- السيرة / ٠2سيرة الصحابيات الجليلات / ٠2بنات النبي الكريم
- /
- ٠2السيدة زينب الكبرى
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما، وأرنا الحق حقاً، وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
ما هي الأحداث التي جرت للنبي بعد وفاة زوجته وعمه
ماذا صنع النبي, ولماذا لم تهاجر زينب مع أخوتها إلى دار الهجرة ؟
أيها الأخوة الكرام, مع الدرس الرابع والعشرين من دروس سير الصحابيِّات الجليلات رضوان الله تعالى عليهن أجمعين، ومع الصحابية الجليلة؛ السيدة زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلَّم .
في عام الحزن: هلكت السيدة خديجة رضي الله عنها، وأبو طالب عم النبي صلى الله عليه وسلَّم، كُتَّاب السيرة سمّوا هذا العام: عام الحزن، والحزن خصائص الحياة الدنيا,
((إن هذه الدنيا دار التواء لا دار استواء، ومنزل ترحٍ لا منزل فرح، فمن عرفها لم يفرح لرخاء، ولم يحزن لشقاء، قد جعلها الله دار بلوى، وجعل الآخرة دار عُقبى))
الحزن خلاَّق، الحزن يفجِّر الطاقات، الحزن يكشف القيَم، الحزانى في كنف الله,
((إن الله تعالى يحب كل قلب حزين))
الإنسان إذا قرأ قوله تعالى:
﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾
﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾
أيها الأخوة, الإنسان بالحُزن يُكشف معدِنه، بالحزن يظهر إيمانه، بالحزن ينكشف صبره ، بالحزن تتفجَّر طاقاته، بالحزن يتقرَّب من ربه .
لذلك النبي عليه الصلاة والسلام، وهو سيد الخلق، وحبيب الحق، هو قدوةٌ لنا، في عامٍ واحد؛ توفِّيت زوجته السيدة خديجة، السيدة خديجة عاشت معه خمساً وعشرين سنة، خمس عشرة سنة قبل البعثة، وعشر سنوات بعد البعثة، كانت خلالها المرأة الطاهرة النقية، الزوجة الوفية المخلصة، التي بذلت في سبيل الدعوة كل غالٍ ورخيص، بذلت كل ما تملك؛ من ثروةٍ مادية، ومكانةٍ اجتماعية، وهيبةٍ معنوية، وشرفٍ شامخ، وعزٍ وبذخ، كانت من خلال كل ذلك, تقدم للنبي عليه الصلاة والسلام العطاء كل العطاء من قلبها ونفسها, وهي راضية .
السيدة خديجة مثال الزوجة التي تقف وراء زوجها معاونةً، داعمةً، صابرةً، لذلك عليه الصلاة والسلام وفاءً منه لها, حينما فتح مكة قال:
((انصبوا لي خيمةً عند قبر خديجة))
ونصب على قبرها لواء النصر، لأنها لم تكحِّل عينيها بفرحة النصر، فحينما نصب هذا اللواء على قبرها، ونصب خيمة إلى جانب قبرها إشعاراً بأن لها فضلاً على هذه الدعوة، قال تعالى:
﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً﴾
لما هلك أبو طالب, نالت قريش من النبي عليه الصلاة والسلام من الأذى ما لم تكن تطمع به في حياة أبي طالب، حتى اعترضه سفيه من سفهاء قريش، وبالغ في إيذاء النبي، فدخل عليه الصلاة والسلام بيته، فقامت إليه إحدى بناته وهي تبكي، ورسول الله صلى الله عليه وسلَّم يقول لها:
((لا تبكِ يا بنية فإن الله مانع أباكِ))
وقال عليه الصلاة والسلام:
((ما نالت مني قريشاً شيئاً أكرهه حتى مات أبو طالب))
النبي قدوة, ذاق الفقر، دخل بيته, فقال:
((هل عندكم شيء؟ فقالوا: لا, ولا شيء, قال: فإني صائم))
ذاق الغنى؛
((لمن هذا الوادي من الغنم يا رسول الله؟ قال: هو لك، قال: أتهزأ بي؟ قال: والله هو لك))
ذاق النصر في فتح مكة، دخلها مطأطئ الرأس, متواضعاً لله عزَّ وجل، ذاق القهر في الطائف,
((إن لم تكن ساخطا علي فلا أبالي))
ذاق المرض، ذاق الصحة، ذاق موت الولد,
((إِنَّ الْعَيْنَ تَدْمَعُ, وَالْقَلْبَ يَحْزَنُ, وَلَا نَقُولُ إِلَّا مَا يَرْضَى رَبُّنَا, وَإِنَّا بِفِرَاقِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ))
وذاق موت الزوجة، وذاق تطليق البنات، طُلِّقت بنتاه مبالغةً في إيذائه، وذاق الهجرة، وذاق المرض، وذاق الإخراج من بلده، كل شيءٍ ذاقه، ووقف الموقف الكامل من كل الظروف الصعبة التي مرَّ بها، لذلك كان قدوةً لنا وأسوةً، وما لا يتم الفرض إلا به فهو فرض، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وما تتم السنة إلا به فهو سنة، وحينما قال الله عزَّ وجل:
﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ﴾
معرفة سيرة النبي العملية فرض عينٍ، لنحقق هذا الأمر بأن يكون النبي أسوةٌ حسنة .
أصبحت زينب رضي الله عنها ذات يومٍ، ومكَّة من أدناها إلى أقصاها, تتحدث عن مطاردة قريشٍ لأبيها النبي عليه الصلاة والسلام، وولاء البنت لأبيها معروف عند كل أب .
النبي عليه الصلاة والسلام ترك مكة مهاجراً إلى يثرب، وليس معه سوى صاحبه الصديق أبي بكرٍ رضي الله عنه، زينب كانت مضطربة؛ خائفةً على أبيها أياماً وأياماً، حتى جاءها خبر وصوله إلى يثرب، فزال عنها كربُها، وسرًّت بسلامة أبيها صلى الله عليه وسلَّم، ووصوله إلى دار مأمنه في الهجرة .
ولم تمضِ إلا أشهرٌ معدودات حتى أرسل النبي عليه الصلاة والسلام إلى أختيها فاطمة وأم كلثوم من يحملها إليه في
دار الهجرة
وكانت رقيَّة قد هاجرت كذلك من قبل، وبقيت زينب وحدها في مكة مع زوجها أبي العاص بن الربيع الذي لم يسلم، إذ لم يكن الإسلام قد فرَّق بينهما, أي لم ينزل الحكم الشرعي الذي يفرِّق بين الزوجة المسلمة والزوج الكافر, فبقيت في مكة, وقد غادرها الأهل، وتنتظر وقت اللحاق بأبيها رسول الله صلى الله عليه وسلَّم في دار الهجرة .
هل حققت قريش مرادها من النبي في استئصاله من دار الهجرة, وهل كان أبو العاص من جملة الأسرى الذين كانوا بين يدي النبي, وبماذا عهد له النبي؟
أيها الأخوة, لمَّا علمت زينت لما حصل لأبي سفيان، وتعرُّض قافلته من قِبَل الصحابة، ورأت قريشٌ أن تقاتل النبي عليه الصلاة والسلام، ولم تمضِ إلا أيامٌ قليلة حتى خرجت قريشٌ بخيلها وخُيلائها، تقصد النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه، ناويةً استئصالهم من دار هجرتهم, غير أن قريش لم تصل إلى قصدها، وذاقت كؤوس المنايا في بدر، وكانت بدر تلطيخاً لها في الوحل، وأعزَّ الله الإيمان والإسلام، وخذل أهل الكفر, والشرك, والطغيان، وانتقل خبر الانتصار العظيم قبل وصول الفلول المنهزمة إلى مكة .
طبعاً فرحت زينب فرحاً شديداً بانتصار أبيها النبي وأصحابه، حتى قامت لله عزَّ وجل شاكرةً لهذا النصر المؤزَّر .
حين جاءت فلول الجيش مهزومةً، علمت أن زوجها كان من جملة الأسرى, تصور زينب في مكة، غافلها زوجها، وانضمَّ إلى جيشه, ليحارب النبي وهو عمه، وقع أسيراً، وقد كنت ذكرت لكم من قبل أن النبي عليه الصلاة والسلام, حينما استعرض الأسرى، مرَّ به، فقال عليه الصلاة والسلام وفاءً منه بحق القرابة، قال:
((والله ما ذممناه صهراً))
هو الآن مقاتل ومشرك، أما كزوج ما ذممناه، الدليل أن زوجي ابنتيه اللذين طلَّقا زوجتيهما، أبو العاص لم يفعل ما فعلاه، وأبى أن يطلِّق زوجته، مع أنه جاءه ضغطٌ شديد, ليطلِّق زوجته نكايةً بالنبي عليه الصلاة والسلام، لكنه لم يفعل .
أنا سمعت قصة: أنه ذات مرَّة في الجاهلية, جاء أبو جهل إلى بيت النبي قبل البعثة, فسأل ابنته فاطمة: أين أبوكِ؟ قالت: لا أدري، فلطمها، بلغ أبا سفيان ذلك, فحمل فاطمة رضي الله عنها، واقتصَّ من أبي جهلٍ إكراماً لها, فلما بلغ النبي عليه الصلاة والسلام هذا الحدث, رفع يديه إلى السماء, وقال:
((يا رب لا تنسها لأبي سفيان))
النبي كان وفي إلى درجة مذهلة، في أحد الصحابة نزع عن كتفه ريشة، رفع النبي يديه عليه الصلاة والسلام, وقال:
((جزاك الله خيراً))
فأجمل صفة بالإنسان الوفاء, صدق القائل:
أعلِّمه الرماية كل يـومٍ فلما اشتدَّ ساعده رمانـي
وكم علَّمته نظم القوافي فلما قال قافيةً هجانــي
أجمل صفة في النبي عليه الصلاة والسلام الوفاء، هذا الذي ارتكب معه خيانةً عُظمى، خيانة عُظمى في كل المقاييس؛ القديمة, والحديثة، والدينية, والوطنيَّة، حاطب بن أبي بلتعة, أرسل كتابًا إلى قريش:
((أن محمداً سيغزوكم فخذوا حذركم، -خيانة عُظمى- فلما قال له سيدنا عمر: دعني أضرب عنق هذا المنافق، قال: لا يا عمر, إنه شهد بدراً، -لم ينسَ له شهود بدر- وقال: تعال يا حاطب, لمَ فعلت هذا؟ قال: والله يا رسول الله, ما كفرت ولا ارتددت، كنت لصيقاً في قريش، أردت أن أجعل من هذا, أن يكون هذا يداً لي بيضاء عندهم, أحمي بها أولادي وأهلي ومالي، فقال عليه الصلاة والسلام:
((إني صدقته فصدِّقوه, ولا تقولوا فيه إلا خيراً))
وفاء النبي عليه الصلاة والسلام شيء لا يوصف، وفاؤه لمن أرضعته، وفاؤه لمن ربَّته، وفاؤه لكل من ساهم, وقدَّم له شيء، فالله عزَّ وجل يقول:
﴿وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ﴾
فأسوأ صفة في الإنسان اللؤم، اللؤم أن يقف الكريم بباب اللئيم ثم يردُّه، لذلك: يا رب لا تجعل حوائجنا إلا إليك .
طبعاً يبدو أن أهل أبي العاص بن الربيع أغنياء، لكن زينت تحب زوجها، وزوجها لم يُسلم بعد، فهذا الحب بين الزوجين هو من خلق الله, قال تعالى:
﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً﴾
الحب بين الزوجين من خلق الله, قال تعالى:
﴿وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً﴾
زوجها مأسور عند أبيها، وأهل زوجها أغنياء, مستعدون أن يقدِّموا أعلى فديةٍ لإنقاذ ابنهم، ماذا فعلت زينب مع زوجها الذي لم يرضَ أن يسلم، وبقي على كفره؟ أرادت أن تلقِّنه درساً إيجابياً لا درساً سلبياً، درساً يحرِّك مشاعره، أرسلت في فدائه بشيءٍ ثمينٍ جداً؛ قلادةٍ قدَّمها النبي عليه الصلاة والسلام لأمها خديجة يوم عُرسها، وخديجة قدَّمت هذه القلادة لابنتها زينب، وزينب أرسلت هذه القلادة لأبيها, كي تكون فداءً لزوجها .
النبي عليه الصلاة والسلام, تفقَّد الأسرى واحداً وَاحداً، وإذا به يصادف صهره أبا العاص، فينظر إليه النبي عليه الصلاة والسلام نظرة الرفق والأسى عليه .
فالعم أب؛ لك أبٌ أنجبك، ولك أبٌ زوجك، ولك أبٌ دلَّك على الله, الأب الذي أنجبك هو الأب النَسَبي، أما الأب الذي زوجك؛ أي أن هذه الزوجة ربَّاها لك عمك ثمانية عشرَ عاماً، كم مرة عالجها؟ وكم مرة سهر من أجلها؟ وكم مرة اعتنى بها؟ وكم مرة دفعها إليها الدراهم؟ وكم مرة جاء لها بكل حاجاتها؟ وبعد أن نضجت، وأصبحت فتاةً ملء السمع والبصر، يتنكَّر الزوج لعمِّه, والله هذا منتهى اللؤم، عمك أي والد زوجتك, والدك من بعض المعاني .
فلما استعرض النبي الأسرى فإذا بصهره بين الأسرى، فطأطأ أبو العاص رأسه حياءً وخجلاً، وهو لا يدري ما هو صانعٌ فيه، وقال:
((والله ما ذممناه صهراً))
روى أبو إسحاق عن عائشة رضي الله عنها قالت:
((لما بعث أهل مكة في فداء أسراهم، بعثت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلَّم في فداء أبي العاص بن الربيع بمالٍ، وبعثت فيه بقلادةٍ لها, كانت خديجة رضي الله عنها أدخلتها بها على أبي العاص حين بنى بها، قالت: فلما رآها النبي عليه الصلاة والسلام رقَّ لها رِقَّةً شديدةً وبكى, وَقَالَ: إِنْ رَأَيْتُمْ أَنْ تُطْلِقُوا لَهَا أَسِيرَهَا, وَتَرُدُّوا عَلَيْهَا الَّذِي لَهَا, فَقَالُوا: نَعَمْ))
أي إذا شئتم, ترك أمر ابنته لأصحابه، ترك أمر فداء صهره لأصحابه، هذا منتهى التواضع، منتهى الشعور أنه واحدٌ من أصحابه، والرأي رأي الجميع، قال:
((إِنْ رَأَيْتُمْ أَنْ تُطْلِقُوا لَهَا أَسِيرَهَا, وَتَرُدُّوا عَلَيْهَا الَّذِي لَهَا, قالوا: نعم يا رسول الله، فأطلقوه, وردوا عليه الذي لها))
وكان عليه الصلاة والسلام قد أخذ عليه عهداً أن يُخَلِّي سبيل زينب إليه, لأنه هو كافر بقي على كفره، ونزل التشريع أنه لا يجوز لامرأةٍ مسلمة أن تكون تحت كافر, أخذ عليه العهد أن يخلي سبيل زينب إليه .
من هما الصحابيان اللذان كلفهما النبي أن يصحبا زينب إليه, ومن أوصلها إليهما, وماذا جرى معها في طريقها إليهما, وماذا فعل النبي حينما علم بذلك, وهل سر النبي بمجيئها إليه ؟
أيها الأخوة, ولمَّا خرج أبو العاص إلى مكة, وفَّى بعهده، وخلَّى سبيل زوجته لتهاجر إلى أبيها، َكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ عَلَيْهِ أَوْ وَعَدَهُ, أَنْ يُخَلِّيَ سَبِيلَ زَيْنَبَ إِلَيْهِ, وَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ وَرَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ, فَقَالَ:
((كُونَا بِبَطْنِ يَأْجَجَ, حَتَّى تَمُرَّ بِكُمَا زَيْنَبُ فَتَصْحَبَاهَا, حَتَّى تَأْتِيَا بِهَا))
فخرجا مكانهما بعد بدرٍ بشهر، فلما قدم أبو العاص مكة, أمرها باللحوق بأبيها وفاءً لعهده, كان أخلاقيًا، إنه مشرك، لكنه أخلاقي .
فلما فرغت بنت رسول الله من جهازها, قدَّم لها حموها كنانة بن الربيع أخو زوجها، كلَّفوا أخا زوجها أن يأخذها من بيتها إلى بعد ثمانية أميال من مكة، لتذهب مع الصحابيين إلى رسول الله، قدَّما لها بعيراً ركبته، وأخذ أخ زوجه قوسه وكنانته، ثم خرج بها نهاراً يقود بها على هودجٍ لها، وأخذت زينب, تنظر إلى جبال مكة وهضابها مودعةً لها، ولعلَّها لا تعود إليها أبداً.
النبي عليه الصلاة والسلام في بعض أيام الربيع, جاء رجل من مكة, وصف له جبال مكة الخضراء في الربيع، فبكى النبي شوقاً لمكة, وقال:
((يا أُصَيل لا تشوقنا))
في الحجة الأخيرة, كان ثمة أمطار كثيرة، أنا أول مرة أرى جبال مكة خضراء، والطريق بين مكة والمدينة أخضر، طبعاً كان الحج في أيام الربيع عقب موسم أمطار جيد، فالبلاد في الربيع جميلة جداً, صدق القائل:
دنيا معاشٍ للورى حتى إذا حلَّ الربيع فإنما هي منظرٌ
فالنبي انهمرت دمعةٌ على خذه, وقال:
((يا أُصَيل لا تشوقنا))
الهجرة صعبة، إذا الإنسان ترك بلده, واقتلع من جذوره، عندما خرج النبي من مكة, قال:
((اللّهُمَّ إِنَّكَ أخْرَجْتَني مِنْ أَحَبَّ الْبِقَاعِ إِلَيَّ, فَأَسْكِنِّ في أَحَبِّ الْبِلاَدِ إلَيْك))
فقالوا: مكة أحب البلاد إلى النبي، والمدينة أحب البلاد إلى الله .
ما الذي حصل؟ ودَّعت جبال مكة، وكانت ترجو أن يخرج معها زوجها مسلماً مهاجراً إلى الله تعالى ورسوله، ولكن خيَّب رجاءها، وما أرادت أن تَمُنَّ عليه في سعيها عند أبيها بإطلاق سراحه .
هناك امرأة إذا كانت أغنى من زوجها قليلاً, تقول له: لولاي ما صرت، إذا كان ساكنًا في بيتها تقول له: هذا بيتي، أنت ليس لك بيت، المرأة غير المؤمنة, لو تفوَّقت على زوجها قليلاً, لملأت سمعه مِنَّةً وكلاماً لا يُحتمل، فمع أنها هي السبب في إطلاق سراحه، وقدَّمت قِلادتها الثمينة ، وأطلق النبي سراحه إكراماً لابنته، ولم تمنَّ عليه، وبقي مشركاً، كانت تتمنَّى أن تذهب إلى المدينة مع زوجها، ليلتئم الشمل .
يبدو أن أهل مكة, علموا أن بنت رسول الله, ستلتحق بأبيها، وعقب معركة بدر، والدماء لا تزال ساخنة، والجراح عميقة، والألم شديد, فخرجوا في طلبها، حتى أدركوها بذي طوى، فكان أول من سبق إليها هبَّار بن الأسود، فروَّعها بالرمح, وهي في هودجها، وكانت حاملاً, فلما ريعت, طرحت ذا بطنها, وبرك حموها كنانة، ونثر كنانته، ثم قال:
والله لا يدنو مني رجلٌ إلا وضعت فيه سهماً، فتباعد الناس عنه, وأتى أبو سفيان، وكان حكيماً في جُلَّةٍ من قريش, فقال:
((أيها الرجل, كفَّ عناَّ نبلك حتى نُكَلِّمك، فكفَّ، فقال أبو سفيان: إنك لم تصب, -أي ما أصبت في هذا العمل- خرجت بالمرأة على رؤوس الناس علانيةً، وقد عرفت مصيبتنا ونكبتنا، وما دخل علينا من محمد، فيظن الناس إذا خرجت بابنته إليه علانيةً على رؤوس الناس من بين أظهرنا, أن ذلك ذلٌ أصابنا عن مصيبتنا التي كانت، وأن هذا منا ضعفٌ ووهنٌ، ولعمري ما لنا بحبسها عن أبيها حاجة، وما لنا من ثأرٍ نثأره منها، ولكن ارجع بالمرأة حتى إذا هدأت الأصوات، وتحدَّث الناس أن قد رددناها، فَسُلَّها سراً، وألحقها بأبيها، ففعل .
أقامت ليالي حتى إذا هدأت الأصوات، خرج بها ليلاً, حتى أسلماها لزيد بن حارثة وصاحبه، فقدما على النبي صلى الله عليه وسلَّم .
ولما وصلت زينت إلى أبيها رسول الله, استقبلها استقبالاً حاراً، وهتف الناس بهجةً بوصولها بسلام، وما إن استراحت من عناء السفر, أَخبرت أباها بما فعلها الرهط من قريش معها, -وفي روايةٍ:
((أنها أصيبت بجرحٍ من رمحه فنزفت وألقت حملها))
أرسل النبي عليه الصلاة والسلام سريَّةً, لمعاقبة هبَّار وصاحبه، وتقيم زينب بقرب النبي عليه الصلاة والسلام، وأَنِسَت بأخواتها في المدينة)).
إليكم قصة إسلام أبي العاص زوج زينب بنت النبي :
أيها الأخوة, حتى كان العام السادس من الهجرة إلى أن وقع أبو العاص في أسر الصحابة, بعد أن تعرَّضت قافلته بسبعين ومئة من الصحابة، فأخذوا قافلته، وأسروا أناساً كثيرين منهم أبو العاص، فجاؤوا بهم إلى المدينة .
أبو العاص له تجارة من الشام إلى مكة، خرج مئة وسبعون من الصحابة الكرام, طبعاً في حالة حرب بينهما, أسروا هذه القافلة، وأخذوها إلى النبي عليه الصلاة والسلام، لكن أبا العاص فر منهم، واستجار بزوجته زينب .
طبعاً دخلت زينب، أطلَّت برأسها من إحدى حُجَر النبي على أصحاب رسول الله, وفيهم النبي يصلي فيهم، وقالت:
((إني أجرت أبا العاص، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: أنا أسمع معكم -ليس هناك اتفاق بينهم- والنبي عليه الصلاة والسلام أمضى جوار ابنته زينب لأبي العاص .
-الصحابة أقنعوه, إذا أسلمت, هذه القافلة الكبيرة جداً, تصبح غنائم حرب، هي لقريش، الأموال أموال استثمار, إن صحَّ التعبير, فهذه أموال قريش- فقالوا: إذا أسلمت تنقلب هذه البضاعة كلها غنائم، -فقال أبو العاص كلمة رائعة- قال: والله ما أبدأ إسلامي بهذا، فقال عليه الصلاة والسلام: إن هذا الرجل منا قد علمتم أصبتم له مالا، فإن تحسنوا وتردوا عليه الذي له فإنا نحب ذلك, وإن أبيتم, فهو فيء الله الذي أفاءه عليكم, فأنتم أحق به, فقالوا: يا رسول الله, بل نرده عليه، فردوه عليه .
حتى إن الرجل ليأتي بالدلو، ويأتي الرجل بالشَنَّةِ, -وهو السقاء البالي- رجعت له كل أمواله، ثم حمل هذا إلى مكة, فأدى إلى كل ذي حقٍ حقه, ومن كان أبضع معه بضاعةً, أعطاه بضاعته، والذي أعطاه بضاعةً أعطاه بضاعةً, ثم قال: يا معشر قريش, هل بقي لأحدٍ منكم عندي مال لم يأخذه؟ قالوا: لا, فجزاك الله خيراً، فقد وجدناك وفياً كريماً، قال: إذاً: فأنا أشهد أنه لا إله إلا الله, وأن محمداً عبده ورسوله .
-متى وقَّت إسلامه؟ بعد أن ردَّ الأموال إلى أصحابها, أعلن إسلامه، لمَ أعلن إسلامه؟ لأنه تلَّقى من عمه معاملة طيبة جداً- .
قال: والله ما منعني من أن أسلم, وأنا عنده, إلا مخافة أن تظنوا, إنما أردت أن آكل أموالكم، فلما أدَّها الله إليكم, وفرغت منها, أسلمت .
ثم خرج حتى قدم على النبي صلى الله عليه وسلَّم، وكان ذلك سنة سبعٍ، فاستقبله عليه الصلاة والسلام استقبال المهاجرين إلى الله تعالى ورسوله، وردَّ عليه صلى الله عليه وسلَّم زينب على النكاح الأول، لم يحدث شيئاً من شرطٍ أو غيره, -هي زوجته وهو زوجها, وانتهى الأمر .
قصَّة مؤثرة جداً، فيها أحكام، فيها كمال، فيها وفاء، فيها رحمة, فيها إحسان، فيها عواطف زوجيَّة، فيها عواطف أسرية، فيها موقف عم, موقف أب، موقف زوج، موقف زوجة-.
وبهذا تحقَّق للسيدة زينب رجاؤها بإسلام زوجها أبو العاص بن الربيع، ويعود الحبيبان الكريمان إلى الحياة الزوجيَّة الآمنة المطمئنة، ويجتمع الشمل بعد فراقٍ طويل))
لذلك قالوا:
((مِنْ أَفْضَلِ الشَّفَاعَةِ أَنْ يُشَفَّعَ بَيْنَ الاثْنَيْنِ فِي النِّكَاحِ))
وأنا أقول لكم: لا يقل عن هذا العمل, أن تشفع بين اثنين في نكاح، وأن توفِّق بين زوجين بينهما مشكلة، بينهما قطيعة، بينهما بغضاء، بينهما عداوة، إذا وفَّقت بين الزوجين أسعدتهما ، وأسعدت أولادهما، لذلك هذا الذي ينسحب من كل عمل صالح, إنسان ما عرف سرَّ وجوده .
مرَّة قلت لكم: أحد أخواننا الكرام, شكا زوجته إلى أخيها، فقال له: طلِّقها, كلمة واحدة، الله عزَّ وجل قال:
﴿إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا﴾
إنّ الله عزَّ وجل يريد الإصلاح، يريد التوفيق, لذلك الآية الكريمة الدقيقة:
﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ﴾
المؤمن أحد أهم أعماله؛ أنه يصلح دائماً بين المتخاصمين، ولاسيما إذا كانا زوجين .
كم هي مدة الفترة التي عاشها أبو العاص مع زوجته زينب بعد إسلامه ؟
أيها الأخوة, وبعد مضي عامٍ واحد من اجتماع شمل الزوجين اللذين جمع بينهما الإسلام والإيمان, والهجرة, كان الرحيل المهيب، فقد توفِّيت زينب، بعدما عاش زوجها معها عاماً واحدًا .
أيها الأخوة, ثمة عمر قصير، لكنه غني، وهناك عمر طويل، لكنه فقير، هناك علماء أجلاء عاشوا أقل من خمسين سنة، الذي فتح الصين، وأوصل الإسلام إلى هناك, مات في السادسة والثلاثين، والشافعي مات دون الخمسين، والإمام النووي مات دون الخمسين، أي في السابعة والأربعين، ولكنه ترك أعمالاً, لا يعلمها إلا الله، فالعبرة بغنى العمر لا بامتداده، وأثمن عمر على الإطلاق عمر النبي، لذلك أقسم الله جلَّ جلاله بهذا العمر, فقال:
﴿لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾
والإنسان كلَّما ازداد إيمانه، وأجرى الله على يديه الخير, يزداد عمره قيمةً، وكل إنسان له عمر، العبرة بمحتوى العمر لا بامتداده، الامتداد ليس له قيمة أبداً، أتفه شيءٍ في العمر امتداده، وأثمن شيءٍ في العمر مضمونه؛ ماذا فعل؟ .
سيدنا الصديق, يعد المؤسس الثاني لهذا الدين العظيم، فقد ارتدَّت العرب بعد وفاة النبي، من الذي ثبَّت كيان هذا الدين؟ سيدنا الصديق .
سيدنا عمر فتوحاته في مصر والشام، فكل إنسان ماذا ترك؟ هذا سؤال كبير، اسأل نفسك هذا السؤال: ماذا قدَّمت للإسلام؟ قدمت علمُا، قدمت عملاً، قدمت مشروعًا خيريًا، قدمت منهجًا، أصلحت ذات البين، حللت مشكلة لمسلمين، ماذا قدمت؟ حجمك عند الله بحجم عملك الصالح .
فالسيدة زينب, أسرعت في إيمانها بأبيها، وتمنَّت من كل قلبها, لو آمن معها زوجها
ولكن الله في النهاية,
حقَّق لها هذا الأمل، وهذا معنى ثانٍ، واقعك الآن سيء, لك طموحات ما تحقَّقت، من يدريك أن الله سبحانه وتعالى يمكن في المستقبل أن يحقق لك طموحك؟ كانت أعلى أمنية لها, أن ترى زوجها في المدينة معها، جاءت وحدها إلى المدينة، زوجها أرجع الأموال لأصحابها، ثم أعلن إسلامه، والتحق بزوجته، فحقَّق الله لها حلمها .
الشيء الثاني: الأخلاقي لا تستطيع أن تأسره إلا بالأخلاق، فالنبي عرف أن هذا الإنسان أخلاقي، لكنَّه مشرك، أثنى عليه لما كان أسيراً، أطلقه من إساره، قَبل إجارة ابنته له، ثم ردَّ له أمواله، هذه الأعمال الطيِّبة تراكمت حتى حملته على أن يُسلم .
فأحياناً ألف عمل ذكي, مخلص, حكيم, تشد إنسانًا لك، تصرُّف واحد أحمق يبعده عنك، الإنسان أحياناً يخسر أخاه بكلمة، ويربحه بجهد كبير، بجهد دؤوب، وبأعمال متلاحقة يربحه، ويخسره بكلمة .
فالإنسان يكون دقيقًا في كلامه، دقيقًا في معاملته، يدرس كل تصرفاته، وإلا يخسر أصدقاءه بثمن قليل .
أرجو الله سبحانه وتعالى أن ينفعنا بما علَّمنا، وأن يلهمنا الخير .