

[ سورة النجم: 32]

 لا تحكموا لأنفسكم بأنكم أزكياء طاهرون، والمؤمن إذا زكّى إنساناً يقول: ولا أزكِّي على الله أحداً، هذا عِلْمي به فإنْ بدَّل وغيَّر فلا علم لي بالغيب، وسيدنا الصديق عندما ولّى عمر زكَّاه بما يعلم فيه، لا تزكوا أنفسكم، كما أنه لا تزكُّوا على الله أحداً، لا تكنْ وصيّاً على الناس، تعطي شهادات حسن سلوك، أنت لست وصياً على الناس، فالحكم بتزكية النفس ليس لكم، وإنما هو لله:

﴿ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى ﴾

[ سورة النجم: 32]

 قال تعالى:

﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى* وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى ﴾

[ سورة الأعلى: 14-15]

﴿ فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا*قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا *وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ﴾

[ سورة الشمس: 8-10 ]

 قد أفلح من زكاها، أي قد أفلح مَن جعَل نفسه بإرادته وعمله زكيَّةً طاهرةً مِن الكفر والمعاصي، هذا فعل (لا تزكوا) (وقد أفلح من زكاها) لا بد من معانٍ مختلفة في الكلمة.

 

تنزّه وتقدّس الله جلّ جلاله أنْ يخلق الغوايةَ في نفس الإنسان :

 قال تعالى:

﴿ قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ﴾

[ سورة الحجر: 39]

 معنى (أغويتني)، حكمت علي بالغواية، فهذه كلها آيات متشابهات، إذا تلاها الإنسان فليس له إلا أنْ يعود إلى حقائق اللغة، قال تعالى:

﴿ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً ﴾

[ سورة الفرقان: 59]

 يأمرك أن تسأل خبيراً، وقال تعالى:

﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾

 فقوله تعالى:

﴿ قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ﴾

[ سورة الحجر: 39 ]

 أي بما حكمت علي بالغواية، بل نظرت إليَّ فوجدتني غاوياً وما حكمت عليَّ بالغواية بعد ابتلائي بأمر السجود، فطردتني من رحمتك، هذه مقالة إبليس، وليس معنى هذا أن الله عز وجل خلق فيه غوايةً، فقد تنزَّه وتقدَّس الله جل جلاله أنْ يخلق الغوايةَ في نفس الإنسان.

 

الإزاغة الجزائية مبنية على زيغ اختياري :

 مما يؤيد هذه المعاني، قال تعالى:

﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ﴾

[ سورة الصف: 5 ]

 ودخلنا الآن في موضوع ذكرته لكم سابقاً، وهو أن هذا الزيغ الثاني إزاغة جزائية بُنِيَتْ على زيغ اختياري، وإضلال جزائي بني على ضلال اختياري، وإليكم المثل الذي أذكره كثيراً: طالب في الجامعة لم يدرس، ولم يتقدم للامتحان، لم يشتر الكتب، لم يداوم إطلاقاً، أُرسل له الإنذار تلو الإنذار، نُصِح كثيراً، فأصرّ على موقفه مِن ترك الجامعة، ثم صدر قرار بترقينِ قيده، وفصله من الجامعة، هل هذا القرار إجبار على تركه الجامعة، أو تجسيد لرغبته التي أصرّ عليها، إنها الإزاغة الجزائية المبنية على زيغ اختياري.
 هذا الكلام اللغوي مهم جداً فيما يتعلق بالقرآن الكريم، لأنه كلام الله، ومنه تؤخذ العقيدة، فلو لم تَفهَم معنى الكلمات في أصل اللغة لاتَّهمتَ الله بأنه خَلَقَ الزيغ، وخَلَق الغوايةَ، وخلق الغفلة، وخلق الضلال، لماذا خلقنا إذاً؟ خلَقنا ليُضل أنفسنا عن سبيل الله؟ حاشَ لله، وكلا، أفخَلَق فينا الضلال، وخلق فينا الغواية، وخلق فينا الغفلة، ونهانا أن نزكي أنفسنا؟ هذا المعنى الساذج لهذه الآيات. أيضاً قوله تعالى:

﴿ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً ﴾

[سورة الكهف: 28]

 أي لا تطع مَن وجدنا قلبه غافلاً عن ذكرنا فَحَكَمْنا عليه بأنه غافل.

 

سبب السعادة الكبرى هذه المشيئة الحرة في نفس الإنسان :

 قال تعالى:

﴿ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾

[سورة التكوير: 29]

 يقول لك بعضُهم: الأمر له، حقّاً الأمر له، ولكن أنت مخير، والله عز وجل حينما خلق الإنسان، وأعطاه حرية الاختيار، قال تعالى:

﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾

[سورة البقرة: 286]

 أي لولا أن الله شاء لكم أن تكونوا أصحاب مشيئة حرة لما شئتم، وسبب السعادة الكبرى هذه المشيئة الحرة في نفس الإنسان، ولولا أن الله خلق هذه المشيئة الحرة لما أمكنكم أن تختاروا الخير، وما تشاؤون إلا أن يشاء الله، لا بالمعنى الجبري، بالمعنى الإحساني، أي خلق الله سبحانه وتعالى في الإنسان حرية الاختيار، فاختار الله ورسوله، فسعد بالدنيا والآخرة، نقول له: لولا أن الله خلق الإنسان بشكل يختار لما سعد بهذا الاختيار، الله صاحب الفضل، لذلك كل الفضل منسوب إلى الله، وكل الشر منسوب إلى الإنسان، فعَنْ عَلِيٍّ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:

((وَاصْرِفْ عَنِّي سَيِّئَهَا لا يَصْرِفُ عَنِّي سَيِّئَهَا إِلا أَنْتَ لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي يَدَيْكَ وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ أَنَا بِكَ وَإِلَيْكَ تَبَارَكْتَ وَتَعَالَيْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ))

[مسلم عَنْ عَلِيٍّ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ]

الهداية لا بتقييم الناس بل بتقييم الله :

 هذه آية أخرى قال تعالى:

﴿ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴾

[سورة الأعراف: 178]

 (من يهدِ الله) أي من يحكم الله له بالهداية فهو المهتدي حقاً، الهداية لا بتقييم الناس بل بتقييم الله، كل إنسان يدعي الهدى، كل إنسان يدعي أنه على حق، وهو المفلح، هو الناجح، هو المتفوق، هو الذي اختار الصحيح، لا، بل مَن يهدِ الله، أي من يحكم الله له بالهداية فهو المهتدي، المهتدي بتقييم الله له لا بتقييم الناس، هناك أشخاص كثيرون أذكياء، ينتزعون إعجاب الناس، لكنهم ليسوا على حق، أحياناً يكون الإنسان تاجراً لطيفاً، لسانه أحلى من العسل، ينتزع إعجاب الناس، لكن العبرة أن تكون مهتدياً عند الله، وليس معنى هذا أن الله خلق الضلالة والهداية في الإنسان، لكنْ مَن وجده الله ضالاً فهذا هو الضلال الحقيقي، وَمَن حَكَم الله عليه بالضلال الحقيقي فهو الضال.
 المعنى: من يحكم الله له بالهداية فهو المهتدي حقاً، لأنه هو حقاً العليم بقلوب العباد وما فيها من هداية وضلال، فإذا حكم الله بالهداية فحكمه الحق، وكذلك من يحكم الله عليه بالضلالة فهو الضال حقاً، ولن تجد له من دون الله ولياً ينصره فيحكم له بالرشاد وينجيه من عذاب الله.

 

الإنسان الجاهل يفهم آيات القرآن الكريم فهماً ما أراده الله :

 أحياناً وعاظ كثيرون، وخطباء كثيرون يقعون في مزلق يعطي المستمعين فكرة غير صحيحة عن الله عز وجل، فماذا يقولون؟ يقول أحدُهم: إن هؤلاء الكفار مفطورون على الشر أو على الكفر، هذا مِن فساد فطرتهم، هذا من خبث فطرتهم، هذا من جِبِلَّتهم السيئة، هذا كلام أدبي، ولكنه غير علمي، فإذا كان الكافر له جبلة سيئة، فطرة سيئة، فمَن خلق فيه هذا السوء؟ الجواب: الله، لكنّ الله ما قال هذا، قال تعالى:

﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾

[سورة الروم: 30]

 الشرح الإلهي ليس هكذا، قد يكون الخطيب منفعلاً، فيقول لك: فطرتهم خبيثة، فمَن فطرهم هذه الفطرة الخبيثة؟ الناس في الأصل خيِّرون جميعاً، سيارة من أرقى ماركة، قادها إنسان سكران، نزل بها في الوادي فتحطمت، لو قال أحدهم: أهكذا يصنع المعمل السيارة؟ نقول له: لا، هذا مِن أثرِ مَن قادها وهو سكران، هي جميلة جداً، خطوطها انسيابية، لمّاعة، برّاقة، مُريحة، أما هذا الوضع الأخير فبسببِ مَن قادها.
 أحياناً الإنسان يفهم الآية فهماً ما أراده الله، قال تعالى:

﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾

[سورة البقرة: 282]

 يكفي أن تتقي الله حتى ينساب العلم إلى قلبك، وفي حديث النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

((مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْراً يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ وَإِنَّمَا الْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ))

[البخاري عن حميد بن عبد الرحمن]

 كيف نفهم الآية والحديث، (إنما) أداةُ قصر وحصر، طريق العلم وحده هو التعلُّم والدراسة، أن تجلس في مجلس علم، أن تقرأ، أن تصغي، أن تذاكر، أن تراجع، ولو أن المعنى الذي تريده من الآية هكذا لقال الله عز وجل: واتقوا الله يعلمكم الله، بالطلب وجوابه، ولكنّ الله تعالى قال:

﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾

[سورة البقرة: 282]

ما من وسيلة إلا علّم الله سبحانه وتعالى الإنسان بها :

 لمَ لا تتقون الله؟ لأن الله يعلمكم، علمكم بالكتاب، علمكم بالسنة، علمكم بالعلماء، بالحواس، بانقباض النفس، علمكم بالرؤى، وما من وسيلة إلا علّمكم الله سبحانه وتعالى بها، فلمَ لا تتقون الله؟ هذا معنى الآية الصحيح، أما المعنى الذي يفهمه الناسُ فهماً ساذجاً، واتقوا الله يعلمكم الله، جواب الطلب مجزوم، بهذه الصيغة يكون المعنى: يكفي أن تتقي الله حتى يأتيك العلم الدقيق بلا جهد، فهذا المعنى ليس له أصل في اللغة، واتقوا الله، لأن الله يعلمكم، لمَ لا تتقون الله، والله يعلمكم؟ فبين إنسان يفهم الآية فهماً خاطئاً، ويقعد مرتاحاً لا يطلب العلم، وبين آخر يفهم الآية فهماً دقيقاً، كما ورد في لغة العرب، فينطلق منه إلى طاعة الله لأن الله يعلمه، أشياء كثيرة مِن هذا القبيل. وقد مرَّ معنا في درس الصباح، قال تعالى:

﴿ قَالَ فَعَلْتُهَا إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّين* فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِين* وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴾

[سورة الشعراء: 20-22]

 هذه صيغة استفهام بلا أداة استفهام، مِن أندر الأمثلة، لو أنك فهمت الآية: قال فعلتها ـ سيدنا موسى ـ وأنا من الضالين، ليس معقولاً أن يكون النبي ضالاً، لأنه هذا يتناقض مع مهمة النبوة، قال: فعلتها وأنا من الضالين، وتلك نعمة تمنُّها علي أن عبدت بني إسرائيل، هكذا الآية، بل عندما خاطبَ فرعونَ: وأنا من الضالين، جملة استفهامية بلا أداة استفهام، هكذا تكلمت العرب، والتقدير: أوَ أنا من الضالين حتى أفعلها.

 

الضعيف في اللغة العربية ليس له حق أن يفهم القرآن فهماً ذاتيّاً إلا أن يسأل :

 

 لما تفقَّد سيدنا عمر الرعية في الليل، هكذا يُروَى عنه، ورأى امرأة جاءها المخاض وليس عندهم طعام، فعاد إلى بيت المال، وحمل على كتفه كيس طحين، فقال له غلامه: أنا أحمله عنك، قال: أنت تحمل وزري يوم القيامة؟
 لو فهمناها على أنها تقرير لكان المعنى فاسداً، أي أنت يا غلام تحمل وزري يوم القيامة، وهذا المعنى مستحيل، فالإنسان إذا كان ضعيفاً في اللغة فلا بأس، ولكن ليس له حق أن يفهم القرآن فهماً ذاتيّاً، إلا أن يسأل، لأن الله قال:

﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾

[ سورة النحل: 43]

﴿ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً ﴾

[ سورة الفرقان: 59]

 إذا الإنسان فهِم فهماً ساذجاً لضعف لغته بأنّ الله خلق الضلال والغواية والغفلة في الإنسان، ونهاه عن أن يزكي نفسه، "فلا تزكوا أنفسكم"، ثم يقول الله: قد أفلح من زكاها، فهذه لا تكون جملةً صحيحةً، ولا مستقيمةً.

 

كلما ارتقى إيمانُ الإنسان تألّم للذنب ألماً شديداً :

 هذه مِن أدقِّ الآيات فاعْرضها على مئة إنسان، قال تعالى:

﴿ وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ. ﴾

[ سورة السجدة: 13]

 هذه الآية لو فهمتها على ظاهرها لرأيت أن الله سبحانه وتعالى كيف تعبده وقد أراد لعباده الضلال؟ أراد لهم جهنم؟ لا، يا عبادي، أنتم تتوهمون أني أجبركم على المعاصي، لو أنني كنت مجبركم على شيءٍ ما لما أجبرتكم إلا على الهدى. ولو شئنا أن نجبركم لآتينا كل نفس هداها، ولكن أعمالكم باختياركم، لذلك سوف تلقون جزاءها. وحتى في السنة هناك مِثلُ هذه العبارات، مثلاً: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

((وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ فَيَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ))

[مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ]

 المعنى: هذا الذي لا يحس بذنوبه ميت يستحق الهلاك، أما الذي في الحياة فإذا أذنب لا ينام الليل، أي أنّ فيه حياة، أحياناً ابتسامة لا تجعله ينام الليل، كذلك كلمة غير مدروسة، فعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: حَكَيْتُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلاً فَقَالَ: مَا يَسُرُّنِي أَنِّي حَكَيْتُ رَجُلاً وَأَنَّ لِي كَذَا وَكَذَا قَالَتْ: فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ: إِنَّ صَفِيَّةَ امْرَأَةٌ وَقَالَتْ بِيَدِهَا هَكَذَا كَأَنَّهَا تَعْنِي قَصِيرَةً فَقَالَ:

((لَقَدْ مَزَجْتِ بِكَلِمَةٍ لَوْ مَزَجْتِ بِهَا مَاءَ الْبَحْرِ لَمُزِجَ))

[الترمذي وأبو داود عَنْ عَائِشَةَ]

 كلما ارتقى إيمانُ الإنسان تألّم للذنب ألماً شديداً، بل إن الذنب عند المؤمن كالجبل جاثماً على صدره، والذنب عند المنافق كالذبابة.
 نحن نريد أن نفهم القرآن والسنة فهماً وفق قواعد اللغة التي نزل بها القرآن، لذلك قال سيدنا عمر: تعلموا العربية فإنها من الدين.

 

كلما صحت العقيدة صحَّ العمل :

 آخر ما في الدرس، قال تعالى:

﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾

[ سورة الروم: 30]

 كما قال عليه الصلاة والسلام:

(( كُلُّ نَسَمَةٍ تُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ حَتَّى يُعْرِبَ عَنْهَا لِسَانُهَا فَأَبَوَاهَا يُهَوِّدَانِهَا وَيُنَصِّرَانِهَا))

[متفق عليه عن أبي هريرة ]

 وفي الحديث القدسي عَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ ذَاتَ يَوْمٍ فَقَالَ فِي خُطْبَتِهِ:

((إِنَّ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ أَمَرَنِي أَنْ أُعَلِّمَكُمْ مَا جَهِلْتُمْ مِمَّا عَلَّمَنِي فِي يَوْمِي هَذَا كُلُّ مَالٍ نَحَلْتُهُ عِبَادِي حَلالٌ وَإِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ وَإِنَّهُمْ أَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَأَضَلَّتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً))

[مسلم عَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ]

 فإذا أخذَ الخطيبَ الحماسُ، وقال لك: هؤلاء ينطوون على فطرة خبيثة، على جِبِلَّة سيئة، فهذا كلام فارغ، كلام خطابي، وليس كلاماً علميّاً، قال تعالى:

﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ﴾

[ سورة الأعراف: 189]

 بنية واحدة، فطرة واحدة، جِبِلَّة واحدة، أصل الخلق فطرة عالية، أساسها النقاء، والصفاء، كلما صحت العقيدة صحَّ العمل، وتحب الله أكثر لأنك تحسن الظن به، وأخطر شيء أن تسيء الظن بالله عز وجل، وتظن به غير الحق ظن الجاهلية، قال تعالى:

﴿ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً ﴾

[سورة الفتح: 6]

 عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

((إِنَّ حُسْنَ الظَّنِّ بِاللَّهِ مِنْ حُسْنِ عِبَادَةِ اللَّهِ))

[الترمذي وأبو داود وأحمد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ]

 محور الدرس وخلاصته: إذا قرأت آية قرآنية، أو حديثاً صحيحاً، وتوهمت معنىً لا يليق بالله عز وجل، فهذا لضعفٍ في لغتك، اللغة العربية واسعة جداً، وممتعة جداً، وكلما تعمقت فيها فهمتَ مِن خباياها وأسرارها ما لا سبيل إلى وصفه، ويكفي أن الله سبحانه وتعالى اختارها لغةً لكلامه.

 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور